أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية ضفاف البوح - 2 -















المزيد.....

رواية ضفاف البوح - 2 -


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2236 - 2008 / 3 / 30 - 10:23
المحور: الادب والفن
    


- 2 –

الوقت يطاردني قبل أن تألفني المدينة، وأنا العابر على عَجل
في دروب الإسكندرية, حدثتها عن أيامي في الجامعة، وعن الحرب التي نشبت فجأة، وخبت فجأة، وعن نكسة أخذتنا إلى ليل طويل، عن غزة التي نأت إلى المجهول، عن ضياع محطة انطلاقي إلى عسقلان.
لم يكن لي بعد النكسة غير وردة، تراسلني الوجع، تحمل همي، تتحمل صمتي الطويل، تذرف الدمع بعد أن جفت دموعي.. تفرك راحتي بين كفيها يسري في دمي بعض دفء، نمضي معاً إلى ماريا، نجلس في ذات الشرفة نحتسي الشاي، نطل على البحر، نرهف السمع لرجع مواويل الصيادين. تسكن روحي.
يوماً ناوشني الطيب خريستو قبل أن يذهب إلى وردية الليل، قرص خد وردة، يؤلبها عليّّ عن محبة مخبوءة في صدره حزن مقيم:
- أنت مثلي يا غريب.. ما فيش بلد، أنا مش بيرجع أرمينا، إنت مش بيرجع فلسطين.. إنت مسكين ولد غريب مثل خريستو.
تردعه ماريا أن يتوقف، يخرج خريستو من دور المزاح، يدخل دور الحضور، يأخذني وماريا إلى حال الذهول.
-إنت حمار يا ماريا. إنت مش بفهم سياسة. إنت لازم يسكت..
أخذ يشتمها بالأرمنية.. تضحك ماريا وتشتمه باليونانية.. يصرخ حانقاً:
- إنت بتروح عند اهلك في اليونان، وردة بتروح عند أهلها في بحري وأنا وغريب روح فين, طز خريستو, طز غريب.. مالوش بلد .
خريستو يأخذه الاحمرار، مثل عرف الديك في لحظة عنفوان، يخرج إلى وردية الليل يسامر العابرين في ليل المدينة حتى مطلع فجر النهار، وأنا انظر في سواد الليل من شرفة تطل على البحر العميق، وردة تأخذني إلى صدرها..تربت على ظهري. أصبح طفلاً يبحث عن غفوة.. نجلس صامتين..
فهل ظلت وردة تنتظرني والى أي مدى من عمر السنين؟ في دروب الإسكندرية مشينا، حدثتني شمس عن أبيها الصامت، وأمها الفائرة وأناس وبيوت في المدينة والمخيم، عن صديقتها دعد أخت رجلها الأول يوسف المنسي، عن بحر عينيه العسليتين، وكيف يسكنهما الألم مثل فرخ حمام، وعن رجفة تنبض في كفه عندما يدس في صدرها ورق المنشـورات في عتمة المساء..
حدثتني عن نجاح وتفوق في الثانوية، ولهاث في المخيم، وجدار أسندها عليه، وقبله ما زالت يتيمة على شفتيها, عن أمها التي ركبتها العفاريت وراحت تصرخ رافضة أن يكون:
- يوسف ابن المخيم عريسك..أي جنون!!
- سيأتي وأبيه يخطباني من أبي حسب الأصول..
- أنت أميرة بنت أصول، كيف تعيشين في بيت في المخيم؟
- إنني انتميت ليوسف، قلبه بيتي أوسع من كل البيوت..
والأب يسترق السمع لا يتدخل،لكنه في الليل تسلل إلى حجرتها، صاحية كانت تحدق في الليل، تناجي قمراً في السماء حجبته الغيوم. قال:
- أنت ما زلت صغيرة يا ابنتي، فلنؤجل ذلك إلى ما بعد الجامعة.. هيئي نفسك للسفر..
- هل هذا وعد يا أبي.. هل أبلغ يوسف أن ينتظر..؟
- لماذا ينتظر فالزواج في نهاية الأمر قسمة ونصيب.. وربما ما تعيشينه اليوم شيئا من أحلام الصبايا..
- أنت من علمني الاختيار قبل القرار، وأنا انتميت ليوسف مهما طال الانتظار..
"أخذ أبي يحاورني حتى الصباح، ينعتني ببعض صفات أمي، يحذرني من عنادي، حتى لا أتوزع بين الخطيئة والخطأ، لكنه لا غير يوسف يأخذني الى الأمان"
في الصباح، رأت أمها محمرة العينين مثل جمرتين من لهب مدمي بالغضب تصدر أمراً قاطعاً:
- اقطعي قدميك عن درب المخيم، وأخبري دعد أنني سأطردها من بيتي إذا حضرت إلى هنا.
قرأ يوسف الرد في وجه شمس، عض شفتيه كاد يأكلها لحماً نيئا من جرح عميق:
- اذهبي يا شمس إلى الجامعة، ربما أبوك عل حق، ربما تتغير الأحوال.. إني أنتظر..
بعد بضعة أشهر وصلتها من دعد رسالة، أخبرتها أنهم أخذوا يوسف قبل الفجر, وأن أباها ذهب إلى بيت المحامي حاملاً صرة فيها تحويشة العمر التي احتفظ بها مهراً لشمس, قدمها بيد ترتعش:
- أنا أبو دعد صديقة ابنتك شمس، أخذوا ابني يوسف وهذا ما أملك دفعة أولى من أتعاب الدفاع.
المحامي أخذ الرجل المهدود إلى صدره..
- خذ نقودك يا رجل، كل مال الدنيا، أحقر من ليلة في المعتقل.
صمتت شمس، كان القمر قد تخطى مشواره بعد منتصف الليل، كفها ينبض في يدي، عينها قالت مع بعض لهاث:
- هل نلتقي؟

***

وئيداً يزحف قطاري قبل جنون الانطلاق، يمتطي خط الحديد، يأخذني إلى حيث أتيت، وأنا المملوء بأحمالي، وألاعيب الزمن.. يا ترى هل هي رحلة أخرى تدركني في خريف العمر، أم بدايات وصول.
لوحت لي امرأة سكنتني شوقاً ومواعيد لهفة، والقطار نزق يخب على القضبان.. صوتها تحمله الريح رجفة:
- نتواصل يا غريب..
يصهل صدري، كيف أجدلُ من هواء الكون حبلاً يأخذني إليكِ، كل الهواتف لي شباكاً ألقي بها في مياه الوقت، اصطادكِ مثل عروس البحر، تخرج من عميق التجربة، نابضة الحضور في حكايات الغياب..
وأنا من عاش الغياب في الاغتراب..
زمن الحضور الذي عشت مثل رفة حلم..
لمَ جئتني يا امرأة قبل الغروب؟
أين كنتِ؟
أين أنتِ؟

***

عدت إلى غزة أبحث عن عناوين قديمة، أتوقف عند دار في ضاحية الرمال، ردتني لافتة "منزل المرحوم المحامي.." عدت ادراجي، هل تعودين يا شمس وندخل الدار معاً..
مع شروق الشمس أخذتني قدماي إلى بوابات المدارس، أنظر في وجوه الطالبات، أتفرس من تشبه دعد؟، من تشبه شمس؟ من كان يعمر صدرها أوراق يوسف، من تربع عند حبة قلبها رجل يعذبه المخيم وطن مؤقت. .بدني يرتجف مع زقزقة الصبايا الراغبات، والوقت حقيقة مثل بياض الفجر..
في المخيم حدثتني عن بيت خلف الجامع الأبيض، يطل على البحر يسكن في الحكاية، مثل جمرة الرماد تخبو ثم مع أول هبة ريح تتوهج.
في الطريق إلى البيت رُحت أتخيل أم يوسف مثل دجاجة رقدت على البيض.. فقس البيض أحفاداً.. صبياناً وبنات.. ماعدا يوسف الذي تحجر في مقلتيها دمعة قبل أن يهنأ بالعروس.. وقضى بعد إضراب طويل عن الطعام.. صام أبوه عن الكلام بعد أسابيع طق ومات..
أتخيل أنني أسأل أم يوسف:
- والعروس يا أم العريس.
- أخذتها الغربة يا كبدي عليها.. ربما بعد فوات الوقت تعود..
- حتماً ستعود..
حضنت أم يوسف كمشة أحفاداً صبيان سألت:
- من منكم يوسف؟
ردوا بصوت واحد:
- أنا يوسف.. أنا يوسف يا جدتي.. أنا..
الحفيدات يتضاحكن.. قلت أنا:
- من منكن شمس؟
مثل زقزقة العصافير صدحن..
- أنا شمس..أنا شمس..
امشي إلى المخيم، أتخيل، ربما في الصحو أحلم، أرسم فصلاً في الرواية عندما صرت عند باب الجامع الأبيض سألت عن الدار.. قال شيخ خرج للتو من صلاة العصر:
- رحم الله الأموات والأحياء.. كان هناك قبل عشرين سنة أو يزيد.
وأشار الشيخ إلى زاوية بين البيوت هي ما تبقى من الدار بعد أن نسفوها.. ساحة لا يوجد فيها غير حاوية للنفايات، وحبال غسيل لمن يسكن في الجوار.. كانت هنا دار صابر المنسي أبا يوسف الشهيد.
هل تعودين يا شمس نسأل من جديد، ربما يأخذنا السؤال إلى دعد.. ربما..
****

آخر المواعيد ليل.
فاجأتني بهديتها الغريبة، منفضة من خزف موشى برسوم لصبايا فرحات، وأزاهير تضحك للندى قالت:
- لم تنطفيء السيجارة بين أصابعك، لم تغادر شفتيك إلا عندما تدخل فاصل صمت أو تتنهد.. هل تحرق الوقت أم أنك تحترق؟!
لماذا أهديك يا شمس وحقيبتي لا تحتوي غير الملابس والكتب، وقطعة صابون من خير موسم الزيتون الأخير..
- ليس معي الآن غير هذه.. فاقبليها..
شهقت شمس جنوناً وهياماً:
- صابون زيتون البلاد.
- بعض ما جادت به زيتونة الكرم العجوز.

****

هاتف يأتي من بعيد.
- ماذا تفعلين..
- أتهيأ لطقس حمام الزيت.
" اليلة رحيله, تسرب الحزن إلى نفسها، تعالجه بهدوء صامت, القيظ شديد الحرارة.. حمام ساخن يعيد إليها النشاط. وقفت تتأمل قطعة الصابون، الماء ينزل غزيراً تتشربه الليفة، رغوة مضمخة بعبق الزيتون.. البخار يحجب الرؤية.. والرغوة سحابة بيضاء تغرقها تغلف وجهها، تمرر الليفة على ساعديها، على خصلات شعرها، ترفع قدمها على حافة الحوض، تزيح ما علق بجسدها من هموم..الماء ينساب عن يديها..عن شعرها..عن وجهها..الصابونة ناعمة ملساء تأخذها إلى زمن بعيد..إلى بيت عمتها في الجبل يوم حممتها العمة، أجلستها على لوح خشبي، تسكب الماء على بدنها من الإبريق.. ها هي الآن في حوض كبير منفية في مدينة بعيدة، مع قطعة صابون هدية من رجل عابر قفز إلى دربها بثقله؟
تلف جسدها بالمنشفة، تمتص ما تبقى من قطرات الماء تمسح بكفها الغبش عن المرآة، تنظر إلى وجهها، تمرر أصابعها على ساعدها، تنشد ملمساً قديماً.. تبحث عن لمعة زجاجية.. تصحو على رنين الهاتف.. قالت تعتذر:
- خرجت للتو من حمام الزيت.
يضحك على الطرف الآخر.. فتقول:
- خرجت من الحمام امرأة أخرى..
تأخذها رجفة صوته الى دغدغة رخيمة.. تصمت يأتيها من بعيد:
- إني أراك الآن في بحر الرغوة مثل الشمس تشرقين"



#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية ضفاف البوح - 1 -
- سبع قصص قصيرة جدا
- صور تشغل العقل قبل العين
- مكان السيرة وسيرة المكان
- الشربيني المهندس يدرج الصور
- رسائل الزاجل الأسير إلى زكي العيلة
- سمندل فؤاد الحلو
- رسائل الزاجل الأسير إلى سهيلة بورزق
- هواجس ما بعد الليلة الأخيرة
- مساحات على لوح اسود
- العري عند الحقائق الأولى
- المخيم والعزف على وجع قديم
- الواقعي والمتخيل في قصص القاص الفلسطيني عمر حمش
- البحث عن أزمنة بيضاء - 11 -
- البحث عن أزمنة بيضاء -10 -
- البحث عن أزمنة بيضاء - 9 -
- البحث عن أزمنة بيضاء - 8 -
- البحث عن أزمنة لبضاء -7 -
- البحث عن أزمنة بيضاء - 6 -
- البحث عن أزمنة بيضاء -5 -


المزيد.....




- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية ضفاف البوح - 2 -