أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الرحيم الوالي - دفاعاً عن الإسلام و الحرية















المزيد.....


دفاعاً عن الإسلام و الحرية


عبد الرحيم الوالي

الحوار المتمدن-العدد: 2236 - 2008 / 3 / 30 - 10:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يبدو الإسلام اليوم و كأنه دين قتل و سبي و احتلال لأراضي الغير و استئصال لمعتنقي الديانات الأخرى. و من ثمة فالمسلمون يوصفون بأنهم جميعا إرهابيون، و قنابل موقوتة و مشاريع أحزمة ناسفة، و لا مكان لهم في الحضارة الإنسانية الكبرى لأنهم مجرد بقايا من الغزاة المتوحشين الذين يعتنقون ديناً يأمرهم باستئصال غيرهم. و في كثير من الحالات يجد المسلمون أنفسهم أمام حملات دعائية يبدو و كأنها تخيرهم بين أمرين: إما الاندماج في الحضارة الإنسانية و التخلي نهائياً عن الإسلام، أو التمسك بالإسلام و البقاء خارج المجتمع الإنساني.
هذه الصورة السيئة عن الإسلام، التي تجعل منه دينا يتنافى مع روح التعايش و مع السلم و الحرية، تدعو المسلمين أكثر من غيرهم إلى طرح السؤال: هل الإسلام فعلاً كذلك؟ و هو سؤال ينبغي أن نطرحه كمسلمين، بالشجاعة و الهدوء اللازمين، بعيدا عن أي نزعة عاطفية زائدة. فنحن مطالبون اليوم بأن نحسم في ما إذا كان الإسلام فعلاً دين قتل و إبادة و اضطهاد لكل مَنْ يخالفنا في العقيدة، أم عكس ذلك ديناً يؤمن بالحرية و التعايش مع مختلف الأديان و المعتقدات و الثقافات الأخرى.
البحث عن إجابات لهذا السؤال يعود بنا إلى ما يزيد عن ألف و أربعمائة عام حيث كانت أول الحروب التي خاضها المسلمون بقيادة الرسول (ص)، و حيث كان الموقف الواضح و الصريح الذي اتخذه الإسلام من الديانات الأخرى سماوية كانت أو وضعية و من حرية العقيدة بشكل عام.
من الضروري أن نعرف بدايةً أن المدة الفاصلة بين نزول أول آية من القرآن الكريم و أولى غزوات الرسول (ص) تصل إلى ثلاثة عشرة سنة و ما يزيد. ذلك أن المسلمين، و في مقدمتهم رسول الله (ص)، ظلوا طيلة أزيد من ثلاثة عشرة سنة عرضة للتنكيل و الإيذاء و القتل و التعذيب من طرف الوثنيين في مكة دون أن يكون لهم ذنب سوى أنهم اعتنقوا الإسلام.
و طيلة هذه السنوات لم يرفع المسلمون سيفاً في وجه أحد من وثنيي مكة و إنما هاجروا إلى الحبشة، و إلى المدينة المنورة فيما بعد، ثم كانت هجرة الرسول (ص) نفسِه بعد أن كان الوثنيون يقفون على باب بيته يريدون قتله، أي بعد أن أصبح حقه (ص) في الحياة مهددا. و بعد الهجرة النبوية عمد الوثنيون إلى نهب أموال المسلمين المهاجرين و الاعتداء على أهلهم الذين ظلوا بمكة و منهم أهل أبي بكر الصديق وصحابة آخرين رضي الله عنهم.
نحن هنا أمام حالة تهجير و تعذيب و قتل و نهب و استباحة للحرمات بسبب العقيدة ليس إلا. و بالتالي فالمسلمون هم مَنْ كانوا في وضع الدفاع عن أنفسهم و عن عقيدتهم. و كل حروب المسلمين في عهد الرسول (ص) مع وثنيي مكة و مَنْ حالفهم، أو مع غيرهم، كانت في سياق الدفاع عن حقوقهم و ليس بغاية الاعتداء على الآخرين أو فرض الإسلام عليهم بحد السيف.
فأول غزوة في تاريخ الإسلام، التي هي غزوة ودَّان (و تسمى أيضا غزوة الأبواء)، خرج فيها الرسول (ص) لحرب قريش الذين هَجَّرُوا المسلمين و اعتدوا عليهم و حلفائهم بني ضمرة. و هي غزوة انتهت دون أن تبدأ، أي أن الرسول (ص) لم يحارب أحدا بعد أن توصل إلى اتفاق سلام مع بني ضمرة. و ذكر إبن هشام في السيرة أن الرسول (ص) خرج في هذه الغزوة "يريد قريشاً و بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، و كان الذي وادعه منهم عليهم مخشي بن عمرو الضمري، و كان سيدهم في زمانه ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و لم يلق كيداً فأقام بها بقية صفر". (إبن هشام ـ السيرة النبوية ـ المجلد الثاني ـ الجزء 3 ـ ص: 135).
إن نبيا يحمل دين قتل و إبادة و يخرج غازيا من المفروض أنه لم يخرج إلى أعدائه إلا و هو في أتم الاستعداد. و حين يصل إلى هؤلاء الأعداء و يجدهم غير قادرين على الحرب و راغبين في السلم فالمفروض هو أن لا يقبل منهم سلماً و لا موادعةً و أن يبادر إلى قتلهم و الاستيلاء على أرضهم أو إرغامهم على اتباع دينه. لكن شيئا من هذا لم يحصل. و بالتالي فالهدف من الخروج إلى الحرب لم يكن قتلاً و لا استيلاءً على أرض و لا إكراها على دين بقدر ما كان الدفاعُ عن المسلمين و حريتهم في اعتناق دينهم و صيانة كافة حقوقهم هو الهدف. و ما دامت السلم، أي الموادعة، تكفل تحقيق ذلك فلم يكن هناك من داعٍ إلى الحرب. و لذلك فهي لم تقع.
كان المسلمون المهاجرون إلى المدينة المنورة، و الأنصار الذين استقبلوهم بها، يريدون استرجاع الأموال التي سلبها وثنيو قريش من المهاجرين قبل الهجرة. و لذلك كانوا يتربصون بالقوافل التجارية التابعة لقريش. و بعد غزوة ودان خرج الرسول (ص) في غزوة بواط يريد حرب قريش فلم يلتق بهم. ثم جاءت بعد ذلك غزوة العشيرة. و فيها خرج الرسول (ص) أيضا يريد الالتقاء بقريش فلم يلتق بهم. و مرة أخرى عقد اتفاق سلام مع بني ضمرة و حلفائهم من بني مدلج. (المصدر السابق ـ ص 143). و مرة أخرى كانت السلم بدل الحرب. و هو سلوك بعيد تماماً عن قوم همهم الأول هو القتل و السلب و النهب كما يتم تصوير الإسلام اليوم من طرف الأوساط الدعائية المعادية و الجماعات الإسلامية المتطرفة.
و بعد غزوة العشيرة كانت غزوة بدر الأولى، التي تسمى أيضاً غزوة سفوان. و هي الأخرى كانت دفاعا عن المسلمين. ذلك أن الرسول (ص) لم يقم بالمدينة إلا ليالي قليلة بعد غزوة العشيرة "حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله (ص) في طلبه". و مرة أخرى لم تقع الحرب لأن الرسول (ص) لم يدرك الشخص الذي قاد الاعتداء على ممتلكات المسلمين في المدينة.
غزوة سفوان، أو غزوة بدر الأولى، أعقبتها غزوة بدر الكبرى التي شهدت أول قتال بحضور الرسول (ص) بين جيش المسلمين و جيش الوثنيين من قريش. و من الأجدر أن نتأمل جيدا سلوك الرسول (ص) في هذه الغزوة. ذلك أنه (ص) أوصى المسلمين بأن لا يقاتلوا كل الذين كان الوثنيون قد جروهم إلى الحرب كرها وقال مخاطبا المسلمين يوم بدر: "إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم و غيرهم قد أُخرجوا كرهاً، و لا حاجة لهم بقتالنا. فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله" (المصدر السابق ـ ص 177). فكيف ينهى عن القتل نبي جاء بالقتل؟ إن هذا السلوك بعيد تماماً عن صورة الدين الدموي التي تروج الآن عن الإسلام. فحتى الذين كانوا في صفوف القتال كان الرسول (ص) يميز ضمنهم بين مَنْ يقاتل عن إرادة و إصرار، و مَنْ يقاتل و هو تحت الإكراه.
هذه فقط بعض الإشارات الدالة على أن أصل الحرب و مبدأها في الإسلام هو الدفاع عن حرية العقيدة و ليس الإجهاز عليها. و بإمكان كل مَنْ يريد التوسع في هذا أن يعود إلى المصادر التاريخية التي لا يتسع المجال لإثباتها جميعا هنا. فالحرب في الإسلام هي حرب دفاعية و ليست غاية في حد ذاتها. و قد وضع الإسلام قيودا صارمة على هذه الحرب و كفل أثناءها كل حقوق غير المسلمين بمن فيهم الوثنيون الذين قتلوا المسلمين و عذبوهم و أخرجوهم من ديارهم و نهبوا أموالهم. و يكفي هنا أن نعود إلى سورة محمد في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مَنّاً بعدُ و إما فِداءً حتى تضع الحرب أوزارها" (سورة محمد ـ الآية 4).
أتذكر أنه قبل حوالي سنة من الآن وردت علي رسالة من قارئ من لندن يصف الإسلام بأنه دين قتل و يرى أنه لا خلاص للعالم إلا بالقضاء على ما أسماه ب"شرور القرآن".
و كان هذا القارئ يستند بالضبط إلى هذه الآية التي رأى فيها أن الإسلام يدعو المسلمين إلى قتل كل مَنْ ليس مسلماً أينما وجدوه استناداً إلى قول الله عز و جل " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب".
و الواقع أن هذا القارئ، ببساطة، لا علم له بلسان العرب لأنه لا يعرف أن العرب تصطلح على الحرب باللقاء و الالتقاء كما تعبر عن فعل "حارَبَ" بفعل "لَقِيَ". و منه قول إبن هشام فيما تقدم " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و لم يلق كيداً"، أي لم يحارب أحدا.
أما الآية الكريمة السابقة فهي تخص زمن الحرب. ففي الحرب يجوز "ضرب الرقاب" فقط إلى حين "الإثخان"، أي شل قدرة المحاربين على الاستمرار في القتال. و بعد ذلك يؤخذون أسرى، و هو معنى "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق". و بعد الأسر يكون إطلاق سراح الأسرى إما من باب المَن عليهم بذلك أو مقابل فدية. و قد أعطى القرآن الأسبقية للمن على الفدية في قوله تعالى "فإمَّا مَنّاً بعد و إما فداءً". و كل ذلك يطبق فقط ما دامت الحرب قائمة، و هو معنى قوله عز وجل "حتى تضع الحرب أوزارها". فبمجرد ما تنتهي الحرب لا يجوز الاحتفاظ بأي أسير من "الذين كفروا"، و ينبغي أن يسترجع كل الأسرى حريتهم.
فهل هذا هو دين القتل؟ أم أننا هنا أمام حقوق لفائدة أسرى الحرب لا تكفلها حتى اتفاقية جنيف الرابعة التي لا تحترمها كثير من الدول العظمى في الوقت الراهن؟
لن نطيل في البحث عن مزيد من القرائن و الأدلة على أخلاقيات الحرب في الإسلام لأن النص القرآني واضح هنا تمام الوضوح. كما أن ما سبق ذكره من سلوك الرسول (ص) و تفضيله الموادعة و السلم على الحرب في غاية الوضوح أيضا.
فلا يمكن لنبي جاء بالقتل و السبي و احتلال أراضي الناس أن يصالح قوماً خرج إلى حربهم و هو في موقع قوة بينما هم في موضع ضعف. و لا يمكن لنبي جاء بالقتل أن يدعو أتباعه إلى عدم قتل الذين يقاتلونهم تحت الإكراه. و لا يمكن لدين هو دين القتل أن يدعو إلى الاكتفاء بالإثخان بدل القتل، ثم الأسر، ثم إطلاق سراح الأسير إما من باب المن أو مقابل فدية، ناهيك عن إطلاق سراح الأسرى دون قيد أو شرط بمجرد أن تضع الحرب أوزارها.
هذه هي قواعد الحرب في الإسلام النقي الذي نزل على محمد (ص). و هي حرب دفاعية عن حرية المسلمين و حقهم في اعتناق عقيدتهم و ممارستها، و عن أهلهم و أموالهم و ديارهم، و حقهم في العودة إلى بلدهم الذي أخرجهم منه الوثنيون بسبب عقيدتهم ليس إلا. و هي لم تكن يوماً حرباً لإكراه الناس على اعتناق الإسلام. و حتى عندما فتح الرسول (ص) مكة و أُحضر بين يديه الوثنيون أسرى فقد قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا: "أخ كريم و إبن أخ كريم"، فكان جوابه (ص): "إذهبوا فأنتم الطلقاء" و أطلق سراحهم دون أن يكره أحداً منهم على الإسلام.
نفس الموقف القائم على التعايش و التسامح اتخذه الإسلام أيضا من الديانات السماوية الأخرى، أي من اليهودية و المسيحية. و عكس ما تحاول بعض الأوساط الترويج له اليوم فالإسلام لا يعادي أبدا هاتين الديانتين السماويتين. و نحن اليوم في أمس الحاجة إلى استبيان الموقف الذي اتخذه الإسلام من اليهودية و النصرانية على حقيقته.
إن أول احتكاك بين اليهود و المسلمين كان مباشرة بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة. و نتائج أول اتصال بين اليهود و المسلمين لم تكن هي الحرب و إنما كانت عَقْداً شهيراً تمثل في الكتاب الذي آخى فيه الرسول (ص) بين المسلمين مهاجرين و أنصاراً و وادع فيه اليهود. و قد نصدم المتطرفين من اليهود و المسلمين على حد سواء إذا قلنا بأن هذا العَقد قد أدمج اليهود و المسلمين في كيان واحد على قدم المساواة.
فقد جاء في هذا الكتاب أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، و للمسلمين دينهم مواليهم و أنفسهم، إلا من ظلم و أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، و أهل بيته، و إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، و إن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم و أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته، و إن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، و إن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، و إن البر دون الإثم، و إن موالي ثعلبة كأنفسهم، و إن بطانة يهود كأنفسهم، و إنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد (ص)، و إنه لا ينحجز على نار جرح، و إنه من فتك فبنفسه فتك، و أهل بيته، إلا من ظلم، و إن الله على أبر هذا و إن على اليهود نفقتهم و على المسلمين نفقتهم، و إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، و إن بينهم النصح و النصيحة، و البر دون الإثم، و إنه لم يأثم امرؤ بحليفه، و إن النصر للمظلوم، و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، و إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، و إن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم، و إنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، و إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، و إلى محمد رسول الله (ص)، و إن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة و أبره، و إنه لا تُجَارُ قريش و لا مَنْ نَصَرَها، و إن بينهم النصر على مَنْ دَهَمَ يثرب، و إذا دعوا إلى صلح يصالحونه و يلبسونه، فإنهم يصالحونه و يلبسونه، و إنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم في جانبهم الذي قبلهم، و إن يهود الأوس، مواليهم و أنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
و إن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، و إن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة و أبره، و إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم و آثم، و أنه من خرج آمن، و من قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، و إن الله جارٌ لمن بر و اتقى، و محمد رسول الله (ص)". (المصدر السابق ـ ص: 34 ـ 35).
نعم، هذا هو أول ميثاق جمع بين اليهود و المسلمين. و كما يلاحظ القارئ ذلك فقد قضى هذا الميثاق بأن اليهود "أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، و للمسلمين دينهم". و بالتالي فرسول الله (ص) لم يكره اليهود على الدخول في دينه و إنما أقرهم على دينهم بعد أن جعلهم طبقا لهذا الميثاق "أمة مع المؤمنين" يعيشون جميعا في موطن واحد، و مجتمع واحد، يكفل لكلا الفريقين حرية ممارسة شعائره الدينية. أما الحروب التي قامت بعد ذلك بين اليهود و المسلمين فهي لا ترجع إلى الاختلاف في الدين بقدر ما ترجع إلى عدم احترام بنود هذا الميثاق من طرف يهود يثرب، أي يهود المدينة المنورة.
لقد قضى هذا الميثاق بين اليهود و المسلمين ـ كما رأينا ـ بأن " بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"، أي أن اليهود يحاربون إلى جانب المسلمين و المسلمين يحاربون كذلك إلى جانب اليهود. إلا أن يهود المدينة لم يلتزموا بهذا الاتفاق. و كان اليهودي الوحيد الذي أوفى بهذا الميثاق هو مخيريق الذي استشهد في غزوة أحد.
فقد ذكر إبن هشام في السيرة النبوية أن مخيريق "كان حَبْراً عالماً، و كان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، و كان يعرف رسول الله (ص) بصفته، و ما يجد في علمه، و غلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، و كان يوم أُحُد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، و الله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم سبت، قال: لا سبتَ لكم، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله (ص) بأُحُد، و عهد إلى مَنْ وراءه من قومه: إن قُتلتُ هذا اليوم، فأموالي لمحمد (ص) يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتَلَ حتى قُتِل. فكان رسول الله (ص) ـ فيما بلغني ـ يقول: مخيريق خيرُ يهود. و قبض رسول الله (ص) أمواله، فعامة صدقات رسول الله (ص) بالمدينة منها". (المصدر السابق ـ ص: 51 ـ 52).
لا يوجد دليل واضح على أن مخيريق قد اعتنق الإسلام عندما لحق بالنبي محمد (ص) في موقع معركة أُحُد حتى و إن حاولت بعض التأويلات أن تقول عكس هذا. و الدليل هو أن الرسول (ص) ظل يقول بعد استشهاد مخيريق بأنه "خير يهود"، كما أن مخيريق قال: " يا معشر يهود، و الله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق" فذكر النبي محمدا بإسمه فقط دون أن يشير إلى كونه نبياً. و لو كان مسلما لما سماه محمدا و لوصفه، مثلما كان يقول كل المسلمين، بأنه رسول الله. و بالتالي فالراجح هو أن مخيريق مات يهوديا و أن قوله ليهود المدينة المنورة: "و الله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق" مرده إلى الميثاق المبرم بين اليهود و المسلمين و ليس إلى اعتناقه الإسلام. و من الأجدر بنا اليوم ـ نحن المسلمين ـ أن نعترف بأن واحدا من شهداء أُحُد كان يهودياً. و هذا دليل إضافي على أن حروب الإسلام لم تكن حروباً دينية يواجه فيها المسلمون غيرهم من معتنقي الديانات الأخرى بهدف إكراههم على الدخول في الإسلام. و لو كانت هذه الحروب كذلك لكان ضرورياً أن يخوضها المسلمون فقط و لما كان الرسول (ص) قد واثق اليهود و جعل بينهم و بين المسلمين " النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة" كما رأينا.
عدم وفاء القبائل اليهودية في يثرب بالميثاق المبرم بينها و بين المسلمين، بل و انحيازها لوثنيي قريش في غزوة الخندق و بعدها، كان هو السبب المباشر و الوحيد في الحروب التي قامت بعد ذلك بين الطرفين. و هذه الحروب سبقتها ـ كما هو معلوم ـ سجالات بين بعض يهود المدينة و النبي محمد (ص) حول عدد من الشرائع و الوقائع. و كانت هذه السجالات سبباً في نزول عدد كبير من آيات القرآن الكريم و منها جزء من صدر سورة البقرة إلى الآية المائة كما ذكر ذلك إبن هشام (المصدر السابق ـ ص: 63). و في هذه الآيات ـ كما في غيرها ـ استعمل الله الكل للدلالة على الجزء فكان ينادي الذين يساجلون النبي محمدا (ص) من يهود المدينة ب"أهل الكتاب" أو يطلق عليهم وصف "اليهود" أو "بني إسرائيل" بشكل عام دون تخصيص. و أحكام هذه الآيات لا تسري بالتأكيد على جميع اليهود. و الذين يعممون هذه الأحكام على أتباع الديانة اليهودية في كل زمان و مكان يقعون في تناقض مباشر مع القرآن نفسه. فالله خاطب يهود المدينة الذين كانوا يحاجون رسول الله (ص) باستعمال الكل للدلالة على الجزء في كثير من الآيات و منها قوله تعالى في سورة البقرة "و إذ قتلتم نفساً فادَّارأتم فيها و الله مخرج ما كنتم تكتمون" (البقرة ـ الآية 72). و قد استعمل هنا صيغة الجمع (قتلتم) بينما الذي قتل نفساً في عهد النبي موسى عليه السلام كان شخصاً واحداً فقط من بني إسرائيل و لم يكن بنو إسرائيل جميعاً متورطين في القتل (أنظر تفسير إبن كثير ـ الجزء الأول ـ ص: 103). و لذلك ينبغي الاحتياط في استخراج الأحكام الواردة في هذه الآيات و في غيرها، و التي تعني اليهود الذين كانوا يحاجون النبي (ص) دون غيرهم. فقد كان في ذلك العصر يهود في أماكن أخرى لم يقع بينهم و بين المسلمين، و لا بينهم و بين النبي (ص)، أي سجال أو شنآن. و بالتالي فليس من العدل الإلهي أن يؤخذ كل اليهود بجريرة جزء منهم. و هذه الآيات، و غيرها، تعبر عن موقف الإسلام، على سبيل الحصر، من هؤلاء اليهود الذين كانوا يهينون الرسول (ص) و يعتدون على المسلمين، و لا تشكل موقفاً من اليهود عامة أو من الديانة اليهودية ككل.
أما موقف الإسلام من الديانتين السماويتين، اليهودية و النصرانية، فنحن نجده واضحا تماماً في القرآن الكريم. ففي الآية 26 من سورة البقرة يقول تبارك و تعالى: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون". و ذكر الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري سبب نزول هذه الآية الكريمة بقوله: "أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ قال: حدثنا أبو يحيى الرازي قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال: قال إبن جريج: عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لما قص سلمان على النبي (ص) قصة أصحاب الدير قال: هم في النار، قال سلمان: فأظلمت علي الأرض فَنَزَلت ـ إن الذين آمنوا و الذين هادوا ـ إلى قوله ـ يحزنون ـ قال: فكأنما كُشِفَ عني جَبَل". و سلمان المقصود هنا هو الصحابي الجليل سلمان الفارسي (ض)، الذي كان قد جاء إلى الرسول (ص) من بلاد فارس و أخبره عن أصحاب له فقال: "يا رسول الله كانوا يصلون و يصومون و يؤمنون بك و يشهدون أنك تُبْعَثُ نبياً". فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله (ص): "يا سلمان هم من أهل النار، فأنزل الله ـ إن الذين آمنوا و الذين هادوا، و تلا إلى قوله ـ و لا هم يحزنون ـ " (أسباب النزول ـ أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ـ دار الفكر العربي ـ الطبعة الأولى ـ ص: 17).
نفس الموقف للإسلام من الديانة اليهودية و الديانة المسيحية نجده واضحا في الآية 69 من سورة المائدة (إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحاً فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون). و بالنتيجة فالإسلام لا يحمل أي عداء تجاه اليهودية و النصرانية. بل إن الإسلام اعترف بهاتين الديانتين السماويتين اعترافاً كاملاً حيث تشكل كل واحدة منهما، إلى جانب الإسلام، شرعة و منهاجا كما هو واضح في قوله تعالى: "و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمناً عليه. فاحكم بينهم بما أنزل الله. و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا. و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما آتاكم. فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (المائدة ـ الآية 48).
إن إرادة الله قضت بأن لا يجعل اليهود و النصارى و المسلمين على نفس الشرعة و المنهاج. و هو معنى قوله تعالى " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". و هذه الإرادة لا سبيل إلى تغييرها و لا إلى معاكستها و ستظل قائمة ما دامت الحياة. و لا اعتراض على التعايش بين أتباع الديانات السماوية الثلاث في مجتمع واحد، بل حتى في أسرة واحدة. و الدليل على ذلك هو الآية 5 من سورة المائدة حيث يقول الله تعالى: "اليوم أحل لكم الطيبات. و طعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم و طعامكم حِلٌّ لهم. و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخذان. و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين".
فالإسلام أحل للمسلمين أكل طعام "الذين أوتوا الكتاب"، أي طعام اليهود و النصارى. كما أباح زواج المسلمين من النساء اليهوديات و النصرانيات و جعلهن على قدم المساواة مع النساء المسلمات من حيث الحقوق المتمثلة في الإحصان، أي في الزواج الصحيح شرعاً، و لم يفرق بين المرأة المسلمة و غيرها من الزوجات اليهوديات و النصرانيات بناء على العقيدة. و هذا أقوى دليل على أن الآيات التي تحدثت عن يهود المدينة و نصارى نجران تخص هؤلاء في ما صدر فيها من أحكام إلهية عليهم، و لا تشمل سائر اليهود و النصارى، و إلا كيف يبيح الله للمسلمين الزواج من قوم لعنهم و اعتبرهم كفارا؟
إن إقرار الإسلام بإمكانية قيام رابطة الدم، عبر المصاهرة، بين المسلمين من جهة و اليهود و النصارى من جهة أخرى لا يجعل هذه الديانات السماوية الثلاث قابلة للتعايش فقط، و إنما يتيح المجال لكي يرتبط أتباعها أيضا فيما بينهم بمختلف الروابط الأسرية التي تنجم عن ذلك، مع احتفاظ كل فرد بعقيدته و بحرية ممارسة شعائره الدينية، لا فقط داخل المجتمع الواحد، و إنما داخل الأسرة الواحدة. ذلك أن البت في الاختلاف الحاصل بين هذه الديانات الثلاث ليس أمرا دنيوياً و إنما أرجأه الله إلى يوم القيامة كما رأينا سابقا في قوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". أما في الحياة الدنيا ف"لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا".
بقي أن نقول أخيرا بأن الإسلام حسم أمر حرية الاعتقاد باللفظ الصريح و بما لا يدع أي مجال للشك أو التأويل. فالله تعالى يقول: "مَنْ شاء فليؤمن و مَنْ شاء فليكفر"، و يقول أيضا: "لا إكراه في الدين". و هذا أقوى دليل على أن الأصل في الإسلام هو حرية العقيدة سواء تعلق الأمر بالديانات السماوية أو الديانات الوضعية أو حتى بحالة اللاتدين. فلا وصاية لأحد على أحد في العقيدة. و مهمة الرسول (ص) نفسه ـ و الأنبياء و الرسل من قبله ـ كانت هي التذكير و الدعوة إلى الله. و وسيلة الدعوة و التذكير ليست هي الحرب و الإكراه. فالإسلام الصحيح، كما نزل على النبي محمد (ص) و كما مارسه (ص)، هو هذا الدين المنفتح الذي يمكن أن يعيش جنباً إلى جنب، و في كامل الاحترام و المساواة، مع الديانات السماوية الأخرى و مع غيرها من المعتقدات و الثقافات الإنسانية المختلفة.



#عبد_الرحيم_الوالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيناريو اختطاف لم يتم
- نحن و إسرائيل: حرب دائمة؟
- جولة بوش في الشرق الأوسط و الخليج: مزيد من الأخطاء و الدماء
- أسئلة ما بعد 7 شتنبر بالمغرب: بؤس السياسة و سياسة البؤس
- نضال نعيسة: مشروعية السؤال و سؤال المشروعية
- هَل تُصلِحُ الأمم المتحدة ما أفسده جورج بوش؟
- تموز العراقي أمريكياً: قتلى أقل، نيرانٌ معاديةٌ أكثر!
- ما قبل جورج بوش و ما بعده: عالمٌ يوشك أن ينهار
- من الحزام الكبير إلى الأحزمة الناسفة
- انخراط شعبي تلقائي يفشل المخطط الإرهابي بالمغرب
- انتخابات 2007 أو معركة الأسلحة الصدئة: المغرب بين المراهنة ع ...
- أميركا والإسلام والعرب: من أجل العودة إلى الأصول
- تحسين صورة أميركا في العالم العربي: أسباب الفشل وفرص النجاح
- الحركة الأمازيغية بالمغرب: وليدة الديموقراطية أم بذرة الطائف ...
- التجربة -الليبرالية- بالمغرب: نحو مقاربة نقدية
- الإرهاب و الدواب
- تفجير الدار البيضاء الأخير: هل كان عملية عَرَضِيةً بالفعل؟
- شهادة من قلب الحدث: هذه بعض أسباب الإرهاب بالدار البيضاء


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الرحيم الوالي - دفاعاً عن الإسلام و الحرية