أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - عبور في عوالم واهِم قصّة قصيرة















المزيد.....

عبور في عوالم واهِم قصّة قصيرة


صبري يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 2236 - 2008 / 3 / 30 - 10:22
المحور: الادب والفن
    



كنتُ ألتقيه كلّما أصعدُ الباص وأنا في طريقي إلى العمل، يتحدّثُ مع نفسِهِ بصوتٍ مسموع، يحرّكُ يديهِ وهو يخاطبُ محدّثه الوهمي، يرفعُ نظرَهُ نحوَ الأعلى وكأنَّه يرى مَنْ يتحدَّثُ معه، يبدو واضحاً أنَّه مريض بالانفصام، انفصام من العيارِ الثَّقيل. جذبتني طريقة تواصله معَ الشَّخصية الوهميَّة، ينزلُ في نفس موقف الباص الذي أنزل فيه، نسيرُ معاً، أتركُهُ يتقدَّمُ بضعة خطوات أمامي، تبيّنَ لي لاحقاً أنّه يخاطبُ فتاةً بودٍّ كبير، يضعُ يده وكأنّها سكِّين على رقبته موجّهاً كلامه لفتاتِهِ المحلَّقة في أوهامِهِ، قائلاً لها، قصّي رقبتي هكذا بالسكّين لو أخلفْتُ معكِ بوعدي.

آلمني هذا المشهد، شاب على مشارفِ العقدِ الرابع من العمر، حاولتُ أكثر من مرّة أن أدردشَ معه لكنِّي تريّثتُ قبلَ أن أخوضَ معه هذه المغامرة، انّها بالنسبة إليّ فعلاً مغامرة غريبة من نوعها، لم يسبقْ لي أن خضتُ مثيلاً لها.

أجل، أن تعبرَ عوالم هكذا شخصيّة، مغامرة من نوعٍ خاص، لكني أحبُّ الدخولَ في هكذا مغامرات، فهي تفتحُ لي آفاقاً جديدة، غير معروفة من قبل، وبدأتُ أهتمُّ به كلَّما صادفته، وفي إحدى لقاءاتنا، تركتُهُ يسيرُ قبلي ثم مررتُ بجانبه وسلَّمْتُ عليه، لم يجِبْ على سلامي فسلَّمْتُ عليه ثانيةً، فلم يردّ عليَّ، ثمّ لامسْتُ كتفه قائلاً له انَّني أسلّم عليك فلماذا لا تردُّ عليّ؟ فأجابني بانفعال لا تقاطع سلسلة أفكاري، اتركني أكمِّل حديثي مع صديقتي، عندها تيقَّنتُ تماماً أنَّه يتواصل مع فتاتِهِ في خيالِهِ، وتبيّنَ لي أنه ربّما كان غائصاً يوماً ما في قصّةِ حبٍّ غرامية وحصل ما حصل إلى أن وصل إلى هذا الانفصام المرير! تركته على راحته، إلى أن وصلنا الدَّرج، صعدنا الدرجَ الذي يقودُ إلى ساحةِ المحلِّ الذي أعملُ فيه، عَبَرَ دار رعاية المرضى والمعاقين، وأنا عبرتُ محلِّي المقابل لدارِ الرِّعاية.

ظلّتْ طريقته الحوارية مع فتاتِهِ معلّقة في ذهني طويلاً، هزَزْتُ رأسي متمتماً، الإنسان ضعيف أمام أزمات الحياة، وكلّ إنسان معرّض لهكذا نكسات! كنتُ ألتقيه مرة في الأسبوع، وهكذا تشكلَّ لديّ نوع من العلاقة والالفة ثمَّ تولدَّت لديَّ رغبة عميقة لمعرفة عوالمِهِ الوهميّة، فكّرتُ طويلاً بطريقةٍ أستطيعُ من خلالها أن أدخل معه في حوارٍ لعلّي أعرفُ خبايا أوهامه التي يتجاذبُ معها أطراف الحديث، لربَّما أستطيعُ أن أخفِّفَ ولو قليلاً من انكساراته.

دخلتُ على الخطِّ، في أوجِ إحدى حواراته مع فتاته، رأسه نحو الأعلى، كأنَّ حبيبته معلّقة في السماء وهو يناجيها، سلَّمْتُ عليه، لامسته من كتفِهِ كي ينتبه إلى صوتي، تابعَ حديثه مع فتاته وكأنّه لم يسمعْ صوتي ولم يشعرْ بملامستي لكتفه، ثم هزَزْتُ كتفه بهدوء قائلاً، لماذا توجّه أنظارَكَ نحوَ الأعلى؟ انني هنا، أتحدّث معك، دعني وشأني أتحدَّثُ مع صديقتي، أنا صديقتكَ التي تتحدّثُ معها دائماً! مَنْ أنتِ، صديقتي؟ معقول! لكنكِ دائماً كنتِ هناك في الأعالي، كيف نزلتِ إلى الأرض؟
كي تستطيع أن تراني وتتحدَّث معي عن قرب وجهاً لوجه، ضحكَ بعفويةِ وفرحِ المصابين بالانفصام، ما كانَ ينظرُ نحوي بدقّة، عيناه تتحرَّكان بطريقةٍ غير مركَّزة على جهةٍ ما، يبدو وكأنّه لا يرى بشكل جيد، سلَّمْتُ عليه باليد، ففرح وقال لي هذه أوَّل مرة تسلِّمينَ عليَّ منذ أن غبتِ عنّي وعبرتِ زرقةَ السماء.
حاولْتُ أكثر من مرة أن ألتقيكَ وجهاً لوجه لكنَّكَ كنتَ تصرُّ أن توجِّهَ أنظارَكَ نحوَ الأعلى، لهذا أحببتُ هذه المرّة أن أنزلَ من عليائي إليك، لأنني بشوق أن أتحدَّثَ معكَ، بشوقٍ كبير أن أتناولَ معكَ قليلاً من الطعام، أن أشربَ معكَ قهوة بعدَ الغذاء، نتناول آيس كريم، هل تتذكَّرُ عندما كنّا نعبرُ الغابات، ونتجوَّلُ في أزقَّةِ المدينة حتى أنصاصِ الليالي، نسهرُ، نرقصُ نغني وكأننا نملكُ الدنيا وما فيها؟!
نعم، أتذكرُ هذا، لكن لماذا اختفيتِ فجأةً عنّي وتواريتِ بعيداً، وعبرتِ ثنايا السحاب؟!
كي تشتاق إليَّ أكثر من قبل، تفضَّلْ، أنني أريدُ أن أقدِّمَ لكَ الآيس كريم التي كنتَ تحبُّها.

فيما كنتُ أمسكُ يده، متوجّهاً إلى محلّي، كانت المشرفة عليه، ممرضته الخاصّة، تراقبني من بعيد، مذهولة من النتائجِ التي حقَّقتها معه، همستْ في سرِّها، كيف استطاعَ هذا البائع أن يتكلَّمَ مع مريضي، وكيفَ أقنعه أن يسيرَ معه إلى محلِّه، ها قد دخلا المحل سوية، قدّمَ إليه البوظة التي يحبُّها، فتحَ له البوظة، ثم قدَّمَها له كي يتناولها، خرجا من المحل، الشَّمس دافئة، ترسلُ أشعتها الذهبية فتضفي على المكان دفئاً، جلسَ على المقعدِ تحت شجرة كبيرة، ثم تركَه يتناولُ بوظته، بعد أن ودَّعه، وواعداً إيّاه أن يعودَ إليه بينَ الحينِ والآخر، كانت البسمة مرتسمة على وجهِهِ وهو يتناولُ البوظة بشهيّةٍ مفتوحة.

تقدَّمَتْ نحوَهُ المشرفة التي ترعاه، حاولَتْ أن تتحدّثَ معه، لكنه لم يستجِبْ إليها، رفع رأسه عالياً، يتحدّث مع فتاته، لا تغيبي عنّي طويلاً. وبعدَ عدِّةِ محاولات من الممرضة، وقفَ متوجّهاً نحوَ دارِ العجزة والمعاقين، أمسكَتْ يده، تساعده على الدخول إلى دارِ الرعاية، التي قضى فيها سنيناً طويلة! وبعد لحظات جاءت تسألني بفضولٍ كبير، كيفَ استطعْتَ أن تتحدَّثَ مع مريضي، كيف استطعْتَ أن تقنعَهُ بالاصغاءِ إليكَ وكيفَ تمكَّنتَ أن تجعلَهُ يشعرُ بوجودِكَ؟! فأنا أشرفُ عليهِ منذُ سنوات، ولم أستطِعْ أن أحقِّقَ ماحقَّقتَهُ أنتَ خلال فترة وجيزة، لأنَّهُ يعيشُ خارج الواقع، يعيشُ مع انفصامِهِ وأوهامِهِ منذُ سنين!

لا أخفي عليكِ، لفتَ انتباهي عالمه منذُ أن شاهدته أوَّل مرّة، وبعدَ مشاهدتي إيَّاه عدَّة مرّات من خلال دورة الباص التي تنتهي بنا إلى هنا، استطعتُ أن أعرفَ محورَ تركيزه الموهوم، حيث وجدته يحاورُ فتاته الوهمية التي غابت عنه، فأوهمته أنني الفتاة التي يتواصل معها، وهكذا نقلْتُ حواره مع فتاته الوهمية إلى الحوار معي، على أنني هي بعينها، مبيّناً له أنني بشوقٍ كبير للحديثِ معَهُ وجهاً لوجه، ففرحَ بنزولي من الأعالي إلى عوالمه، لهذا تواصلَ معي وتحدّثَ معي على أنني صديقته الوهمية، وإلا فمن المستحيلِ اقناعه الحديث معي أو مع غيري، لأنَّ محور تركيزه أصبح موَجَّهاً على أوهامِهِ، فلا بدَّ من إدخاله إلى عالمنا عبر منحى أوهامه، كي نحقِّقَ له عبر هذا العبور نوعاً من التواصل معه، ورويداً رويداً ربما نستطيعُ الولوج إلى عوالمه السحيقة ونضعُ أيدينا على جراحِهِ الغائرة لعلَّنا نعثرُ على بعضِ الخيوطِ التي تقودُنا إلى بَلْسَمَةِ انكساراتِهِ وأوجاعِهِ الخفيِّة!

ستوكهولم: كانون الأول (ديسمبر) 2007
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]
www.sabriyousef.com



#صبري_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنشودة الحياة ج8 ص 748
- ربيع الشرق الأوسط على كفِّ عفريت
- قلق الإبداع وكيفية ولادة القصيدة
- رسالة مفتوحة إلى الأديب المبدع عادل قرشولي
- قصّ جانح نحوَ وميضِ الشِّعر
- العراق بلد الحضارات، إلى أين؟!
- ردّاً على إجابات الشَّاعر علي الشلاه حول ارتباك الشعر
- السَّلام أوّل اللُّغات وآخر اللُّغات
- الاتجاه المعاكس برنامج استفزازي لا يحقِّق الفائدة المنشودة
- الذكرى الثلاثون لإقامة أوّل معرض للفنَّان التشكيلي حنا الحائ ...
- الإنسان أخطر من أيّ حيوان مفترس على وجه الدُّنيا
- أنشودة الحياة ج8 ص 747
- أنشودة الحياة ج 8 ص 746
- سركون بولص في مآقي الشعراء
- سركون بولص من نكهةِ المطر
- أنشودة الحياة ج 8 ص 745
- أنشودة الحياة ج 7 ص 744
- أنشودة الحياة ج 8 ص 743
- أنشودة الحياة ج 8 ص 742
- أنشودة الحياة ج 8 ص 741


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - عبور في عوالم واهِم قصّة قصيرة