عندما كان ينهزم منتخب مصر في كرة القدم، كان السبب _دائماً _ إما حكم المباراة المنحاز للفريق الآخر، وإما سوء الأحوال الجوية أو رداءة أرض الملعب، ولكن أبداً ما كان السبب هو ضعف الفريق وسوء أداءه، فهناك دائماً عقدة اضطهاد تنتظرنا _ نحن العرب _ في كل مكان، وهناك مؤامرة بل مؤامرات خارجية تحاك لنا في الخفاء هي السبب فيما نحن فيه من تأخر، والسبب في ذلك أمريكا وأوربا ومن ورائهم إسرائيل في كل ما يحدث لنا.فنحن _ كعرب ومسلمين _ لا نريد أن نري الواقع كما هو بإحباطاته وآلامه، بل نود أن نراه وفق رغباتنا نحن في مخيلاتنا نحن، فلا زلنا منعزلين عن واقعنا ونعيش فيه بالتمني وبالوهم وهذا ما جعلنا لا نقيم حسباناً لموازين القوى الدولية والإقليمية، حتى مصالحنا القومية التي يجب أن تعتمد على مبدأ حساب الربح والخسارة، نقيمها دائماً بالعواطف وبالشعارات السهلة، فبعد جريمة 11 سبتمبر وبدلاً من أن نخضعها للفحص والتحليل لمعرفة أسبابها واتخاذ القرارات الصحيحة بعدها، وبرغم وجود 19 سعودي وكويتي على متن طائرات منفذيها،ألقي مرددوا الشعارات السهلة بتبعية هذه الجريمة على الموساد حتى يريحوا أنفسهم من مشقة البحث وعناء التحليل، وقالوا أن هناك ثلاثة آلاف يهودي لم يحضروا إلى مركز التجارة العالمي يوم الحادث لأن الموساد أخبرهم بالحادث ، أي لجأوا إلى حلول السهولة وهي "نظرية المؤامرة" و"عقدة الاضطهاد". نفس الشيء حدث بعد حادثة الأقصر الشهيرة والتي قامت بها الجماعة الإسلامية بقيادة الظواهري ،فلقد سارعت جريدة "الشعب" [الإسلامية] إلى القول بأن الموساد هو الذي فعلها لضرب السياحة في مصر. فنحن أمام مشاكلنا نهرب من واقعنا المرير بإحباطاته إلى أحلامنا الهاذية التي تنتهي دائماً بكوابيس تزيدنا تأخراً وتعمق فينا جرحنا النرجسي المنفتح بعرض نهر السين.
والأمثلة على هذا الفكر السحري الأسطوري الذي يطلب من الواقع إعطائه نتائج مخالفة لقوانينه أكثر من أن تحصي، ففي سودان الترابي الذي هو حسب مؤشرات التنمية يقع تحت خط الفقر، قرر الترابي أن يقود الثورة في العالم ويعيد تشكيل النظام العالمي الجديد بدلاً من الصين واليابان وروسيا، دون أي حساب لموازين القوة الدولية والإقليمية، هو يريد، فلابد للواقع أن يخضع لإرادته تماماً كما كان يعتقد الطفل في صغره بأنه مركز الكون وأن العالم كله يخضع لرغباته من منطلق مبدأ"كن فيكون" والغريب والعجيب أنه وجد من يتحمسون له ويؤلفون الأشعار لمشروعه الوهمي، وبنفس هذه العقلية المرضية وبنفس الحلم الهروبي كان مشروع صدام الإمبراطوري للمنطقة بغزوه لإيران والكويت _ رغم ادعاءاته _ إلا محاولة للهروب من واقع الدولة النامية الغير قادرة على تحقيق تماسكها الداخلي إلا من خلال حلم غير قابل للتحقيق.
وبنفس هذا الفكر التبريري رفض كثير من المثقفين عبر الصحافة والإعلام طريقة استسلام صدام المهينة، لأنهم يريدونه بطلاً، وحيث أنه ظهر جباناً خلال القبض عليه إذن لابد أن هناك مؤامرة حيكت له وأن الغازات المخدرة أطلقت عليه ليستسلم لأنهم لا يريدونه أن يكون جباناً. وظهر فرسان الصحافة وحاملي الشعارات عبر الصحافة والفضائيات يحكون عن السيناريو الأمريكي الهليودي للإمساك بالبطل"القائد"، وقالوا إن حركات صدام لم تكن طبيعية لأنه واقع تحت تأثير مخدر، وقالوا إنه ظهر في خلفية الصورة نخلة بها بلح، والبلح لا يظهر إلا في الصيف، وقالوا إنه ليس صدام الحقيقي لأن صدام لا يمكن للأمريكان الإمساك به، وأن هناك أكثر من شبيه لصدام، وأن صدام "القائد الضرورة" قد زود رجاله الذين يشبهونه بدمه حتى تختلط الأمور على الأمريكان ليتوقعون أنهم أمسكوا به، أما أغرب ما سمعت من هوس مرضي هو أن المقاومة العراقية ستتمكن _ لو كان هو صدام فعلاً _ من الإفراج عنه برغم الحراسة الأمريكية .
أن نسمع مثل هذا الكلام _ العاطفي _من بنات صدام أو حتى من زوجاته عبر الفضائيات من أن أباهم قد تعرض لمخدر من قبل الأمريكان، وأنه لولا ذلك لقاتل الأعداء، فهو كلام مقبول من أسرته لأنه كلام عاطفي صادر من أبنه تجاه أبيها رمز الحماية ، لكن أن يردد مثل هذا الكلام"الهاذي" رجل بوزن عبد الباري عطوان رئيس تحرير "القدس العربي" فهو مرفوض جملة وتفصيلاً، لأنه كلام من نسج الخيال ولا دليل على صحته، لأن الأستاذ عبد الباري عطوان يكتب في جريدة محترمة ولها قرائها ويخاطب من خلالها النشء، فنرجو منه أن يحترم عقل قراءه وأن يلجأ إلى الموضوعية والعقلانية في كتاباته لأن هناك آلاف إن لم يكن ملايين يقرؤون له ويتتلمذون في مدرسته الصحفية، ولن تتقدم الأمة العربية والإسلامية وهذا حال مثقفيها في مواجهة الأزمات، فنحن نحل مشاكلنا على طريقة حكايات أبو زيد الهلالي، يقول المستشار العشماوي في مقاله بمجلة "روزليوسف"بتاريخ 8/8/2003 بعنوان [صناعة الوهم وثقافة التسول]" عندما ينفصل الكلام عن الفعل ويصبح فعلاً في حد ذاته، وحينما لا يتصل الحديث بالواقع ويكتفي بمجرد الحديث عنه فإنه ينتج عن ذلك عالم من سراب، قوامه الإشاعات وكيانه الأمنيات، وهو ما يسمي التفكير بالتمني، فيعيش الشخص والشعب في أوهام متزايدة وأحلام متباعدة حتى يفاجأه الصحو أو تصدمه الحقيقة.وهذا ما حدث في التاريخ العربي مرتين،ففي عام 1967 استمع الشعب إلى خطب وتهديدات أيقن منها أن إسرائيل قد أوشكت على الزوال، وأن شعبها سوف يلقي الموت غرقاً عند إلقائه في البحر. وفي 5 يونيو وبعد ساعتين فقط من بدء الحرب، كانت الهزيمة قد لحقت بالعرب جميعاً (..) ولأن نظم الحكم لم تتعلم مما حدث في 5 يونيو 1967 فقد تكرر الحال مرة أخرى في الحرب ضد نظام الحكم العراقي، وظل الشعب العربي يصدق ما يذاع بتبجح عن هزائم العلوج وانتحار مغول العصر على أسوار بغداد حتى فجع الحالمون والجاهلون بسقوط النظام العراقي يوم 9 إبريل 2003 وهو سقوط للوهم العربي"، فلقد ‘صدم الأستاذ عبد الباري عطوان من منظر استسلام صدام حسين بهذه الطريقة المهينة، لكنه نسي أن صدام البطل هو الذي صنعه وأمثاله في صحافتنا العربية بأقلامكم من خلال أحلامهم لكنه للأسف كان بطلاً من ورق.