أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل علي صالح - المقاومة الوطنية والإسلامية.. ومعادلة الصراع الاستراتيجي ضد العدو الصهيوني*















المزيد.....



المقاومة الوطنية والإسلامية.. ومعادلة الصراع الاستراتيجي ضد العدو الصهيوني*


نبيل علي صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2227 - 2008 / 3 / 21 - 11:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التحول النوعي من عقلية الغنيمة والهزيمة
إلى
ثقافة التضحية والاستشهاد
مقدمة ضرورية
شهد العالم الإنساني الكبير مراحل كثيرة من المظالم والمعاناة والقسوة، ويبدو لنا أن هذا الظلم الواقع لا يزال متحكماً بعالمنا حتى تاريخه، والعدوان الإسرائيلي الغاشم الأخير (حرب تموز 2006 وتداعياتها المتواصلة على لبنان والمنطقة كلها) أكبر شاهد على ذلك..
وقد سادت خلال هذه الفترات التاريخية أجواء قاتمة من الفوضى والاضطراب والاهتزاز في القيم والمفاهيم الأخلاقية، وانطلقت فيها حركات عنف مدمرة لا حصر لها. وبالعودة قليلاً إلى الوراء يمكن للمؤرخ والباحث في مجال الفكر والحضارات أن يقرأ تلك المراحل – وبخاصة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى- بصورة أكثر موضوعية، ويشخص حقائق فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة بهدف تكوين صورة إجمالية عامة عن طبيعة هذا المشهد المأساوي السائد حالياً.
ففي بداية هذا القرن سقط الكيان السياسي للعرب والمسلمين (والذي كان ممثلاً آنذاك بالسيطرة والاحتلال العثماني على ديارنا) تحت وطأة تقدم جحافل الاستعمار الغربي، وضاع تنظيمهم السياسي والاجتماعي بسقوط تلك الدولة، رغم ما كان فيها من انحرا ف وأمراض وتخلف، وبدأت فعلياً مرحلة الغزو الأوروبي للعالم العربي والإسلامي.
وفي مواجهة هذا الوافد الاستعماري "القديم–الجديد"، الذي حمل مشاريع تفتيتية للمنطقة برمتها، تأسستْ أحزاب وتنظيمات ومؤسسات وجمعيات ثقافية متعددة خضعت بمعظمها لسيطرة الفكر الأوروبي القادم مع الاستعمار نفسه، الأمر الذي أدى إلى تبني قيم وأفكار جديدة تمثلت في إبعاد الدين والقيم الدينية العقلانية عن الحياة العملية، وتركيز الفهم الأوروبي عن الدين والكنيسة في ثقافة ووعي الإنسان العربي المسلم. وباتت تلك المسائل من أهم القضايا التي اشتغل عليها أصحاب ورموز تلك المؤسسات والمراكز الثقافية.
وقد استمرت تلك الأجواء السلبية الضاغطة –المشحونة بالعصبية والفوضى– لدى كل الأطراف، بالرغم من الحاجة الماسة إلى وجود مشروع نهوض حضاري خاص بمسألة استنهاض الأمة العربية، وضرورة إعادتها من جديد إلى ساحة الحياة الإنسانية من أجل ممارسة دورها الإنساني والرسالي الهادف بين أمم ورسالات العالم كلها.
وهكذا تداعت المشاهد المأساوية على مسرح هذه الأمة المكسورة، حتى وصلنا إلى كارثة العالم الإسلامي الكبرى بإقامة دولة بني صهيون على أرضنا العربية في فلسطين، وتم إشغال المنطقة واستنزاف شعوبها بصراع عسكري وسياسي وإقتصادي رهيب كلف كثيراً من الدماء والدموع والطاقات المادية الكبيرة والواسعة التي تعتبر جزءاً من رأسمال ومقدرات ومواهب الأمة، وأعاق نموها وتطورها الحضاري السليم.
وتستمر الأوضاع العامة بالتردي، ويمتد الفشل الذريع إلى كثير من الأفكار والمشاريع التحديثية، وتدخل الأمة في أنفاق ودهاليز مظلمة من الخسائر والانكسارات المتتالية.
ولكن.. ماهو السبيل إلى الخلاص من واقع القهر والهزيمة؟! وماذا بقي لدينا نحن العرب من إمكانات وطاقات؟! ثم كيف يمكن الاستفادة منها على طريق التحرر والبناء الحضاري العربي وتحقيق قيم الحرية والعدالة والتقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وبناء مجتمعات عربية متحضرة راشدة وواعية، تمتلك تنمية بشرية حقيقية وقاعدة علمية وتقنية كبيرة تقوي بنيتها الذاتية، وتحصن مواقعها، وتمكنها من مواجهة الأخطار ومجابهة التحديات ورد كيد الطامعين والمعتدين، والدفاع عن ثروات الأمة ومقدراتها الهائلة؟!.
حقيقةً لقد بدأ فعلياً فصل جديد من تاريخ الصراع، والتنافس الحضاري بين العروبة والإسلام من جهة وبين الآخر الطامع من جهة أخرى. وانطلقت الحركة التحررية العربية والإسلامية من قمقمها، لتبدأ انطلاقتها العملية من خلال إحساسها الواعي والعميق بأهمية العودة إلى قيم العروبة والإسلام الأصيل المقاوم الوطني المساهم بفعالية مؤثرة في التحرر والبناء والمواجهة ضد الغزاة والطامعين.
ويمكن أن نقول في هذا المجال أن الفصل الجديد قد بدأ بما يشبه الزلزال السياسي مع إنطلاقة حركات التحرر في كل من سوريا ولبنان ومصر وإيران، وإدخالها في ساحة الصراع والتحدي بكل قوة وثبات، وفرضها معادلة صعبة في خط المواجهة، وفي أجواء التحديات الكبرى خصوصاً بعد فشل كثير من الحركات والتيارات ذات المفاهيم والطروحات والهياكل الفكرية الوافدة –التي لم تلق تأييداً كبيراً في الداخل- في محاولتها إيجاد حلول جدية عملية لجملة المشاكل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، وانفتاح العرب على عروبتهم وإسلامهم، وانفتاح الإسلام على الواقع كله من خلال انفتاحه على مشاكل الحياة والإنسان، وتقديمه لطروحات ومشاريع وطنية وقومية فكرية وعملية، تعطي قضية الصراع مع العدو موقعها الطبيعي من حيث كونها من شروط إحداث نهضة حقيقية في داخل الأمة.
ونحن عندما نستخدم (ونركز) هنا على مصطلح الصراع، فإن ذلك يعود إلى كونه سنة طبيعية من سنن الحياة والوجود، وسبباً من أسباب حركة التاريخ والتغيير والتنمية الحضارية والاجتماعية الشاملة لدى الفرد والجماعة والأمة.
وسبق للقرآن أن تحدث وصاغ ونظّم هذا القانون التاريخي "قانون الصراع والتنافس الحضاري" في مسيرة الحياة البشرية، حيث تقول الآية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين".
وبهذا المعنى كانت معالجة الحركات الإسلامية التحررية الوطنية هنا لمفردة الصراع خاضعة للفعل التغييري، على أساس أنه (أي الصراع):
- حركة مواجهة مضادة لحركة الظلم والاستعباد والطغيان الفكري والسلوكي على المدى الطويل للبشرية.
- ودعوة إلى ضرورة التزام طريق الهدى الرباني كمنهج ترشيد، وقاعدة أساسية للفكر والعاطفة والحياة.
- وقوة عملية لمكافحة الظاهرة الاستكبارية، واستئصال جذورها الفكرية والعملية.
ومن المعروف أن الأنبياء والمرسلين والأئمة والقادة والمصلحين التاريخيين الكبار -ومن سار على دربهم والتزم بنهجهم– كانوا أول من انطلق في خط الصراع ضد المستكبرين والمفسدين، وحرّك وعي الشعوب والأمم، وقاد مسيرة المستضعفين ضد الطغاة والمستبدين.
إن كل تلك الحقائق تجعلنا نعي طبيعة المرحلة الراهنة التي تعيشها الأمة العربية، وتدفعنا باتجاه البحث عن البدائل والسبل الكفيلة القادرة على تفعيل إرادة شعوبنا المقهورة وتمكينها عملياً من مواجهة التحديات المصيرية المتنوعة التي تقف عائقاً أمام حركتها المتصاعدة نحو بناء وإنجاز طموحها، ومشروعها الوطني والقومي الإنساني الكبير.
وعلى خارطة هذا المشهد الإنساني العام برزت المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان إلى العلن كأحد أهم معالم وعناوين هذا التدافع والتنافس (الصراع) الحضاري الشامل بين مشاريع وحضارات العالم كلها، من حيث كونها مشروعاً حضارياً جهادياً وثقافياً وسياسياً يعمل على الاستفادة القصوى من قيم (وتعاليم وتشريعات) الدين من أجل النهوض بواقع العرب والمسلمين، والارتقاء الواعي بأوضاعهم ومواقعهم المتعددة في شتى مجالات العمل الإنساني..
وقد جاء صعود وبروز المقاومة –كأحد أهم مشاريع استنهاض الأمة- على خلفية المواجهات الجهادية العسكرية ووالأعمال الميدانية والملاحم البطولية المتصاعدة التي خاضتها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، والتي قادت إلى تحقيق الانتصار النوعي الباهر في (25/5/2000م) على قوات الاحتلال الاسرائيلي، حيث تحول الجنوب إلى مقبرة حقيقية لجنود الاحتلال وعملائه اللحديين. ومن ثم استمرارية نهجها المقاوم في تحولها إلى مقاومة وطنية شاملة في مواجهتها الشجاعة الأخيرة وانتصاراتها على قوات الاحتلال الإسرائيلي (حيث بدأت معالم النصر بالتحقق والظهور منذ الثاني عشر من شهر تموز 2006 عندما بدأت إسرائيل باعتداءتها على لبنان كله، وقيام المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية بمواجهة هذا الغزو بوعي وثبات وقوة وشجاعة نادرة).
من هذا المنطلق يأتي التأكيد الموضوعي على الدور الموضوعي الهام والمسؤول الذي قامت (ولاتزال تقوم) به هذه المقاومة في ظروف ومواقع التحدي ورد التحدي الحضاري الراهن (خصوصاً بعد اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة، والدور النوعي البارز الذي يمارسه حزب الله في سياق العمل النهضوي المقاوم) من خلال سعيها الحثيث باتجاه بناء مشروع استنهاض حقيقي لأمتنا العربية والإسلامية، باعتبارها (أي المقاومة) إحدى أهم ركائز ومنطلقات العمل النضالي والجهادي الفاعل والمؤثر والمغير للكثير من المعادلات والتوازنات السياسية والأمنية، والموازين العملية القائمة الخاصة بالمنطقة والعالم.. حتى حتى أنها قد استطاعت –بفعل جهادها وحركتها النوعية المؤثرة– أن تغير كثيراً من الخطط والمؤامرات الدولية التي رسمها رموز الظلم والقهر العالمي لعالمنا العربي والإسلامي، وحولت واقع الهزيمة النفسي لأبناء الأمة (وهزائمنا المتكررة مع العدو الصهيوني) إلى انتصارات حقيقية فعلية (غير وهمية) لها أصداؤها وآثارها الإيجابية على أكثر من صعيد محلي وإقليمي ودولي.
إننا نعتقد أن هذه الانتصارات الكبيرة ما كانت لتحدث لولا وجود ثوابت مبدئية راسخة -من الإيمان العقائدي العميق– لدى أفراد وعناصر هذه المقاومة. أي الانتماء الواضح والصريح إلى موقع الإيمان العملي الحقيقي بقيم الدين الأصيل، والموالاة الصادقة لجانب المقاومة على امتداد حركة التاريخ، وتعاقب الأجيال والأزمان.. خصوصاً ما كان يتعلق منها بمسائل ثقافية وحضارية أساسية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. مسيرة الصراع الحضاري مع الغزاة والطامعين، وضرورة وعي المعنى الحقيقي لهذا الصراع العميق من خلال التهيؤ النفسي لقبوله في حياة الفرد والمجتمع، وعدم الانسحاب من ميدان المواجهة، والاكتفاء بالتنظير في دائرة الفراغ الروحي والفكري، لأن عاقبة ذلك هو "الاستبدال" و "مداولة الأمر بين الناس".. كما تشخصه الآيتان التاليتان: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إنْ يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين".. "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
2. مسألة الابتلاء التي يخضع لها الإنسان خلال مسيرته الحياتية بعنوان كونها اختباراً حقيقياً للنفس الإنسانية، يمكنه أن يساهم في كشف الخصائص والمعالم الجوهرية للإنسان عن طريق المحن والشدائد والآلام والتكاليف وأنواع البلاء من جهة، أو عن طريق النعم وسعة العيش وتوفير القوة والمال والسلطة والحياة من جهة أخرى.
وقد وعت المقاومة الوطنية الإسلامية هذه القضايا وعياً عملياً، وظهر ذلك جلياً للعيان من خلال إيمانها الداخلي بأن الابتلاء والاختبار سنة إلهية، ولا بد للإنسان من أن يمر بحالات كثيرة من الاختبار والامتحان والابتلاء بالمستوى الفردي أو الاجتماعي، وعليه أن يستعد ويجهز نفسه، ويكثف جهوده، ويعد إمكاناته، ويستنفر طاقاته ومواهبه لمواجهة هذا الاختبار الإلهي، فلا يفاجأ بالموت أو الشهادة أو المرض أو العجز.. الخ.
لذلك تكون ساعات المحنة والألم والضعف والنقص هي المحك العملي الحقيقي القادر على الفصل بين المؤمن وغير المؤمن، بين المجاهد والمتخاذل، وبين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف .. الخ.
لذلك ومن خلال هذا الفهم لا بد من التعامل مع المقاومة من موقع أنها مشروع حضاري ورسالي عام له ثقافته ومنطلقاته النظرية والعملية التي عمل رموزها والداعون لها على تركيزها في الواقع، والمحافظة عليها بحكم كونها من أهم مشاريع النهوض التي مرّت على هذه الأمة في تاريخها الحديث، وذلك لأنه يأخذ بمبادئ الوطنية الصادقة العاملة قبل أن تقول كلمة واحدة، وكركيزة عملية لدعوته وحركته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهذا شرط أساسي لازم لأي مشروع استنهاضي يريد إقامة مجتمع متطور ومزدهر. لأن العرب عموماً يستجيبون بصورة مباشرة –أوغير مباشرة- لهذا النوع من المشاريع باعتبارها تمس حاجاتهم النفسية والوجدانية، وتتواصل مع نسيجهم التاريخي والعقائدي القابع بقوة في داخلهم، ولم ينحسر أو يتراجع مطلقاً بالرغم من كل المحاولات التخريبية والتشويهية –إذا صح التعبير– التي قام بها كثير من رموز ومواقع الظلم والاستبداد العربي والعالمي لإسقاط معالم هذه العروبة الصادقة والمتسامحة، وهذا الإسلام الأصيل المستنير الوطني المشرق عبر كل العصور والأزمان السابقة والمعاصرة، عبر إنشائهم ودعمهم لمختلف حركات ومشاريع وخطابات التطرف الديني والتعصب الطائفي والعشائري البغيض المنتشرة كالسرطان في عالمنا هنا وهناك.
إننا نؤكد –في هذا السياق- على هذا الوعد الصادق الجديد لتجربة رائدة استطاعت أن تستعيد زمام أفلت من يد أمة بأكملها، ونجحت في أن تكون –كما يعبر عن ذلك أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله (راجع مقدمة كتاب: صفحات عز في كتاب الأمة، ص11، السيد: حسن نصر الله، إعداد الوحدة الإعلامية المركزية بالتعاون مع غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، ت2 1999م) - حجر الزاوية في إعادة بناء الوطن، فباتت إحدى علامات توحده، ومظهراً من مظاهر تماسكه، بل وبعض معاني كينونته وقيامته. أفليست هي التي أفسدت حجج التشرذم، وأبطلت براهين التفتت الأبدي التي ساقتها أعوام المأساة الوطنية الطوال، يوم كان فوز فئة خسارة لأخرى، وصعود هذه انحدار لتلك، فإذْ بالمقاومة مصدر قوة وفوز لكل الشرائح والفئات. أو ليست أصداء الانتصارات المتوالية (والتحرير اللاحق) الضاربة في أعماق الوجدان والباعثة لكوامن العنفوان ولمشاعر الإيمان النبيلة هي التي حطمت جدران القطيعة وحواجز الخوف والتحفظ والممانعة..
إننا مدعوون جميعاً –كل في موقع مسؤوليته- لدراسة تجربة المقاومة، ووعيها داخلاً وخارجاً على امتداد مساحة أمتنا العربية رغم كل محاولات الإعاقة والاحتواء والتطويق والتضليل والتشويه المتعمد، على أمل أن تنمو وتزدهر وتثمر وتتجذر أكثر فأكثر لتساهم –إلى جانب حركات التحرر الوطنية الأخرى- في إنقاذ مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تنوء تحت وطأة الظلم والمعاناة الاستجداء والعيش على فتات موائد الآخرين، وكل الأزمات الخانقة التي تحيط بها من كل حدب وصوب.
وما من شك بأن حزب الله –الذي يتبوأ حالياً مسؤولية قيادة هذه التجربة الناجحة من موقع المجرب والحكيم في آن معاً– لا يمكن حصره بفئة واحدة، بل إن صفة (حزب الله) كقيمة معنوية وليس كحزب تنظيمي، أضحت تشمل (على مستوى الطرح الوطني والقومي الفكري الأصيل) كل إنسان عربي ومسلم مؤمن بوطنه ومحب لقوميته (حتى لو انتمى تنظيمياً إلى حزب آخر) ويحاول العمل -بكل وعي وصدق ومسؤولية- من أجل إعادة المعنى الأصيل للعروبة والإسلام الواعي المنفتح إلى ساحة الحياة بهدف تجسيد مشروعه الحضاري الإنساني الشامل.. ولكننا نقول بأن هذه الصفة تطلق تنظيمياً وحركياً وسياسياً –في الوقت الحالي– على حزب الله في لبنان باعتباره تياراً شعبياً مقاوماً، وحركة جهادية وفكرية، وتنظيماً حاملاً للواء المستضعفين في مواجهة مشاريع الاستلاب والهيمنة الاستكبارية الصهيونية والإمبريالية، بالإضافة إلى موقعه الجوهري كأحد أهم الحركات الاستنهاضية والأحزاب التحررية في واقع العرب الحديث.

البنية العقائدية المعرفية للمقاومة الإسلامية
أولاً- الموالاة للمثل الأعلى، والإيمان بالسنن والنواميس الكونية، والإيمان بأصالة القيم التغييرية:
لقد شكل الارتباط الحديدي الصارم -إذا صح التعبير- للمجاهدين بقيادتهم الشرعية الدينية (وفقاً لنظرية ومبدأ الولاية المعروفة في وسط أتباع منهج أهل البيت) العنصر الأبرز الذي مكّن هؤلاء من الولوج إلى إمكاناتهم وقدراتهم الذاتية الحقيقية بهدف إثارتها وتحريكها على طريق الاستفادة القصوى منها على طريق الصمود والتضحية والفداء والتحرير. وفي ضوء ذلك يتم التفاعل والتكامل -وقد تحقق ذلك فعلياً– بين الولي الفقيه، وشخصية المجاهد السياسي.
وبطبيعة الحال فإننا لا نستطيع اعتبار هذا التفاعل المتبادل كهنوتاً –كما حاول بعض المثقفين الإيحاء بذلك- بل هو نوع من أنواع المسؤولية الرسالية الخاضعة لعنصر الكفاءة، فيما يراد للمسؤولية أن تخضع له من فكر ومنهج، ويبقى للأمة دورها الكبير في عملية التفاعل والتكامل والتخطيط مع القيادة، ومهمتها الكبيرة في التأييد والتنفيذ خلفها.
بناءاً على ما تقدم يمكننا ملاحظة أن أداء المقاومة الإسلامية – المستمر منذ حوالي ثلاثة عقود تقريباً – تميز بالعقلانية، والواقعية، والتأثير الفعال والمنتج. وقد تجلى ذلك من خلال مبدئية طرح المقاومة لأهدافها، ومن دون تقديم أية تنازلات تشكك بمصداقيتها، ولكنها كانت –في الوقت نفسه– تتحرك في الواقع بطريقة سياسية واقعية مدركة وواعية لقدراتها مواقع قوتها، وعليمة بإمكانات عدوها ومواقع ضعفه، تدرس من خلالها مختلف المتغيرات الحاصلة في المنطقة، وطبيعة الأرض التي تقف عليها، بهدف صياغة خطابها ومن ثم تحريك وسائلها وأدواتها السياسية بما يتناسب مع الظروف المحيطة بالمنطقة لبنانياً وعربياً ودولياً.
وكان على المقاومة –التي نجحت في خيارها العسكري الفذ- أن تواجه كل تلك الأحاديث التي بدأت تتصاعد في الغرب عن العنف والإرهاب والتطرف الديني (القومي العربي سابقاً والآن الإسلامي؟!)، منذ أن بدأ الإسلام بالانطلاق من واقعه، كحركة حضارية في داخل الواقع الثقافي والاجتماعي للمسلمين.
ونحن لا نستغرب أبداً صدور مثل هذا الموقف من الغرب الذي أسس ركيزته الحضارية على قاعدة الغلبة والقهر والاستلاب، واستبعاد الآخر من ساحة الفعل الحضاري، وبخاصة إذا ما كان (هذا الآخر) ذا طبيعة حضارية وثقافية منافسة له. وهذا أمر لا يناسب الغرب بالمطلق باعتبار أنه يريد عروبةً هامشية وإسلاماً مدجناً ومسالماً، يتحرك على أساس الانسجام مع الواقعية السياسية والثقافية التي تنسجم مع تطلعات الدول الكبرى، وتتناسب مع مطامعها السياسية و الاقتصادية في بناء اقتصادها وأمنها، وحمايته من الاهتزاز.
وبالنظر إلى ذلك فإننا نتصور أن "المسألة الإسرائيلية" هي العنوان العريض الذي أمضى عليه الغرب في منطقتنا، ولذلك كانت هذه المسألة –في معظم مقدماتها ونتائجها- "مسألة غربية" بامتياز، بالإضافة إلى كونها مسألة يهودية، منذ أن انطلق العالم الغربي-في نهايات القرن التاسع عشر- داعماً ومسانداً وممهداً لإقامة (وطن قومي؟!) لليهود على أرض فلسطين العربية.
أما الآن –وبعد أن تمكنت الولايات المتحدة من استلام زمام المبادرة الدولية على حساب ضعف أو تضعيف الآخرين لأنفسهم، وأصبحت هي القطب العالمي الأوحد الذي يصول ويجول دون رقيب أو حسيب يردعه– فقد أضحت هذه الدولة العظمى (الخارجة على القانون الدولي بقانون مصالحها الخاصة؟!) هي الحامية والداعمة والراعية لإسرائيل. لابل وهي التي تنبه وتردع إسرائيل عن الوقوع في أي خطأ، وهذا الأمر تجسّد بشكل عملي عبر الحلف الاستراتيجي "الأمريكي-الإسرائيلي" الذي مهّد له وسبقه -كما قلنا– الحلف "الغربي-الإسرائيلي ".
من هنا فإن مواجهة المشروع الإسرائيلي الخاص بتفكيك المنطقة وتفتيتها لا ينفك أبداً عن ضرورة مواجهة المشروع الأمريكي بالذات.. باعتباره تأسس على قاعدة إلغاء وجود العالم العربي كقوة سياسية وأمنية مستقلة، لها وزنها وحضورها الفاعل على مستوى المنطقة والعالم ككل.
ولذلك كان (ولا يزال) المطلوب –أمريكياً- هو أن تبقى المنطقة العربية في حالة توتر واضطراب وفوضى (الفوضى الخلاقة!!)، لتستقبل مختلف الهزات السياسية والأمنية التي تحول المنطقة برمتها إلى مجرد حقل تجارب لتطبيق السياسات الاستراتيجية الأمريكية والغربية التي تحقق لها -أولاًُ وأخيراً- مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية في حالتي (السلم!) مع إسرائيل، أو الحرب معها (حرب عسكرية أو سياسية) كما هو واقع حالياً على جبهة الحرب السياسية والحضارية المحتدمة في لبنان.
وهذا ما كنا نلاحظه سابقاً من خلال ما تقوم به أمريكا من تشجيعها لمفاوضات التسوية المتعثرة حالياً بين العرب وإسرائيل، وعملها الدائم على إنجاحها لمصلحة الخطة الأمريكية الإسرائيلية القاضية بجعل إسرائيل الدولة الأقوى على حساب إضعاف العرب والمسلمين.
ولذلك فإننا نعتبر أن الأمة العربية الآن لابد أن تعيش –في فكرها وعاطفتها وحياتها- حركية الصراع والتحدي لكل مفاصل السياسة الأمريكية تحديداً. وهذا الكلام لا نقوله انفعالاً بل إننا نحاول أن نؤكد للجميع بأن معظم المسلمين لا يزالون يمتلكون الكثير من إمكانات ومواقع القوة، وأن هزائمهم السابقة لم تكن (ولم تسجّل أصلاً) هزائم للأمة بمقدار ما كانت هزائم للحكام والأنظمة والنخب السياسية والفكرية التعبانة والرخوة والمسترخية والمرتبطة بمشاريع معينة هنا وهناك..
لكن القضية الآن هي أن تلك الهزائم والنكبات والنكسات أدت –فيما أدت إليه- إلى إصابة كثير من أبناء الأمة بعقدة الإحباط و الشعور باليأس والهزيمة النفسية. ولذلك علينا أن نعود من جديد إلى أنفسنا لنبدأ بمحاولة التخلص من تلك العقدة، لنعيش معنى وجودنا كعرب ومسلمين، أصحاب حضارة إنسانية، نستطيع من خلالها البدء بالخطوة الأولى في سبيل إنتاج واقع عربي جديد، يعرف أبناؤه كيفية التفكير بعقولهم، وعناصر قوتهم وأسباب تقدمهم في كل حركة الحاضر والمستقبل.
ويبدو لنا أن هذه المواجهة والمجابهة للمشاريع الخارجية المحدقة بمنطقتنا، تحتاج منا –على مستوى وضع تصورات عامة لمتطلبات الصراع الحضاري مع العدو- إلى إعادة بناء وإنتاج وضع سياسي عربي وإسلامي جديد، يعطى فيه الإنسان الأهمية الكبرى، بحيث نتمكن من تثوير طاقاته ومواهبه بناءً على خطة دقيقة مدروسة ومحكمة، يتكامل فيها المشروع الحضاري العربي (الحرية والعدالة والتنمية) مع غيره من المشاريع الثقافية الأخرى على مستوى مواجهة مشروع الهيمنة الأمريكي الإسرائيلي الهادف إلى تأكيد خطه الحضاري والثقافي المهيمن على حساب ثقافات وحضارات الآخرين، ودون النظر إلى مصالحهم في العيش بكرامة وإنسانية في هذا العالم المتوحش.
ويبدو أن ذلك يحتاج – من جملة ما يحتاج- إلى إعداد داخلي حقيقي، ونفس طويل، وإيمان عميق، وتخطيط ناجح (خصوصاً على مستوى بناء الجبهة الداخلية المعافاة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً).. والمسألة هنا لا تقاس بالأشهر والسنوات، بل تقاس بالعمل المتواصل المؤسس للمستقبل الواثق والطموح والهادف.
وإذا كان واقعنا العربي الإسلامي الحاضر-الذي هو مستقبل الماضي القريب والبعيد- هو (كما سلف القول) واقع الهزيمة المليء بالكثير من معالم التقهقر، ومظاهر ثقافة التخلف والتخليف، على مستوى الفكر والممارسة، فإن ذلك يجب ألا يدعونا –كما قلنا- إلى العيش في يأس المجهول والفراغ، بل يجب أن يكون محرضاً قوياً ودافعاً حيوياً للعمل من أجل مواجهة سياسة الخوف والإحباط التي قد تؤدي -إذا ما استفحلت– إلى إسقاط روحنا ومواقفنا وحركتنا ونهضتنا المطلوبة..
من هنا يأتي تأكيدنا على إن إعادة البناء الحضاري للأمة العربية –على طريق مواجهتها تحديات الخارج المصيرية- لا يبدو منفصلاً عن ضرورة الانخراط في مواجهة إشكاليات وتحديات الواقع الثقافي والسياسي الداخلي لاجتماعنا العربي الإسلامي (تحديات الحرية، والسلطة، وإشكاليات الحكم، والتعددية السياسية..الخ). أي أن المواجهة الخارجية تفترض وتستوجب –من جهة أخرى- إنجاز شروط وتأمين معايير النهضة الداخلية.
وبتعبير آخر نقول بأن تفكيك وإسقاط التحديات الخارجية لها معادل داخلي هو البناء والإنتاج والنهضة الداخلية على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والأمة ككل. وكذلك مواجهة تحديات وجود الكيان الصهيوني العدواني في المنطقة، وتأثيراته السلبية على ذلك المشروع من خلال عمله الدائم على إعاقة تقدم أية دولة عربية أو إسلامية، ومحاولة تطويق أية حركة، لديها نزوع قوي للوحدة والتوحد، بالحرب الإعلامية السياسية تارة، و بالإثارة المذهبية أخرى ، وبالحرب العسكرية ثالثة.
وهذا ما لاحظناه عندما انطلقت مواقع الهيمنة لقوى ومحاور الدول الكبرى كلها لتواجه (وتحاصر) نجاحات بعض الدول العربية الإسلامية التي استطاعت تكوين "حداثات" علمية ناجعة وفعالة ومؤثرة، بالرغم من الواقع الدولي الضاغط الذي تحرك سريعاً كالزلزال في مواجهتها.
إننا نعتقد أن أمريكا والغرب عموماً –الذي سبق له ولمواقعه المتقدمة عندنا أن خاضا حرباً شعواء ضد حركات وتيارات التحرر الوطنية والقومية- يعلمان تماماً أنَ العروبة والإسلام هما العنصران الحاسمان في نهضة شعوب هذه الأمة، وانخراطها الطوعي في عملية إقلاع التنمية الداخلية، كشرط أساسي للتنمية الخارجية. ولذلك كان هذا الغرب (وعلى رأسه أمريكا) يعمل دوماً –ولا يزال- على مواجهة وإسقاط المعنى الحقيقي للعروبة والإسلام (روح هذه الأمة، ومفجر طاقاتها)، باعتباره يشكل خطراً على مصالحه في منطقة الثروات والطاقات البشرية والطبيعية الهائلة.
وطالما أن العروبة والإسلام مقصيان (ومستبعدان) عن ساحة الفعل والتأثير الحضاري، فإن أمريكا -والغرب عموماً- ستستمر في فرض أنظمتها المعرفية والسياسية وأنساقها الحضارية على الآخرين.. إذ أن مساهمة العرب والمسلمين في تحرير الشعوب وجعْلها قادرة على اتخاذ قرارتها، والتحكم في شؤونه الداخلية بإرادتها هي، هو خط أحمر في كل السياسات الاستراتيجية الخاصة بالدول الكبرى (وفي مقدمتها أمريكا). لأن ذلك سيمنح الشعوب المستضعفة القدرة على القيام والفعل، ومن ثم التأثير والبناء.
إننا نعتقد أنّ على النخب المفكرة الملتزمة عروبياً وإسلامياً -إذا ما أرادت أن تساهم فعلياً في نهضة الأمة- أن تطلق التحدي (كما أطلقته المقاومة الوطنية اللبنانية) ضد كل مفاهيم الهيمنة والغطرسة المتحركة في الفكر والواقع، باعتبار أن طبيعة الحركة الثقافية والسياسية العربية والإسلامية تقضي بضرورة إطلاق التحدي البناء في مواقع الحياة المختلفة، ليكون للصراع الحضاري دور مهم في عملية بناء الأمة ونهوضها الفعال، خصوصاً وأن الغرب أقام وجوده على هذا المفهوم الصراعي بمعناه السلبي، إذْ أنه كان (ولا يزال) يعمد بشكل دائم إلى إسقاط عناصر القوة لدينا من خلال إبعادنا عن أي موقع يمكن للقوة أن تنفذ إلينا منه.
من هذا المنطلق نحن نعتبر أنَ الموقف المطلوب في زمن التحدي الراهن الذي نعيش حالياً في خضم أزماته ومتغيراته هو:
1. بذل الجهد في الاستعداد للمواجهة والقوة في المواقع كلها، الأمر الذي يفرض على الجميع-كل في موقعه- أن يستنفر كل طاقاته ومواهبه على هذا الطريق.
2. الدراسة العلمية والموضوعية لحجم المشاكل والتحديات المثارة في دوائر العالم المختلفة، وإعداد الخطط العملية الدقيقة لكل المواقع والأوضاع المتنوعة.
3. ضرورة الملاحقة الواعية لكل حركة العالم المعاصر من حولنا ليكون للعرب والمسلمين الوعي السياسي الحقيقي بقضايا العالم كله، من خلال ضرورة إحساسهم بجوهر الأصالة العروبية الوطنية والقومية في وجودهم وانتمائهم. لأن ذلك هو السبيل الحاسم لاستعادة الدور المحوري لرسالة الأمة في سياق حركة النقد الموضوعي للذات على مستوى الداخل، والصراع ضد إسرائيل على مستوى الخارج.
ونحن عندما نعتبر أن استنهاض الأمة لا يمكن أن يتم من دون انفتاحها على قيم وجوهر الدين الإسلامي الأصيل بشكل إيجابي متوازن ومعتدل بعيد عن التشدد والإفراط والتفريط، فإننا لا نعني بذلك انفتاح الأمة على شيء من التاريخ، مضى زمنه، وانتهى دوره.. ولكننا نعني به إعادة إنتاج الشخصية العربية في العالم الإسلامي بما يتناسب مع المستجدات والمتغيرات الإيجابية الكثيرة في هذا العصر.
لأن المشكلة الكبرى تكمن هنا في انحسار العروبة والإسلام –كفكر وممارسة– عن ساحة الحياة، على حساب صعود كثير من الأفكار والقيم الغربية بمناهجها وآليات عملها وسياقاتها الحضارية المختلفة التي بدأنا نلاحظ قوة إطباقها على العمق الداخلي لإنساننا العربي. ونحن نؤكد هنا أننا منفتحون ويمكننا أن نستفيد من تجارب وخبرات وإمكانات كل الحضارات والأمم، ونعتبر أن الحضارة مجهود وتراكم إنساني كبير، لا يختص بأمة أو حضارة دون أخرى، ولكل حضارة مساهمات –بصورة وبأخرى- في هذا البناء الحضاري الإنساني الكبير.
فالعرب والمسلمون أصحاب حضارة مميزة في مواقع غير قليلة من تراثها ومفاهيمها، ومناهجها السلوكية، وهم يمتلكون ثروات ومقدرات جبارة، الأمر الذي يفرض عليهم –من حيث المبدأ- العمل المستمر من أجل تحقيق شخصيتهم العربية المستقلة والمتكاملة من خلال هدف التقارب والوحدة على مستوى تجمعات الأمة المختلفة، خصوصاً وأننا نجابه الآن واقعاً متخبطاً داهماً ومليئاً بالأخطار المشتركة التي تعترض حركة العرب والمسلمين جميعاً على المستويات السياسية، والاقتصادية، والأمنية.
إن القضية الأساسية -كما أكدنا عليها دائماً في سياق هذا البحث- هي ضرورة أن يستفيد العرب الاستفادة الحقيقية الكاملة المطلوبة من إمكاناتهم ومقدراتهم المتنوعة والهائلة التي استأمنهم الله عليها، وذلك بالعمل على تحويلها إلى حركة مستمرة لصنع القوة على أساس البناء والإنتاج المبني بدوره على قواعد متينة وصلبة من التخطيط والتكامل والتوازن.. أو توجيهها إلى تحقيق النتائج المثمرة -على مستوى الأمة– بدلاً عن النتائج الهزيلة البائسة التي نراها تتحرك أمامنا في حجم الفراغ الدائم في موقع هنا وهناك.
وينبغي علينا أن ندرك من الآن فصاعداً أنّ قضية الصراع الشامل ضد إسرائيل هي قضية منازلة حضارية ذات أبعاد متكاملة، تتحرك في ميادين العلم والتكنولوجيا والتنظيم الأخلاقي والقانوني العادل للمجتمع. فالزمن الذي نعيش فيه الآن هو زمن الشعوب المتنورة والقوية والقادرة والمنتجة.. زمن الشعوب العاملة التي لا تلقي كل شرائط وجودها على نخبها وسلطاتها الحاكمة فقط، بل تنطلق لتبدع هي بذاتها وبالتكامل مع حكوماتها إمكانات ومنافذ جديدة للعمل الفعال والمنتج، إنه زمن بناء أسس صحيحة للعلاقة التي يجب أن تقوم بين تلك الحكومات وشعوبها.. وهو ليس زمن الشعوب الكسولة (العواطلية) والتعبانة والمنهكة التي تريد أن تتلقف "اللقمة" جاهزة لتأكلها من دون أن تعرف طريقة صنعها وإبداعها...
صحيح أن شعبنا العربي لا يزال يخاف –كما تربى سياسياً وثقافياً على ذلك– من المعاني الوافرة والعظيمة لقيمة الحرية، ويستكين إلى القوالب المعرفية والمفاهيمية والسلوكية الجامدة والجاهزة الموروثة التي انتهت إليها مراحل التاريخ العربي والإسلامي السابق حتى الآن ومن دون إحداث أي تغيير أو اجتهاد أو إصلاح فيها، وربما يخشى مواجهة الذات بطريقة نقدية جديدة، لكننا نعتقد أننا نستطيع -من خلال استعادة عنصري الاجتهاد في الفكر والإبداع في العمل، إلى عقل الأمة، وروحها الحضارية- أنْ نساهم في إخراج هذه الأمة من أزمنة الانحطاط والتخاذل الحضاري الراهن التي تعيش فيها دافعةًً إياها إلى مزيد من إعادة إنتاج التخلف والتقهقر الحضاري.
وفي اعتقادي أن الحرية المسؤولة الواعية التي وهبها الله لكل إنسان هي الطريق الوحيد اللازم علينا سلوكه لتحقيق هذا الأمل والمشروع الكبير، كمحصلة جوهرية لمشروع النهوض العربي والإسلامي المطلوب، والقائم أساساً على سيادة سلطة العقل في مقابل مشروع الإقصاء التي تمثل عملية "سيادة العقل السياسي الضيق" كمحصلة نهائية لزمن الانحطاط العربي.
إن المعركة الآن إذاً هي من أجل استعادة دور العقل في داخل اجتماعنا الديني والسياسي، ليكون ذلك بديلاً نهائياً عن عقل التفرد ذاته.
وفي تقديري نحن نستطيع –في وضع كهذا- القيام بعملية إعادة صقل مهاراتنا وإمكاناتنا، وتأهيل ذاتنا للمواجهة الحضارية الشاملة مع العدو الصهيوني. أي أن نبدأ أولاً بإحداث التغيير الداخلي المرغوب على مستوى التمثيل السياسي الصحيح، وإعادة الاعتبار لحقوق الفرد، وسيادة دولة القانون والعدل والمساواة في عالم العرب والإسلام.. ليكون ذلك كله مقدمة أساسية وضرورية لمعرفة كيفية التعامل مع العدو من دون أن نجعله عائقاً أمام تقدمنا، وقيداً على تفكيرنا في أنفسنا ومصالحنا واستراتيجياتنا. وإذا ما تحقق ذلك –وهو يحتاج أساساً إلى كثير من العمل الصادق والجهد والتعب– فإن إسرائيل آنئذٍ ستجد نفسها أمام واقع عربي وإسلامي جديد، وأمام نوع ٍ جديد من القوة العربية الإسلامية لم تحسب له الحسابات المطلوبة، وعليها من الآن أن تعيد ترتيب أوضاعها وحساباتها في ضوئه.
أما نحن فسنجد أنفسنا وقد تحررنا من عقدة "الوهم الإسرائيلي" (الذي سبق لجيشنا العربي السوري البطل أن قهره وأذله عندما أسقط مقولة "جيش إسرائيل لا يقهر" خلال معارك حرب تشرين التحريرية عام 1973م التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد)، وانشغلنا أكثر بإعادة الاعتبار لأوضاعنا ومواقعنا الداخلية بهدف إعادة موضعة وبناء وجودنا من جديد بالاستناد على ركيزتين:
-الأولى هي الإمكانيات الواسعة التي تمتلكها الأمة في حضارتها وثقافتها الغنية.
-والثانية البحث عن صيغة جديدة للتعبير عن تماسكنا وتكتلنا المثمر والمنتج.
إن المسألة –كما أراها، وقد يوافقني عليها الكثيرون– هي (وبشعار مكثّف) أنّ الحرية الحقيقية المسؤولة لا يمكن إلا أن تكون المعادل الطبيعي الحقيقي لصراعنا الحضاري مع المشروع الصهيوني. وإذا ما كان خيارنا الوحيد الذي يجب أن نتمسك به –الآن وفي المستقبل– هو تعميق خط المقاومة (الذي أصبح قدراً لا خياراً) فإننا نعتقد أن سلوك طريق الحرية والوعي في التعامل والممارسة، هو العامل الحاسم في بلورة صيغة مواجهة حضارية شاملة للمقاومة، سيّما وأن المقاومة الوطنية الإسلامية في لبنان قدمت صورة مشرقة، ونجحت عملياً في الرهان على قدرة الإنسان في معركة التحدي، وذلك عندما وضعت الإنسان في موضع القلب من مشروعها الشامل.. الإنسان المؤمن، الصابر، الصامد، المواجِه، المضحِّي، صاحب الإرادة الحديدية، القادر على صنع النصر بإمكانات متواضعة وبسيطة.
لذلك إن تربية الإنسان عندنا –في داخل مجالنا الحضاري العربي والإسلامي– على قيم الحرية الحقيقية، لا يمكن إلا أن تفعل فعلها في تعميق خط الصمود والمجابهة، وانتقالها من حالة الدفاع السلبي إلى الهجوم الإيجابي، ومن ثم تحقيق النصر.
وقد أكد أمين عام حزب الله اللبناني سماحة السيد حسن نصر الله هذه الحقيقة ذات مرة -بعد حدوث تحولات نوعية عسكرية وأمنية وإعلامية في الجانب المقاوم منذ مطلع التسعينات، وقبل أنْ يتحقق النصر الكبير في العام 2000م– في قوله: "أنا أقول إننا نحن الشعوب العربية، وأتنازل وأقول ليس كل الشعوب العربية والإسلامية، نحن شعوب دول الطوق وفلسطين، وأكثر من ذلك أتنازل وأقول نحن الشعبين اللبناني والفلسطيني إذا كانت لدينا الإرادة والإيمان، الذي يملكه اليوم المجاهدون في لبنان والمجاهدون في فلسطين، نحن قادرون على تحقيق النصر وصنعه لأمتنا بدون دبابات وبدون طائرات وبدون توازن قوى. ولا أقول هذا على سبيل الشعارات. أنا أعرف جيداً ما أقول. نحن اللبنانيين والفلسطينيين قادرون على أن نوصل المجتمع الصهيوني الموجود الآن في فلسطين إلى قناعة واضحة بأنه موجود بالكامل في المكان الخطأ. وأن يركبوا سفنهم، ويغادروا هذه المنطقة، وأن يعود الحق لأصحابه، لكن نحن بحاجة إلى الإنسان الذي يملك الإيمان والإرادة ليس شعاراً ونظريات، بل إيمان حقيقي وإرادة حقيقية "( جزء من حديث أدلى به السيد: حسن نصر الله إلى مجلة الشاهد، العدد: 149، ص24، ك2، 1998).


ثانياً- الالتزام بمفهوم الشهادة:
تتراءى أمامنا –كمشاهدين لتلك الأعمال البطولية التي جسدها ويجسدها المجاهدون الأبطال في لبنان– صور الشهداء الملحميين في الداخل من البعيد البعيد.. صور الأبطال في كل الحروب المشرفة التي خاضها العرب في تاريخهم القديم والحديث، وقدموا فيها ملاحم لا تنسى كتبها التاريخ بماء من ذهب.
والشهيد عندما يقوم بفعل الشهادة والبطولة، لا ينتظر جزآءً من أحد، لأنه عميق الإيمان برسالية هدفه الذي ضحى من أجله، وبذل في سبيله أغلى ما يملك، وهي روحه التي بين جنبيه، بالشهادة في سبيل الله، وهي شهادة في سبيل إحقاق الحق، وإقامة العدل، وصون الكرامة.
من هنا كان التزام المقاومة –منذ بداية انطلاقتها في العام 1982، وتلقيها للعون والدعم والمؤازرة الكاملة من الشعب والقيادة في سوريا الصمود، قلب العروبة النابض- بخيار الشهادة في سبيل الحق والأرض السبب الأبرز الذي أدى إلى إكسابها صفات الحيوية والفاعلية وقوة الزخم اللازم لإبداع النصر العزيز، وإنجاز التحرير المجيد.
وبالفعل فقد قلب هؤلاء الشهداء –الذين صنعوا التحرير، وتحولوا بحق إلى دعائم للحاضر وبناة للمستقبل– موازين القوى، وأسقطوا مقولة التفوق العسكري الإسرائيلي أمام مقولة العنفوان والإيمان بخط الشهادة.
ونحن عندما نبحث في طبيعة الأسس التي قامت عليها فكرة الشهادة فإننا نجدها قد ارتكزت فعلياً على رؤية عقائدية دينية تقول بحتمية انتصار المستضعفين على المستكبرين، إذا ما قاموا بواجباتهم النضالية الجهادية في ساحات العزة والكرامة، باعتبار أن ذلك سنة الله في الحياة ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وهذا الشعور الإيماني العميق الواثق بمآل الجهاد (والتضحية والاستشهاد في سبيل الله والحق والوطن) هو لون من ألوان الوعي بقيم الشهادة التي سبق أن تجسدت -كما ذكرنا- بقوة في التاريخ العربي الإسلامي. فالمجاهدين في سبيله لا ينفكون عن الاستمرار في أعمال الكفاح والنضال، ولا يتجمدون عند المصاعب والأهوال التي قد تعترض مسيرتهم الجهادية. بل إنهم يرونها أموراً طبيعية، لابد من تذليلها حتى يتم تحقيق النصر.
ولقد تعززت هذه النظرة العميقة لمسألة الشهادة لدى أبناء المقاومة ومجاهديها من خلال التحام أركان وقادة المقاومة مع قواعدها و أفرادها العاملين على الخطوط الأمامية، وهذا ما لاحظناه عندما استشهد أمين عام حزب الله السابق السيد: عباس الموسوي، ونجل الأمين العام الحالي السيد هادي نصر الله، وأخيراً القائد العسكري للمقاومة عماد مغنية.
أجل لقد كان الإيمان بفعل الشهادة هو بوابة الدخول الأساسية إلى جنة النصر الموعود، "وعندما أقول عن الإيمان، فالإيمان بالله واليوم الآخر، ليس فقط الإيمان بالقضية، الإيمان برب القضية، لا يكفي الإيمان بالقضية. عندما توقن العائلة اللبنانية والعائلة الفلسطينية بأن ولدها الذي فجر نفسه في (تل أبيب) أو في القدس أو على الحدود اللبنانية الفلسطينية هو شهيد عظيم انتقل من الدنيا إلى الآخرة، إلى حياة النعيم، إلى حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت.عندما يتحول الشهيد إلى موضع افتخار واعتزاز لعائلته، ولشعبه، ولأمته، هذا يعني أننا نملك عدداً كبيراً من هؤلاء الاستشهاديين، نملك شعباً مقاوماً، وشعباً مجاهداً. أنا واثق بأن هذا العدو لن يجد نتيجة معنا، إلا المزيد من العجز والاعتراف بالعجز، والمزيد من الهزيمة، والاعتراف بالهزيمة. ويصل العالم كله إلى قناعة بذلك. العالم يدعم الآن (إسرائيل) لأنه مقتنع بأن مصلحته في دعمها، يمكننا أن نجعل العالم يصل إلى مرحلة يقتنع بأن الأثمان التي تدفع هي أكبر بكثير من المصالح التي يمكن أن تتحقق. أنا عندما أتحدث بتفاؤل عن المستقبل، منشأ التفاؤل عندي هذه الأجيال الشابة الواعدة الثورية المؤمنة المستعدة للاستشهاد. تفاؤلي لا ينطلق من سكان القصور، وإنما ينطلق من سكان الأحياء الفقيرة، وأجيال الشباب التي تتحرك اليوم من موقع الإيمان، وفي قلبها العشق الكبير للشهادة. نحن هنا لا نكتب نثراً، ولا ننظم قصيدة، وإنما نرسم صورة عن واقع موجود، يكتب في كل يوم بالدم والشهادة"( من حديث أدلى به سماحة السيد حسن نصر الله إلى مجلة الشاهد، العدد: 149، ص24، 1998).
و بالنظر إلى ذلك –والى ما تحقق من انتصارات كبيرة قامت في الأساس على مفهوم الاستشهاد- فإننا نتصور أن أمتنا اليوم هي بأمس الحاجة إلى تركيز مفهوم التضحية والبذل والعطاء (وقيم الشهادة) كتربية أساسية ينشأ عليها الصغير، ويشيب عليها الكبير. لكي تستعيد هذه الأمة عزها وألقها الحضاري، ودورها الريادي الإنساني الذي اغتاله حب الذات والتمسك الشديد بالأرض. أي أنه يجب أن يبقى الفعل الاستشهادي المقاوم حاضراً بقوة في أي مشروع نهضوي عربي أو إسلامي. لأن تغييبه سيؤدي –من جهةٍ أولى– إلى حرمان هذا المشروع من الحالة التعبوية الهامة والملازمة لإثارة مواهب الأمة من خلال حركة المقاومة، وسيشكل –من جهة ثانية– نكسة قوية لذلك المشروع، بما يجعله قابلاً للتهميش والانكسار والتزييف، ومن ثم التذويب والتلاشي.
ونحن نعتبر أن المقاومة الوطنية اللبنانية –التي قطعت خطوات واسعة على طريق الانتصار الكبير– هي خير من قدم (ويقدم) البرهان (والدليل) الأسطع على ذلك. فقد نجحت هذه المقاومة الباسلة –كما ذكرنا– في أن تقدم نفسها (من خلال حركية الفعل الجهادي المقاوم) كحركة نهوض شملت ميادين سياسية وعسكرية وإعلامية متنوعة، شكلت بمجملها أرضية خصبة لنمو بذرة النصر المبين، ووفرت الالتفاف الشعبي -والوحدة الوطنية الشاملة- حول نهجها المقاوم من محيط العرب إلى خليجهم.
إن ذلك كله يجعلنا نقرر أنه من الاستحالة بمكان وضع مشروع نهوض عربي دون مقاومة. أي دون تركيز على الصمود، والتضحية، والنفس المقاوِمة، وترسيخ قيم الشهادة والاستشهاد.. وعلى مدى أكثر من عشرين سنة، من العام 1985 إلى العام 2006، كانت صفات المقاومة المثابرة، والجدية، والدقة، والتخطيط، والتطوير، والاستنزاف المتواصل للعدو بشرياً ونفسياً ومعنوياً، والصبر، والاحتساب، والتحمل، والاستعداد الدائم للتضحية، وعطاء الدم بلا حدود، واليقين بالنصر.
أي أن حقيقة الانتصار تجسدت عملياً من حيث أنه كان نتيجة طبيعية لكل هذا التراكم الهائل للتضحيات والعطاءات والجهاد الاستشهادي الدامي الذي لم يعرف الكلل أو الملل في يوم من الأيام. فكان الجهاد (والاستشهاد) التعبير الأرقى عن خيار المقاومة.
وبالنظر إلى المضمون الاستشهادي لفكرة المقاومة يمكننا أن نؤكد على أن الانتصارين اللذين حققتهما المقاومة في (أيار 2000 وتموز 2006) -وما ترتب عليهما من نتائج وثمار معنوية ومادية، تمحورت بمجملها حول كسر شوكة العدو، ودحر جيشه (الأسطوري؟!)، وإلحاق الهزيمة النكراء به (باعتراف العدو قبل الصديق)– يشكل بحد ذاته قاعدةً صلبةً لنشوء مفاهيم ومعادلات جديدة في طبيعة الصراع مع العدو، ومنعطفاً تاريخياً هاماً أعاد الاعتبار المعنوي لشعوبنا العربية والإسلامية من حيث أنه جبّ سلسلة من الهزائم المتكررة التي سبق أن تعرضت لها في تاريخها الحديث.
ونحن نعتبر أن اتكاء هذا الانتصار على رصيد استشهادي وإيماني وطني هو الذي ساهم بفعالية منقطعة النظير في ظهور قوة المقاومة، وتحقيقها لهذا النصر الحاسم، في الوقت الذي كنا نرى فيه كثير من الجيوش العربية الجرارة يقتلها الملل، وتعاني من رتابة معادلة الصراع القديمة مع الكيان الصهيوني.
ونحن عندما نتحدث عن النتائج والدلالات الهامة التي أفضت إليها تلك الانتصارات الكبيرة، علينا أن نتذكر دائماً أن المعركة كانت (ولا تزال) قاسية ومعقدة مع هذا العدو، وعلى كل صعيد، وكانت رهاناته كثيرة. وكان على المقاومة أن تواصل سيرها في طريق مليئة بالألغام والأفخاخ والكمائن في أكثر من ساحة.. فقد راهن العدو على تعب المقاومة ومللها، ولكن بعد كل هذه التضحيات والجراح لم تتعب المقاومة ولم تمل.. وراهن منذ البداية على تصفيتها من خلال قتل قادتها وكوادرها، وخصوصاً الشهيد السيد عباس الموسوي، فازدادت بشهادتهم قوة وعنفواناً.. وراهن على الإيقاع بين المقاومة وشعبها، فكان يحتضنها شعبها أكثر فأكثر(حيث رفعت المقاومة شعار أن الوحدة الوطنية هي أساس النصر وأن الفتنة الداخلية خط أحمر).. وراهن على الفتنة بين الدولة والمقاومة، وبين الجيش والمقاومة، فكان الموقف يتطور إلى حد تتبنى الدولة حق المقاومة، ويحمي الجيش ظهرها.. وراهن العدو على سحق المقاومة في تموز 1993، وبعد سبعة أيام اعترف "رابين" أن المقاومة هزمته.. وراهن على سحقها في نيسان 1996، ففرضت المقاومة ولبنان شروطها في المعركة، تلك الشروط التي أسست لهزيمة 25 أيار 2000م، كما وحاولوا بكل قوتهم خلال عدوان حرب تموز 2006 القضاء -ليس على حزب الله فهم أعجز عن ذلك- على البنى التحتية وعلى الحجر والبشر المناصرة للحزب والمقاومة والانتقام من كل شيء... وراهنوا على مسائل كثيرة، ولكن "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله". لكن العدو خسر –في نهاية المطاف– جميع رهاناته، فكان أن تحقق الانتصار الكبير في العام 2000م وفي عام 2006م الذي صنعته المقاومة بعرقها ودمها وصمودها، وحفظته بوحدتها ووعيها وأهداب عيونها.
وبالإضافة إلى توفر المقاومة على مفردة الشهادة –كأحد نقاط القوة الحاسمة- فقد كانت عملية الوقوف المتأني أمام الواقع الداخلي والخارجي المحيط بعمل المقاومة -وتشخيصه بشكل دقيق ومحسوب، ودراسة نقاط قوتها، ونقاط ضعف العدو– من العوامل الأساسية التي ساهمت في صنع ذلك النصر العظيم.
على هذا المستوى انطلقت المقاومة في أدائها النوعي -الرافض للعدو بالقلب، واللسان، واليد– من خلال ما يلي:
1. وقوفها في وجه العدو موقف الند للند. وقد ظهر ذلك في رضوخ العدو لبنود تفاهم نيسان الذي اعترف فيه العدو بالمقاومة المسلحة، وأقر بمبدأ عدم استهداف المدنيين العزل.
2. الانسحاب من معركة الصراع الداخلي في لبنان، وعدم الانجرار وراء شعاراته الغرائزية العصبية المتعددة الأشكال والمظاهر (حيث أن حزب الله لم يطلق رصاصة واحدة سوى باتجاه عدو الأمة إسرائيل). والتركيز الواعي على جبهة الصراع الخارجي مع العدو الصهيوني من أجل تحقيق هدف تحرير الأرض والإنسان معاً.. وهذا ما نجح فيه حزب الله عملياً إذ استطاعت مقاومته الإسلامية البطلة أن تحشد خلفها كل الشرفاء والأحرار والأنقياء من أبناء الوطن الواحد على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الثقافية والدينية والسياسية.
3. التزامها العمل الصادق بمبادئ الصبر، والصمود، والمواجهة، ورد التحدي..وبالتالي الوصول إلى هدف النصر1. وهذا ما أشار إليه السيد نصر الله في قوله: "إذا راجعنا كل المرحلة الماضية، يجب أن نكون على يقين بأن الطريق الذي انتخبتموه هو الطريق الصحيح ولا تخافوا من كل هذا التهويل والتهديد، لقد جربوا هذا في الأعوام 1993 و1996 و2006 في لبنان (وهم يجربونه حالياً في حربهم ضد لبنان والعرب) ولكن عندما صمدت المقاومة العسكرية، وصمد شعبنا في لبنان، وصمدت الإرادة السياسية الداعمة والحاضنة لهم (من دول المواجهة الوحيدة)، كانت نهاية المطاف أن يخضعوا هم لشروط المقاومة، وأن يوقفوا الحرب، وأن يسلموا بحق المقاومة، وأن يقبلوا بضوابط للقتال سميت في ذلك الحين قواعد اللعبة، أو تفاهم نيسان، حولتهم –باعترافهم هم– إلى أكياس ملاكمة بين يدي مقاتلي ومجاهدي المقاومة في لبنان. بالمزيد من الصبر والإرادة والوحدة واليقين يمكنكم أن تتجاوزوا هذه المرحلة الصعبة التي تحتاج إلى الشجاعة والقوة، ولا يجوز لأحد أن يغلف الضعف بغلاف الحكمة. نحن بحاجة إلى الحكمة وإلى الشجاعة وإلى الإرادة وإلى العزم وإلى اليقين، إن هذا هو الطريق الوحيد لاستعادة كل مقدساتنا وأرضنا".
4. الواقعية في العمل: وأعني بها أن المقاومة قد انطلقت من عملها الجهادي -في تخطيطها للمستقبل- من موقع علم ووعي وتفكر في العناصر المتناثرة في الواقع، والتي تحمل للمستقبل الشروط والمناخات التي يمكن أن يوفرها الحاضر على طريق تحقيق وإنجاز النصر الحتمي على العدو.
والواقعية –في عرف المقاومة– لم تكن تعني الإذعان، و الخضوع لضرورات الأمر الواقع، ولكن كانت تعني العمل المتواصل الدؤوب لتغيير هذا الواقع بأدوات الواقع ذاته من خلال إمكاناتها وقدراتها المتوافرة لديها، والعمل على الاستفادة المثلى من نقاط قوتها على حساب نقاط ضعف العدو. و من خلال هذا الوعي استطاعت المقاومة أن تقرأ كتاب الواقع قبل أن تقرأ في كتاب الفلسفة، فانتصرت لنفسها، وكرامة شعبها وأمتها.
أجل لقد أضحت المقاومة (في الفضاء السياسي المعني بأمر التحرير، وعلى مستوى مواجهة مشروع التفتيت الصهيوني، واستنهاض طاقات الأمة، وبخاصة بعد صمودها وانتصارها على جيش العدو خال مواجهات تموز 2006م) معلماً حضارياً ومثلاً رائداً يحتذى في القوة والبذل والتضحية، وأثبتت حضور الأمة والوطن بين الأوطان والأمم. فمن لا يحسن السعي إلى النصر ليس له مكان في ركب التنمية والتقدم، ومن لا يجد إلى مصادر القوة والبأس سبيلاً لا يجد إلى المدنية والحضارة سبيلاً، ومن يقتفي أثر التسويات والمساومات السهلة، ويضع التردد والأماني والرغبويات محل التصميم والعزيمة والإرادة، لا يعثر على غير الفتات، وسقط المتاع في خضم تصارع الإرادات أو تواطئها، ولا يرى بعد ذلك أملاً في استتباب الاستقلال، وترسيخ السيادة. (راجع كتاب: صفحات عز في كتاب الأمة، إعداد الوحدة الإعلامية المركزية لحزب الله بالتعاون مع غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، ص11-12، ت2/ 1999م).
ختام البحث
نؤكد في نهاية هذا البحث على أننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن المشروع التلمودي الصهيوني يستهدف العرب والمسلمين جميعاً في حاضرهم ومستقبلهم، في وجودهم، ومشروعهم الحضاري الإنساني الذي ينشدون تحقيقه. أي أنه يستهدفهم بوصفهم هوية وحقيقة تاريخية حية، ووجوداً حيوياً استراتيجياً.
ونظراً للطبيعة العدوانية والعنصرية التي يتصف بها المشروع الصهيوني، والتي تجعله يقف على طرفي نقيض مع أي مشروع نهضوي عربي وإسلامي، فإن أصحاب هذا المشروع العنصري يسعون باستمرار إلى منع تحقيق أي تقدم علمي وتكنولوجي قد يساعد العرب والمسلمين على امتلاك بعض وسائل القوة المدنية والعسكرية المتقدمة لتوظيفها في صراعهم الحضاري ضده، بالإضافة إلى أنهم يمنعون حدوث أي تقارب عربي أو إسلامي قد يؤدي إلى إبداع هذه القوة، أو على الأقل إلى تقارب الأهداف والرؤى والمشاريع، باعتبار أن ذلك قد يكون بداية توجه حقيقي نحو حيازة قوة ما يمكن استثمارها على طريق النمو والتقدم والمواجهة والتحرير.
لقد أقامت الحركة الصهيونية "دولة إسرائيل" بمساعدة غربية كاملة، وجعلتها قاعدة عسكرية وعلمية متطورة باستمرار، ونموذجاً متقدماً وذراعاً ممتداً لها في المنطقة تمده بكافة أسباب الدعم والنمو. وهي فرضت نفسها على واقع المنطقة بالقوة والتسلط، وتوسعت بالحروب وإثارة الفتن، وهددت أي نشاط وحدوي تحرري، أو أي مشروع استنهاضي في المنطقة كلها، بحجة أنه يشكل خطراً وتهديداً دائماً لأمن إسرائيل، والمصالح الغربية المرتبطة معها.
وكان من بين الأسباب التي جعلت الغرب يعمل على خلق الكيان الصهيوني الغاشم، والاستمرار بدعمه من دون تحفظ، أنه كان يمثل على الدوام –كما ذكرنا سابقاً- قاعدة عسكرية وأمنية ضد الوحدة والتحرر العربي أو الإسلامي.. من هنا كان أي مشروع للنهوض والتقدم في نظر الغرب –كما في نظر إسرائيل- يشكل تهديداً جدياً لمصالحه وهيمنته على ثروات المنطقة، وتحكمه بكل طاقاتها ومواردها البشرية والطبيعية الهائلة، وفي طليعتها النفط (عصب الحياة الاقتصادية الدولية).. ولذلك أصبح من الضروري أن تعمل إسرائيل –والدول الغربية الداعمة لها (وبخاصة أمريكا)- على إبقاء المجتمعات العربية والإسلامية في حالة التخلف والضعف والانكماش، والانقسام على نفسها، والانشغال بخلافاتها وتعقيداتها هنا وهناك.
وإذا كان التاريخ يقدم لنا نماذج كثيرة لأمثال هذه المشاريع العدوانية التي مرت على هذه الأمة منذ بدايات التاريخ القديم –حيث استطاع أبناء الأمة مقاومتها، ورد عدوانيتها من خلال امتلاكهم للوعي السليم، والإرادة الصابرة، والقوة المنتجة والمنفذة- فإننا مطالبون اليوم جميعاً –في مواجهة ذلك كله- أن نمتلك القوة المعرفية والعلمية للنهوض بمجتمعاتنا ولرد كيد قوة العدو. حيث أن امتلاك هذه القوة يتطلب من الأمة نهضة شاملة، ووعياً علمياً بالعدو ومشروعه، وإرادة مصممة وحاسمة على بلوغ الهدف وتحقيق الطموح الكبير.
وهذا هو جوهر صراعنا الوجودي مع المشروع الصهيوني. إنه جوهر بناء الإرادة العربية الواعية على أرضية الإيمان والعلم والعمل كبداية مطلوبة لبناء مستقبل الأمة التي أثبتت -من خلال عظمة مبادئها وقيمها وتضحيات أبنائها- أنها أمة حية، ولا يمكن أن توقفها عن مسيرتها الحضارية المتصاعدة كل التحديات والهموم الخاصة والعامة.
وضمن هذا الاتجاه –ومن أولى البشائر على هذا الصعيد- نلاحظ أن هناك تحولاً نوعياً بدأ يسري في منطقتنا الآن، وهو ما ستتركه الحرب الدائرة في لبنان اليوم على واقع السياسة اللبنانية وربما العربية أيضاً، وهذا التحول هو ما قام به الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله من نقلة حيوية نوعية لطبيعة العمل التنظيمي الحزبي في لبنان والمنطقة عموماً من موقع صغير إلى آخر كبير، من دائرة الكسب الشخصي الضيق إلى فضاء محبة الوطن الأرحب والأبقى، ومن ثقافة الاسترخاء والكسل، وثقافة الغنائم والتسلق، إلى أيديولوجيا الفداء والتضحية والاستشهاد. وأجرى تحولاً نوعياً في جوهر الأحزاب السياسية في تغيرها من تجمعات وتكتلات لها رسالة ومبادئ واحدة هي إحصاء المقاعد في البرلمان، والنظر في مجمل المكاسب والمنافع الحزبية والشخصية لهذا الطرف أو ذاك، وإعداد الزعماء لمواقع الفخامة والعروش العليا، إلى تجمعات تعطي الدرس الأخير في محبة الوطن، والتمسك الراسخ بالأرض، والدفاع عنها، تراباً أو ركاماً.. فهل نكون –كأحزاب ونخب وقوى واعية- في مستوى التحدي والاستجابة الفاعلة، أم لا؟!!..
ـــــــــــــــ
* فصل من كتاب تحت عنوان: "المقاومة الوطنية الإسلامية.. مشروع استنهاض حضاري للمستقبل" سينشر لاحقاً.


نبذة علمية عن الكاتب

نبيل علي صالح.. مواليد: سوريا/اللاذقية 1969م.
ص.ب: 3003
هاتف 464619 /00963933
E-mail: [email protected]
E-mail: [email protected]

• حاصل على إجازة (بكالوريوس) في هندسة الطاقة الكهربائية.
• باحث وكاتب مهتم بشؤون وإشكاليات الثقافة العربية والإسلامية.
• ينشر مقالاته وبحوثه في كثير من الصحف والمجلات والدوريات العربية والدولية مثل: الانتقاد-الكفاح العربي-الحياة-الديار-مجلة الوحدة (بيروت)-مجلة آراء حول الخليج (الإمارات)-الآوان- المنهاج-الاجتهاد-الكلمة الطيبة-رسالة التقريب-... الخ.. وكثير من مواقع الانترنت المحلية والعربية والدولية.
• شارك في مؤتمرات وندوات فكرية وعلمية عديدة.
• حائز على عدة جوائز أدبية وفكرية.
• له أكثر من 70 مقال ودراسة فكرية منشورة.
• من مؤلفاته:
1. العرب والتحديات المعاصرة (العولمة، الهويات الثقافية، مجتمع الثورة المعلوماتية). غير مطبوع (150 صفحة).
2. المجتمع المدني الإسلامي.. هموم وقضايا معاصرة. (قيد الطبع-220صفحة).
3. الحضارات والثقافات بين واقع الصراع وطموح الحوار. منشور-75صفحة.
4. ألق الفكر وأصالة الانتماء.. مطبوع-حائز على جائزة المركز الأول في المسابقة الدولية عن حياة وفكر الإمام الكاظم-250 صفحة.
5. المقاومة الوطنية والإسلامية.. مشروع استنهاض حضاري للمستقبل. (قيد الطبع -حائز على جائزة تقديرية-225صفحة).
6. الفكر الديني والحداثة. غير منشور-125صفحة.
7. رواد النهضة والإصلاح في العالم الإسلامي.. دراسة نقدية عن حياة وفكر الدكتور طيب تيزيني. (قيد الطبع لدى مركز دراسات تنمية الحضارة الإسلامية في بيروت-250 صفحة).







#نبيل_علي_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي - القسم ا ...
- الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه
- إلى الصدر الصغير: العراق بين الدولة المدنية أو الدولة الطائف ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 1/2
- الإعلام العربي بين واقع التضليل وطموح التغيير


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل علي صالح - المقاومة الوطنية والإسلامية.. ومعادلة الصراع الاستراتيجي ضد العدو الصهيوني*