أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نايف سلوم - في الإديولوجيا والثقافة















المزيد.....



في الإديولوجيا والثقافة


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 691 - 2003 / 12 / 23 - 04:58
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


على القارئ أن يعد نفسه للانتقال معي من النظرة المحلية الضيقة إلى النظرة التاريخية العالمية. فمع الصعود التاريخي للبرجوازية الأوربية وما حملته من نزعة العالمية، بات ضرورة أن نستعرض سير التاريخ العالمي في سبيل فهم "محلياتنا" وقضايانا الاجتماعية / الاقتصادية والقومية . فعلى سبيل المثال، لا نستطيع فهم الوضع الراهن للمجتمعات العربية ومسألة التجزئة والتخلف العربيين ومسألة الدولة القطرية بمعزل عن حركة الكولونيالية الاقتصادية الأوربية والاستعمار الأوربي المتولدة من اندماج رأس المـــال الصناعي والمصرفي (رأس المال المالي وظهور الاحتكار). أي أنه لا يمكن فهم ظاهرة الكولونيالية بداية القرن العشرين ونهاية التاســـــع عشر كـ كولونيالية اقتصادية وسياسية إلا بفهم الظاهرة الإمبريالية في الرأسمالية نهاية القرن التاسع عشر. ولا يمكن، على سبيل المثال أيضاً ، تفهم وضع "دولة إسرائيل" إلا في سياق صعود الظاهرة الإمبريالية الرأسمالية، بغض النظر عن مشروع التسوية الحالي.

 مع الرأسمالية والإمبريالية الرأسمالية لم يعد فهم الظواهر ممكناً عبر دراستها بذاتها خارج سياق سير التاريخ العالمي. ومع الرأسمالية، أي مع صعود البورجوازية كطبقة عالمية مهيمنة ومسيطرة، بتنا نلاحظ ظاهرة جديدة هي مسألة تمايز مستويات البنية الاجتماعية/ الاقتصادية إلى ثلاثة مستويات:

 1- المستوى الاقتصادي 2- المستوى السياسي 3- والمستوى الإديولوجي. وقد بات بإمكان المستوى الاقتصادي أن يعبر عن نفســـه نظرياً على شكل علم أو قانون . مثال ذلك الفيزيوقراطيون  في القرن الثامن عشر، والاقتصاد السياسي الكلاســـيكي الإنكليزي عبر ممثليه الكبار آدم ســـميث (1723-1790) ، ودافـــيد ريـــكاردو (1772- 1823). يكتب أوسكار لانكه: " في عام 1872 استطاع انجلز أن يقول: " إن ما لدينا من العلم الاقتصادي حتى الآن إنما هو مقتصر على نشوء وتطور الأسلوب الرأسمالي للإنتاج حصراً على وجه التقريب"(1) ويعزز انجلز هذا الرأي قائلاً: " أما الاقتصاد السياسي بالمعنى الأضيق للكلمة وبالصياغة الإيجابية التي وضعها له الفيزيوقراطيون يمثل وليداً للقرن الثامن عشر. ويقف في صف واحد مع منجزات معاصريه من المنورين الفرنسيين العظام ويتقاســم معهم كل مزايا وعيوب ذلك الزمان".(2)

وعلى هذا الأساس من تمايز مستويات البنية الاجتماعية الاقتصادية تم تقسيم السلطات في البنية الفوقية البورجوازية إلى سلطة تنفيذية (حكومة)، وسلطة تشريعية (البرلمان) وسلطة قضائية. وهذا التقسيم من عمل البورجوازية الحديثة. كما أن هذا الصعود التاريخي للبورجوازية كطبقة مهيمنة ومسيطرة جعل العلوم المنشغلة بتاريخ الطبيعة، أي العلوم الطبيعية، جعلها "محايدة " في الصراع الاجتماعي والسياسي بين البورجوازية والبروليتاريا. يكتب لانكه : "كان تطور الاقتصاد السياسي ، شأن تطور العلوم الطبيعية، يرتبط ارتباطاً مباشراً بتطور الأسلوب الرأسمالي للإنتاج ما دام تعارض الطبقات الاجتماعية في النظام الاجتماعي الرأسمالي لم يكتمل نضجه أو ما دام هذا الصراع الطبقي مختفياً وراء تعارض النظام الاجتماعي الرأسمالي كله والنظام الإقطاعي القديم. وحينما نضجت الصراعات الطبقية الخاصة بالنظام الاجتماعي الرأسمالي إلى التعارض بين البروليتاريا والبورجوازية، فإن الظروف الاجتماعية لـ تطور الاقتصاد الســياسي، وكذلك لـ تطور جميع العلوم الاجتماعية الأخرى تكون قد تغيرت".  هكذا "فقدت البورجوازية الاهتمام بالتطور المطرد للاقتصاد السياسي. ولما أصبح الاقتصاد السياسي، وهو الآن ما تستعمله الحركة العمالية، غير ملائم للبورجوازية، بل خطراً عليها، فقد نشأ اتجاه لتصفيته كعلم يدرس العلاقات الاقتصادية [والسياسية] بين الناس ولاستبداله بالتبريرية، أي تبرير الأسلوب الرأسمالي للإنتاج عبر "العقلانية" التقنية. ينجلي المسار التدريجي لهذه العملية في ضوء تطور الاقتصاد السطحي، والاتجاه الذاتي والاتجاه التاريخي"* (3). أيضاً يكتب بليخانوف: "هكذا تحددت مقدماً مهمة المادية الجدلية. فقد كان على الفلسفة التي قدمت في القرون الماضية خدمات كبيرة للعلم الطبيعي أن تقود الآن العلوم الاجتماعية للخروج من هذا التيه من التناقضات" (4) نشير هنا إلى أنه لا يمكن الفصل بشكل ميكانيكي بين مهمتي الفلسفة هاتين في العصر الإمبريالي؛ الفصل الآلي (الميكانيكي) بين مهمة الفلسفة القديمة (فترة النضال ضد الإقطاع وتقديم خدمات للعلم الطبيعي)، وبين المهمة الجديدة للديالكتيك المادي والتي تتمثل بقيادته للعلوم الاجتماعية.

يكتب بليخانوف: "بإنجاز هذه المهمة (خدمات للعلم الطبيعي، وخدمات للعلم الاجتماعي) يمكن للفلسفة أن تقول: "لقد أديت واجبي، وأستطيع الآن أن أرحل. لأن من المقيض للعلم الدقيق في المستقبل أن يجعل افتراضات الفلســــفة عديمة الجدوى"(5) . في نقدنا هنــــا لـ بليخانوف جانبان:

الأول: افتراض بليخانوف أنه لم يعد من مهام الديالكتيك المادي الانشغال بقراءة نتائج العلوم الطبيعية(قيادة العلوم الطبيعية في زمن تبلور الصراع الاجتماعي بين البورجوازية الاحتكارية من جهة والبروليتاريا من الجهة الثانية؛ في الزمن الإمبريالي) . والثاني: أن انشغال الديالكتيك المادي بالعلوم الاجتماعية هو آخر خدمة للفلسفة.

في سياق التعليق على الفقرة الأولى أقول: "صحيح أن ماركس قد قال في الإديولوجية الألمانية الكلام التالي: "نحن لا نعرف سوى علم واحد وحيد هو علم التاريخ. من الممكن النظر إلى التاريخ من جانبين، من الممكن تقسيمه إلى تاريخ للطبيعة وتاريخ للبشر (للناس),  ولكن هذين الجانبين مترابطان بصورة لا انفصام لعراها: فما دام الناس موجودين، فإن تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس يشترطان أحدهما الآخر بصورة متبادلة. إن تاريخ الطبيعة، أو ما يسمى العلوم الطبيعية، لا يهمنا هنا [في هذا البحث الذي موضوعه الإديولوجيا بوجه عام والإديولوجية الألمانية بوجه خاص]؛ أما تاريخ الناس (البشر)، فيتعين علينا الاهتمام به، لأن الإديولوجيا كلها تقريباً تتلخص إما في فهم هذا التاريخ فهماً مشوهاً، وإما في الانصراف التام عنه. وإن الإديولوجيـا ذاتها ليســــت سوى أحد مظاهر هذا التاريخ" (6).

ideology is itself only one of the aspects of the history" (7) "

إن هذا الانشغال بتاريخ البشر لم يمنع انجلز من متابعة العلوم الطبيعية لعصره ومحاولة قراءتها في كتابه الشهير "ديالكتيك الطبيعة". يعزز هذا الرأي كتاب لينين "المادية والمذهب النقدي التجريبي" الذي كُرس لمواجهة تيارات فلسفية بورجوازية، كانطية[نسبة إلى الفيلسوف كانط] متجددة في حقل العلوم الطبيعية، وقراءة نتائج هذه العلوم. يكتب لينين : "فعادة بليخانوف لا يهتم الاهتمام الكافي بهذا الجانب من الديالكتيك [تاريخ العلم الطبيعي] ".

هذا الانشغال بتاريخ الطبيعة يحضر بإلحاح أكبر في ظروف مهام مركبة،مهام بورجوازية ديمقراطية متداخلة مع مهام اشتراكية. كحال البلدان المتخلفة، خاصة في زمن الإمبريالية ذات السياسات المعولمة، والتي تعيد إنتاج التخلع الاجتماعي والسلفية الدينية من كل نوع في البلدان الرأسمالية الهامشية. هذا التركيب في المهام وذلك التخلف والتخلع يعطي لتاريخ الطبيعة نصيباً معتبراً من اهتمام الديالكتيك المادي، أي من اهتمام الماركسيين.

أما البند الثاني عند بليخانوف فهو يعادل القول أن إنجاز الثورة الاجتماعية يعني نهاية الفلسفة وهذا قول يحتاج إلى تدقيق. ذلك أن إمكانية ظهور أوهام في مراحل الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية إمكانية قائمة . مثال ذلك التجربة الروسية بعد الثورة، وأوهام البيروقراطية السوفييتية . وهذه الأوهام بحاجة إلى فلسفة نقدية، أي إلى نقد جذري.

مهما يكن فقد انتقلت الهيمنة في الصراع النظري من علوم تاريخ الطبيعة إلى علوم تاريخ البشر، خاصة إلى حقل الاقتصاد السياسي وهذا الأخير قد انقسم على هذا الأساس إلى اقتصاد سياسي ماركسي وآخر بورجوازي. وماركسي هنا تشير إلى الجانب الفلسفي النقدي وإلى العلم التاريخي/الاجتماعي في حقل الاقتصاد السياسي وغيره من العلوم الاجتماعية /التاريخية.

جدير بالملاحظة هنا أن نشير إلى أن إحباط التجربة السوفييتية في روسيا وانحطاط المشروع البورجوازي الليبرالي؛ أي انحطاط البورجوازية كطبقة عالمية- انحطاطاً إديولوجياً وسياسياً- اعتباراً من ثورة 1848 في فرنسا، وما يعنيه من إخفاق المشروع الليبرالي للتنمية في أطراف النظام الرأسمالي . باتا [الإحباط والانحطاط] يسيئان إلى البنية الطبيعية لكوكب الأرض. وقد ظهر هذا الأمر على شكل اهتمام متنام بالبيئة إلى درجة ظهور أحزاب خضراء.

كل هذا التقديم يهدف إلى إظهار أن الإديولوجيا [انحراف أو انكسار الوجود الاجتماعي/ الاقتصادي أو تعبيره المشوّه] كمستوى متمايز في البنية الاجتماعية- الاقتصادية لم يظهر إلا مع البورجوازية الصناعية في أوربا. فلا وجود للتضليل ، كما يوضح باولو فْرير، إلا "عندما يبدأ الشعب بالظهور، ولو بصورة فجة، كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية .. أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل بالمعنى الدقيق للكلمة، بل نجد بالأحرى قمعاً شاملاً (هيمنة القمع وهامشية التضليل)"** إن أول عمل نقدي أظهر هذا المستوى الإديولوجي في تمايزه هو النقد الذي وجهته فلسفة الأنوار للقدسي (للمقدس) مجسداً بالكنيسة الأوربية الغربية. إن نقد الأنوار كان نقداً للمطلق؛ نقداً لنظرية عامة في الوجود دينية الأصل ومطلقة، يعزز هذا النقد  صعود الدولة الحديثة كعلامة على سيطرة الطبقة البورجوازية الصاعدة وما يعنيه ذلك من انفصال الدين عن الدولة، وبشكل أدق، تفلت الدولة البورجوازية من هيمنة الكنيسة كبنية فوقية للإقطاع الأوربي في العصر الوسيط . "لقد مهدت فلســفة الأنوار الطريق لدراسة الإديولوجية "(8) فالعقيدة الدينية في الأنماط الإنتاجية ما قبل الرأسمالية تشكل إطاراً أو شكلاً ثابتاً تتحرك ضمنه آثار تمورات  الأساس الاجتماعي. الإطار الثابت والمؤطر متمور باستمرار. ويمكن توصيف هذه البنى ما قبل الرأسمالية وفق عبارة لماركس تقول :" تحرك كبير في السطح السياسي والإديولوجي ..لكن بلا تغيير في العمق، في نظام الإنتاج والعلاقات الاجتماعية"*** . ويضيف ماركس: "وكذلك في المناداة بأن الوعي السياسي والحقوقي والأخلاقي وعي ديني أو لاهوتي، وبأن الإنسان السياسي والحقوقي والأخلاقي - "الإنسان" في آخر- تحليل هو إنسان ديني. كانت هيمنة الدين أمراً مفرغاً منه" [الإديولوجية الألمانية ص 23] هكذا لا تستطيع إطلاقاً وسم العقيدة الدينية لتلك الأزمنة بأنها مستوى إديولوجي بالمعنى الحديث للكلمة. مع أنه يمكن أن نطلق على التعاليم الإسلامية في العصر الوسيط اسم إديولوجيا. وهذه الإديولوجيا كانت تمثل الشكل "الوجودي" لجميع وجوه المجتمع في ذلك العصر: فالاقتصاد ذو شكل ديني وكذلك الاجتماع والسياسة لقد كان الدين الإسلامي شكل كل حياة "للمجتمع المدني" والدولة في تلك الفترة و " يمكن لنا أن نجد ما هو ديني ممتداً إلى ما وراء الحدود التي اعتدنا حصره فيها " (تودوروف "فتح أمريكا، مسألة الآخر. ص 91 "). إنه الشكل الذي يوحّد كل شيء. هكذا يحضر الله في جميع مناحي الحياة الوسيطة. ويمكن أن نعبر فلسفياً عن هذه المسـألة بالقول: إن الأنطولوجيا العامة (فلسفة الوجود العام) تهيمن على المحتوى الاجتماعي. أي هيمنة الشكل الوجودي على المحتوى الاجتماعي . كانت مستويات البنية الاجتماعيــة مند غمة معاً .

ولقد بدأت هذه الأنطولوجيا بالتفكك والاندحار اعتباراً من القرن الثامن عشر مكرِّسة الإديولوجيا كمستوى متمايز في عصر الإديولوجية (عصر التاريخية)، أي القرن التاسع عشر، حيث انقلب الأمر وهيمن المحتوى المتناقض على الشكل الأنطولوجي. مع ماركس هيمن التناقض على النظام أو الشكل(الوجود العام)؛ هيمن المحتوى على الشكل، حيث كان هيغل قد ساوى بينهما محمولاً على أمواج الثورة الفرنسية، وممهداً الطريق. وهكذا راحت الفلسفة تتدخَّل في النزاعات الســــياسية كنوع من النقد الجذري خاصـة مع ماركــس (فلسفة الممارسة Praxis). وهكذا ظهرت عبارات من أمثال فلسفة رجعية، وفلسفة انحطاط، وفلسفة ثورية.

إن الحدود التي رسمها نقد فلسفة الأنوار للفكر المطلق الديني والأسـطوري (نقد القدسي). كانت بداية تمايز الإديولوجيّة كجهد فكري عزله النقد التنويري وميزه ورسم حدوده (حدود القدسي)، لقد بات هناك أمر آخر، فكر أو عقائد أخرى خارج الحقل القدسي ، خارج الأنطولوجي العام، ولقد قام هذا النقد التنويري باسم "العقل". العقل مقابل استبداد القدسي. الإنسان البورجوازي مقابل الله مجسداً بالكنيسة.

لم يخطر ببال فلاسفة العقل والتنوير أنهم بنقدهم الكنيسة واللاهوت (نقدهم القدسي) إنما كانوا ينتقدون باسم طبقة صاعدة هي البورجوازية الحديثة ضد سيطرة النبلاء الإقطاعيين وضد هيمنة الكنيسة. ولم تظهر هذه الحدود التاريخية لنقد التنوير إلا مع قيام الثورة الفرنسية وما تبعها من دراسة ونقد. فتفنيد أعمال الثورة الفرنسية لم يتم إلا بإجراء جرد تاريخي.

هذه النظرة التاريخية، "الجبهية" إذا جاز القول، بينت الحدود التاريخية لنقد التنوير، وحدود الثورة الفرنسية،  إخفاقاتها وإنجازاتها. كما بينت الأرضية  الاجتماعية (الطبقية) لنقد الأنوار. وأظهرت الطبيعة الميكانيكية لهذا النقد، وحدوده وعدم انشغاله بالنزعة التاريخية. هكذا أقامت المثالية الألمانية (هيغل) نقدها الصارم ضد فلسفة الأنوار، خاصة ضد المادية الفرنسية. وكان هذا موضع إطراء من قبل ماركس في هذا الجانب بالتحديد، أي جانب النزعة التاريخية والديالكتيكية  عند هيغل مقابل ميكانيكية فلسفة الأنوار ونزعتها السكونية(الستاتيكية).

وبهذه الطريقة قدم ماركس نقداً مزدوجاً للمثالية التي جعلت التاريخ يمشي على رأسه ونقداً للتنوير الميكانيكي للقرن الثامن عشر. هذا النقد للنقد هو أعظم ما جاءت به الماركسية وهو العلم التاريخي/الاجتماعي. ينقل العُرْويّ عن ماركس قوله: "تفسرون أوهام الآخرين بحب السيطرة والتقليد والتربية الفاسدة، فكيف تفسرون فكركم النقدي". (9)

ويضيف: "حين تُحْيُون في ألمانيا فلسفة الأنوار ونقدها للأوضاع، إنكم تُلْغون التاريخ الواقعي، وبإلغائكم إيّاه تملؤون أذهانكم بالأوهام وتعرضون عن معرفة الواقـع، فكركـم إذاً إِدْيـولوجيِّ؛ غير علـمي". (10)

لا يكفي أن ننقد الظروف، انطلاقاً من معطيات العقل المجرد، بل يجب أن نحلل كيف تكونت تلك الظروف، بالرجوع إلى التاريخ كتطور واقعي"(11)

فإذا كان فلاسفة التنوير قد انتقدوا خصومهم في القرن الثامن عشر فلا يعني هذا أن نتائج نقدهم ذاك تبقى صحيحة بعد قيام الثورة الفرنسية والأحداث الدراماتية اللاحقة، وبعد انكشاف حدود التنوير وأعمال الثورة، وخلفيتها الاجتماعية والطبقية. أي أنه لا يصح أن نسحب على الفترة اللاحقة أفكار فترة سابقة منقضية. ذلك لأن العلم نقدي بمقدار ما هو تاريخي، فلا يصح أن تستخدم  أدوات ونتائج فلاسفة التنوير بعد قيام الثورة الفرنسية وظهور الأرضية الطبقية الاجتماعية والحدود التاريخية لهذا النقد. وهذا لا يقلل من أهمية الدور التاريخي والثوري لنقد التنوير.

هكذا الفكر الطامح لأن يصير علماً تاريخياً يكون مشروطاً بالحركة التاريخية العالمية وبالأرضية الاجتماعية/ الاقتصادية والقومية. وهذا الفهم يتنافى مع الفكرة المبتذلة عن الماركسية والتي تدعي بأنّ الماركسية نظرية في المنفعة الاقتصادية. ذلك لأن الماركسية هي علم نقدي بمقدار ما هو تاريخي عالمي . أي تاريخ ذو محتوى اجتماعي/ اقتصادي محدّد ، أي ذو محتوى قومي. على هذا الأساس ترى زائفاً ليس فقط المثالية التي تجعل التاريخ يمشي على رأسه بل أيضاً نقد الأنوار في القرن الثامن عشر مسحوباً على القرن التاسع عشر دون أية مراعاة للشروط الجديدة. وهكذا تكون الماركسية علم التوسُّطات والاشتراطات، أي دراسة الشروط المتحولة تاريخياً،  وتكون الإديولوجيا بمعناها الاعتباطيّ والزائف و المضلل هي ضد ذلك تماماً، "فما دامت البورجوازية في طور صاعد، فلا مجال للقول بأن مثقفيها العضويين تقليديون بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا. لكنهم يغدون كذلك بمجرد أن تخسر البورجوازية دورها التقدمي****

تُفهم الإِدْيولوجيا على هذا الأساس وفي هذه الدائرة كوعي زائف واعتباطي للكائن وحركته. واعتباطيّ هنا ضد عضويّ (وسوف نشرح هذا لاحقاً) وذلك إما بحكم مصالح الطبقة أو الفئات الحاملة للفكر أو بسبب من تصور ذاتي خاطئ، بفعل آلية تشكل الوعي أو ما يسمى ديالكتيك المعرفة أو الفينومينولوجيا[بالمعنى الهيغليّ] والذي يمر بتعرجات و منعطفات كثيرة قد ينحرف أو ينكسر عند كل واحدة منها.

أما المدلولات الأخرى لكلمة إِدْيولوجيا فقد تشير في بعض الاستخدامات إلى الحدود التاريخية لوعي مرحلة محددة ، أي الُمفكَّر فيه خلال الفترة المدروسة، أو ما يمكن أن نسميه أفق عصر أو مرحلة أو أفق طبقة ما، وبالعموم فإن كل أشكال الوعي تدخل في دائرة الإديولوجي بما فيها القول العلمي الذي يحقق انكساراً للكائن وحركته في حدود متناهية في الصغر، أي انعكاس عيني لما هو كائن. وفي هذه العملية المعقدة يغدو العلم مَتْناً والإديولوجي هامشياً.  وقد يفهم من كلمة إديولوجيا تسرب العلم التاريخي وتشربه من قبل طبقة صاعدة تاريخياً(تقدمية بالقوّة) فتغدو نتائج هذا العلم التاريخي/ الاجتماعي عقيدة الطبقة التقدمية. وفي هذه الحالة نطلق على عقيدة كهذه اسم إديولوجيّة عضويّة. وهي حالة نتائج العلم التاريخي الماركسي وقد تشربته الطبقات الهامشية، خاصة الطبقة العاملة . يكتب العروي: "العلم [التاريخي] المكون قد يصبح إديولوجيّة، بالمقابل الإديولوجيّة [الوعي الزائف] تقدم نفســها كعلم (12)

سوف نطلق على الأولى اسم الإديولوجية العضوية وعلى الثانية إديولوجية اعتباطية. الأولى هي التي تستطيع الحكم على نفسها وعلى أية إديولوجية اعتباطية. يكتب سارتر بهذا المعنى: "حركة واحدة تنتج من خلال العمل وبه إديولوجية تتيح لها أن تفهم نفسها وأن تفهم الآخرين: إنها الحركة الاشتراكية منظوراً إليها في مجملها. إنها الحكم المطلق على سائر الحركات لأن المستَغَلين يصطدمون بالاستغلال وبصراع الطبقات بوصفه واقعهم وبوصفه حقيقة المجتمعات البورجوازية: فهي ترى المعنى العميق للمناورات والعمليات لأنها لا تستطيع أن تتخلف عن ربطها بـ بنى التاريخ الأساسية، ولأنها حركة الإنسان الذي هو في سبيله إلى صنع نفسه. أما الأحزاب الأخرى فتعتقد أن الإنسان قد صنع، وأنه تابع مجرد للملكية البورجوازية، ملاك ضجر لا يعرف من حاجات لم تشبع. إنها تموه الاستغلال وتجزئ الصراع الطبقي إلى منازعات مشتتة وخاصة، واضعو عقائدها ومؤرخوها  يبحثون عن معنى التاريخ في كل مكان اللهم إلا حيث هو موجود. ولهذا السبب لا يملكون وسائل فهم عمل الطبقات المستَغَلّة ولا وسائل الحكم عليها، بل هم يجردون أنفسهم حتى من القدرة على الحكم على أنفسهم لأنهم لا يريدون معرفة حقيقة ما يفعلون. (13)

والإديولوجيا، على أساس مقابلتها للعلم التاريخي، تعمل أفقياً وانتقالاتها تكون على شكل قفزات أو تحولات قافزة. ولا يعني هذا أن الحلقة القديمة قد أبيدت بل ما يحصل هو تبدل في العنصر المهيمن ضمن الدائرة الإديولوجية أو ظهور عناصر مهيمنة جديدة.

هناك فهم للإديولوجيا ورد عند فرانسيس فوكوياما، حيث يستخدم المصطلح للتعبير عن فكر أو ثقافة تطمح إلى الهيمنة، تطمح لتأسيس شكل علاقات اجتماعية اقتصادية جديدة مهيمنة، وبنية سياسية مسيطرة، وهذا الفهم للإديولوجيا يقصد به العقائد الطامحة لإقامة دولة من طراز جديد وما يعنيه ذلك من تحويل جذري للعملية الاجتماعية /الاقتصادية ، خاصة تحويل شكل الملكية الخاصة الرأسمالية. هذا الفهم يكاد يطابق مفهوم الإديولوجية العضوية ؛ إديولوجية الطبقة المتقدمة تاريخياً، لولا الوهم عند فوكوياما، والمتمثل بأن الثقافات القومية والدينية سوف تحلّ محلّ الماركسية في إنجاز هذا التحويل التاريخي. يكتب جان مارك بيوتي في كتابه "فكر غرامشي السياسي" : "في الفصل الأول درسْنا مفهوم المثقف العضوي، أي المثقف من خلال ارتباطه بطبقات اجتماعية تقدّميّة. وفي الفصل الثاني أتاحت لنا دراسة المثقف التقليدي، أي المثقف المرتبط بطبقات زائلة أو في طريقها إلى الزوال أن نحدّد، أفضل، معنى مفهوم المثقف العضوي". (14) على هذا الأساس لا يشكل الإسلام كتعاليم دينية وثقافة وتنظير سياسي، إذا أُخذ على مستوى التاريخ العالمي الراهن، أيديولوجية عضوية، ذلك لأن الطموح الإديولوجي الإسلامي إلى السيطرة على سلطة الدولة المحلية لا يشكل تهديداً جذرياً للملكية الرأسمالية الخاصة أو للنظام الرأسمالي بشكل عام. لهذا السبب يمكن اعتبار الإسلام ثقافة أو خصوصية ثقافية يمكن تصنيفها محلياً (قطرياً) على أنها إديولوجيا كونها تطمح أحياناً للسيطرة لا إلى الهيمنة، على جهاز الدولة القائم البورجوازي دون تحويله بشكل جذري أي دون تحطيمه. وبهذا المعنى فالإسلام لا يشكل إديولوجية عضوية في عصرنا الراهن إنما هو تنويعة فلكلورية سياسية ضمن النظام الرأسمالي القائم والسائد، ضمن الإديولوجية الاعتباطيّة للبورجوازية. يكتب مكسيم رودنسون: "إن حق الملكية لم يكن يبدو أبداً على تعارض مع العدالة". ويضيف: "إن القرآن ليس عدواً للملكية الخاصة".. مادام ينظم أحكام المواريث، بل هو ينهي عن الاعتراض على ما قد يكون هناك من تفاوت.. [و  لا تتمنوا ما فضل الله به بعضـكم على بعض [نســاء – 32] (15). هذا المثل الأعلى الإسلامي [العدالة الاجتماعية] لا يضع حق الملكية موضع نقاش سواء أكانت ملكية السلع الاستهلاكية، أم ملكية الأدوات المفيدة في الإنتاج أم ملكية الأرض والناس" (16)

يمكن تشبيه مثل "العدالة الاجتماعية" الإسلامي بنوع من دور تدخلي للدولة في العملية الاقتصادية. إنه أشبه بدولة رعاية اجتماعية [دولة رفاه]، والتي هي أحد أشكال رأسمالية الدولة البورجوازية.

 على أساس ما سبق يمكن أن نعرّف الثقافة بالتقابل مع الإديولوجية العضوية بأنها ،أي الثقافة، كل عادة أو فكر أو سلوك أو تراث فكـــري أو عقائدي /ديني موروث، كل منظومة عرقية، فكرية أو تقليدية لا تحمل بطبيعتها طموحاً للهيمنة، طموحاً لتحطيم البنية السياسية الفوقية واستبدالها ببنية جديدة. بنية جديدة تهدف إلى إعادة توجيه جذري للعملية الاجتماعية / الاقتصادية. مع ذلك، يتوجب علينا التمييز بين التراث الديني كجزء من التراث القومي وبين الدين كأحد أشكال الوعي الاجتماعي، كسلوك ووجدان حاضر. في التديُّن أمر راهن وفعلي؛ أمر يُعتبر مظهراً من مظاهر البنية الاجتماعية/ الاقتصادية. 

هكذا يمكننا القول أن التراث الفكري الإسلامي بكل تلويناته وخصوصياته (حسب كل مجتمع وأمة) يشكل نوعاً من الثقافة إذا نظرنا إليه على مستوى التاريخ العالمي الراهن وعلى مستوى الطموح لتغيير النظام الرأسمالي السائد. رغم طموحه (الإسلام السياسي) القطري للسيطرة أحياناً على البنية الفوقية السياسية، وحتى عندما يمارس طموحه هذا عبر أحزاب سلفية  إسلامية وصلت إلى السلطة السياسية فهو يعمل ضمن آلية تكريس النظام الرأسمالي العالمي السائد؛ تكريس الملكية الخاصة الرأسمالية، وبالتالي فهو يشكل خصماً تاريخياً للإديولوجية العضوية وللحركات الاشتراكية الطامحة لإحداث تحول جذري في النظام الاجتماعي الاقتصادي العالمي عبر بؤر محلية أو قومية.

إن الثقافات بالمعنى السابق لا تهدد إذاً النظام الإمبريالي الرأسمالي. لكنْ هذا الأخير بات يهدد الثقافات القومية والمحلية خاصة تلك التي تحمل بعض القيم الزُهْدية المعادية للنزوع الاستهلاكي الرأسمالي. وهو في طريقه لخلق عادات استهلاكية مترفة ونَهِمَة، جشعة وتظاهرية، بهدف توسيع السوق العالمية بأقصى قدر ممكن. يعمل هذا النظام على هَدْم الثقافات، وما يبقى منها سوف يستخدمه فولوكلوراً لتشجيع التجارة والدَّعارة. جديرٌ أن نلاحظ أن تفَلُّت الثقافة القومية من هيمنة الإديولوجية العضوية وعمل هذه الثقافة وكأنها إديولوجيا هو ما يعطي الإمبريالية ذات السياسات العولميّة والمتوحشة الذريعة لضرب الشعوب المُهمَّشة في النظام الجديد،  على هذا الأساس يمكن للإديولوجية العضوية للحركات الاشتراكية، أن تستفيد من تعاضد الثقافات القومية كروافع في الصراع ضد الإمبريالية الرأسمالية وسياساتها العولمية ، لكن عليها ألا تعتمد على هذا فحسب، بل أن تقرأ الظواهر الجديدة في الإمبريالية وترى إلى نقاط الضعف في البنية الإمبريالية العملاقة الجديدة الهشة.

إن الإمبريالية الجديدة (خاصة إمبريالية ما بعد الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بعد أزمة منتصف السبعينات من القرن العشرين) المتبجحة والمدعية "بـ العولمة" والعمومية ونبذ الخصوصيات القومية و نبذ الفروقات، تتوجب مقاربتها ومقاومتها على أساس قراءة التاريخ العالمي وسيره الراهن وملاحظة القوى المضادة لحركتها والتي يعززها هذا السير. حيث يتوجب ملاحظة البؤر الديمقراطية الكبرى في العالم والاعتماد على ذلك. مثال ذلك : المسألة القومية الكورية؛ مسألة تايوان في الصين الشعبية، والمسألة القومية العربية الديمقراطية. ولابد أن نشير إلى الخطر المتمثل في شكل حركة هذه الإمبريالية والذي يعيد إنتاج أشكال من العلاقات السابقة للرأسمالية  كالسلفية الدينية والعشائرية والإثنيات والطوائف والظلامية الدينية في مواجهة الحركات القومية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. الإمبريالية "المعولمة" والمتوحشة تخرج الجانّ من الأرض وتزرع العنف والدمار في كل مكان.

إن مسألة التسوية العربية الإسرائيلية لا تحل المشكل الديمقراطي العربي، أي  مشروع التوحيد الديمقراطي العربي، بل سوف تخلق هذه التسوية تعقيدات وشروطاً جديدة للصراع.

يمكن القول: إن الإديولوجية هي المسافة بين الثقافة والعلم التاريخي***** . فإذا هيمنت على العلم التاريخي حولته إلى آلة عديمة النفع وانحطت هي إلى مستوى "الثقافة" أي انحطت إلى فكر لا يعنيه المستقبل؛ فكر لا يحمل طموحاً مستقبلياً، وبالتالي يتحول علم السياسة إلى عالم السياسة والدسائس، ويتحول الفكر السياسي إلى مجرد ضرب من التشيّع لجزء من واقع راهن. وهذا ما يعاني منه الإسلام السياسي (الأحزاب السلفية الدينية) في الفترة الراهنة. حيث توجد لدى هذا الإسلام السياسي لحظتان فقط هما لحظة الماضي ولحظة الحاضر. أما المستقبل فهو يتَماهى مع لحظة الماضي، أي يتوحَّد معها. هذا الانحلال لـ لأنا في بحر الماضي يفسر انفجار العنف المجنون. بتعبير آخر الماضي يستحوذ على المستقبل هكذا يتحول الجهد السياسي للمتحزِّب الإسلامي إلى تنويعة فولوكلورية "خصوصية" ضمن النظام الرأسمالي الاحتكاري العام (العالمي). ويخرج الإسلام السياسي من دائرة الإديولوجية العضوية ليتحول إلى نوع من إديولوجية اعتباطية وانتقائية. وهكذا يخرج الإسلام السياسي من دائرة العداء الجذري والتاريخي للإمبريالية الرأسمالية، ويتحول إلى عائق للتغيير الجذري للنظام الرأسمالي وعائق لتقدم المشروع القومي العربي الديمقراطي. وبدلاً من تأكيد هُويَّته يقع السلفيّ الإسلاميّ في حالة أشْبه ما تكون هذياناً نظراً لدمار لحظة المستقبل، وقد يؤدي ذلك- استحواذ الماضي على المستقبل- إلى جنون العنف الخارج عن السياسة. وهنا يحضر القـول: "القاتل الأكبر هو الماضي".

قد يظهر من قولنا هذا أننا نُحطُّ من قدْر الثقافة وهو ما لا نراه هكذا. حيث أن هيمنة الإديولوجية القائمة على أساس نتائج العلم التاريخي (الإديولوجية العضوية) لا يعني وجود مقابلة ميكانيكية بين الثقافة من جهة والإديولوجية العضوية المتولِّدة من العلم التاريخي من جهة أخرى، بل الأمر غير ذلك حيث أن شرط هيمنة الإديولوجية العضوية على الثقافة القومية (التراث القومي) و وحدتهما تأتي عبر إجراء "نسيان فعال" لهذه الثقافة، أي عبر إعادة إنتاج الثقافة القومية نقدياً وفق مقتضيات العلم التاريخي في لحظة أولى، من بعد ذلك وفق مقتضيات التغيير التاريخي، أي وفق مقتضيات الإديولوجية العضوية [التغييرية].

إذا كان ذلك كذلك كان لدينا ماركسية معاد إنتاجها روسياً وصينياً وعربياً . وعربياً هنا ليست صفة بحيث تستغرق الصفة العربية الموصوف الذي هو الماركسية كصياغة عالمية وكونية، بل هو تمييز عربيّ ضمن عالمية الماركسية. أي أن الإديولوجية العضوية على أساس العلم التاريخي الجديد غنية بالمحتوى، وهذا المحتوى في قسم كبير منه قوميّ قائم على تجاوز هذا التراث وذاك التقليد. والتجاوز هنا ليس حذفاً بل هو تجاوز مع الاحتفاظ بكل ما هو إيجابيّ. جدير أن نلاحظ أن هيمنة إديولوجية المقاومة لدى المنظمات الإسلامية المقاومة لإسرائيل وللمشروع الصهيوني تجعل من الثقافة الإسلامية رصيداً ديمقراطياً، أي أن هذا البعد المقاوم يفرض على هذه الحركات استحضار ما هو كفاحيّ وديموقراطيّ في التراث الإسلامي. ويجب أن نشير هنا إلى تفكك البرنامج الديمقراطي البورجوازي وتصدُّع العقلانية البورجوازية في المراكز الإمبريالية وعجز البورجوازيات الطرفية عن إنجاز هذا البرنامج في الأطراف بشكل عُضْوّي مترابط  ومتماسك، أي عجزها عن إنجاز التحرير والتحديث، والتقدم بمشروع النهوض القومي العربي الديموقراطي "دفعة واحدة" بحكم شروط نشأة هذه البورجوازيات وخاصة الشرط الإمبريالي، والأصول الإقطاعية للبورجوازيات التقليدية العربية الليبرالية، أو الأصول البورجوازية الصغيرة والمتوسطة للـبورجوازية "القومية" وهيمنة هذه الأصول على برامجها وشكل ممارستها للسلطة السياسية. من هنا نرى تصدع البرنامج الديمقراطي للحركات الإسلامية المقاومة لإسرائيل. مع تثمين البعد المقاوم لديها. 

علينا أن نضيف ملاحظة أخيرة بخصوص التحول من المرتبة (الطبقة المغلقة caste) إلى الطبقة بالمعنى الحديث البورجوازيclass )؛ أي الانتقال بفاعلية جوَّانيّة من العائلة إلى المجتمع المدني في أوربا ، مقابل الانتقال "البرَّاني"عندنا نحن العرب بفعل التدخل الاستعماري المباشر]******  أي تحول الفئة المغلقة إلى طبقة مهيأة لاستيعاب الجميع ولفظ الجميع وما يعنيه هذا من الدور الجديد للدولة في العصر البورجوازي (دور المربي وخطورة الوعي الحق) والأهمية الجديدة للمستوى الإديولوجي، أي استقلال المستوى الإديولوجي؛ تشخيص المُجرَّد وانفصال المعْنى عن حقيقة الواقع التاريخية، وتغلغل الدولة عبر أجهزتها المتنوعة في المجتمع المدني [محاولة "التربية"]: الإعلام، المدرسة، الجيش، المؤسسات الثقافية ، جامعات ، معاهد الخ...  يكتب غرامشي بهذا المعنى: "إن الثورة التي أدخلتها الطبقة البورجوازية على نظرية القانون وبالتالي على وظيفة الدولة تقوم أخص ما تقوم على إرادة التعميم (إذاً ثمة طابع أخلاقي للقانون والدولة) فقد كانت الطبقات المسيطرة ما قبل الثورة (الفرنسية) محافظة كل المحافظة، أي أنها لم تكن تحاول توفير انتقال الطبقات الأخرى إليها بصورة عضْوية، مما يعني عدم توسيع دائرتها الطبقية "تقنياً" وإديولوجياً. كانت النظرة السائدة نظرة المرتبة المغلقة caste بينما تقدم الطبقة البورجوازية نفسها هيئة دائمة الحركة قديرة على استيعاب المجتمع بأكمله، وذلك برفعه إلى مستواها النقابي- الاقتصادي، إذ ذاك تتحول وظيفة الدولة تحولاً كاملاً، فتصبح الدولـــة مُربيّة"(17). ولكن انتبه أيها القارئ المحترم فـ المُربّي بحاجة إلى تربية!. ويضيف غرامشي قائلاً: "فهي (أي الدولة البورجوازية ) لا تكفّ عن استيعاب عناصر جديدة فحسب لكنها تلفظ قسماً منهم أو أن من تلفظهم يفوقون عدداً وبكثير ممن تستوعبهم.  وأخيراً إن الطبقة التي تستطيع أن تدَّعي القدْرة على استيعاب المجتمع كله، وكذلك التعبير عن هذه العملية.. تدفع بنظرية القانون والدولة إلى [نهايتهما].(18)

على هذا الأساس يتوجب فهم عبارة ماركس في البيان التي تقول: "أما الحركة البروليتاريّة فهي الحركة المستقلة التي تقوم بها الأغلبية الساحقة لمصلحة الأغلبية الساحقة. فالبروليتاريا التي هي فئة المجتمع الراهن (البورجوازي) السفلى لا يمكنها أن تنهض وتقف على قدميها إلا إذا نسفت كل البنية الفوقية للفئات التي تشكل المجتمع الرسمي".(19)

وهذا لا يمنع من أن يتّجه جزء من البورجوازية (بعض الأفراد) نحو البروليتاريا، وهو على وجه الخصوص ذلك الجزء من العقائديين [الإديولوجيين] البورجوازيين الذين رفعوا أنفسهم إلى مستوى الإدراك النظري للحركــــــة التاريخية برمتها"(20)

جاء في البيان: "ومثلما انتقل فيما مضى فريق من النبلاء إلى البورجوازية ينتقل اليوم إلى البروليتاريا فريق من البورجوازية خصوصاً ذلك الفريق من الإديولوجيين البورجوازيين الذين تساموا إلى حد الإدراك النظري لمجمل الحركة التاريخية".(21)

يمكن القول أخيراً ، أن الوعي الشّموليّ هو الوعي المُنْصِف.

 

هوامش
 

 (1) أوسكار لانكه "الاقتصاد السياسي / القضايا العامة. تعريب وتقديم الدكتور محمد سلمان حسن. دار الطليعة- بيروت، ط4 1982 ص123.

(2) فريدريك إنجلز " أنتي دوهرنغ " ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن دار التقدم  1984 ص 176.

(3 ) أوسكار لانكه - مرجع سابق. ص 259 ، 266 .

* تشمل علاقات الإنتاج نوعين من العلاقات: علاقات اقتصادية هي علاقات السوق، أي التبادل والتوزيع. وعلاقات اجتماعية هي علاقات الملكية الخاصة، والاستغلال. يتعامل الاقتصاد السطحي مع علاقات السوق فقط غافلاً عن العلاقات الاجتماعية [نلاحظ هذا الإغفال في مقالة العظم "ما هي العولمة؟ "]. أما الاتجاه الذاتي فهو يسعى لعزل المقولات الاقتصادية عن عملية الإنتاج ، ويركز على علاقة الإنسان بالأشياء الجاهزة. إنه نظرية في الاستهلاك. يقوم الاتجاه التاريخي ، رغم إقراره بالطبيعة الاجتماعية لعملية الإنتاج والتوزيع، بإنكار وجود القوانين التي تحكم هذه العملية .

 (4) جورج بليخانوف " أبحاث في تاريخ المادية " ، تعريب محمد مستجير مصطفى دار الفارابي 1979 ص155.

(5 ) ج . بليخانوف "أبحاث.."- مرجع سابق ص155.

(6) كارل ماركس - فريدريك إنجلز " منتخبات في 15 مجلداً . المجلد الأول. ترجمة الياس  شاهين دار التقدم 1988 ص 104.

(7) karl marx and fredrik engels “the German ideology “progress publishers Moscow 1964 P 28           

** راجع "هربرت أ. شيلر: المتلاعبون بالعقول" عالم المعرفة العدد 243

*** نقلاً عن الياس مرقص "التاريخ والتقدم" مجلـة الوحـدة العدد 22- 23  ص32 راجع أيضاً ماركس- انجلز "الأيديولوجية الألمانية" ترجمة د.فؤاد أيوب دار دمشق 1976 .

 و تودوروف "فتح أمريكا- مسألة الآخر" ترجمة بشير السباعي الطبعة الأولى 1992 دار سينا للنشر.

 

(8) عبد الله العروي " مفهوم الأيديولوجيا "دار التنوير والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ص24 ط1  1983  .

(9) العروي _ مرجع سابق ص  32 .

(10) العروي _ مرجع سابق ص 32 .

(11) العروي _ مرجع سابق ص 32 .

****  جان مارك بيوتي- مرجع سابق ص 48 .  "إن غرامشي، باستخدامه مفهوم المثقف التقليدي لتحليل مختلف التنضيدات في داخل نمط واحد من الإنتاج، يدخل إذن على ذلك المفهوم توسيعاً كبيراً للغاية، مطبقاً إياه على جميع المثقفين الذين ارتبطوا أو يرتبطون "عضوياً " بطبقات زائلة أو في طريقها إلى الزوال..ولكن حتى مثقفي البورجوازية يكونون، ابتداءً من حقبة محددة تاريخياً، تقليديين بالنسبة إلى البروليتاريا. هكذا يفيد مصطلح التقليدي في تحديدي الفئات المثقفة التي يتوجب على الطبقة المتقدمة تاريخياً أن تتمثلها لكي تمارس الهيمنة على مجمل الطبقات الاجتماعية التي منها يتألف المجتمع. " بيوتي ص45. يبقى أن نثبت أن البرجوازية الاحتكارية طبقة منحطة حتى نستطيع القول أن مثقفيها تقليديون. راجــــــع كتابنا "ما بعد الحداثة". "هكذا راحت تشير الدلائل كلها، بشكل منهجي، إلى أفول المشروع البورجوازي- الليبرالي كمشروع تحرر اجتماعي- إنساني. كان ذلك على أثر ثورة 1848 في فرنسا؛ ثورة البروليتارية الباريســية في نوفمبر/ تشرين الثاني "التي أطاحت بالملكية الدستورية عملياً وبسلطة البورجوازية فكرياً فقط " حسب عبارة ماركس في كتابه "الصراعات الطبقية في فرنسا"، أي حققت البورجوازية الليبرالية نجاحها السياسي النهائي وفشلها الأيديولوجي (المستقبلي- التحرري أو العضوي) بشكل نهائي أيضاً. ومع تبلور المرحلة الإمبريالية- الرأسمالية دشّنت البورجوازية- الليبرالية المتحولة إلى بورجوازية احتكارية فشلها السياسي النهائي (رجعية في السياسة على طول الخط وفي ظل جميع النظم حسب عبارة لينين في كتابه "الإمبريالية..) والإيديولوجي العضوي واحتفظت بنجاحها الاقتصادي- التقني" راجـع ص(84 ) من مجـــــلة الطليعة العدد35 /الرابع 1999 . علينا هنا ملاحظة تصدّع العقلانية البورجوازية واحتفاظها بـ "العقلانية" التقنية.

(12) العروي _ مرجع سابق ص 107، 108 .

 

(13) جان بول سارتر  " شبح ستالين " ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة- بيروت. ط1 /1975 ص  9 .

(14 ) جان مارك بيوتي " فكر غرامشي السياسي"  ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة- بيروت ط1/ 1975. ص9 . والتقدم كحالة نوعية هو الانتقال من هيمنة شكل ملكية خاصة إلى هيمنة شكل آخر، أو من الملكية الخاصة إلى إلغائها(الملكية الجماعية). أما من الناحية التدرجية فهي العملية الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية التي تضع هذا الأمر غايتها. هكذا يفهم التاريخ كانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر.

(15) مكسيم رودنسون " الإسلام  والرأسمالية " ترجمة نزيه الحكيم. الطبعة الثالثة. 1979 .ط1/ 1986/ دار الطليعة ص  31 ، 37 .

(16) مكسيم رودنسون _مرجع سابق ص 36 .

*****   في الأيديولوجية تتحول النظرية المنبثقة من العلم التاريخي إلى فعل إيمان، لكن إن توقفت النظرية عن نقد ذاتها نقداً علمياً تاريخياً (دراسة الشروط الجديدة ومراجعة النظرية وفقاً لها) تحولت الأيديولوجية إلى إيمان أعمى متعصب، هذا من جهة ومن جهة أخرى إذا لم تتشرب الجماهير نتاج العلم التاريخي تبقى النظرية معزولة عديمة الفاعلية، هكذا نســــتطيع أن نفهم كيف تتحول النظرية إلى قوة  مادية (الإيمان بالعلم التاريخي ونتائجه كنظرية للعمل السياسي).  يكتب جورج طرابيشي: "والحـال إن فعل الإيمان ضروري حتى تكتسب النظرية قوة الأيديولوجــي. ولكن الأيديولوجية، إذا ما انفصلت عن النظرية، فقدت بدورها قوة المنطق، وصارت بديلاً عن الواقع بدل أن تكون عقله ومرآته وأداة تحويلة"  [جورج طرابيشي: الدولة القطرية والنظرية القومية] ص78 .

******  راجع هيغل "أصول فلسفة الحق"  ترجمة إمام عبد الفتاح إمام الجزء الثاني، دار مد بولي القاهرة ص 428 . [الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي] . يكتب هيغل في المرجع المذكور أعلاه : "امتداد الأسرة ، بانتقالها إلى مبدأ جديد ، هو في بعض الأحيان امتدادها السّلْمي في العالم الخارجي حتى تصير شعباً ، أعني أمة . ويكون لها على هذا النحو أصل طبيعي مشترك . أو هو في أحيان أخرى اتحاد لمجموعات مشتتة من الأسرة تحت نفوذ حاكم مطلق، أو كنتيجة لتجمع إرادي يحدثه الارتباط في الحاجات وتبادل الإشباع المشترك. " ص 429هذا القول لـ هيغل يقارب إلى حد كبير شكل التَّحوّل السّلْميّ لأعيان المدن العربية ذوي الأصول الإقطاعية الضريبية من الطراز العُثْماني إلى بورجوازيات ليبرالية طرفية رثّة بفعل التدخل الاستعماري العنيف.

 

(17) أنطونيو غرامشي " الأمير الحديث " / قضايا علم السياسة في الماركسية / ترجمة زاهي شرفان وقيس الشامي ط1/ 1970/ دار الطليعة ص  134/ 135

(18) أنطونيو غرامشي _ " الأمير الحديث " - مرجع مذكور ص135

(19) ماركس- إنجلز " البيان الشيوعي " ترجمة العفيف الأخضر ط1 /1975 / ص86 / 87 .

(20) أوسكار لانْكِة- مرجع مذكور ص263.

(21) " البيان الشيوعي "- مرجع مذكور ص82



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجامعة في العصر المعلوماتي
- حول الديمقراطية السوفييتية
- موقع رزكار ساحة لاختبار الرأي ، وللإسهام في صياغة مشكلات الي ...
- الوصية الموجهة إلى الهنود - الأفغان
- الماركسية - مقاربة جديدة
- زمنان للأزمة زمن أزمة الحزب الشيوعي السوري وزمن انفجارها
- تناقضات النظام الرأسمالي مستويين لمقاربة أيديولوجيا العولمة
- في نقد المرجعية الفكرية


المزيد.....




- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...
- في يوم الأرض.. بايدن يعلن استثمار 7 مليارات دولار في الطاقة ...
- تنظيم وتوحيد نضال العمال الطبقي هو المهمة العاجلة
- -الكوكب مقابل البلاستيك-.. العالم يحتفل بـ-يوم الأرض-
- تظاهرات لعائلات الأسرى الإسرائيليين أمام منزل نتنياهو الخاص ...
- جامعة كولومبيا تعلق المحاضرات والشرطة تعتقل متظاهرين في ييل ...
- كيف اتفق صقور اليسار واليمين الأميركي على رفض دعم إسرائيل؟


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نايف سلوم - في الإديولوجيا والثقافة