أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عزو محمد عبد القادر ناجي - العامل الاقتصادي والطبقي ودوره في عدم الاستقرار السياسي في سوريا















المزيد.....



العامل الاقتصادي والطبقي ودوره في عدم الاستقرار السياسي في سوريا


عزو محمد عبد القادر ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 2226 - 2008 / 3 / 20 - 11:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


إن ارتباط العامل الاقتصادي بالصراع الطبقي في المجتمع يجعل تأثيرهما على الاستقرار السياسي متشابكاً، ومن غير المعقول فصل هذين الجزأين عن بعضهما كونهما شيئاً واحداً، لأن التوازن في الاقتصاد فقط هو الذي يحافظ على الاستقرار السياسي في المجتمع، فزيادة الاقتصاد (الدخل القومي)، أو نقصانه لابد أنه سيؤثر على الصراع الطبقي وبالتالي سيساهم في عدم الاستقرار السياسي في المجتمع.
فسوريا قبل استقلالها لم تكن فيها طبقة عاملة كبيرة بسبب قلة التصنيع، ولم يكن للعمال تشريعات كافية لحمايتهم من البطالة وصيانة حقوقهم، مما جعلهم يعانون مرارة الفقر مثلهم مثل بقية أفراد المجتمع من الطبقة الدنيا، وكان بعض البرجوازيين يمانع من انتسابهم لنقابات العمالية، أما الفلاحين فكان المرابين وأصحاب الحوانيت يستغلون حاجتهم بفوائد عالية، وقد يضطرون بسبب سوء الموسم إلى الذهاب للمدينة والعمل فيها، وفي غيابهم كان بعض الملاك يستغلون أرضهم، وقد أحدث ذلك فجوة بين الريف والمدينة حيث أصبح أهل الريف ينظرون إلى أهل المدينة على أنهم مترفين ومستغلين، رغم أن خصائص أهل المدن كما يؤكد ابن خلدون تختلف عن أهل الريف في كثير من الأشياء، من حيث أحوالهم المعيشية والسكن والبناء وتشبه هذه الحالة ما تنظر إليه شعوب العالم المتخلف إلى شعوب العالم المتحضر، فمنذ العهد العثماني كان النظام الطبقي موجوداً حيث كان هناك ثلاث طبقات هي:
1- طبقة الحكام ومعاونيهم ورؤساء الدين والعلماء.
2- طبقة الأسر العريقة وأصحاب المهن اليدوية المختلفة.
3- طبقة العمال والخدم.
وظلت نسبة المشتغلين بالزراعة تشكل حوالي 70% من السكان مقابل 1% في الصناعة، أما الآخرون فكانوا يشتغلون بالمهن الحرة، لكن تقلصت الملكية الكبيرة التي تزيد عن المائة هكتار بعد الاستقلال من 60% إلى 29%،وزادت نسبة الطبقة المتوسطة التي تمتلك عشرة هكتار فما فوق من 19% إلى 33% ، أما الصغيرة فظلت على حالها وهي تقل عن عشرة هكتارات، وقد شجعت السلطات في عهد الانتداب توظيف رؤوس الأموال الأجنبية وتشجيع نمو الرأسمال التجاري بتوظيفه للأموال في كل المجالات، من أجل ربط سوريا بالسوق الأجنبية وبالرأسمالية العالمية، وإغراقها بالمنتجات الأجنبية، لكن خلال الحرب العالمية الثانية تطورت الصناعة السورية بسبب نمو حاجة جيوش الحلفاء لها، وزادت قوتها بعد الاستقلال، فتشكلت سبع شركات صناعية مساهمة برأسمال وطني قدره تسعة عشرة مليون ليرة و46 مصنعاً ، وكان تطور الصناعة قد أدى لتطور الزراعة لاعتماد الصناعة على الزراعة، وبذلك كان يعمل النظام بعد الاستقلال على بناء الاقتصاد بشكل منتظم، بالرغم من خروج سوريا بعد الاستقلال مباشرة منهكة اقتصادياً، ورغم ما حدث من تطور صناعي وزراعي إلا أن الأحزاب الراديكالية والصحافة كلفوا الحكومة فوق طاقتها، كما عمل الحوراني على معاداة النظام ورجال الحكومات على أساس أن هدفه تحقيق العدالة الاجتماعية، رغم أنها كانت سائدة إلى حد بعيد باستثناء بعض الحالات الشاذة، حيث وصف الحوراني أعداءه من ملاك الأراضي بالرجعية والعمالة والخيانة، فكان أول من أطلق كلمة رجعية وتقدمية في المجتمع السوري ليحدث شرخاً اجتماعياً في جسم المجتمع بشقيه المدني والعسكري، وكان حثه لمقربيه على الانتساب للجيش ولحزبه بحيث أصبح له مراكز قوة في الجيش يأتمرون بأمره مخالفين بذلك كل الأعراف الدستورية، بما فيها قسم يمين الولاء للدستور، فكان هدفه أن يجعل الجيش سلماً لوصوله إلى السلطة.
وبعد الاستقلال سمح النظام للتنظيم النقابي أن يكون ذا شقين مستقلين، إحداهما للعمال وآخر لأرباب العمل، بعد أن كان قبل ذلك مندمجاً مع بعضه عمالاً وأرباب عمل في نفس الوقت، ثم أقر دستور 1950 حق العمل لجميع المواطنين، وألزم الدولة بتوفيره للجميع وضمانه من أجل توجيه الاقتصاد الوطني ونهوضه، كما أقر قانون العمل، مثل الساعات، والتعويض، والتأمين، وغير ذلك، كما أقر الوسيلة المناسبة للمطالبة بحقوقهم، وأقر التنظيم النقابي، معتبراً النقابات شخصية قانونية اعتبارية، لها حق في الاجتماع والتظاهر السلمي، لكن خلال فترة الوحدة مع مصر ضعف دورهم، فصدر مرسوم يقتضي بـ : " لا يجوز للنقابات الاشتعال بالمسائل السياسية والدينية " ، كما صدر مرسوم آخر يقضي، بأنه من حق وزير الشؤون الاجتماعية والعمل حل النقابة في حالة التحريض على قلب نظام الحكم أو كراهيته أو الازدراء به...، ولكن النظام الذي ساد بعد مارس 1963 عمل على دمج هذه النقابات ضمن النظام السياسي، بحيث تصبح مقيدة به وتخضع لقراراته، وربطها بحزب البعث، حيث أن جميع رؤساءها وقياداتها في مختلف المستويات أعضاء عاملين في حزب البعث، وكان لهذه النقابات دور كبير قبل مارس 1963 في النضال ضد الديكتاتوريات العسكرية، ومعظم قياداتها كانت مرتبطة بالأحزاب.
لكن كان هناك عائق ساهم في الشقاق بين الريف والمدينة تمثل بحصول أعيان المدينة في بعض الحالات على مقاعد أهل الريف، من خلال تحالفهم مع أعيان الريف الذين كانوا يعطونهم التنازلات على حساب أبناء مناطقهم، ورغم ذلك كان باستطاعة الفلاحين وصغار الكسبة الضغط على السلطة لإقصائهم عند الضرورة، بسبب أن السلطة في معظم فترة ما قبل عام 1963 كانت ديمقراطية، لكن محاباتها أحياناً لأصدقاء المسؤولين على حساب الفلاحين وصغار الكسبة، ولد رد فعل عند هؤلاء تمثل بدخولهم في الأحزاب الراديكالية والجيش ليسقطوه وليحلوا محله حكماً ديكتاتورياً صارماً، خاصة بعد انقلاب 23 فبراير 1966، بالرغم من أن هؤلاء الفلاحين كانت تنتشر في مناطقهم نفسها الملكيات الصغيرة والمتوسطة، لكن بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في ظل الوحدة، وبعده، حصلوا على أراضي الملاك الكبار ، وكان الهدف من الإصلاح الزراعي في سوريا هو تجريد الطبقات المهيمنة من امتيازاتها الاقتصادية وعزلها سياسياً تمهيداً لتصفيتها، وإقامة علاقة بين النظام ومن سيستفيدون من هذه التجربة (في ظل حكم الوحدة) ، حيث جعلت سوريا تجربة للإصلاح الزراعي، ولم يحصل مثل هذا الأمر في مصر حيث حدث بشكل تدريجي على عكس سوريا التي أخذت الأرض من أصحابها مباشرة، كما أن نظام الوحدة لم يصفي الإقطاع في مصر، فظل أكثرهم يتمتعون بمراكز مهمة في الدولة، وأعاد لهم أراضيهم بعد هزيمة يونيو 1967، وزادت قوتهم في ظل حكم أنور السادات، لكن في سوريا اعتلى مكانهم طبقة المندوبين الذين شكلوا حاجزاً بين الشعب والنظام الحاكم، بالرغم من أن ملاك الأراضي في سوريا قد حصلوا على أراضيهم خلال العهد العثماني بطرق شرعية، فوزعت عليهم أراضي صغيرة مقابل خدماتهم في إدارات الدولة ليستثمروها، كما وزعت على غيرهم من الفلاحين، لكن أعيان الدولة زادوا على أراضيهم من خلال شرائهم أراضي من غيرهم من الفلاحين، حتى أن الملاك الكبير منهم كان يملك أكثر من (40) سند طابو، وهذا حق شرعي له، وكان شراءهم لهذه الأراضي بسبب استثمارهم لأراضي الريف، وقد شجعتهم الدولة العثمانية على ذلك من خلال تعاملها مع هؤلاء الملاك في جباية الضرائب، حيث كان من الأسهل لها التعامل مع ذوي الملكيات الكبيرة أكثر من الصغيرة، كما أن الملاك الصغار لم يستطيعوا منافسة الإنتاج الكبير للملاك الكبار، فباعوا أراضيهم بأسعار زهيدة، ثم أخذوا يعملون في خدمة طبقة الملاك الكبار على شكل شراكة، فكان رأس المال كله من أراض وبذار وسماد وضرائب وما إلى ذلك، من المالك أما العمل والحراسة فمن الفلاح لقاء ربع المحصول، حيث كان الفلاح يسمى بالمرابع بالاصطلاح الزراعي ، وكان لكل مالك عدداً كبيراً من المرابعين، أما في مجال الصناعة، فكان عمال الصناعة أيضاً غير قادرين على منافسة المنتجات الأجنبية المستوردة، بسبب رخصها وقلة تكاليفها، فتركوا مشاغلهم الخاصة والتحقوا بسوق العمل عند المستثمرين الصناعيين، الذين أحدثوا مع أقرانهم الأرستقراطيين الزراعيين قفزة في مجال سوق العمل والصناعة والزراعة بشكل لم يسبق له مثيل في دول الشرق الأوسط منذ عام 1838.
لكن عند إصدار قانون الإصلاح الزراعي عام 1959 بضغط الحوراني وأعوانه ممن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة، بإلحاحهم على الرئيس عبدالناصر ليصدر هذا القانون، بسبب حسدهم وحقدهم وليس بسبب ميلهم لإنصاف الفلاح وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، والدليل على ذلك أنهم وجهوا الموظفين إلى إعطاء المالك من الأرض ليس كما يختار من الأرض ( كما نص قانون الإصلاح الزراعي نفسه)، وإنما أعطوه حسب ما يريدونه هم، كما صادروا أدواتهم الزراعية وشهروا بهم في الإذاعة ليحطوا من قدرهم، رغم كون أكثرهم من أبطال استقلال سوريا والذين وقفوا في وجه الديكتاتوريات العسكرية، مثل الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، ورئيس البرلمان رشدي الكيخيا، وغيرهم، فكان الرئيس هاشم الأتاسي على سبيل المثال يمتلك أراض صخرية، يستصلحها حسب إمكانياته، وكان الخبراء المصريين الذين جاءوا إلى سوريا قبل الوحدة، ومنهم وزير الإصلاح الزراعي المركزي سيد مرعي، قد أكدوا أنه من الخطأ تطبيق الإصلاح الزراعي في سوريا لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها لا يتطلب ذلك، حيث الزراعة في سوريا تشكل الركن الأساسي للاقتصاد السوري، ومعظمها بعلية وليست مروية كمصر، وإن من ضروراتها أن تكون الملكية واسعة، لأن الملكية الصغيرة لا تفي بدخل صاحبها ولا تقوى الاقتصاد القومي، كما أن صاحب الأرض في سوريا يستثمرها ولا يؤجرها مثل الحالة في مصر، فالإنتاج الزراعي لـ 300 هكتار بعلي في سوريا، أقل من إنتاج 80 هكتار مروي في مصر، كما نص قانون الإصلاح الزراعي، في مجال توزيع الأراضي في سوريا ومصر، حتى أن 80 هكتار مروي في سوريا أقل إنتاجية من 80 هكتار مروي في مصر، وإنتاجها لا يعتبر إنتاجاً معتبراً، إضافة إلى أن ما يطرأ على الأراضي من ظروف طبيعية تؤدي إلى تقليص الإنتاج، وإن معظم من أعطيت لهم أراضي من الفلاحين أصبحوا يؤجرونها ، وبذلك أصبحوا مستهلكين بعد أن كانوا منتجين قبل ذلك، كما تملك مهاجرون من خارج البلاد مثل النساطرة والأشوريين، أراض أخذت من العشائر العربية في الجزيرة السورية، وهذا يتنافى مع القومية العربية التي يدعيها النظام.
وقد أدى هذا الإجراء العنيف إلى جعل الملاك يتركون الاستثمار الزراعي، ويتوجهون للاستثمار الصناعي أو التجاري، وهاجر قسم كبير منهم من البلاد إلى الخارج، وأغلبهم من ذوي المؤهلات العالية، ففقدت البلاد خبراتهم، كما أن معظم الأراضي التي أستولي عليها لم توزع على الفلاحين بل بقيت بيد الدولة، التي أهملتها وحولتها إلى أراض قاحلة، ولم تدفع لأحد ممن أخذت أراضيهم أي تعويض خلافاً لما نص عليه قانون الإصلاح الزراعي.
وبعد حركة 8 مارس 1963، ازداد مدى الاستيلاء على الأراضي، وقامت حكومة صلاح البيطار بإنشاء سد الفرات مستعينه بالسوفييت في ذلك، رغم أنه لم يكن له أية فائدة للحصول على الكهرباء لأن 90% من كهرباء سوريا معتمدة على النفط، كما لم يكن له أية فائدة في استصلاح الأراضي رغم ما صاحب إنشائه من دعاية واسعة، فقد أتلف 300 ألف هكتار من أجود الأراضي الزراعية مقابل استصلاح 600 ألف هكتار ، التي لا تجدي زراعتها بسبب الملح، ولم تستطع الحكومة التخلص من مشكلة ملوحة التربة، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي أستولي عليها بعد انقلاب مارس 1963، ثم بعد انقلاب فبراير 1966 قد أخذت من الملاك وأعطيت للفلاحين الذين لايجيدون استصلاحها ، وكذلك المنشآت الصناعية والتجارية، لكن تجدر الإشارة إلى أن حكومات ما قبل الوحدة كانت تنفذ الإصلاح الزراعي منذ الاستقلال، ولكن بشكل تدريجي على أساس الملكية الصغيرة والمتوسطة، بحيث لا يمضي أكثر من جيلين أي ما يعادل 66 سنة حتى يكون قد اكتمل، بشكله النهائي، وهذا ما أكده دستور 1950 حيث نصت مادته الـ 22 على ما يلي: " لإقامة علاقة اجتماعية عادلة بين المواطنين، يسن تشريع خاص يتضمن حداً أعلى لحيازة الأرض تصرفاً أو استثماراً، بحسب المناطق على أساس تشجيع الملكية الصغيرة والمتوسطة، من دون أن يكون له مفعول رجعي"، ولو ظل هذا القانون يطبق، لما حدثت الرشاوي ولا وسائل الانتقام كما حدث بالفعل نتيجة قانون الإصلاح الزراعي منذ عام 1959.
وكان إصدار قرارات التأميم في يوليو 1961 بتأميم المصارف والشركات الصناعية، بحجة أن هذه الشركات يمتلك أسهمها في مصر سوريون ولبنانيون ويهود وغيرهم، بالرغم من أن النظام يدعي أن كل ما هو عربي لا يعد أجنبياً، كما أن السوريون جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، والوضع في سوريا يختلف تماماً عن الوضع في مصر، لأن هذه المؤسسات في سوريا مملوكة فقط للسوريين، ويشترك فيها حتى صغار الكسبة من خلال أسهمها، وكان لها دوراً كبيراً في تشجيع الاستثمار الوطني، وزيادة الاقتصاد القومي، وبالنسبة للمصارف فإن رأسمالها مرتبط بالمراكز الرئيسية في الخارج، أما بالنسبة للصحف فكان تأميمها قد عمل على عدم الاستطاعة في إمكانية الكشف عن الأخطاء في الإدارة، وتوعية الشعب وفضح المخالفين، وأصبحت، رهينة بيد الحكومة تعلن ما ترضى عنه السلطة، وكان التأميم الذي ابتع بعد انقلاب 8 مارس 1963، قد توسع ليشمل المؤسسات الصناعية والتجارية الصغيرة، ووصل الحقد بأقطاب البعث إلى تسريح محامي المؤسسات المؤممة، والتشهير بهم في الإذاعة من خلال التهجم عليهم بالتهم الكاذبة، مثل نعيم الانطاكي أحد رموز الوطنية في سوريا، وهرب بنتيجة ذلك أكثر من مليار ليرة سورية من رؤوس الأموال، وزاد التأميم بعد انقلاب 23 فبراير 1966 حتى شمل المعامل الفردية، فازدادت أعداد العاطلين عن العمل، وانخفض الإنتاج بشكل بلغ أقل من عشرين ضعف عما كان قبل ذلك، كما أن ازدياد تخفيض أراضي الملاك عما كان من قبل، جعل الأحقاد المحلية هي قانون الإصلاح الزراعي، فكان حزب البعث يمارس مهام الحزب الشيوعي مع استعمال كلمة قوميين كادحين بدلاً من البروليتاريا.
ويرى البعض أن الطبقة العليا في المجتمع يعيش معظم أعضائها في المدن الكبرى بثرواتهم ومراكزهم من خلال سيطرتهم على المال والصناعة والتجارة، واعتمادهم على الملكيات الزراعية الكبيرة، إضافة لتأثرهم بالغرب، وتشكيلهم لمعظم نواب البرلمانات، لكن عدم استطاعة هذه الطبقة على ردم الهوة بين طبقتهم والطبقة المتوسطة والدنيا، وبالتالي لم تستطع هذه البرلمانات تحقيق رغبات الشعب السوري بشكل كامل، رغم أن معظمهم هؤلاء النواب من ذوي التاريخ الوطني المشرف، وعلى يدهم تحقق استقلال سوريا، لكن كان نقص خبرتهم وكفاءتهم الإدارية، إضافية لعدم قدرتهم على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وعدم قدرتهم على تحقيق التضامن العربي كبديل لسد عجز نظام حكمهم عن كبح جماح الصهيونية عن فلسطين، مما ولد الأحزاب اليسارية الراديكالية، التي أخذت تنادي بالصراع الطبقي القائم في المجتمع بنظرها، بالرغم من أن كل الدساتير التي سادت خلال هذه الفترة كانت تتضمن حماية العمال وتشجيع الملكيات الصغيرة والمتوسطة، وتعيين حد أعلى لحيازة الأرض، كما أعطت هذه الدساتير حق تأميم كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة، مقابل تعويض عادل، وهذا ما أكده رئيس الحزب الوطني عام 1962 عندما أثار اليساريون من خلال الحوراني موضوع الصراع الطبقي في البرلمان، حيث قال في ذلك : " يجب إبقاء الطبقة الفوقية حيث هي، لا أن تنزل هذه الطبقة إلى تحت، مع إمكانية الحد من استثمارها بوضع مشاريع وقوانين تفرض قيوداً على الأرباح بضرائب تصاعدية تصل إلى 70، 80، 90 في المائة على الأرباح، لا قيوداً مقيدة توضع على رؤوس الأموال، وهذه الضرائب التصاعدية على الأرباح،لا قيوداً مقيدة توضع على رؤوس الأموال، وهذه الضرائب التصاعدية يمكن إنفاقها على الطبقة التحتية في خدمات عامة كالصحة والتدريس والتعليم، وتكافؤ الفرص ميسوراً بذلك للطبقة التحية، حيث تمشي متدرجة إلى فوق، ويمكن بالتالي أن تكون متدرجة، وئيدة إلى أن تتقارب مع الطبقة الفوقية، لا أن تلتقي هي والأخرى، ولا وجود للإقطاع، كما أن القيود المقيدة للاقتصاد هي ضرر وضرار لعامة البلاد وكافة المواطنين أصحاب رؤوس الأموال، والصناع والعمال أيضاً، ويجب أن يكون الاقتصاد خالصاً من كل قيد يقيده، فالعدل والواجب الوطني، يحتمان بلا تردد إلغاء قوانين التأميم، لأن التأميم قد أضعف القوى الإنتاجية، وأوقف حركة العمل في البلاد، وأبعد الناس عن رغبة الاشتراك أو المساهمة في الصناعة أو التجارة أو الزراعة، ويجب أن يكون التعاون صادقاً ووثيقاً بين صاحب الأرض والفلاح وبين صاحب المال والعامل وبين جميع الطبقات" .


وكان قبل ذلك قد أكد هذا الرأي الرئيس شكري القوتلي في مارس 1943 عندما زار حماه، فقام جماعة الحوراني برفع لافتات ضد ملاك الأراضي والأعيان، مما حذا بالرئيس شكري القوتلي إلى القول:" في هذه المدينة توجد طبقة يقال لها طبقة الذوات وأنا من هذه الطبقة، أنا من الذوات وعائلتي من أقدم العائلات، وأنا من أصحاب الأملاك وأرباب الأراضي، وهناك طبقة أخرى تقول أنها من الشعب، وأنا أيضاً من الشعب، وقد أمضيت عشرات الأعوام مناضلاً في سبيل الشعب، إنني أعلم معنى الفكرة التي يعتنقها كل ذات من الذوات، كما أعلم ماهية الفكرة التي يعتنقها كل رجل يقول إنه من الشعب، لكن اسمحوا لي أن أضع هذه الأمور في مواضعها، إنني على استعداد لأن أضحي بأولادي وبعائلتي في سبيل الوطن".

ورغم ذلك ظل الحوراني معارضاً لكل الأنظمة التي لا تسعى للإصلاح الزراعي الفوري، وقد كسب تأييد وتعاطف بعض الفلاحين، كونه كان ينتمي لحركة الأشقياء الشعبية التي كانت تفرض الخوة على الأثرياء، رغم أن الحزب الشيوعي نفسه لم يكن يدعو للإصلاح الزراعي في ذلك الوقت، كما لم يكن يدعو للتأميم، على أساس أن هدفه هو تشجيع وزيادة الاقتصاد، من خلال المشاريع الواسعة، رغم أن الهدف الأساسي من تصريحاته هذه هو وصول بعض أعضائه إلى البرلمان، لأنه كان يدرك أن النظام الطبقي من صميم الحياة الاجتماعية السورية في تلك الفترة، مثل اقتصاد جبل العرب، وغيره، ولم تكن حركة الشعبيين في جبل العرب عام 1945 ضد آل الأطرش الذين يتولون كافة المناصب السياسية الدرزية، في جبل العرب والتي كانت ثورتهم هذه بعد ثورة العامية عام 1886 سوى دليلاً على الصراع الطبقي، فاعترف آل الأطرش بحق الفلاحين في التملك في أعقاب ثورة العامية، أما في ثورة الشعبيين فقد تنازل آل الأطرش عن المناصب السياسية لصالح الشعبيين الذين شجعهم الرئيس شكري القوتلي، حيث أيدوا فيما بعد انقلاب حسني الزعيم.
كما ظل الحوراني يحرض الفلاحين الأكراد في يونيو عام 1947 ضد زعمائهم من ملاك الأراضي الواسعة، مما أدى إلى مصادمات قتل على إثرها حوالي 30 شخصاً، ثم أثار في أكتوبر عام 1948 قضية بين الريف والمدينة، مدعياً أن القرى التي يسكنها الفلاحون لا تحظى بالرعاية الكافية مثل بقية المدن السورية، على أمل ولاءهم له، كما قام بعض أفراد الطائفة المرشدية بدور هام في إحداث الإخلال بالأمن من قبل عام 1945، وتواكب نشاطها مع إضراب عمال مرفأ اللاذقية عام 1945 بتشجيع من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، لذلك عمل محافظ اللاذقية آنذاك عادل العظمة على تشكيل جمعية تضم جميع الطوائف وتوزيع أراضي أملاك الدولة والخالية على الفلاحين الذين لا أرض لهم، ثم قام الحوراني بعد سقوط سامي الحناوي، بتنظيم كتائب مسلحة مدعومة من الجيش ضد الملاك الكبار، وصارت هذه الكتائب تتدخل في كل قضية بين الملاك وفلاحيهم في كل أنحاء سوريا، ثم أصدرت الحكومة عام 1950 قراراً للعمل بالتعرفة الموحدة ، مما حذا بأرباب العمل في دمشق إلى إغلاق معاملهم، وهذا أدى بقضاة الدولة كلهم إلى المطالبة برفع أجورهم، وعلى ذلك فكانت الشعلة التي أوقدها الحوراني قد أثرت سلباً على جميع المصالح الاقتصادية في الدولة.
لكن بعد الانقلاب الثاني للشيشكلي عام 1951، عمل على وضع رقابة على خروج الأموال في البلاد وأمم بعض الشركات الأجنبية، وألزم الشركات الأجنبية التي لها فروع في البلاد أن يكون ممثلوها في سوريا من الموظفين ورفع الضريبة على الدخول إلى نسب عالية وصلت إلى 36% لتحطيم قواعد الاقتصاد الحر الذي كان سائداً في سوريا، ثم أصدر في يناير 1952 قانوناً بتحديد الملكية الزراعية في المستقبل، وإعطاء الفلاحين المستأجرين للأراضي نسبة أعلى من المحصول، حيث كان المالك يأخذ 75% من المحصول بينما الفلاح المستأجر يأخذ 25%، فأخذ وفق قانون الشيشكلي، نصف المحصول أي 50%، لذلك ازدهرت الزراعة والصناعة بشكل لم يحصل في كل تاريخ سوريا حتى الآن، حين استصلحت الأراضي واستثمر مشروع الغاب، وازدهرت صناعة النسيج، ووضع حجر الأساس لموقع معرض دمشق الدولي، وأمم الحافلات وكهرباء دمشق، وألغى امتياز حصر التبغ والتنباك، وألحقها بوزارة المالية، كما أنشأ شركة سورية مساهمة لإنشاء واستثمار مرفأ اللاذقية، وتوسعت في عهده المدن بشكل كبير، لكن في أواخر 1953 ضعف الاقتصاد قليلاً مما قوى من المعارضة، خاصة أن عدد المثقفين زاد في عهده، وتوسع الجيش السوري بشكل كبير، وبسبب وجود الحوراني في المسرح السياسي عمل على عقد الاجتماعات الفلاحية عام 1951، في حلب ، حيث شجعهم على المطالبة بالإصلاح الزراعي الفوري، ثم قام بحملة عنف وإرهاب ضد ملاك الأراضي في يناير عام 1952، وكان يستطيع الاستغناء عن ذلك من خلال استطاعته توطين فقراء الفلاحين في مشاريع الري الخاصة بالدولة، والتي ازدادت في عهد الشيشكلي بشكل كبير، لكنه عمل على منع تشغيل رأس المال هناك، باعتباره كان وزيراً للزراعة، مما منع استفادة الفلاحين المستوطنين هناك من أي فائدة، وعمل في يونيو 1951 على مهاجمة حكومة خالد العظم من خلال حزبه الجديد العربي الاشتراكي، على أساس أن الحكومة لم تغير في مشروعها عن الحكومة السابقة، ولم تحقق الإصلاح الزراعي مباشرة، فعمل على التمهيد لإضراب موظفي الدولة في سائر المحافظات السورية ثم حثهم على المطالبة بزيادة الأجور فأسقط الحكومة، بسبب عدم قدرتها على تحمل هذه الأعباء، فكانت ردة فعل ملاك الأراضي على تجاوزات الحوراني، أن قاموا بالاجتماع في معرة النعمان في خريف 1951، وعقدوا مؤتمراً لهم فرد، الحوراني بعقد مؤتمر فلاحي آخر في سبتمبر عام 1951، أخذ ينادي بنزع ملكية أصحاب الأملاك الكبيرة، وألقى خطاباً فيهم جاء فيه : " أيها الاشتراكيون، يا رفاق الجهاد، سنوات عديدة مرت علينا ونحن في جهاد مستميت، نحارب على جبهات عدة، ضد الصهيوني والأجنبي والإقطاعي" ، ثم اختلف الحوراني مع الشيشكلي حول موضوع الإصلاح الزراعي بسبب أن الشيشكلي لم ينفذ الإصلاح الزراعي كما يريده الحوراني، رغم أنه أصدر مرسوم قانون الإصلاح الزراعي رقم 96، الذي قضى بتوزيع خمسة ملايين هكتار من أراضي الدولة على الفلاحين، وتوطين مليون أسرة فلاحية، ثم أصدر مرسوماً آخر حول ذلك جاء فيه : " إذا تبينت أن أملاك الدولة من الأراضي لا تكفي لتنفيذ أهداف القانون الأخير، فإن الحكومة ستلجأ إلى إصدار قانون خاص يقتطع أجزاء من ملكية أصحاب الأراضي الكبيرة لتوزيعها على الفلاحين" ، وكانت هذه الإصلاحات قد توافقت مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، والتي كانت تأمل تحقيق إصلاحات اجتماعية داخلية، حيث كان الشيشكلي قد وعد السفير الأمريكي بها، وبسبب الخلاف بين الحوراني والشيشكلي، وضع الشيشكلي، الحوراني في الإقامة الجبرية أواخر 1952، وأغلق صحيفة حزبه العربي الاشتراكي، وكانت تسمى الحرية، وبعد سقوط حكم الششيشكلي عام 1954، تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً، خاصة في ظل حكومة سعيد الغزي عام 1954، مما حذا بعمال الغزل والنسيج للمطالبة بزيادة أجورهم وتحديد ساعات العمل والاعتراف بحقهم في الانتساب للنقابات، مما حذا بأرباب العمل أن قاموا بإضراب شامل في 24 يوليو 1954 استمر يومين، في دمشق وحلب، مما حذا بالبرلمان إلى الموافقة على تعديل قانون 1946 الذي يعطي الحق للبرلمان في إقرار ما إذا كان إضراب العمال شرعياً أم لا، ثم حدث إضراب آخر في 30 يونيو 1954 لتحديد ساعات العمل، فتأجلت الانتخابات نتيجة لذلك شهراً كاملاً، وبسبب إضرابات عمال شركات النفط الإنكليزية العراقية، وأرامكو، زادت هذه الشركات أرباح الحكومة من الخطوط المارة بسوريا.
وفي أغسطس 1956 قام جماعة الحوراني من بعثيي حماه، بالاشتباك مع جماعة الحزب القومي السوري الذي ينتمي إليه بعض الملاك ومنهم آل العظم، وبضغط الحوراني، أصدرت حكومة صبري العسلي في أواخر ديسمبر 1956 قانوناً بمنع تهجير الفلاحين من الأراضي التي يشتغلون فيها، رغم أنهم كانوا عمالاً زراعيين ليس أكثر، فكان ذلك تمهيداً للاستيلاء على أراضي الملاك وتوزيعها على الفلاحين ، رغم معارضة البرلمان التدخل في أملاك الدولة وتوزيعها على الفلاحين، مما حذا بالبعث في يونيو 1955 إلى التهديد باستقالة النواب من البرلمان، ثم نظم اليسار في فبراير 1956 مظاهرات عمالية في حلب، تطالب بإلغاء مرسوم الشيشكلي رقم (243) الذي يمنع العمال من الانتساب للأحزاب السياسية، وأعلنوا الإضراب العام، وأصيب ثلاثة عشر بجراح، ثم وقعت اشتباكات بين أنصار البعث من الفلاحين وكبار الملاك أسفرت عن 32 جريح.
كما قام الحوراني باستغلال عدم الاستقرار السياسي بعد سقوط الشيشكلي منذ عام 1954، لإثارة الفلاحين ضد الملاك، فقام بإقامة مهرجان الشيخ بدر عام 1954، ثم مهرجان آخر في الشيخ بدر نفسها أواخر 1957، وفي كلا الاجتماعين اجتمع أكثر من 20 ألف فلاح ، تحت رعاية عم أكرم الحوراني الذي كان محافظاً للاذقية، ويدعى مصطفى الحوراني، وكان هدف المهرجان تأكيد قوة حزب البعث، وتوسيع نطاق الانتساب إليه، والدعاية له، أمام منافسيه، سواءاً في انتخابات 1954، أو في الانتخابات البلدية، ثم قام بمهرجان محردة عام 1954 وحضره أكثر من 35 ألف فلاح معظمهم من الأقليات، وحرض فيه الفلاحين على الملاك.
وبسبب إصدار عبدالناصر لقرارات التأميم عام 1961، اعترض وزير الاقتصاد في الإقليم السوري حسني الصواف، على أساس اختلاف الأوضاع في سوريا عن مصر، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى الحد من نشاط القطاع الخاص السوري، مما أدى لإقالته من منصبه، كما أدى تأميم المصارف والشركات المساهمة والشركة الخماسية المتعددة النشاطات، إلى أضرار كبيرة بالاقتصاد السوري، كونه يقوم أساساً على التجارة منذ القدم، كما كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي في 27 سبتمبر 1958، واستيلاء الدولة على 586 ألف هكتار من أصل 8.5 مليون هكتار، حيث شمل الإصلاح 3240 مالك يملكون 94 ألف هكتار مروري، ومليون وأربعمائة ألف هكتار بعلي، لكن لم توزع الدولة على الفلاحين سوى (116) ألف هكتار ، وبقى القسم الآخر دون استثمار، كما لم يستطع الفلاحون الذين أخذوا الأراضي بموجب الإصلاح الزراعي، من استثمار الأراضي المعطاة لهم، كما لم تستطع الحكومة مساعدتهم، حيث أعطيت لكل واحد مساحة قدرها ثمانية هكتارات مروي أو ثلاثين هكتار بعلي، وكانت نسبة الأراضي التي شملها الإصلاح تشكل 29% بينما الملكيات الصغيرة 15% والمتوسطة 33%، وللدولة 22%، لم يشملها الإصلاح الزراعي، وأثبتت الوقائع العملية أن الإصلاح الزراعي قد أرجع سوريا خطواط كبيرة إلى الوراء، بالرغم من كل ما ادعاه الحوراني عن فوائده، فكان من أهم الآثار السلبية لتطبيقه خلال الوحدة:
1- كان تطبيقه مماثلاً لما تم في مصر، بحيث لم يأخذ خصائص الأوضاع السورية، وخصوبة التربة في سوريا.
2- لم يحصل على الأراضي المستولى عليها سوى ثلث الفلاحين أما الباقين فقد حرموا من هذا الحق.
3- قاطع الملاك لجان مصادرة الأراضي، واتجهوا للمحاكم، وفكوا أجهزة الضخ في الأراضي المروية، وحولوها لأراضي بعلية ليتمكنوا من أن يحتفظوا لأنفسهم بمساحة أكبر من الأراضي، فتقلصت رقعة الأرض المروية في سوريا بشكل كبير، ومن ثم تقلصت رقعة الأرض الزراعية في سوريا كلها بشكل عام.
إضافة لما حدث من جفاف خلال سنوات الوحدة الثلاث، ونزوح الفلاحين للعمل في المدن أو في الدول المجاورة، فكان المواطن السوري لأول مرة يهاجر من سوريا طلباً للرزق منذ الحرب العالمية الأولى، وأصبحت سوريا تستورد ما كانت تصدره من القمح والشعير وغيرها من المنتجات الزراعية، وحلت الاحتكارات المصرية محل شركاء سوريا التجاريين السابقين لبنان والعراق وفرنسا ....، وأصبحت سوريا مضطرة إلى استيراد كميات كبيرة من السلع المصرية الرديئة مقابل صادراتها الجيدة، كما استمر السوريون يدفعون رسوم جمركية على صادراتهم من مصر كما كانوا قبل الوحدة، وانخفض سعر الليرة أمام الجنيه المصري، رغم أنها كانت أضعاف قيمته، واستغلال المسؤولين في عهد الوحدة لموارد الإقليم السوري إضافة إلى مساوئ البيروقراطية المصرية العقيمة التي أعاقت تنفيذ القرارات الاتحادية، مما أدى إلى انتشار البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة، وكانت هذه الأشياء من أسباب استقالة الوزراء السوريون من الحكومة المركزية، ويحدد أحد هؤلاء الوزراء وهو أحمد عبدالكريم أن أسباب استقالتهم كانت:
1- قرار تنظيم الاستيراد الذي أقره المجلس التنفيذي السوري ورفض عبدالناصر التوقيع عليه، والتهجم على هذا القرار والمسؤولين السوريين من قبل النظام الحاكم.
2- قانون العمل الموحد الذي يلغي الحرية النقابية، وتسلط المباحث والاتحاد القومي على النقابات.
3- تأخير بعض المشروعات الأخرى كتعديل الاتفاقية مع شركة التايلاين وعرقلة تنفيذ الاتفاقية التنموية الاقتصادية مع الاتحاد السوفياتي.
4- التدخلات في لبنان، وإنفاق الأموال الطائلة على هذا التدخل، دون عرض الموضوع على الوزراء السوريين، وحصر قضايا مشاكل لبنان على عبدالحميد السراج، والذي عين وزيراً للداخلية ومسؤولاً للمخابرات والاتحاد القومي.
5- عدم وجود وزير للصناعة من السوريين، وتركيز منح الرخص بإقامة المصانع الجديدة في القاهرة.
6- عدم إرسال البعثات الدراسية للدول الاشتراكية، واستدعاء من كانوا يدرسون فيها.
7- التمييز بين المعلمين السوريين والمصريين، وتوظيف المعلمين المصريين في سوريا على حساب المعلمين السوريين فيها.
8- عزل سوريا تماماً عن الأقطار المحيطة بها بشكل خاص، وعن العالم بشكل عام، مما أدى لإغلاق الكثير من الأسواق العربية في وجه المنتجات والصناعات السورية، وانقطاع الصلات الفكرية تماماً مع هذه الأقطار.
وقد أدت استقالة الوزراء السوريون في الحكومة المركزية إلى إحداث خللاً في الحكومة بحيث أصبح معدل الوزراء السوريين في الحكومة 1/7 رغم أن عدد سكان سوريا يقترب من ثلث عدد سكان مصر، وكان لذلك تأثيراً سيئاً على الشعب السوري ، لذلك بعد وقوع الانفصال بقيادة المقدم عبدالكريم النحلاوي في 28 سبتمبر 1961، أيد الانفصال معظم وجوه المجتمع السوري، وطالبت حكومة معروف الدواليبي علم 1962 بإلغاء قانون الإصلاح الزراعي وإعادة الأراضي المستولى عليها لأصحابها وأيد البرلمان هذا القرار، وبسبب ذلك عمل النظام المصري على تشويه صورة رئيس الحكومة ونعته بالمرتشي من قبل النظام العراقي، وكان لذلك تأثيره على المقدم عبدالكريم النحلاوي، مما حذا به إلى القيام بانقلابه الثاني في عام 1962، وبعد ذلك تشكلت حكومة بشير العظمة وانقسم أعضاءها بين مؤيد ومعارض للإصلاح الزراعي والتأميم ، الذي تم خلال الوحدة بشرط تعويض المتضررين، وبعد تشكيل خالد العظم دعت إلى إبقاء ما تم من إصلاح زراعي وتأميمي مقابل تعويض المتضررين وفتح صفحة جديدة في العلاقات الاجتماعية،ورغم ذلك اشتدت هجمات البعث وطالبوا بتأميم الشركات الصغيرة، مثل ما فعل هاني الفكيكي عضو القيادة القطرية لحزب البعث العراقي حيث قام في عام 1962 بزيارة مدينة السويداء، ودعى لإضراب ضد شركة كهرباء خاصة تعود لصغار المساهمين وتتقاضى أسعاراً معينة مقابل خدماتها، واشترك الطلاب في هذه الإضرابات، مما حذا بالنظام أن يقوم بحملة اعتقالات واسعة، ومهما يكن من أمر الإصلاح الزراعي أو التأميم ومهما كانت الأسباب في اللجوء إليهما ، فإن هذا لا يبرر اللجوء إلى وسائل سرقة أموال الناس لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين ومثله في ذلك مثل الوصول والسعي إلى الرقي والتقدم باعتباره غاية شريفة لكن لا يبررها سلك طريق الرشوة والسمسرة، لكن في الأنظمة العسكرية والديكتاتورية يعمدون إلى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وهو مبدأ ميكافيلي، تلجأ إليه هذه النظم سواءاً كانت يمينية كالنازية أو الفاشية أو يسارية كالشيوعية، ولكن تبقى الحقيقة أنه لا يمكن تحقيق الغاية إلا بوسائل شريفة، لأن الوسائل السيئة لن تؤدي إلى غايات شريفة مهما حاول المرء ذلك.
وقد اتبعت حكومة الوحدة الوطنية لخالد العظم عام 1962 والذي سيطر حزب الأكثرية (الشعب) على أكثر الحقائب بالنسبة للأحزاب الأخرى، وبدأ الوضع يستقر خاصة بعد أن حددت الحكومة ماهية الأسس التي سيكون عليها المستقبل الاقتصادي والسياسي والتنموي لسوريا، بعد خطاب رئيس الحكومة خالد العظم * في 21 ديسمبر 1962، وإزالة كل العوائق التي تكبل الاقتصاد السوري ونموه، وبالتالي عقدت الفعاليات الاقتصادية مؤتمراً لها في حلب بتاريخ 19 نوفمبر 1962، وأصبح من المأمول فيه عودة رؤوس الأموال التي هربت في زمن الوحدة إلى الخارج، وتحسن الاقتصاد فزاد الدخل القومي 350 مليون ليرة وأصبح في أقل من سنة مليارين وسبعمائة وخمسون مليون ليرة، بسبب ما أصاب الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري من تحسن، وزادت قوة النقد السوري، وحدث استقرار اقتصادي ،لكن ثمة نظرية تقول إن زيادة الدخل القومي في الدولة ستؤدي إلى حدوث عدم استقرار سياسي، وهذا ما حدث بالفعل بعد النشاط الاقتصادي الكثيف قبل انقلاب زياد الحريري في8 مارس 1963، وهذا مما ساهم في الانقلاب نفسه، وخاصة بعد وصول البعث إلى السلطة بعد انقلاب أمين الحافظ في 7 أغسطس 1963، فاتخذ نظام أمين الحافظ مراسيم وقوانين تأميم للشركات المساهمة الصناعية والزراعية التي عادت بعد الانفصال إلى مواقعها، مما أدى لاندلاع إضراب عام واشتباكات دامية، وأصدر النظام أحكاماً بإعدام 400 شخص، ومصادرة ممتلكات اثنين وعشرين تاجراً، وتسعة وستين مخزناً من مخازن سوق الحميدية التي تقدر كل واحدة منها بملايين الليرات، كما عمد النظام إلى إنهاء الإضراب بالقوة بتحطيمه لأقفال المتاجر المغلقة بالمطرقة، ثم عمد النظام إلى تنظيم مظاهرة مؤيدة للتأميم ، وهذا ما يحدث عادة في الأنظمة العسكرية الديكتاتورية، وخطب الرئيس أمين الحافظ في المظاهرات قائلاً: " سنسحقهم، سنقتلهم باسم الشعب، لقد قتلوا من جنودنا، وجرحوا ضباطاً، وقتلوا من العمال، وسنعمل السيوف قريباً في رقابهم .... ستسحقون هؤلاء المتآمرين بأحذيتكم"،وبسبب ما اقترفه النظام بحق الشعب أضرب المحامون في كل أنحاء سوريا، فخطب الرئيس أمين الحافظ موجهاً خطابه لهم : " إنهم سينالون عقاباً حتى يتعلموا كيف يكون الحق، وكيف يكون الوقوف إلى جانب الحق " ، ثم حمل على المواطنين والإخوان المسلمين ووصفهم بالعملاء، فاندلعت الصدامات المسلحة في إبريل 1964 بسبب الاستيلاء على الأراضي وقامت مظاهرات ، في حلب ودمشق وحمص وحماه، ضد إجراءات النظام، لكن نظام أمين الحافظ أخمد المظاهرات بكل عنف، بعد أن فشل في جميع الخطط الاقتصادية التي اتبعها، وحدث إفلاس اقتصادي كبير، وتقلص الإنتاج الصناعي، وانخفاض قيمة الأسهم، وتسريح عشرات آلاف العمال، وهروب معظم رؤوس الأموال إلى الخارج ويقدر بـ 600 مليون ليرة، بين عامي ( 1963 و 1965)، فاستغل قائد الأركان صلاح جديد هذه التناقضات وعمل للسيطرة على الجيش والحزب، كما دعم زعيم الحزب الشيوعي خالد بكداش هذه الإجراءات، وعندما رأت القيادة القومية لحزب البعث، ما أصاب الاقتصاد السوري بسببها عمدت إلى إلغاء قوانين التأميم والإصلاح الزراعي وتشجيع الاستثمار، والعودة للسوق الحرة، حيث طالب رئيس الوزراء صلاح الدين البيطار بالاشتراكية على النمط الغربي، بدلاً من الشيوعية، مما حذا بالاتجاه اليساري في حزب البعث بالتعاون مع الشيوعيين لتنظيم مظاهرات، احتجاجاً على قرارات الحكومة،وكان لهذا مساهمة في انقلاب صلاح جديد في 23 فبراير 1966، فكانت محاولة العودة بالنظام إلى وضع ما قبل 8 مارس 1963 مستحيلاً بالنسبة له بعد أن فرض الرقابة على رؤوس الأموال، وأغلق المصارف الحرة، وأمم البنوك، ومصارف التأمين الاجتماعي، وتقليص الملكية الزراعية إلى 35 هكتار فقط بعد أن كانت في زمن الوحدة 80 هكتار من الأراضي المروية ، وتأميم الشركات، وقرارات نظام الرقابة على الصرف، تلك الإجراءات التي أدت إلى انخفاض مستوى تطور الاقتصاد الصناعي والزراعي وسوء أوضاع العمال والفلاحين بشكل كبير، وهجرة الفلاحين للمدن من أجل العمل، وانخفاض رواتب العمال، وانتشار البطالة، وتكدس البضائع والمنتوجات في مستودعات التجار لعدم وجود أسواق لها، وتجميد التجارة الداخلية بشكل كبير، وهجرة مائة ألف مواطن إلى خارج البلاد، بحثاً عن العمل، خاصة بعد أن أصدرت حكومة صلاح البيطار قوانين تأميم الشركات الخاصة بكل أنواعها مثل القانون رقم 129 القاضي بحق الدولة تأميم أي مؤسسة تراها مناسبة، وهذا ما يفسر سقوط الحكومات التي شكلها البيطار أو التي تشكلت في ظل حكم الرئيس أمين الحافظ.
وبعد سقوط نظام أمين الحافظ إثر انقلاب صلاح جديد في فبراير 1966، أخذ يدعي أنه سيقوم بخطة تنموية أهدافها معاداة الرأسمالية والإمبريالية العالمية، وتعبئة قوى الشعب الفلاحية والعمالية للقيام بثورة علمية تحل محل الأيديولوجيا القومية أي تطبيق الاشتراكية العلمية الماركسية، لكن في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي وجود للسلطة العمالية والفلاحين في ظل هذه الإجراءات، لأن تطور رأسمالية الدولة في ظل هذا النظام اتجه نحو رأسمالية تابعة استنزافية غير تنموية تنهب بلدانها بالتعاون، والتنسيق مع الرأسمالية العالمية في الخارج والتي تكفل استمرارها باعتبارها جزءاً من شروط إعادة إنتاجها على الصعيد المحلي والعالمي، حيث أصبحت السلطة منذ ذلك الوقت سلطة دولة مرسملة، في مجتمع غير رأسمالي تتبع النظام العالمي، وتمنع تقدم المجتمع نحو ثورة رأسمالية تامة على النمط الغربي، كما تمنعه في نفس الوقت من الاتجاه نحو نظام شيوعي على النمط السوفياتي أو الصيني أو الكوبي، فسيطر جزء من الطبقة الوسطى وهي الطبقة العسكرية على المجتمع مسخرة الطبقة البرجوازية لخدمة مصالحها من خلال اندماجها بها، بينما بقيت الطبقة العمالية كما هي وازدادت بشكل كبير، من خلال سيطرة نمط الإنتاج الثانوي التابع عليها، والذي يتحدد إنتاجاها بحاجات نمط الإنتاج العالمي، من خلال سعيه لخلق شروط رأسمالية مناسبة من أجل إعادة إنتاجه في البلدان التابعة له، ومنها سوريا في ظل نظام صلاح جديد وما بعده، والتي أصبحت ترتبط بنمط إنتاج سياسي كومبرادوري، طبقته السياسية، هي السائدة والمهيمنة على الدولة، وهي نفسها الدولة المرتبطة بالخارج بشكل جذري، وبالتالي فإن هذا النمط من الإنتاج سيعيد إنتاج نفسه مادامت الرأسمالية العالمية بحاجة إليه، وما دامت آليات إعادة إنتاجه موجودة بصورة أساسية، وتخضع لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى، ويكون دور القوانين الاقتصادية فيها ثانوي مساعد فقط ، وعلى هذا الأساس ظهر الصراع بين تيار صلاح جديد وتيار حافظ الأسد الذي بدأت قوته تزداد بعد تعيينه وزيراً للدفاع وآمراً لسلاح الجو، فكان صلاح جديد يرى إعطاء الطبقة الوسطى السياسية الحق في المشاركة ببعض القرارات في السلطة من خلال الهيئات الحزبية المختلفة، لكن رأى الأسد ضرورة بقاء طبقة الدولة هي المقررة للسلطة، ولها وحدها حق اتخاذ القرارات على كافة المستويات، ومهمة الطبقة الوسطى هو تقديم الكوادر المنفذة لقرارات الطبقة العليا، ولا يحق لها الاعتراض عليها مهما كانت صفتها، بالرغم من أن حافظ الأسد وصلاح جديد كلاهما من نفس الطبقة الوسطى التي تحالفت مع الطبقة الوسطى المدينية، وتحولت لطبقة سياسية تدين بدورها وثرواتها، وصعودها للسلطة التي تملكها، لكن هذه السلطة انتمى إليها حافظ الأسد وصلاح جديد من موقفين مختلفين هما:
1- تيار صلاح جديد، ينظر إلى الأصول الاجتماعية التي أتت منها طبقته السياسية، ويحاول إجبار طبقته على الوقوف عند حد التطور الذي وصلت إليه، بحيث يحاول منعها من استكمال تطورها نحو طبقة دولة تمتلك سلطة مرسملة وتابعة بشكل أكبر.
2- تيار حافظ الأسد، يرى ضرورة تطور الطبقة الوسطى السياسية إلى طبقة منفصلة عن الدولة، بمتابعة تطورها إلى طبقة دولة تمتلك سلطة مرسملة وتابعة، من خلال إنتاج جهاز إعادة إنتاجها، وعليه يتوقف استقرارها واستمرارها، لذلك يرى ضرورة استمرار قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وتقييد النشاطات السياسية كافة من خلال التقييدات القانونية والعملية الكثيرة.
لكن اتفق التيارين على تغيير هيكلية الإدارة البيروقراطية بحيث تمتلئ من أتباع البعث فكلف صلاح جديد، أحد المسؤولين في البعث وهو خالد الجندي ، بتشكيل ما سمي بالكتائب العمالية المسلحة، وهي عبارة عن عناصر عسكرية من اللواء السبعين المدرع، ونزلوا إلى الشوارع رافعين شعار تصفية أعداد الثورة، فعملوا على طرد معظم الموظفين من وظائفهم بحجة أنهم برجوازيين، وخطب فيهم خالد الجندي قائلاً: " لقد طردناهم، وحجزنا حريتهم فاضطروا لتقديم استقالاتهم، وقدموا ضمانات بأنهم لن يحاولوا العودة إلى أعمالهم، ومن يخالف فسوف يتعرض لعقوبة الإعدام " ، وكان الهدف من ذلك ملء هذه الشواغر بمؤيدي صلاح جديد وخاصة من القرى ، بعد ازدياد عددهم إلى الضعف أو أكثر، وازدياد الهجرة من قراهم إلى المدن، مما كان لذلك مضاعفات اقتصادية وديموغرافية سيئة، وناقلة معها التناقضات الاجتماعية والطائفية في الريف، وهذا ما يفسر ارتباط الديمقراطية بالقوى المدينية، وعسكرة المدن بالريفيين الذين وجدوا الانتساب إلى الجيش الطريقة المثلى والأسرع للارتقاء في السلم الاجتماعي والسياسي وللانتقال من العموميات إلى الخصوصيات، رغم أن البرلمانات كانت على الدوام تنقد ذلك النظام الاجتماعي، الذي كان سائداً، وتعتمد على صوت الناخبين المدينيين والريفيين لتصل إلى البرلمان والحكم، لكن الريفي العسكري الذي ادعى أنه يحمل مشروعاً قومياً صادقاً، عمل على حل الديمقراطيات وإبعاد الأحزاب والتنكيل بها، كونه يؤمن بإخضاع الآخر، ولا يرضى بالمجادلة، فألغى المؤسسات الموجودة في النظام القديم، تلك التي كانت تميزها المنافسة الحرة لمستقبل البلاد وموضوعاتها، بصوت عال ومسموع، لكنها أصبحت في ظل حكم الريفي العسكري، ساكنة هادئة، وتفسير ذلك أن الريفي يحب أن يرى الناس كلهم على شكل ولون وصوت وهدف واحد هو الصوت والهدف واللون والشكل والذي يحدده، مصوراً أن الإقطاع الذي كان يضربهم بالكرباج (رغم أن هذه الحالة كانت نادرة جداً ولم توجد في المجتمع السوري كظاهرة عامة مثل مصر).
فأصبح العسكري هو الذي يضرب المدنيين في فروع الأمن والجيش بدون أدنى رحمة، ونسي أن المدينة هي التي قادت البلاد نحو الاستقلال، وأن معظم عملاء فرنسا كانوا من الريفيين ، الذين كانوا يقمعون الشعب بالتعاون مع سلطات الانتداب، ولم يكن الخراب والفساد الذي أصاب الاقتصاد والإدارة والتعليم والقضاء والجيش سوى بسبب وصول هؤلاء الريفيين إلى السلطة، حتى أن العمل الأدبي تحول في ظل حكمهم إلى شعارات سياسية صيغت لتردد من قبل الجماهيري فقط .
وبعد أن استكمل صلاح جديد تطبيق الإصلاح الزراعي والتأميم حتى شمل المشروعات الفردية والخاصة، حدثت البطالة بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا، وشلت حركة التصنيع والزراعة، ورغم الإدعاء بالاشتراكية إلا أن النظام استمر بمعاملاته التجارية مع الدول الغربية بشكل أكبر بكثير من الدول الشيوعية وعملت السلطة على تشجيع البرجوازية الخدمية الغير منتجة، والغير قادرة على حل مشكلة البطالة، فكانت السلطة يمينية عملياً لكنها يسارية قولاً، بتشجيعها وتعاونها مع البرجوازية الخدمية، ومحاربتها البرجوازية الصناعية والزراعية المنتجة، ومصادرة أملاكها بالرغم من أنها كانت تعمل على خدمة الاقتصاد، والشعب والدولة، وهذا أدى إلى تدني مستوى المعيشة بشكل كبير، وازدياد البطالة، مما حذا بهؤلاء الذين لا عمل لهم إلى الانخراط في العمل داخل أجهزة القمع من جيش وشرطة وغيرها وبالتالي تعزيز سلطة النظام القمعية.
وهكذا تحول التأميم والإصلاح الزراعي إلى سببين لانخفاض إنتاجية الزراعة وتحويل الصناعة من ميزة إلى عبء على كاهل الاقتصاد الوطني، نتيجة للأعباء التي ألقتها على عاتقها الإدارة الجديدة التابعة للدولة، والتي تجهل أصول العمل الإداري ، وتعيشه بمعايير سياسية، فتضخم الجهاز الإداري غير المنتج على حساب العمل المنتج من خلال زيادة العلاقات المتشعبة في ظلها بشكل كبير، فكان الهدف من الإصلاح الزراعي والتأميم من خلال هذا التحليل هو الوصول إلى رسملة الدولة، وإعادة بنية المجتمع وفق تمايز طبقي هو إنشاء مجتمعان في الدولة هما :
1- مجتمع سياسي يتكون من السلطة وطبقاتها المحدثة.
2- مجتمع اجتماعي قوامه المجتمع القديم بطبقاته المفككة المفتقرة إلى وعي سياسي خاص بها وتغيرات سياسية متبلورة تمثلها، وهذا أدى إلى احتواء أكبر عدد ممكن في صفوف الدولة، وأجهزتها وإداراتها ومعاملها، لشل حركة القوى التي تهددها، وهي قوى المجتمع الحقيقية وطبقاتها العاملة، فكان الهدف هو تعطيل الطاقات الداخلية، وليس تفعيلها، زد على ذلك إخضاعها لرقابة دائمة ترصد حركاتها وسكناتها، وتبلور وعيها السلطوي المعادي لمجتمعها وترسم دورها بطريقة تخضعها في خدمة قيادة السلطة.

ويبقى الصراع الطبقي عاملاً مهماً أثر على الاستقرار السياسي في سوريا منذ الاستقلال وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، رغم أنه في بداية كل عهد ديكتاتوري لابد أن يكون أفضل من المراحل التي تأتي بعد ذلك، فعلى سبيل المثال قام حسني الزعيم بتخفيض أسعار المواد الغذائية، ورفع رواتب العسكريين والمدنيين، لكنه ما أن استقر بالحكم حتى فرض ضرائب جديدة ووضع دخل البلاد في خدمة الجيش وتبقى المشكلة الرئيسية للمجتمع السوري للتقليل من الهوة بين الطبقات وتقليل حدة الصراع الطبقي، بإيجاد تنمية اقتصادية حقيقية على أسس موضوعية تراعي خصوصيات المجتمع السوري، ولاشك أن تجربة الديمقراطية قد أثبتت على الدوام نجاعتها في تحقيق هذا الهدف بالرغم مما أصابها من نكسات على أيدي الديكتاتوريات العسكرية، وهذا ما يفسر ازدياد هجرة أفراد الشعب السوري إلى الخارج في ظل غلاء المعيشة ، إضافة إلى البطالة التي وصلت إلى درجة لم تصلها سوريا من قبل والتضخم الذي فاق كل المراحل السابقة.

المراجع :
• محمد العزالي، "حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي"،(القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1998).
• يوسف الحكيم، "سوريا والعهد الفيصلي"، مصدر سابق ذكره، ط2، (بيروت: دار النهار للنشر، 1980)
• عز الدين دياب، "التحليل الاجتماعي لظاهرة الانقسام السياسي في الوطن العربي" ، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1993).
• محمد سهيل العشي،"فجر الاستقلال في سوريا: منعطف خطير في تاريخها"، (بيروت: دار النفائس، 1999).

• شفيق عبدالرازق السامرائي، " المشرق العربي " ، بغداد ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، 1980
• غسان سلامة وآخرون، "المجتمع والدولة في المشرق العربي المعاصر"، ط2، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999).

• خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، ط2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996).

• نيفين عبدالمنعم مسعد، "الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي"، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية في جامعة القاهرة، 1988).
• جاك ووديز، "الجيوش والسياسة"، ترجمة : عبد الحميد عبد الله، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1982).
• عادل مختار الهواري، "الصفوة السياسية في الشرق الأوسط"، (القاهرة: مكتبة نهضة الشرق، 1984).
• محمد حسين ، "الصراع الطبقي في مصر منن 1945 إلى 1970"، (بيروت: دار الطليعة، 1971).
• سامي أيوب، "الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، 1922-1958"، بيروت، دار الحرية للطباعة والنشر، 1968،
• خيرية قاسمية،، "الرعيل العربي الأول: حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة"، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1991).
• عز الدين دياب، "أكرم الحوراني كما أعرفه"، (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 1998).
• هنري لورانس، ، "اللعبة الكبرى: المشرق العربي والأطماع الدولية"، ط2، (بنغازي: دار الكتب الوطنية، 1993).
• أسعد الكوراني، ، "ذكرات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت"، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 2000).
• بيير بوداغوفا، "الصراع في سوريا 1945، 1966"، ترجمة ماجد علاء الدين وأنيس المتني، (دمشق: دار المعرفة، 1987).
• باتريك سيل، "الصراع على سوريا: دراسة للسياسة العربية 1945 – 1958"، ترجمة: سمير عبده ومحمود فلاحة، (بيروت: دار الكلمة للنشر، 1980).

• ديفيد وليش، "سوريا وأمريكا"، (ليما سول (قبرص) :، دار الملتقى للطباعة والنشر، 1985).
• أمين أسبر، "تطور النظم السياسية في الشرق الأوسط"، (القاهرة: مكتبة نهضة الشرق، 1984).
• أكرم الحوراني،"مذكرات أكرم الحوراني"، 4أجزاء، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000).
• بشير فنصة،"النكبات والمغامرات: تاريخ ما أهمله التاريخ من أسرار الانقلابات العسكرية في سوريا"، (دمشق: دار يعرب، 1996).
• هاني الفكيكي، "أوكار الهزيمة: تجربتي في حزب البعث العراقي"، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 1993،
• محمود رياض ، ، "مذكرات محمود رياض"، جزأين، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1986).
• سمير عبده، "حدث ذات مرة في سوريا"،(دمشق: منشورات دار علاء الدين، 2000).
• أنتونج ناتنج، ، "ناصر"، ط2، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1993).
• صلاح العقاد، "المشرق العربي 1985-1958: العراق، سوريا، لبنان"، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية ومطبعة الرسالة، 1966).
• عبدالسلام العجيلي،، "ذكريات أيام السياسة"، ج2، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 2000).
• محمود صادق، "حوار حول سوريا" ، (لندن: دار عكاظ، 1993).

• أريل شارون،"مذكرات أرييل شارون"، ترجمة: أنطون عبيد، (بيروت: مكتبة بيسان، 1992).
• شاهد على العصر، أمين الحافظ http://www.Aljazeera.net

• www.syria gate.com/ nihadsirees/ Josiah/ mak-002.htm/

• حبيب عيسى، "السقوط الأخير للإقليميين في الوطن العربي"، بيروت، دار المسيرة، 1978
• سعد جمعة، "مجتمع الكراهية"، (عمان، الأهلية للنشر والتوزيع والإعلان، 2000).
• سامي الجندي، "البعث"، (بيروت، دار النهار للنشر، 1969).



#عزو_محمد_عبد_القادر_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائفية والعرقية ودورهما في عدم الاستقرار السياسي في سوريا
- دور الجيش في عدم الاستقرار السياسي
- انقلابات عسكرية هزت استقرار سوريا
- عدم الاستقرار الحكومي ( الوزاري ) في سوريا
- العوامل الخارجية المؤثرة على الاستقرار السياسي
- انقلابات عسكرية فاشلة لكنها أدت لعدم استقرار سياسي في سوريا
- الصراع البريطاني الأيرلندي على أيرلندا الشمالية بين عامي 198 ...
- السيرة الذاتية لحكام السودان منذ المهدية حتى الآن
- مفهوم عدم الاستقرار السياسي في الدولة
- أثر التمايز الاجتماعي في عدم الاستقرار السياسي في الدولة( ال ...
- مفهوم عدم الاستقرار السياسي
- دور الجيش في عدم الاستقرار السياسي في الدولة
- علاقة صندوق النقد الدولي بالمؤساسات الاقتصادية الدولية
- الفقر فى أفريقيا: أبعاده والإستراتيجيات الموضوعة لإختزاله (ا ...
- من أجل وحدة الوطنية و استقرار السياسي


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عزو محمد عبد القادر ناجي - العامل الاقتصادي والطبقي ودوره في عدم الاستقرار السياسي في سوريا