إذا كان ثمة مربع ذهبي حقاً لحركة الحداثة الشعرية العربية ، فإن بلند الحيدري هو بالتأكيد الضلع الأهم ، بل وحجر الأساس في هذا المربع ، وان هذا الكلام ليس جزافاً ، إنما نتيجة لكون الرجل أول رواد هاتيك الحداثة على الاطلاق ما يشهد له تاريخ صدور أول ديوانه له..
إذان خفقة الطين . ديوان بلند الأول ، هو إصدارات الرعيل الأول في العام 1946 ، وهو ليس أوراق اعتماد شاعر واحد في دنيا الحداثة فحسب ، بل إنه وثيقة رياديّة لرعيل كاملٍ ، بل لحركة الحداثة برمتها .. حيث ان المجموعات الشعرية الأولى بدأت تتالى بعد هذا التاريخ ، إذ صدر ديوان : عاشقة الليل لنازك الملائكة – كما يقول بلند – في أوائل الشهر الثالث من العام 1947 ن بينما تأخر صدور ديوان السيّاب الأول إلى أواسط العام نفسه .وعلى الرغم من كون خفقة الطين - باكورة ابداعات الشاعر ، فهو كذلك تأسيس لهذا الضرب من الشعر ، دون أن يسبق بأنموذج محتذى به ، على غرار ماقامت به الاسماء اللاحقة ، إلا انّه يخلو من ارباكات اية بداية أو خللها ، بل انه ينم عن تجربة عميقة ، ونضوج واضح لأدوات الشاعر وعدم كون هذا الانتاج طفرة مفاجئة في مجال الابداع , وانما تتويج لمرحلة سابقة من الاشتغال الدؤوب على الكلمة الشعرية , وقد تبدو اهمية هذا الانتاج . الان وباكثر ـ اذا ادركنا معاً , انه قد صدر في الوقت الذي وضع فيه بلند رجله على اعتاب العشرين من عمره ...! " رغم ان اترابه جميعاً من مواليد 1926 حيث تمت تسمية هذا العام بعام العبقرية العراقية " كما يقول فضل النقيب .. يمكن اعتبار بلند الحيدري على الرغم من دوره الريادي شاعراً تجريبياً أيضا , إذ ظل يكتب القصيدة العمودية ،بالاضافة إلى كتابته لقصيدة التفعيلة ، إلا انه يرفض قصيدة النثر ، وإنها برأيه " ليست اكتشافاً ، فسبقتها كتابات أبي حيان والنفري " وكان يرى ان اتباع أدونيس من عديمي الموهبة هم الذين خلقوا هذه الفوضى " ...
لقد كان بلند مترفعاً عن السفاسف , مشغولآ بالتحليق في الفضاءات الأرحب والأعلى ,وتقديم ماهو افضل ،اذ يعلن تارة حين لاتاتي صنا نيره بالدرر الثمينة التي يستأثرها ،أنه سيطلق الشعر ، الذي خذلته رباته ، بيد انه سرعان ما يصالح شياطين الشعر ،حين تظفر أصابع روحه بقصيدة جديدة .
منذ نعومة أظفاره بدا بلند شاعرا استثنائيا في شعره , وحياته في آن واحد , لقد تمرد قبل كل شي على سلطة الأب البطريركية ،اذ يقول بهذا الصدد,لم أكن أفهم أبي ،ولم يكن يفهمني فنركت القصور ،بل أن نزعة التمرد استفحلت باكثر ,ليحطم أعراف أسرته ... ويعمل ذات مرة كاتب عرائض أمام مبنى الوزارة التي يرأسها خاله بل أن غلوهذه النزعة د فعه ليفتتح مقهى لجماعة الوقت الضائع , يلتقي فيه المارقون ليكون ملاذا لهم ( على حد قول الشاعر سعدي يوسف ) . كي يتحاوروا فيه , الى أن تم أغلاقه . لم يعرف الشاعر الهدوء . والاستقرار قط . على الرغم مما كان يبدو على سيمائه من سكينة أو هدوء ,بل أن اتون القلق المشتعل في ذاته ,ظل على ما هو عليه حتى اللحظة الأخيرة التي عاشها ,إذ تنقل الشاعر منذ طفولته الأولى وحتى وفاته في مشفى – بروميثون – في نيويورك بين مدن عراقية ، وعربية وأجنبية كثيرة ، رغم ان تأثير بعض تلك المدن ظهر اكثر في تجربته الابداعية ، والشاعر كان وفياً لمدنه جميعاً إذ كتب قصائد كثيرة في بيروت جاءت بين دفتي ديوانه : ( إلى بيروت مع تحياتي ) . باكياً ملامحها التي كادت الرياح الهوجاء أن تمحوها تماماً ، متألماً على أبنائها الذين شخبت دماؤهم هدراً خلال حرب أهلية مجنونة ، لاطائل منها اليتة.
بل ان بغداد التي احتضنته ، وهو لما يزل فتى يضع قدمه فيها على اولى سلالم الابداع واستحصل فيها على ثقافة رفيعة ، رغم أنه هجر المدارس ، ولم يستسغ الجلوس على مقاعدها ، متعرفاً فيها على رموز الثقافة والفكروالفن آنذاك نالت منه الاهتمام إلى درجة الهيام . أجل لقد كتب الكثير – شعراً ونثراً – عن بغداد التي مابرح رسمها خافقة ومضة عين ... ، وظلّ يكتوي ببعده عنها ، لم تنسه إغراءات كل مدن العالم مدينته تلك التي قضى نحبه بعيداً عن ناسها ، وحاراتهاوهوائها ، وترابها ، وان ما يؤكد مثل هذا الحب هوان آخر مادة كتبها بلند في صفحته التي كان يحررها في كل عدد من إعداد مجلة – المجلة – كانت عبارة عن قصيدة وسمها ب: بغداد – يقول فيها : بغداد / تلك الفاتنة السمراء ..لماذا| ما عدت أراها / إلافي ثوب حداد / إلافي ظهر منحني / أوجلد مهري / أوشهقة أمرأة ثكلى / أودود يتوالد مابين عيون القتلى / وخرائب سود يتسكع فيها الموت / وليس فيها صمت رماد (...)/ بغداد / ماعدت أراها / إلافي سوطٍ مازال يقهقه في كفّ الجلاد ....لقد كان بلند نسيج نفسه .. فقط ، لا يشبه إلا روحه وذاته ، مدركاً تماماً اختلافه عن الأسوياء الذين يجيدون إرضاء الجميع في آن واحد ، على خلاف المبدع الحقيقي الذي يمضي حاملاً بيده جمر الإبداع . واستشهد في زاوية سابقة له على قصيدة – بغداد – وتحت عنوان ( في العلاقة مابين الجنون والعبقرية ) بفيلي بوست وافلاطون وهيغل ونيتشه وشوبنهاور ، ممن يؤكدون على ان الانسان الذي يحتفظ بعقله لايمكنه ان يقول الشعر بيد انه وفي نهاية المطاف يصل مع أ. نوكس في كتابه " النظريات الجمالية " إلى ان الشاعر ليس مجنوناً بل هومعني بقوانين العلة و المعلول و ذلك في اختيار مواده ، وترتيبها، وتنظيمها وفي طريقة توظيف فنه والتحكم فيه وهو بالتالي صحيح العقل ، متزن ، متيقظ، يفكر بتوهج ولكن بطول أناةٍ ويرى بعمقٍ وشمول "
كما كان بلند الحيدري ذا ذائقة فنية عالية ، فناناً تشكيلياً ، بل ناقداً فنياً – يعتبر مع – جبرا إبراهيم جبرا – من الأوائل الذين كتبوا – عراقياً – في هذا المجال ، بل وعمل في المجال الصحافي ، حيث ترأس تحرير عدد من المجلات العربية في العراق وبيروت ولندن ، وتعد زوجته دلال المفتي إحدى الفنانات التشكيليات المهمات .وماخلا الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري والبياتي – نجد قلةً قليلةً من الشعراء استطاعوا الكتابه مثله لبضعة عقود متواصلة ، هذا إذا عرفنا بأن مسافةً زمنيةً قدرها نصف قرن مابين سنة إصدار ديوانه الأول وآخر دواوينه (( دروب في المنفى ))الذي صدر قبل رحيل الشاعر بثلاثة أسابيع فقط ...وعن أهمية قصيدة بلند ودوره الريادي يقول بدر شاكر الثياب في 1956: ِ ِ بلند الحيدري هذا الشاعر الممتاز ,الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعتبرها واقعية ِِ ِ
ويقول عبد الوهاب البياتي في العام 1952: ِِ ِأن بلنداً شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها , وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلا شعراء قلائل من العراق ِ ِ وبصدد هذه الشهادة الأخيرة يقول د .نجم عبد الكريم : يندر أن يصدر البياتي شهادة لأحد إلا إذا كان قد أستحوذ على أعجابه وفرض عليه نفسه ِ ِ ويرى أن بلنداً لم يكن لديه من الفراغ ما يملأ به تلك السجالات التي تدور في فلك ( لمن الأولويات في ريادة الشعر الحديث ) فقد كانت الأولوية عند بلند للقصيدة وللبحث وللحضور الأدبي والفكري والثقافي , ولعمري انه قد أنتصر أيما انتصار ِ ِِ
يقول بلند فى قصيدته: حديثه للسبت القادم : في الغرفة/ ذات الغرفة/ سيمر السبت/ وبلهفة/ قد تذكرني/ قد تسال عني/ لم يات/ لن يأتي/ ويغور الصمت 00في الغرفة /- او تبكين ؟/ كلا . لكني / لا أدري / لم أشعر أن السبت حزين / لم أشعر ان البيت حزين / أشعر أني ادفن شيئاً مني / في صمتي / وبلهفة / قد تسمع صوتي / قد ترجع نبرة الحزن في صوتي / من يدري ؟/ قد لاتسمع شيء خطى الموت / وتضيع بلا حب أو لهفة /...وسيضحك في الغرفة غيري