أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - بورتريه الغرابلي














المزيد.....

بورتريه الغرابلي


أحمد الفيتوري

الحوار المتمدن-العدد: 2219 - 2008 / 3 / 13 - 06:42
المحور: الادب والفن
    


أسمر سديد السمرة قصير القامة لا تفارقه بسمة هي بياض الوجه السمح، مسبوك البدن كما رياضي، حركة دائبة كما عش نحل يسكن البدن، يداه يدا محترف يدوي الانشغال، حتى الفكر عنده مشغل، لذا كثيرا ما عبر عن فكرة بمنحوتة أو شكل لوحة وفي حين طرز منديلا ببيت شعر .
عاشق للآخر كما لو كان نفسه، وملح علي أن هذا الآخر نفس حرة تمنحه وجوده.
يختلك بهدوئه وينساب فيك كالظل، هو ليس دمثا و لا عجولا و لا علي دراية بأمره و لا يشغل نفسه بأمور الساعة، لكنه نسغ الحياة وجذوره عميقة الغور في المكان، لا يلهيه شيء عن الانسياب في الزمان حتى الوقت نفسه لا يلهيه، كأنه الحياة ذاتها ترتع في غوط الحياة .
يهدر و لا هذر، قليل الكلام كثير المعاني.
يربط ظهره بذراعيه في كثير الوقت وهو يجول في الساحة، كأنه يخاف أن ينزلق من نفسه التواقة للآخرين، لذا أسر النفوس التي عرفته والنفوس التي لم تعرفه بعد كان مؤسرا شديد الخفة علي الروح أو أنه أم رءوم وأب حنون وأخ جسور ،دون ادعاء أو تملق، لهذا كان أمره صعب المراس علي نفسه أولا وثانيا روحه وثالثا علي جسده.
- أنت لديك تليف الكبد
- أليس مرض كذا يصاب به السكارى
- نعم
كانت روحه سكرانة دائما بالحياة ومخمورة بالمحبة المركزة ، روحه من نوع الفودكا أو التاكيلا ، لم يشرب الخمر لكن هذا ما حدث؛ مصاب بتليف الكبد كان عبد العزيز الغرابلي حين شخص الطبيب محمد المفتي مرضه في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ، في العقد الثامن من القرن العشرين، حيث كان يقضي حكما بالمؤبد بدعوى انتمائه لحزب تروتسكي يهدف لإسقاط نظام الحكم .
لم ينتبه مرة أي أحد لمرضه كان ينسيك مرضك ويتسرب فيك كهواء منعش،يرسم قصائد أصدقائه ، ويصنع هداياهم لمحبوباتهم المفترضات،ويجول هنا وهناك بحثا عن أي شيء حتى ألا شيء كي يصنع هدايا لأعياد ميلاد زملائه في السجن أو أبنائهم أو أعياد زواجهم دون تفريق، لذا كان المختلف الذي لم يكن علي خلاف مع أحد .
معجون من ابتسامة دائمة لا تفارق محياه خاصة في الظرف الصعب،وهو خلائط من غضب المظلوم وحليم كمتصوف، يمشي في ساحة القسم الرابع في سجن الحصان الأسود ضحى كل يوم بتؤدة متأملا فسحة الزرقة مستنشقا رحابتها زوادة للزنزانة الضيقة التي تضمه وأكثر من عشرة أنفس، في الزنزانة يبث رحابته من تلكم الزوادة، يخترع العاب ورسوم وحكايات فيحول الزنزانة إلي فسحة زرقاء وفضاء يسع ضيق النفوس السجينة والأجساد المنهكة،ثم يستحلب مطر الذاكرة عند زملائه كي يغادر بهم المكان إلي سماء الذاكرة التي أفقها كما أفق البحر .
البياض لوحة هذا الأسمري السحنة؛ يطرز المناديل بعبارات شعرية ليهربها زملائه لمحبوباتهم، يرتق الثوب البالي ويوزع ابتسامته دون كلل، بخطه الجميل المميز يخط دروس الزملاء، عند حدة النقاش يذهب عنك كي يجئك باشا، مسرورا - بحدة – بك،ويخترع حكاية كي يستمطر ذاكرتك بما تشتهي أن تستعيد منصتا لمسرودك، يغالب جسده المريض ونفسه الموجوعة كي تخرجا معا من السجن كطيرين، مرشدا لك حين تهب ريح الحنين وتغلبك القضبان.
كنا معا في القسم الثالث في الزنزانة الرابعة، في سرير حديدي واحد هو في السرير الأعلى،نتبادل الحكايا وأسمع ما حفظ من قصائد، وأنصت دون أن ينتبه لأنين مرضه عند نومه أحيانا،وأنظر لاصفرار وجهه حين لا ينتبه وتنقشع بسمته.
بادلني قصة حبه يوم عاد من عملية جراحية أجريت له في المستشفي بشكل ضيق وعلي عجل،أخذ يقول لي هل تذكر قصيدة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن اسماعين الذي كان قد عاش حياته كلها جوعان ، هل تذكر اسماعين ذاك أنا، اسماعين بعد جوعه شبع مرة ونام تحت جميزة ومات.
شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
كان قد عاد من المستشفي وشاهد الشوارع وغيرنا من الناس، وقعد في غرفة وحده وان بحرس وكلبشة، وزاره بعض من يحب، وعامله حرس بشفقة، وتنسم هواء عليل، ووجد اهتمام من ممرضات وطبيب تشيكي: شبع مرة واحدة في حياة من خوف وجوع فنام تحت شجرة الجميز الظليلة ومات؛ اسماعين أنا .
مات عبد العزيز الغرابلي، فعلا كما ظنه، مات بعد أن عاد من المستشفي.
كنت أصارعه، نلعب كالعادة ولكن بتؤدة كي ننسى المرض والمستشفي والسجن وظنونه، فجأة تدفق دمه من فاه، عربد المكان من ألم فقد أخذ للمستشفي حيث لن يعود لزنزانته بل إلي مدينته الزاوية حيث دفن.
لم يكن الطير علي الرؤوس كان الحزن قد خيم والليل قد عسعس، لم ينم أحد في القسم الثالث في سجن الحصان الأسود في طرابلس الغرب ليلتها،ليلتها كانت النفوس مكلومة ، وفي حفل التأبين الذي أقيم عبر وصول خبر وفاته انقشع الحزن فقد استعيدت بسمة عبد العزيز الغرابلي، الجميع كانوا واحدا يرثون عبد العزيز بروح غامرة بمودة عارمة لتلك الابتسامة التي لم تفارقه مرة.



#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات سجين سياسي ليبي
- أفيون الإيمان
- من وجد أخذ .. النفط×البترول
- السوسي
- .. وليس لي .. ما ليس لي..
- عاشور الطويبى شعرية الصمت والسكون !
- • رجب الماجري:الشعر أن يبوح المرء بنفسه .
- فرج العربي : الحداثة الشعرية التي تطاردها الأشباح !
- أطالب بحق إصدار صحيفة خاصة ومستقلة
- • يوميات
- • درنة غرام لا يمكن اعتزاله!
- ليال بورتا بينيتو
- بيتزا أحمد الفيتوري
- أنت كذبي
- جيل 57 بدايات الواقعية الليبية
- آنا حبيبتي
- احذروا غات !
- محاكمة صدام الأسد
- جبران تويني أو مديح النهار.
- جمعيات ليبية لحقوق الإنسان ؟


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - بورتريه الغرابلي