أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - نفاق الغرب















المزيد.....

نفاق الغرب


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 2218 - 2008 / 3 / 12 - 11:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بنيت ثقافة الغرب الحديث بأكملها على أخلاقيات الاستقامة والصراحة والصدق والشفافية، التي يعززها الاعتراف بشرعية اختلاف المصالح بين فئات المجتمع، وشرعية الاختلاف في الاعتقادات والأراء والأفكار والآراء ووجهات النظر. وكان لهذه الأخلاقيات الجديدة الفضل الأكبر في تأسيس حياة مدنية سليمة قائمة على مباديء الحق والمساواة والعدالة والاحترام المتبادل، وفي بناء حياة سياسية ديمقراطية قائمة على التنافس النزيه ونبذ الحرب والعداون بين أفراد المجتمع الواحد وفئاته المختلفة. وبالتالي في نشوء مفهوم السياسة والوحدة الوطنية، بل وجود الوطنية نفسها كمفهوم وممارسة، وتحضر الدول، وتطور مفهومها ووظائفها، واستقرار المجتمعات. فبفضل هذه الأخلاقيات، لم يعد الإنسان فيها، فردا كان أم مجموعة، بحاجة إلى اللف والدوران والكذب والغش والخداع، أو ما كان يسمى في أدبياتنا العربية الكلاسيكة الحيلة، حتى يضمن حقه في الوجود المختلف، ويحفظ مصالحه، ولا يعرض نفسه في ذات الوقت لبطش أصحاب السلطة أو المال او الجاه. وبالعكس، كان علم الحيل والاحتيال في ماضي ما قبل الحداثة السلاح الوحيد الذي يسمح بتعديل منطق القوة ذي الاتجاه الواحد، وبإدخال عناصر أخرى، من ذكاء ودهاء وحنكة ومناورة، في معادلة العلاقات الاجتماعية والدولية وميزانها.
بيد أن ما كانت ثقافة القرون الوسطى السياسية تختزنه، في كل المجتمعات، من إرث الحيلة والاحتيال، وما سيتخذ في ما بعد خطأ اسم المكيافيلية، نسبة لذاك الذي أخرج السياسة من منطق العقيدة، وألغى بالتالي الحاجة إلى الخداع والاحتيال، وجعل منهما جزءا من خطط أكبر للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، لن يزول من الوجود. إنه سوف ينمو ويتجمع ليتحول إلى مادة أساسية في نظام توجيه الممارسة التي طبعت ولا تزال تطبع علاقة الدول الغربية بالمجتمعات والبلاد الأخرى. فعلى هذا الإرث من القيم سوف تستند الممارسة الاستعمارية التي أوقعت بالشعوب، وأدخلتها في شراكها، وأخضعتها لمصالحها واهدافها، من دون أن تتخلى لحظة في خطابها، أمام الآخرين أو أمام جمهورها، عن مديح الحرية والمساواة والعدالة الانسانية. وفي قلب هذه الممارسة القائمة على الخداع وبموازاتها يتحول النفاق إلى ممارسة كاملة، تقول غير ما تفعل، وتعلن غير ما تضمر، وتوعد غير ما تقرر. وهو يفسر وحده كيف أمكن لأصحاب المشروع الاستعماري أن يجمعوا بين خطاب الإنسية وتلك الممارسات الوحشية التي رافقت وضع اليد على أراضي القارات المختلفة، وتحويل شعوبها لعقود طويلة إلى عبيد أو ما يشبه ذلك، أي أن يجمعوا بين منطق الدفاع عن تحرر الانسانية وانعتاقها والسقوط في بربرية العنصرية والإبادة الجماعية.
لم أذكر ذلك لأكشف عن أحد مظاهر العطب والنقص الذي لا يزال يميز الحداثة ويفسر موجه الاحتجاج والارتداد العنيفة عليها وعلى قيمها في مناطق واسعة من المعمورة، وليس في البلاد الإسلامية فحسب، وأعني بهذا العطب استمرار قيام العلاقات الدولية وبين المجتمعات على أسس "ميكيافيلية"، تضعف من صدقية قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تؤسس جوهر الحداثة فحسب. ولم أذكره أيضا لأشير إلى المأساة التي نجمت عن انتقال هذا الإرث الاستعماري نفسه إلى النخب المحلية السائدة في البلاد التي استعمرت سابقا، وتبنيها له ولقيمه بالجملة. إن ما ذكرني به هو ما جري ويجري في غزة ومن حول مأساتها، والذي يشكل هو نفسه امتدادا لما جرى في المشرق العربي من ممارسات أدخلت الشرق الأوسط بأكمله في متاهة لا مخرج منها، وتهدد بتقويض أسس السلام العالمي نفسه. ولا أقصد هنا الإشارة إلى السياسات الاستعمارية القديمة التي لا تزال هنا راهنة، وإنما إلى الطريقة التي نظر بها الغرب، وأعني هنا بالغرب الحكومات والرأي العام معا، ولا يزال ينظر بها إلى المسألة الفلسطينية، التي نشأت من رميه نتائج سياساته العنصرية تجاه اليهود على العرب، وعلى الفلسطينيين منهم بشكل خاص.
فكيف نفسر، من دون هذا النفاق، نجاح إسرائيل التي ما كان من الممكن أن تقوم ولا أن تبقى، باعتراف قادتها أنفسهم، من دون احتضان الغرب ودعمه السياسي والأخلاقي والعسكري، في الاستمرار في المراوغة وتحدي إرادة الغرب الذي يدعي الالتزام بالسلام والتسوية والحل العادل للقضية الفلسطينية، وفي إحباط مبادراته، المتكررة منذ أكثر من نصف قرن، وحلوله المقترحة، ونصائح لجانه الرباعية وغير الرباعية، وفي الوقت نفسه رفض الحكومات الغربية، بما فيها الاوروبية المؤيدة كما تقول للحقوق الفلسطينية، اتخاذ أي عقوبات ضد الدولة العبرية. بل بالعكس عدم الخجل من الاحتفاء بها في المناسبات الدولية وجعلها، كما هو الحال هذا الشهر في فرنسا، ضيف الشرف على معرض الكتاب العالمي، بالرغم من ممارساتها اللاإنسانية، حسب عبارة منظمات حقوق الانسان الدولية، في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية؟ وكيف نصدق أنه، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا روسيا ولا غيرها من الدول الكبرى الصديقة والقريبة لاسرائيل، وكلها تدعي الإخلاص لقيم الحرية والعدالة والمساواة، والصداقة للعرب والمسلمين أيضا، لا تملك أن تتخذ أي إجراء لثني إسرائيل عن ممارساتها العنصرية وتشجيعها على الدخول في منطق السلام والتسوية السياسية؟
ما الذي يمكن أن نحسه غير الاحباط، وأن نفكر به غير النفاق، إزاء وعود تتكرر ولا تنفذ منذ قرن، ومبادرات سلام، أمريكية أو اوروبية، تتوالى كل سنتين او ثلاثة دون جدوى، ومؤتمرات دولية تعقد وتموت من دون اكتراث، وموائد حوار تنظم من دون ثمرة ولا إنجاز، ومشاورات عالمية لا تتوقف، ومباحثات تعددية او ثنائية يقوم بها مبعوثون مخصوصون للشرق الأوسط لا تثير حتى فضول الصحافة المحلية، ومفاوضات لا تنتج غير البيانات المنمقة التي لا تهدف إلا إلى خداع العرب وتسكين غضب الرأي العام؟ وإلى متى سيحتمل العرب مهزلة السلام الموعود، الذي أخذ الغرب ثمنه سلفا بدمج الدول العربية في الحرب ضد الإرهاب، ولهاث حكوماتهم وراء سراب حلول ومبادرات، يعرف الجميع منذ البداية، ورعاتها الغربيون أولهم، أن الهدف الفعلي لها غير الهدف المعلن، ولا تفيد إلا في إعطاء إسرائيل المزيد من الوقت لتحقيق أهدافها، مع مراعاة مصالح النظم العربية وحفظ ماء وجهها، وتصبير الفلسطينيين على جراحهم وآلامهم، بانتظار أن تتحقق الغاية، ويصبح لا مناص لهم من الاعتراف بعدم وجود أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والقبول نتيجة ذلك بما قسم لهم، أي بمجموعة من المعازل المقطوعة والمعدمة داخل إسرائيل الكبرى، حتى لو أطلق على هذه المعازل اسم دولة، وربما جماهيرية عظمى.
ثم ما الفائدة من ترديدنا التحليلات نفسها، والتذكير بالمسؤوليات، والتحذير من النتائج، مادامت سياسة الخداع والكذب والغش مستمرة، وطالما لم تدرك الحكومات ورأيها العام، في الغرب والدول الصناعية الكبرى والعالم أجمع، أن قيم الحداثة الإنسانية ليست نهائية ولكنها قابلة للارتداد، وأن خيانتها المستمرة، على أي مستوى من مستويات العلاقات الإجتماعية والدولية، ومن قبل أي طرف كان، يقود لا محالة إلى النكوص الجماعي عنها، بما يعنيه ذلك من تعميم مشاعر الشك والخوف وقيم العنصرية والعدوان، والتهديد بتوسيع دائرة حرب عالمية بدأ فتيلها يشتعل بالفعل، منذ الآن، في أكثر من بقعة من بقاع المعمورة.



#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في جذور الثقافة السلبية
- في مخاطر الاستهتار بحق المعارضة وهدر القانون
- حتى يمكن فك الحصار عن غزة
- الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية
- الجماعة والجماعة السياسية والمواطنة
- إلغاء الوصاية شرط انبعاث الشرق الأوسط
- دفاعا عن تكتل إعلان دمشق
- مستقبل المعارضة الديمقراطية في سورية
- بين العداء للغرب ومقاومة سياساته
- أنا فعلا سعيد بهذا الموقع المتميز
- تجاوز الطائفية شرط لتحرير الدولة من المافيوية
- في أصل الخوف العربي من التغيير
- معركة الحرية
- دفاعا عن الديمقراطية والديمقراطيين العرب
- الدين والسياسية في مواجهة تحديات العصر
- في شروط تجاوز الأزمة الوطنية العربية
- من العلمانية إلى العلمنة
- في أصل المصاب العربي
- من أجل علمانية إنسانية
- سياسة سورية الخارجية أو نهاية الحقبة الامبرطورية


المزيد.....




- أندر إوز بالعالم وُجد بفناء منزل في كاليفورنيا.. كم عددها وك ...
- بعدما وضعتها تايلور سويفت في كوتشيلا.. شاهد الإقبال الكبير ع ...
- طائرتان كادتا تصطدمان في حادث وشيك أثناء الإقلاع.. شاهد رد ف ...
- بعد استخدامها -الفيتو-.. محمود عباس: سنعيد النظر في العلاقات ...
- لبنان.. القبض على رجل قتل زوجته وقطع جسدها بمنشار كهربائي ود ...
- هل ستجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حرب مدمرة في الشرق الأو ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن قتل 10 فلسطنيين في مخيم نور شمس شمالي ...
- الصين.. عودة كاسحتي الجليد إلى شنغهاي بعد انتهاء بعثة استكشا ...
- احباط عملية تهريب مخدرات بقيمة 8.5 مليون دولار متوجهة من إير ...
- -كتائب القسام- تعرض مشاهد من استهدافها جرافة عسكرية إسرائيلي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - نفاق الغرب