اخيراً استسلم الدكتاتور رغم مكابراته وجرائمه ووحشيته ورفضه لكل الآخرين، متصوّراً بغباء الدكتاتوريين، ان رفضه للشعب من سمات الآلهة القديمةالتي حاول محاكاتها. لقد استسلم بعد ان كبّد العراقيين والعراقيات خسائر فادحة بالأرواح والآمال والأحلام، تاركاً عاهات مزمنة يصعب حصرها وتسميتها في النفوس والأجساد .
لقد استقبل الناس استسلامه الذليل، غير مصدقين بسهولة مارأوه، بعد ان بنت الآلام والمخاوف والأحزان واليأس، قلاعاً يعجز عن ادراكها ووصفها القلم والحديث والصورة. لقد اهان وامعن في اذلال شعبنا الطيب المعطاء طيلة خمسة وثلاثين عاماً، امضاها بالتفنن بالقتل والتعذيب والأرهاب والجريمة وتحطيم العقول .
ومهما قيل ويقال عن ملابسات استسلامه والقاء القبض عليه، الاّ انه شكّل انعطافة كبرى في واقع العراق، اطلقت الفرح والأمل والزغاريد والتكبير، باعلان واضح " لقد استسلم عميد اشقياء محلة الكرخ القديمة وعصابتهم "، " استسلم شقي الخليج والمنطقة "، وبشكل لايليق الاّ بشخصه الكريه، بعد ان تخلىّ عن العراقيين وامعن في عذاباتهم، حتى اصبحوا لايبالون باستسلامه لهم او لقوات الأحتلال .
لقد القي القبض على صدام الوحشية والجريمة والأغتصاب والوشاية والخديعة، لقد انتهى كفزّاعة ارعبت ليس العراقيين وحسب، وانما ارعبت دول المنطقة بل والعالم. لقد شكّل حتى هروبه الأخير عامل تعقيد استفاد منه الجميع الاّ اهل العراق، ورمزاً لأستمرار الجريمة والعنف والأستهتار بارواح الناس رجالاً ونساءاً وشيوخاً واطفال .
وفي الوقت الذي شكّل فيه القاء القبض عليه نهاية لتذبذب وتخوّف اوساط غير قليلة من احتمالات تناغم وتواطؤ بين الدكتاتور البائد والأحتلال، بعد ان خبرت حجم الدعم الأميركي
السابق له الذي سهّل مجيئه وبناء نظامه، فانها تنتظر ان يكون القاء القبض عليه والتهيئة الجدية لمحاكمته ومحاكمة تلك المرحلة، دليلاً على جدية انتقاد الرئيس بوش الأبن للسياسة الأميركية واخطائها في الشرق الأوسط طيلة الستين عاماً الماضية، ومؤشراً هاماً لماهية النظام السياسي العراقي القادم .
وتتطلّع غالبية العراقيين الى محاكمته في العراق علناً وعلى ايدي ذوي الأختصاص من ابنائه عربا وكرداً واقليات وعلى اختلاف طيفهم الديني والسياسي، من المشهود لهم بالوطنية والعدل والنزاهة، وان تجري التهيئة والوقت اللازم لذلك، لأكمال جمع وتصنيف وتركيز مواد الأتهام الأساسية الموجهة ضده وضد كبار مجرمي الحزب والدولة البائدة، التي اوقعت العراقيين في لجة درجات غير مسبوقة من الأرهاب والوحشية ودوّامات العنف والعنف المضاد والتمزّق والتشرذم والثأر .
ان العمل الدؤوب والحكمة والعدل وبتقدير الكثيرين، يتطلّب جمع ودراسة مستندات عديدة، لفهم وجدولة آليات الوحشية السادية الأجتماعية التي ابتلى العراق بها جرّاء الدكتاتورية، التي ابتدعت نظام الجريمة وادت الى مجتمع الأرهاب والعقوبات والتشويه والقتل الجماعي، واستخدام اسلحة التدمير الشامل التي تسببت في المجازر الكبرى في حلبجة والأهوار والأنفال، وتسببت في المقابر الجماعية، وقمع وتخضيب انتفاضة الشعب العراقي ربيع 1991 وانتفاضة الشعب الكردي بالدم، واشعال الحروب في المنطقة والتصدي وتمزيق حركة المقاومة الفلسطينية الباسلة، واضعاف وشق وحدة الصف العربي امام اعتداءات وحروب الآلة العسكرية الأسرائيلية، طيلة الخمسة والثلاثين عاماً الماضية .
ان التهيؤ لمحاكمة عادلة ونزيهة وفق الأصول والأعراف القانونية الوطنية والدولية، بعيداً عن روح التعصب وبضبط مشاعرالآلام والأحزان وبعيداً عن الثأر الذي يطمس الحقائق ويخلطها، يشكّل اضافة الى محاكمة الدكتاتور، التوصّل الى اسباب فرقة العراقيين وتحديد المسؤولين عنها، ويصون اموالهم وثرواتهم الهائلة ويساعد على الكشف عن اماكن ووسائل اخفائها وطرق ايداعها وتشغيلها، في الوقت الذي اجبرمسؤولو ومخططوا الدكتاتورية، العراقيين على عيش الكفاف والذل .
ان التهيئة لمحاكمة الدكتاتور ونظامه، تتطلّب جمع المعلومات ومنهجتها للتوصّل الى الجناة المنوّعين، والى حقيقة ومدى اجرام الدكتاتورية واطقمها، ليس في العراق وحسب، وانما في الشرق الأوسط والخليج والمنطقة العربية والعالم . ان ذلك يتطلّب القاء الضوء وكشف تشابكات مافيا صدام في اسواق النفط والسلاح والسوق السوداء واسلحة التدمير الشامل .
وسيكشف مدى تعاون وترابط الدكتاتورية مع منظمات الأرهاب الأقليمية، والدولية من القاعدة والمافيات الروسية وعصابات ميلوسوفيتش الصربية الى العصابات الفاشية والنازية والنازية الجديدة والصهيونية والعرقية والشوفينية في العالم، الأمر الذي يستدعي مشاركة خبراء عالميين مشهود لهم بالأمانة في حقوق الأنسان ومكافحة المخدرات والجريمة المنظمة وباشراف الأمم المتحدة . ولا ادلّ من تأثّر حركة اسعار الذهب والنفط في الأسواق العالمية حال الأعلان عن القاء القبض على الدكتاتور، على المدى العالمي لنجاح محاكمة صدام، اضافة لكل المعاني السياسية والفكرية والأنسانية والقانونية.
وفي الوقت الذي احيت فيه صورة الدكتاتور الذليل، صور الآلاف من ضحاياه من العراقيات و العراقيين الذين قضوا شهيداتٍ وشهداء في سوح النضال والسجون واقبية التعذيب وفي ميادين كفاح الأنصارالبيشمه ركة في جبال كردستان العراق واهواره ولم يتسنى لهم رؤية نهاية الدكتاتور الذين ضحوّا بحياتهم الغالية من اجلها ومن اجل سعادة الشعب . . يرى الكثير من المراقبين ان الجميع مدعوون ومن اجل انجاح فرص التقدّم بالعراق وشعبه الى التآخي ووحدة الصف والبحث الجاد عن آليات التسامح التي لامفرّ منها، على صعوباتها وتعقيدها، والتفاعل مع النادمين والمغرر بهم والمخدوعين، من الذين جرى استدراجهم وتهديدهم بالموت وطعن الشرف واجبارهم على السوق والعمل في مؤسسات الدكتاتورية، ومعاقبة مرتكبي الجرائم منهم وفق الأصول القضائية بعد التوصّل الى تجريمهم .
وفي الوقت الذي دلّ القاء القبض على الدكتاتور، على نجاح عسكري لقوات الأحتلال وضربة كبيرة لمن يراهن على تأزيم الوضع العراقي وتمزيقه اكثر، يرى الكثيرون بان الوضع لن يستقر بسهولة بما تسببه فلول الدكتاتورية ومجاميع الأرهاب الدخيلة على الواقع العراقي من جهة، ونشاط المتضررين من انهيار الدكتاتورية وانهيارماغنموه منها، اضافة الى المشاعر المتداخلة التي يسببها استمرار الأحتلال التي وجدت تعبيرها في بعض التظاهرات التي لم تجد لجملة العوامل المعقدة المذكورة بداً من اعلان رفضها للأحتلال بالدعوة للحفاظ على صدام ؟! لأن الاحتلال اجنبي والدكتاتور عراقي !! رغم كل جرائمه واستعداده لبيع العراق بابخس الأثمان للبقاء على كرسيه المهترئ، وفي وقت اصبح التظاهر الذي حرّمه وقابله الدكتاتور بالحديد والنار، مشروعاً في ظل الأحتلال !
ويرى الكثير من الباحثين والمراقبين، ان التهيؤ وجمع المواد لمحاكمة الدكتاتور وزمن الدكتاتورية البائد في فترة زمنية يجري تحديدها واعلانها، سيتطلّب جهوداً مضنية الاّ انها اساسية لأحقاق حقوق الشعب من جهة والتوجه لمعالجة التشوّهات الأجتماعية والقومية والدينية، والأقتصادية والسياسية والقانونية ومن اجل التوصّل لصياغة الجديد، برفض العنف والحرب واجتثاث الأرهاب والشوفينية والأستعلاء القومي والديني، واعتماد الحوار والتعددية واحترام حقوق الأنسان والمرأة، واحترام العلم والأدب والثقافة، وتثبيت ذلك قانونياً وفق الجهود المبذولة لأنهاء الأحتلال وبناء دولة القانون الفدرالية الديمقراطية الموحدة ومؤسساتها وانتخاباتها، بعيداً عن انفراد شخص او جماعة اوحزب بالحكم .