أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مازن كم الماز - إعادة استعمار العراق بقلم طارق علي















المزيد.....



إعادة استعمار العراق بقلم طارق علي


مازن كم الماز

الحوار المتمدن-العدد: 2202 - 2008 / 2 / 25 - 10:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في 15 فبراير شباط 2003 تظاهر أكثر من ثمانية مليون شخص في شوارع القارات الخمسة ضد حرب لم تكن قد بدأت بعد . هذا الاستنفار العالمي الأول حقا – غير المسبوق بحجمه و اتساعه و مداه – كان يسعى للتصدي لاحتلال العراق الذي كان يجري التخطيط له في البنتاغون . لقد حطم الإقبال في أوروبا الغربية كل الأرقام السابقة : ثلاثة ملايين في روما , مليونين في إسبانيا , مليون و نصف في لندن , نصف مليون في برلين , أكثر من مائة ألف في باريس و بروكسل و أثينا . في استانبول حيث منعت السلطات المحلية مظاهرة احتجاجية بحجة "الأمن القومي" دعت حركة السلام إلى مؤتمر صحفي لإدانة المنع – حضره عشرة آلاف صحفي . في الولايات المتحدة كانت هناك مظاهرات جماهيرية في نيو يورك و سان فرانسيسكو و شيكاغو و لوس أنجلوس و تجمعات أصغر في كل عاصمة ولاية فعليا : حضرها جميعها أكثر من مليون شخص . و تظاهر نصف مليون آخر في كندا . ذلك القسم من الحركة الواقع في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية حشد 500,000 شخص في سيدني و 250,000 في ملبورن .
في الواحد و العشرين من مارس آذار عندما اندفعت القوات الأمريكية و البريطانية عبر الحدود العراقية عادت الحياة إلى الشوارع العربية الهاجعة لفترة طويلة و قد نفخت فيها الروح تلك الاحتجاجات العالمية , بمظاهرات جماهيرية في القاهرة و صنعاء و عمان . في مصر أصيب نظام حسني مبارك المرتزق بالرعب و اعتقل أكثر من 800 شخص , أسيئت معاملة بعضهم في السجن بطريقة قاسية . في اليمن تظاهر أكثر من 30,000 ضد الحرب , و تمكنت مجموعة جيدة العدد من الوصول إلى السفارة الأمريكية حيث أوقفت بالرصاص . قتل شخصان و جرحت أعداد أخرى . في المحمية الإسرائيلية – الأمريكية في الأردن قامت الملكية بسحق انتفاضة فعلية في مدينة حدودية ثم انتقلت إلى قمع المتظاهرين في العاصمة بوحشية . في العالم العربي كانت نبرة الشوارع قومية بشكل متحدي – "أين هو جيشنا ؟" هكذا صرخ المتظاهرون في القاهرة . في باكستان استغلت الأحزاب الدينية بشكل كامل الموقف المؤيد للأمريكان للعصبة الإسلامية و حزب الشعب الباكستاني لتسيطر على المظاهرات المضادة للحرب في بيشاور و كراتشي . و فعل الإسلاميون نفس الشيء في كينيا و نيجيريا , رغم أنه كان ذا مفعول أكبر هنا : كان على السفارتين الأمريكيتين أن تخلي أبنيتها هناك . في اندونيسيا تظاهر 200,000 شخص من كل طيف سياسي في شوارع جاكرتا .
قبل أقل من قرن ألقى تصويت أكثر من ثمانية ملايين شخص بظلاله على الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية للأممية الثانية ملهمين فقط المحاولة السابقة للعمل المشترك لمنع حدوث الحرب . في نوفمبر تشرين الثاني 1912 عقد مؤتمر استثنائي طارئ للأممية تحت الأقواس القوطية للكاتدرائية القديمة في بازل في محاولة لتجنب كارثة الحرب العالمية الأولى التي كانت تلوح من بعيد . عندما دخل المندوبون عوملوا كبديل عن كتلة باس في ب الصغرى , التي دلت على درجة عالية من الاجتماع . تعهد القادة الاشتراكيون , الألمان و البريطانيون و الفرنسيون بمقاومة كل و أية سياسة عدوانية لحكوماتهم الخاصة . تم الاتفاق على أنه عندما يحين الوقت فسيصوت مندوبيهم في البرلمانات ضد تمويل الحرب . قوبل اقتراح كير هاردي للقيام ب"إضراب عالمي ثوري ضد الحرب" بالتصفيق رغم أنه لم يعرض على التصويت . و قوبل جان جوريس بالهتاف العالي عندما أشار إلى "أن التضحية التي ستحتاجها الثورة ستكون أقل بكثير من تلك الحرب التي يعدون لها " . قرأ عندها فكتور آدلر القرار الذي تمت الموافقة عليه بالإجماع . لقد اختتم ب : "لنواجه العالم الرأسمالي من الاستغلال و القتل الجماعي بعالم البروليتاريا من السلام و الإخاء العالمي " .
بحلول آب أغسطس 1914 انهارت هذه الآراء المستحقة أمام العاصفة المدوية للقومية . تبخر الوضوح البرنامجي الذي تجلى في بازل عندما دق ناقوس الخطر داعيا مواطني كل دولة إلى الحرب . لم ترفض أية ديون لتمويل الحرب , و لم تجر الدعوة لأي إضراب أو لأي ثورة . وسط العاصفة المتنامية من الهستيريا الشوفينية اغتيل جوريس من قبل متعصب مؤيد للحرب . فيم اجتمعت أقلية شجاعة ضعيفة بعيدا عن الأنظار في البلدة السويسرية زيمروالد لتدعو إلى تحويل الحرب الإمبريالية "إلى حرب أهلية ضد الرجعية في الوطن" , وقفت الأغلبية من القادة الاشتراكيين الديمقراطيين بتصلب في الوقت الذي ارتدى فيه مناصريهم الملابس العسكرية و توجهوا ليذبحوا بعضهم بعضا . هلك أكثر من عشرة ملايين إنسان في ساحات القتال في أوروبا مدافعين عن رأسمالياتهم الخاصة بكل منهم , في نزاع شهد قوة عظمى جديدة تشق طريقها إلى تاريخ العالم . بعد قرن ودعت الولايات المتحدة الأمريكية عمليا كل منافس لها لتصبح القائدة – و غالبا الفاعل الوحيد – لمجمل الدراما الكونية .
الملايين الثمانية التي تظاهرت هذا العام لم تحركها أية أممية , و لا يشتركون بأي موقف برنامجي عام . من خلفيات سياسية و اجتماعية مختلفة جدا توحدوا فقط على أساس الرغبة بمنع الغزو الإمبريالي لدولة عربية غنية بالنفط في منطقة تمزقها بالفعل حرب استعمارية في فلسطين . معظم الذين تظاهروا فعلوا ذلك بشكل غريزي لأنهم رفضوا التبريرات الرسمية لسفك الدم . كان من الصعب لأولئك الذين وجدوا تلك التبريرات "وجيهة" أن يفهموا عمق المقاومة التي استفزتها و الكراهية التي شعر بها هذا العدد الكبير جدا من الشباب ضد إذاعاتهم . خارج الولايات المتحدة قلة فقط كانت مقتنعة بأن حزب البعث العراقي العلماني بقوة تجمعه أية صلات بالقاعدة . أما بالنسبة "لأسلحة الدمار الشامل" فإن المخزون الوحيد الذي في المنطقة يوجد في إسرائيل , و كما قالت غونداليزا رايس بنفسها في السنة الأخيرة من إدارة كلينتون , حتى لو كان لدى صدام ترسانة كهذه فعلا فلن يكون بمقدوره استخدامها : "إذا حصلوا على أسلحة الدمار الشامل فإنها لن تكون قابلة للاستخدام لأن أية محاولة لاستخدامها ستتسبب بالإبادة الوطنية" ( 1 ) غير قابلة للاستخدام في عام 2000 لكن بعد 3 سنوات كان يجب الإطاحة بصدام عبر هجوم قوى الحملة الأنغلو أميركية و إلقاء القنابل العنقودية على المدن العراقية ؟ لم تعجز هذه الحجة فقط عن الإقناع بل خدمت كوقود للمعارضة الواسعة عندما رأى الملايين التهديد الأخطر على السلام يأتي ليس من الأسلحة المستنفذة للديكتاتوريات المتعفنة , بل من القلب المتعفن للإمبراطورية الأمريكية و أتباعها , إسرائيل و بريطانيا . كان إدراك هذه الحقائق هو ما شرع بتحويل جيل جديد إلى الراديكالية .
هجوم الإمبراطورية
استغلت الإدارة الجمهورية الصدمة القومية في 11 – 9 لتنفذ أجندة إمبريالية وقحة , كان احتلال العراق هو خطوتها الأولى . البرنامج الذي تسعى لتطبيقه أذيع لأول مرة علنا عام 1997 تحت مبدأ "مشروع لقرن أمريكي جديد" . كان بين الموقعين عليه ديك تشيني , دونالد رامسفيلد , بول فولفوليتز , جيب بوش , زلماي خليل زاده , إيليوت أبرامز , و دان كيويل , بالإضافة إلى تزيينات فكرية مثل فرانسيس فوكوياما , ميدج ديكتر , لويس ليبي و نورمان بودهوريتز . لا تستطيع الإمبراطورية الأمريكية أن تبقى راضية مع نهاية الحرب الباردة , كما ناقشوا :"يبدو أننا قد نسينا العناصر الضرورية لنجاح إدارة ريغان : قوة عسكرية قوية و جاهزة لتواجه التحديات الحالية و المستقبلية , و سياسة خارجية تروج المبادئ الأمريكية في الخارج بقوة و عزيمة , و قيادة قومية تقبل مسؤوليات الولايات المتحدة الكونية " . إن لغة هذه الجماعة , مقارنة بالتعابير اللطيفة لفترة كلينتون , تحكمية بشكل مستحسن : للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة , و أن القوة ستستخدم حيثما و حينما تكون ضرورية . اعتصار اليد الأوروبية تركها من دون أي حراك .
هكذا كان هجوم 2001 على مركزي التجارة العالمية و البنتاغون هدية من السماء لهذه الإدارة . في اليوم التالي للهجمات ناقش اجتماع لمجلس الأمن القومي فيما إذا كان يجب مهاجمة العراق أو أفغانستان , و وقع الاختيار على الأخيرة فقط بعد نقاش طويل . بعد عام من هذا الاجتماع كانت الغايات التي عبر عنها في ذلك "المشروع" قد تحولت بسهولة إلى "إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية" التي أصدرها بوش في سبتمبر أيلول 2002 ( 2 ) . تم التخطيط للحملة على بغداد كأول خطوة بعد هذا الموقف الجديد . فشلت 12 سنة من حصار الأمم المتحدة و القصف الأنغلو الأمريكي في تدمير نظام البعث أو تغيير قائده . لم يكن هناك استعراض أفضل لهذا التحول إلى إستراتيجية إمبريالية أكثر هجومية من تقديم مثال عنها في الحال . إذا لم يوجد أي سبب واحد ليبرر استهداف العراق فهناك القليل من الغموض عن الحسابات التي وراء هذا الاستهداف . اقتصاديا يمتلك العراق ثاني أكبر احتياطات من النفط الرخيص في العالم , هدد قرار بغداد في عام 2000 باستخدام اليورو مكان الدولار في تسعير صادراتها بأن يقتدي به تشافيز في فنزويلا و الملالي الإيرانيين . ستساعد خصخصة الآبار العراقية تحت سيطرة الولايات المتحدة في إضعاف منظمة الأوبك . إستراتيجيا كان وجود نظام عربي مستقل في بغداد مصدر غضب للعسكرية الإسرائيلية – حتى عندما كان صدام حليفا للغرب زود جيش الدفاع الإسرائيلي طهران بقطع غيار أثناء الحرب العراقية – الإيرانية . مع تنصيب الجمهوريين المتعصبين المقربين من الليكود في مناصب أساسية في واشنطن أصبح استبعاد عدو تقليدي هدفا جذابا فوريا لحكام القدس . أخيرا كما في استخدام الأسلحة النووية في هيروشيما و ناغازاكي الذي كان إظهارا صريحا للجبروت الأمريكي أمام الاتحاد السوفيتي , فإن حملة خاطفة كاسحة تجتاح العراق بسرعة ستخدم بأن تجعل العالم كله يرى و ربما بعض الدول في الشرق الأقصى خاصة – الصين , كوريا الشمالية و حتى اليابان – أنه إذا انخفضت الرقاقات الالكترونية فلدى الولايات المتحدة , كملجأ أخير , الوسائل لتفرض إرادتها .
الحجة الرسمية للحرب , و التي كانت ضرورية لإزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية المخيفة كانت هشة جدا بحيث أنه تعين أن يتم التخلي عنها كإحراج عندما كان حتى مفتشي الأمم المتحدة المعروفين بتبعيتهم لأمريكا - مجموعة مخترقة صراحة من قبل المخابرات المركزية الأمريكية – غير قادرين على إيجاد أي أثر لها و تم اختزالهم لمجرد كسب المزيد من الوقت . هذا لن "يمنع" اكتشافها بعد انتهاء الأحداث , لكن قلة فقط يعلقون أية أهمية على هذه الفزاعة البالية . تحول المبرر لغزو العراق الآن إلى الحاجة الملحة لإدخال الديمقراطية إلى البلد , أي تزيين العدوان على أنه تحرير . قلة فقط في الشرق الأوسط , من أصدقاء أو أعداء الإدارة , يمكن خداعهم بهذا . إن شعوب العالم العربي ترى عملية تحرير العراق على أنها مسرحية مروعة , مجرد غطاء لاحتلال استعماري على الطراز القديم الأوروبي , جرى تنفيذه كما كان يفعل أسلافه على أسس واهنة جدا – أكاذيب لا حصر لها , الجشع و النزوات الإمبريالية . السخرية في المزاعم الأمريكية الراهنة بجلب الديمقراطية إلى العراق يمكن قياسه من ملاحظات كولين باول أمام مؤتمر صحفي في عام 1992 عندما كان رئيسا لهيئة الأركان المشتركة تحت إدارة بوش الأب . هذا ما قاله عن المشروع الذي يجري على قدم و ساق الآن :
إن صدام حسين شخص فظيع , إنه يشكل تهديدا لشعبه . إنني أعتقد أن شعبه سيكون بحالة
أفضل مع قائد غيره , لكن هناك ذلك التصور الرومانسي بأنه إذا تعرض صدام حسين
للاصطدام مع باص غدا فإن ديمقراطي جيفرسوني ( نسبة للرئيس الأمريكي الراحل جيفرسون
- المترجم ) يقبع منتظرا في مكان ما ليجري انتخابات عامة . ( ضحك ) فإنك ستحصل –
خمن ماذا – ربما صدام حسين آخر . سيحتاجون إلى وقت قصير ليرسموا الصور على الجدران
على كل الجدران مرة أخرى - ( ضحك ) – لكن يجب ألا تكون هناك أية أوهام عن طبيعة
ذلك البلد أو المجتمع . و الشعب الأمريكي و كل الناس الذين يتوقعون الآن الاحتمال الثاني
كانوا سيستشيطون غضبا لو أننا ذهبنا إلى بغداد و وجدنا أنفسنا مع الجنود الأمريكيين نقوم
بالدوريات في شوارع بغداد و وجدنا أنفسنا بعد سنتين ما زلنا نبحث عن جيفرسون ( ضحك ) ( 3 )
هذه المرة على كولن باول أن يتأكد من أن الديمقراطيين الجيفروسونيين سيصلون مع مكيفات الهواء و بقية الإمدادات . إنه يعرف أنه ستتوجب حمايتهم ليل نهار من قبل فرق من المرتزقة الأمريكيين المستأجرين , مثل الدمية كارازاي في أفغانستان .
الكلاب القديمة و الأتباع الجدد
من جهة هناك صرخة عالية تعبر عن أغلبية هائلة ضد غزو العراق . و على الجهة المقابلة الإدارة الأمريكية المصممة ببرود و صراحة عليها منذ البداية . و بينهما حكومات بقية العالم . كيف تصرفت هذه الحكومات هنا ؟ لندن , كما هو متوقع , تصرفت كمساعد محتقن بالدماء لواشنطن دوما . إن إمبريالية حزب العمال هي تقليد قديم و قد أظهر بلير في حرب البلقان فعليا أنه يمكنه التصرف ككلب ثانوي , يمكنه أن يزمجر عند إطلاقه أكثر من كلب بودل . لأن بريطانيا كانت تقوم بقصف العراق باستمرار , كتفا بكتف مع أمريكا , منذ أن أصبح حزب العمال الجديد في السلطة , فإن الساذج فقط هو الذي سيصاب بالدهشة عند إرسال ثلث الجيش البريطاني إلى أكبر مستعمرة بريطانية سابقة في الشرق الأوسط , أو الرأي المراوغ "لمتمردي" مجلس العموم بإمضاء كوك أو شورت الذين يرفضون العنف لكنهم يرجون من الله أن ينجح مرتكبوه .
بيرلسكوني في إيطاليا و أزنار في إسبانيا – أكثر الحكومات يمينية في أوربا – كانا حليفين مناسبين لبلير في تحشيد أعضاء الاتحاد الأوروبي الأصغر مثل البرتغال و الدانمارك في سبيل القضية , فيما عرض سيميتس استخدام المنشآت اليونانية من قبل طائرات التجسس الأمريكية . دول أوربا الشرقية , معطية معنى جديدا لكلمة "تابع" , هذا الذي تمتعوا به طويلا فيما مضى , وقفوا في الصف وراء بوش . الأحزاب الشيوعية سابقا الحاكمة في بولندا و هنغاريا و ألبانيا ميزت نفسها بحماستها لتظهر ولاءها الجديد – وارسو مرسلة كتيبة لتقاتل في العراق , بودابست موفرة معسكرات التدريب للمنفيين العراقيين , حتى تيرانا الصغيرة أرسلت تطوعا مجموعة من غير العسكريين الأنيقين إلى ساحة المعركة .
فرنسا و ألمانيا , من جهة أخرى , أعلنت لشهور أنها تعارض بقوة الهجوم الأمريكي على العراق . يدين شرويدر بفوزه الانتخابي بفارق ضيق لتعهده بعدم دعم الحرب على بغداد , حتى إذا تمت بتفويض من الأمم المتحدة . شيراك , المسلح بفيتو في مجلس الأمن , كان حتى أكثر فصاحة بتصريحاته أن أي اعتداء غير مرخص على نظام البعث لن تقبل به فرنسا أبدا . موسكو مسايرة لباريس و برلين أعربت هي أيضا عن معارضتها للخطط الأمريكية . حتى بكين أرسلت بعض الأصوات الحذرة التي تنم على الاعتراض . أثارت المبادرات الفرنسية – الألمانية تشويقا و رعبا هائلين بين المعلقين الدبلوماسيين . فقد كان هنا بالتأكيد صدع غير مسبوق في التحالف الأطلسي . كيف ستصبح الوحدة الأوروبية , و حلف الناتو , و "المجتمع الدولي" نفسه إذا ما استمر هذا الانقسام الكارثي ؟ هل ستستمر فكرة الغرب نفسها بالبقاء ؟ لقد تم تسكين هذه المخاوف بسرعة . فورا ما أن أضاءت صواريخ توماهوك سماء الليل في بغداد و سقط أول الضحايا العراقيين المدنيين بيد المارينز , حتى أسرع شيراك ليوضح أن فرنسا ستسمح بمرور سلس للقاذفات الأمريكية في طيرانها إلى أهدافها ( الشيء الذي لم يفعله عندما كان رئيسا للوزراء عندما هاجم ريغان ليبيا ) , و تمنى "نجاحا رشيقا" للأسلحة الأمريكية في العراق . أما وزير خارجية ألمانيا , و هو عبارة عن جثة لأحد أعضاء حزب الخضر , يوشكا فيشر أعلن أن حكومته تتمنى هي الأخرى و بإخلاص "الانهيار السريع" لمقاومة الهجوم الأنغلو الأمريكي . بوتين , كيلا يتفوق عليه رفاقه , أعلن لمواطنيه أنه "لأسباب اقتصادية و سياسية" فإن روسيا ترغب بانتصار حاسم للولايات المتحدة في العراق . إن أحزاب الأممية الثانية نفسها لم يكن من الممكن أن تتصرف على نحو أكثر "جدارة بالاحترام" .
أبعد من ذلك كان المشهد مشابه جدا . في اليابان كان كويزومي أسرع من نظرائه الأوروبيين في إعلان دعمه الكامل للعدوان الأنغلو أمريكي واعدا بمساعدات سخية من دافع الضرائب الياباني المحاصر للمساعدة على تمويل الاحتلال . الرئيس الجديد لكوريا الجنوبية رو مي – هيون , الذي تم انتخابه بآمال كبرى من شبيبة البلد باعتباره راديكالي مستقل , جلب الخزي لنفسه على الفور ليس فقط بقبول حرب أمريكا في الشرق الأوسط , بل و بعرضه القوات لتحارب هناك أيضا , وفق التقليد الشائن للديكتاتور بارك تشونغ هي في حرب فيتنام . إذا كانت هذه سيؤل الجديدة , فسيتعين على بيونغ يانغ أن ترفع من استعداداتها العسكرية ضد أي تكرار لهذه المغامرة في شبه الجزيرة الكورية . في أمريكا اللاتينية حصر النظام في البرازيل نفسه بتمتمة بعض التحفظات المتملقة , أما في تشيلي فإن الرئيس الاشتراكي ريكاردو لاغوس – المتخاذل حتى وفق مقاييس الاشتراكية الديمقراطية جنوب خط الاستواء – فقد أبرق بغضب لسفيره إلى الأمم المتحدة , و الذي زل لسانه على نحو "غير مسؤول" بكلمة "إدانة" أثناء حديثه مع بعض الصحفيين , بأن يقدم تصحيحا رسميا فوريا : أن تشيلي لا تدين , بل إنها "تأسف" فقط لوقوع الغزو الأنغلو أمريكي .
في الشرق الأوسط , حيث مشهد النفاق و التواطؤ مألوفا أكثر . و لكن حتى وسط المعارضة الساحقة للرأي العام العربي لم يفشل أي نظام عميل من القيام بواجبه نحو المصدر الذي يقدم له المال . في مصر قدم مبارك ممرا حرا لسفن البحرية الأمريكية عبر قناة السويس و ممرات جوية لطائرات سلاح الطيران الأمريكي فيما كانت شرطته تفرق بالهراوات و تعتقل المئات من المتظاهرين . دعى النظام الملكي السعودي
صواريخ كروز لتمر فوق أراضيه و مراكز القيادة الأمريكية لتعمل بشكل طبيعي على أرضه . كانت دول الخليج قد أصبحت تابعة عسكريا بالفعل منذ وقت طويل لواشنطن . الأردن الذي تمكن تقريبا من أن يبقى على الحياد في حرب الخليج الأولى زود هذه المرة بحماسة القوات الخاصة الأمريكية بقواعد لتغزو حدود العراق . الملالي الإيرانيون , الذين بقدر ما هم قمعيون في الداخل فهم أغبياء في الخارج , تعاونوا مع عمليات المخابرات المركزية الأمريكية على النمط الأفغاني . الجامعة العربية تفوقت على نفسها كتعبير جماعي عن الخزي عندما أعلنت عن معارضتها للحرب حتى مع أن معظم أعضائها يشاركون فيها . إنها منظمة قادرة على أن تقول أن الكعبة سوداء فيما تقوم بطليها بالألوان الأحمر , الأبيض و الأزرق ( ألوان العلم الأمريكي – المترجم ) .
إن حقيقة "المجتمع الدولي" – اقرأ : الهيمنة الأمريكية الكونية – لم يسبق أن عرضت بهذا الوضوح كما جرى في هذا المشهد الكئيب . في مواجهة خلفية كهذه من التآمر و الخيانة , تظهر أعمال المقاومة الصادقة القليلة – القليلة جدا . الهيئة المنتخبة الوحيدة التي حاولت بالفعل إيقاف هذه الحرب كانت البرلمان التركي . نظام حزب العدالة و التنمية المنتخب حديثا تصرف بشكل لا يختلف عن نظرائه في كل مكان , مساوما على رشاوى أكبر ليسمح باستخدام تركيا كمنطلق لهجوم أمريكي بري على شمال العراق . لكن ضغط الجماهير , كانعكاس للكبرياء الوطني أو بدافع وخز الضمير دفع بأعداد كبيرة من حزب السلطة للانتفاض و تعطيل هذا الاتفاق , مفسدا خطط البنتاغون . أسرعت حكومة أنقرة بفتح أجوائها أمام الصواريخ الأمريكية و إنزال وحدات المظلات كتعويض , لكن فعل البرلمان التركي – متحديا حكومته الخاصة , عدا عن تحديه الولايات المتحدة – غير مجرى الحرب , على عكس المواقف الأوروبية التي كانت بدون أي حساب و التي تبخرت في الهواء بمجرد بدء القتال . في اندونيسيا جلبت ميغاواتي الانتباه على نحو ثاقب إلى ملابس الإمبراطور ( العاري – المترجم ) بدعوتها لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن ليدين الحملة الأنغلو أميركية . بالطبع بعد شهور من زفرات الغضب الصادرة من باريس و برلين و كل مكان آخر عن قداسة قرارات الأمم المتحدة , كان الرد هو صمت مطبق . في ماليزيا طالب مهاتير محمد – محطما , و ليس لأول مرة أحد تابوهات الدبلوماسية المحرمة – باستقالة كوفي عنان لدوره كمطية للعدوان الأمريكي . فهم هؤلاء السياسيون أفضل من غيرهم في العالم الثالث أن الإمبراطورية الأمريكية كانت تستخدم ترسانتها العسكرية الضخمة لتعلم الجنوب درسا عن قوة الشمال لترعبه و تسيطر عليه .
تناذر الخيانة
تم التخطيط للحرب على العراق على ضوء خطط وضعها أسلافهم في يوغسلافيا و أفغانستان . من الواضح أن السياسيين و الجنرالات في واشنطن و لندن كانوا يأملون بأن نموذج كوسوفو – كابول سيتم تكراره بشكل كامل : قصف جوي شديد ليفرض الاستسلام على الخصم من دون أية ضرورة لقتال جدي على الأرض . ( 4 ) في كل هذه الحالات لم تكن هناك أية مقاومة فعلية , ما أن تقوم قاذفات ب – 52 و قاطعات الأقحوان بعملها . لكن كان هناك أيضا تحت تصرف الغزاة و لضمان النتيجة المطلوبة "حلفاء" ضروريين للأنظمة المستهدفة نفسها . في البلقان كان هناك مبعوثي يلتسين الذين أقنعوا ميلوسيفيتش بحشر رأسه في الفخ الأمريكي بسحب قواته و هي ما تزال سليمة من خنادقها في كوسوفو . في أفغانستان كان مشرف هو الذي ضمن أن أغلبية قوات طالبان و مستشاريهم الباكستانيين ستتلاشى بمجرد أن تبدأ عملية ثمن الحرية . في كلا البلدين كان النصير الخارجي الذي اعتمد عليه النظامان لحمايتهما هو الذي قام بسحب البساط من تحتهما .
لكن في العراق كانت ديكتاتورية البعث دوما أكثر قسوة و ذات بنية أكثر مرونة . فقد تلقت دعما دبلوماسيا و عسكريا متنوعا من الخارج في مراحل مختلفة من تاريخها ( بما في ذلك طبعا من الولايات المتحدة بالإضافة إلى روسيا ) لكن لم تصبح أبدا معتمدة عليهما . واثقة , رغم ذلك , من أنه يجب قصم و رشوة قيادتها العليا , حاولت واشنطن باستمرار إغراء الجنرالات العراقيين بتغيير ولائهم , أو إذا فشلوا في ذلك , أن يغتالوا صدام حسين نفسه . عندما تبين أن كل هذه المحاولات – حتى في آخر لحظة – غير مجدية , لم يبق أمام البنتاغون أي خيار سوى أن يشن حملة عسكرية تقليدية على الأرض . كانت القوة الاقتصادية و العسكرية للإمبراطورية الأمريكية هائلة دوما بحيث أنها – ما عدا بحدوث تمرد في الوطن الأم أو انتفاضة شاملة للعالم العربي تؤدي لانتشار الحرب على امتداد المنطقة – واثقة من قدرتها على فرض احتلال عسكري للعراق . ما الذي لم يكن بمقدورهم هو التنبؤ بأي يقين بالنتيجة السياسية لأي استخدام ضخم لقوتهم .
أثناء الحدث لم يتداعى الجيش العراقي عند الرصاصة الأولى , كانت هناك علامات قليلة على امتنان شعبي واسع مقابل الغزو بل كانت هناك مقاومة على شاكلة حرب عصابات و – مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين من هجمات الصواريخ و الهاونات و القاذفات – تصاعد الغضب في العالم العربي . نجحت الجيوش الغازية "الصليبية" في أن تجعل من صدام حسين بطلا قوميا , رفعت صوره في المظاهرات في عمان و غزة و القاهرة و صنعاء . في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا المقال , كانت مستشفيات بغداد تفيض بالجرحى و القتلى مع تعرض المدينة لغزو الدبابات الأمريكية . "إننا نسيطر عليها كلها" هذا ما أعلنه كولونيل أمريكي و هو يتفحص العاصمة المدمرة بروحية أي قائد لوحدات البانزر في عام 1940 . ( 5 ) خلف أرتال الدبابات كان لدى البنتاغون نظام للاحتلال ينتظر أن يقوم بعمله , يترأسه الجنرال جي غارنر , تاجر سلاح مقرب من اللوبي الصهيوني في الوطن - مع دجالين و مخادعين خونة مثل أحمد الجلبي و كنعان مكية – مع قافلة معداتهم . لم يكن بعيدا عن السلطات الأمريكية أن تربي ما يمكن أن تسميه نظاما تمثيليا مع انتخابات و مجلس نواب و ما إلى ذلك , فيما سيتم تمويل "الإدارة المؤقتة" من دون شك من بيع أصول الممتلكات العراقية . لكن تلاشى أي وهم بأن هذه العملية ستكون أمرا سهلا أو مسالما . ستكون هناك حاجة لقمع هائل ليس فقط ضد الآلاف من مقاتلي البعث و المخلصين له , بل ضد العواطف الوطنية العراقية من أي نوع , من دون ذكر الحاجة لحماية المتعاونين من عقاب الوطنيين .
بالفعل فإن غياب الترحيب العفوي من قبل الشيعة و المقاومة الشديدة من المسلحين غير النظاميين قد دفعت إلى ترويج نظرية أن العراقيين هم "شعب مريض" و أنه سيحتاج إلى علاج طويل قبل أن يفوضوا بمصيرهم الخاص ( إن جرى ذلك أبدا ) . كان هذا هو الموقف الذي اتخذه الكاتب الصحفي المؤيد لبلير ديفيد أرانوفيتش في الأوبزيرفر . كذلك حذر جورج ميلون في وول ستريت جورنال :"العراق لن يشفى بسرعة من إرهاب صدام" : "بعد ثلاثة عقود من حكم المعادل العربي لشركة القتل , فإن العراق مجتمع مريض جدا" . و لتطوير "مجتمع منظم" و لإعادة تنشيط الاقتصاد ( خصخصته ) فإن هذا سيتطلب وقتا كما أصر . على الصفحة الأولى من الصنداي تايمز اقتبس مراسلها مارك فرانشيتي كلام ضابط صف أمريكي : "إن العراقيين أشخاص مرضى و نحن العلاج " , كما قال العريف رايان دوبر . "لقد بدأت أشعر بالكراهية لهذا البلد . انتظر حتى أمسك بعراقي . كلا إنني لن أمسك به , إنني سأقتله" . يستمر هذا التقرير – المنشور في بارجة القيادة عند مردوخ ( مالك الصنداي تايمز و كثير غيرها من الجرائد البريطانية واسعة الانتشار – المترجم ) ليصف كيف قتلت وحدته ليس عراقيا واحدا بل عدة مدنيين عراقيين في ذلك اليوم . ( 6 ) لا شك أن نظرية "المجتمع المريض" ستحتاج إلى تطوير أكثر , لكن من الواضح أن الحجج متوفرة لخلق مزيج من غوانتانامو و غزة في هذه المناطق المحتلة الجديدة .
الأمم المتحدة لأمريكا
ستكون هناك بالطبع مناشدات كثيرة من الحكومات الأوروبية إلى الأمم المتحدة لتتولى ما ستفتحه الأسلحة الأمريكية , حيث بلير أكثر توقا من بوش بكلامه المتملق , ليؤيده لأسبابه الخاصة . سنسمع الكثير من الكلام عن الإعانة الإنسانية , و إلحاح التخفيف من معاناة المدنيين و حاجة المجتمع الدولي "ليتعاون من جديد" . طالما أنه لم تقف أية قوة حقيقية في وجهها فإنه لدى الولايات المتحدة كل شيء لتستفيد من التبريكات الراجعة التي منحت لعدوانها من قبل الأمم المتحدة , تماما كما كان الأمر في كوسوفو . إن الشهور من الملاكمة في الظل داخل مجلس الأمن – فيما كانت واشنطن تهيئ بالمعرفة الكاملة من كل الأطراف اللوجستيات الجادة لمهاجمة العراق – تكلفها القليل فقط . ما أن أصبح القرار 1441 في جيبها و الذي أقر بإجماع الأصوات – بما في ذلك فرنسا و روسيا و الصين , من دون ذكر سوريا – كان الباقي عبارة عن ديكور . حتى سفير فرنسا إلى واشنطن جان ديفيد ليفي ألح على الولايات المتحدة ألا تسير قدما نحو قرار جديد من مجلس الأمن "لأسابيع قبل أن يوضع على المنضدة ذهبت إلى وزارة الخارجية و البيت الأبيض لأقول لهم , "لا تفعلوا ذلك...إنكم لستم بحاجة لذلك" . ( 7 )
كان النفاق في لندن بالطبع أكثر من العناد في واشنطن هو ما جر العالم إلى مهزلة الحصول على "تفويض" جديد ( من مجلس الأمن – المترجم ) من دون أن يكلل ذلك بالنجاح . لكن نصيحة ليفي تكشف النقاب عن الطبيعة الحقيقية للأمم المتحدة و التي أصبحت منذ نهاية الحرب الباردة مجرد أداة جاهزة الاستعمال عند الحاجة للسياسة الأمريكية . نقطة الانعطاف في هذا التحول كانت إقالة بطرس غالي كأمين عام , على الرغم من أن صوتا لصالحه من كل عضو في مجلس الأمن قد أنقذ أمريكا , لأنه تجرأ على انتقاد التركيز الغربي على البوسنة على حساب مآسي أكبر بكثير في أفريقيا . عندما كوفئ كوفي عنان , الفالدهايم الأفريقي , لمساعدته إدارة كلينتون على تحويل المساعدات و الأنظار عن التطهير العرقي في رواندا – بأن عين مكانه وفقا لوصية الولايات المتحدة , أصبحت المنظمة آمنة بأيدي أمريكية .
هذا لا يعني أنه يمكن الاعتماد عليها لتنفيذ رغبة أمريكا في كل موضوع , كما في فشل جهودها للحصول على دواء موهم ( دواء يعطى فقط لإرضاء المريض , هنا إشارة إلى فشل الحصول على تفويض جديد لشن الحرب من مجلس الأمن – المترجم ) لبلير . لا توجد هناك حاجة لذلك . كل ما هو ضروري – و الموجود بشكل لا يخطئ – هو أنه إما أن تذعن الأمم المتحدة لرغبات أمريكا أو تقدم موافقتها من دون تفكير بعد انتهاء الحدث . شيء واحد لا يمكنها أن تقوم به هو أن تدين أو تعيق تلك الرغبات . إن الهجوم على العراق كالهجوم الذي سبقه على يوغسلافيا , هو من وجهة نظر معينة انتهاك وقح لصك الأمم المتحدة . لكن لم تحلم أية دولة عضو في مجلس الأمن بالدعوة إلى اجتماع طارئ عن هذا الهجوم ناهيك عن التقدم بقرار يدين الحرب . بمعنى آخر سيكون من النفاق فعل ذلك حيث أن العدوان قد انبثق من على نحو منطقي من كل البنية الجزائية لحصار الأمم المتحدة على العراق منذ حرب الخليج , و الذي أضاف مئات الآلاف أخرى من الموتى لسمعة مجلس الأمن منذ دوره في رواندا بناء على توجيهات أمريكية . ( 8 ) إن مناشدة الولايات المتحدة أن تخضع لسلطة الأمم المتحدة يشبه توقع قيام الوكيل بصرف سيده من الخدمة .
إن الإشارة إلى هذه الحقائق لا تريد أن تتجاهل الانقسامات التي ظهرت داخل "المجتمع الدولي" حول الحرب في العراق . عندما قررت إدارة كلينتون أن تبدأ هجومها على يوغسلافيا فإنها لم تستطع الحصول على تفويض من مجلس الأمن بسبب مخاوف روسيا , لذلك مضت في طريقها على كل حال عبر الناتو , بقناعة صحيحة أن موسكو سوف تلتحق فيما بعد , و أن الأمم المتحدة ستصادق على الحرب ما أن تنتهي . هذه المرة انشق الناتو نفسه , لذلك لم يكن من الممكن استخدامه كبديل . لكن من غير الحكيم أن نفترض أن النتيجة ستكون مختلفة .
إنها المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة يخرج فيها خلاف بين القلب الداخلي للاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة إلى العلن , شوهد على التلفزيون و ساهم في استقطاب الرأي العام على جانبي الأطلسي . لكن فقط ذاكرة صحفية قصيرة يمكنها أن تنسى خلافا آخر حتى أكثر دراماتيكية نشب أثناء الحرب الباردة نفسها أحدثه نفس النمط من المغامرة في نفس المنطقة . في عام 1956 حاولت حملة "أحادية" أنغلو فرنسية بالتآمر مع إسرائيل تغيير النظام في مصر – مثيرة غضب الولايات المتحدة التي لم تتم استشارتها من قبل و خشيت من أن تفتح هذه المغامرة الباب أمام النفوذ الشيوعي في الشرق الأوسط . عندما هدد الاتحاد السوفيتي باستخدام الصواريخ لمساعدة عبد الناصر , أمر أيزنهاور بريطانيا بالانسحاب من مصر مهددا بعقوبات اقتصادية شديدة و أن يوقف الاعتداء الثلاثي . هذه المرة جرى تبادل كبير في الأدوار , فرنسا و ألمانيا تحتجان على حملة أمريكية , شاركت فيها بريطانيا , كلب الهجوم الدائم .
الفرق هنا بالطبع أنه لا يوجد هناك اتحاد سوفيتي ليدخل في حسابات العدوان , و أن القوة الماحقة هي بيد أمريكا على كل حال و ليست أوروبا . لكن دروس 1956 لم تفقد صحتها . إن النزاعات الدولية الحادة تنسجم بشكل كامل مع الوحدة الأساسية في المصالح بين القوى الرأسمالية القائدة , التي تؤكد نفسها بسرعة . إن فشل حملة السويس دفعت فرنسا إلى التوقيع على معاهدة روما منظمة الوحدة الأوروبية , التي ولدت جزئيا كثقل موازي للولايات المتحدة . لكن الولايات المتحدة نفسها دعمت بناء الجماعة الأوروبية , و التي يخدم توسيعها أهدافها , كما أن الصفوة الفرنسية على دراية اليوم بشكل مرتبك – رغم أنه متأخر جدا لتستطيع فعل أي شيء فيما يتعلق بذلك . إن المشاعر السيئة ستستمر غالبا لبعض بين واشنطن و باريس و برلين بعد الخلاف العلني في الأشهر الأخيرة , حتى لو أن كل الأطراف , كما حصلنا على تأكيدات مستمرة , ستجتهد لتضعها وراءها . داخل الاتحاد الأوروبي نفسه فإن دور بريطانيا في دعم أمريكا ضد فرنسا و ألمانيا فيما تدعي لعب دور الوسيط , قد كشف عنها من جديد كحصان طروادة في هذا التجمع . لكن الأيام التي قام فيها ديغول باعتراض أمريكا بشكل حقيقي قد مضت منذ زمن بعيد . سيتبادل شيراك و بلير القبل و يعودان أصدقاء قريبا .
ما الذي يجب فعله ؟
إذا كان من غير المجدي النظر إلى الأمم المتحدة أو الأرض الأوروبية كعقبة أمام الخطط الأمريكية في الشرق الأوسط فما بالك بروسيا أو الصين , أين يجب أن تبدأ المقاومة ؟ من الطبيعي و قبل كل شيء في المنطقة نفسها . عندها سيكون من المأمول أن يسرع غزاة العراق في نهاية المطاف خارجين من البلد من خلال رد فعل شعبي متنامي ضد نظام الاحتلال الذي يعينوه , و أن المتعاونين معه سيلقون نفس مصير نوري السعيد من قبل . عاجلا أو آجلا فإن حزام الطغاة الفاسدين و المتوحشين حول العراق سوف يتحطم . إذا وجدت منطقة يمكن فيها إثبات أن الكليشة ( الفكرة المكررة ) عن أن الثورات الكلاسيكية أصبحت شيئا من الماضي هي فكرة خاطئة فإنها العالم العربي . اليوم الذي ستتم فيه الإطاحة بمبارك و الهاشميين و الأسد و الأسر الحاكمة السعودية و غيرها بالسخط الشعبي , هو اليوم الذي سينتهي فيه الصلف الأمريكي – و الإسرائيلي .
في أرض الإمبريالية نفسها يجب على المعارضة الحالية للمؤسسة الحاكمة أن تستمد الشجاعة من أمثلة من تاريخ أمريكا نفسها . في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر قام مارك توين , الذي صدمته ردود الفعل الشوفينية على ثورة البوكسريين ( البوكسيريون : جمعية سرية في الصين قامت بثورة في القرن 19 – المترجم ) في الصين و استيلاء الولايات المتحدة على الفيليبين , بدق ناقوس الخطر . أعلن توين أنه يجب معارضة الإمبريالية . في عام 1899 أثناء اجتماع حاشد في شيكاغو جرى تأسيس الرابطة الأمريكية المعارضة للإمبريالية . خلال سنتين ازداد عدد أعضائها إلى نصف مليون و ضمت ويليام جيمس , و. إي. ب. دوبويز , ويليام دين هاولز و جون ديوي . اليوم عندما تكون الولايات المتحدة هي القوة الإمبريالية الوحيدة فهناك حاجة لرابطة عالمية لمعارضة الإمبريالية . لكن المكون الأمريكي في جبهة كهذه سيكون هو المكون الحاسم . إن أكثر مقاومة فعالية على الإطلاق هي التي تبدأ من الوطن . إن تاريخ صعود و سقوط الإمبراطوريات يعلمنا أنه عندما يفقد مواطنوها أخيرا الإيمان بفضيلة الحرب التي لا تنتهي و الاحتلالات الدائمة فإن هذا النظام سيأخذ بالتقهقر .
لقد ركز المنتدى الاجتماعي العالمي حتى الآن على قوة الشركات متعددة الجنسيات و المؤسسات النيو ليبرالية . لكن كل هذا استند دوما على أسس قوة الإمبراطورية . و بشكل متناغم إلى حد بعيد كان فريدريك فون حايك , ملهم "توافق واشنطن" ( الذي صدر في الثمانينيات و يعتبر إنجيل النيو ليبرالية – المترجم ) , يؤمن بثقة بالحروب كدعامة للنظام الجديد , مدافعا عن قصف إيران عام 1979 و الأرجنتين 1982 . على المنتدى الاجتماعي العالمي أن يتصدى لهذا التحدي . لماذا لا ينظم حملة لإغلاق كل القواعد و المنشآت العسكرية الأمريكية في الخارج – و ذلك في أكثر من مائة دولة حيث تحتفظ أمريكا بقوات أو طائرات أو بمعدات ؟ ما هو التبرير الممكن لهذا الانتشار الأخطبوطي الضخم , عدا عن ممارسة القوة الأمريكية ؟ إن الهواجس الاقتصادية للمنتدى لا تتعارض مع هذا التوسيع لأجندتها . فالاقتصاد في النهاية هو فقط شكل مركز من السياسة , و الحرب استمرار لهما بوسائل أخرى .
إننا في هذه اللحظة محاطون بسياسيين و نقاد , أحبار و مفكرين , يستعرضون ضمائرهم الحية على الورق أو على موجات الراديو ليوضحوا كم هم يعارضون الحرب بقوة , و لكن لأن الحرب قد شنت بالفعل يعتقدون أن الطريقة المثلى ليعبروا عن حبهم للإنسانية تكون بالدعوة إلى انتصار سريع للولايات المتحدة مما قد يوفر على العراقيين معاناة غير ضرورية . نمطيا هؤلاء الأشخاص ليس لديهم أي اعتراض على نظام العقوبات الإجرامي , و الجرعات التي صاحبته من الغارات الأسبوعية الأنغلو أمريكية التي راكمت الآلام على الشعب العراقي طوال ال 12 سنة الماضية . الفضيلة الوحيدة لهذا الكورس المثير للاشمئزاز هو أن توضح من خلال الاختلاف معها ما الذي يؤلف المعارضة الحقيقية لغزو العراق .
إن المهام العاجلة التي تواجه حركة مناهضة الإمبريالية هي دعم المقاومة العراقية للاحتلال الأنغلو أمريكي , و معارضة أي مخطط لإدخال الأمم المتحدة إلى العراق كتغطية راجعة للغزو و خدمات ما بعد البيع لواشنطن و لندن . ليدفع المعتدون أثمان طموحاتهم الإمبريالية . كل المحاولات لتزيين إعادة استعمار العراق كانتداب جديد من عصبة الأمم , على نمط العشرينيات من القرن العشرين , يجب صرفها بعيدا . سيكون بلير المحرك الرئيسي في هذه المحاولات لكن لن يكون هناك أي نقص في المزيد من الأوروبيين خلفه . خلف هذه الحملة الداعرة , التي نرى بداياتها على قنوات مردوخ التلفزيونية و البي بي سي و سي ن ن , هو الحاجة الملحة لإعادة توحيد الغرب . إن القسم الهائل من الرأي الرسمي في أوروبا و الأشخاص الأقوياء حقا في أمريكا يستميتون على بدء "عملية الشفاء" بعد الحرب . الرد الوحيد الممكن على هذه الأكاذيب هو شعار سمع في شوارع سان فرانسيسكو هذا الربيع :" لا حربهم و لا سلامهم " .
8 أبريل نيسان 2003
الهوامش
( 1 ) "الترويج للمصلحة الوطنية" , الشؤون الخارجية , يناير كانون الثاني فبراير شباط 2000 .
( 2 ) في "الشخص المناسب" حاجج ديفيد فروم كاتب خطب بوش السابق أن : "قيام أمريكا بالإطاحة بصدام حسين – و استبدال ديكتاتورية البعث الراديكالية بحكومة جديدة موالية أكثر عن قرب للولايات المتحدة – سيعين أمريكا كمسؤولة عن المنطقة أكثر من أي قوة أخرى منذ العثمانيين , أو ربما منذ عهد الرومان " .
( 3 ) اقتباسا من روبرت بليتشر "الأشخاص الأحرار سيحددون مصير التاريخ" : المثقفون , الديمقراطية و
الإمبراطورية الأمريكية" تقرير الشرق الأوسط أونلاين , مارس آذار 2003
( 4 ) عندما أعطي كنعان مكية الفرصة لمخاطبة الجمهور من المكتب البيضاوي امتدح بوش بأن وعده بأن "القوات الأمريكية الغازية ستستقبل "بالحلوى و الورود" . اتضح أن الواقع مختلف بعض الشيء . انظر النيو يورك تايمز , 2 مارس آذار 2003 .
( 5 ) العنوان في جريدة لوس أنجلوس تايمز , 7 أبريل نيسان 2003 . ذكر التشابه مع الحرب الخاطفة لهتلر في 1940 بدون أي وازع من الضمير من الذين يصفقون للحرب . انظر ماكس بوت في الفايناينشال تايمز , 2 نيسان ابريل :"قاتل الفرنسيون بقوة في 1940 – في البداية . لكن في النهاية فإن سرعة و ضراوة التقدم الألماني أدت إلى انهيار كامل . نفس الشيء سيحدث في العراق . " ما جرى في فرنسا بعد 1940 قد يستدعي وقفة من هؤلاء المتحمسين .
( 6 ) الصنداي تايمز , 30 مارس آذار 2003
( 7 ) الفايناينشال تايمز , 26 مارس آذار 2003
( 8 ) عن هذه الخلفية للحرب انظر "خنق العراق" , الافتتاحية العدد 5 , سبتمبر أيلول أكتوبر تشرين الأول 2000 .

ترجمة : مازن كم الماز
http://www.newleftreview.org/?issue=255 نقلا عن





#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حالة المعارضة السورية
- رد على الدكتور الياس حلياني : كفى تخويفنا بأنفسنا
- هناك بديل
- أوقفوا مديح السلطان !
- حزب الفهود السود في الولايات المتحدة
- نداء إلى العمل ضد قمة الثمانية في يوليو تموز 2008 من لا ! لق ...
- مقتل عماد مغنية...
- جوزيف ستالين : عن استخدام الضغط الجسدي على السجناء
- عالم مختلف ممكن ! بيان صادر عن الرابطة المناهضة لقمة الثماني ...
- خصخصة الصهيونية
- في ذكرى ثورة كرونشتادت , بقلم نستور ماخنو
- أخبار كرونشتادت
- جيمس كونولي عن الفعل المباشر
- عراق ما بعد الحرب : مثال حي عن الخصخصة ؟
- لا بد من التصدي لقمع النظام الهمجي , من أجل إطلاق سراح رياض ...
- الحضارة الغربية : فكرة حان وقتها .
- نحو استعادة الشوارع , من أجل كل الحرية للجماهير , نحو بناء ا ...
- انقطاع الكهرباء و الغلاء و الطائفية و البشر....
- على أي حال , و في كل الأحوال ! السيد محسن بلال , الشعب ما زا ...
- من أجل كل ضحية و إنسان , أطلب منك أن تعتذر لأهل غزة , رد على ...


المزيد.....




- أندر إوز بالعالم وُجد بفناء منزل في كاليفورنيا.. كم عددها وك ...
- بعدما وضعتها تايلور سويفت في كوتشيلا.. شاهد الإقبال الكبير ع ...
- طائرتان كادتا تصطدمان في حادث وشيك أثناء الإقلاع.. شاهد رد ف ...
- بعد استخدامها -الفيتو-.. محمود عباس: سنعيد النظر في العلاقات ...
- لبنان.. القبض على رجل قتل زوجته وقطع جسدها بمنشار كهربائي ود ...
- هل ستجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حرب مدمرة في الشرق الأو ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن قتل 10 فلسطنيين في مخيم نور شمس شمالي ...
- الصين.. عودة كاسحتي الجليد إلى شنغهاي بعد انتهاء بعثة استكشا ...
- احباط عملية تهريب مخدرات بقيمة 8.5 مليون دولار متوجهة من إير ...
- -كتائب القسام- تعرض مشاهد من استهدافها جرافة عسكرية إسرائيلي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مازن كم الماز - إعادة استعمار العراق بقلم طارق علي