أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - استحالات عدنان الصائغ















المزيد.....

استحالات عدنان الصائغ


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2197 - 2008 / 2 / 20 - 11:44
المحور: الادب والفن
    



(هذه حياة جيدة، أنها أخذت كل ما كان موجوداً) كاليفالا

[قافية....

أخذتُ الحياة على محمل الجدّ - حيناً- فأتعبني حالُها
رأيتُ بكنهِ اليقين.. منازلَها قلّباً..

يعلو المنابرَ جهالُها

ويكري المحاصيلَ أنذالُها

وينهشُ في قيلها قـالُـها

فغسّلتُ كفيَّ منها ثلاثاً..

وأضربتُ عمّا تزاحمَ سؤالُها

فما عدتُ أحسبُ أن..

شرّقتني وأن غرّبتني..

وأن أصعدتني.. وأن أنزلتني

فدولابُها لا يقرّ - على حالة-

وأن صدّقتْ في

عيونِ المغـفـّـلِ.. آمالها]



26 مارس 2005 (لندن)



*

إن استخدام صفة قصيدة يمثل استهانة في هذا المكان، وتعمّد الشاعر لاطلاق صفة أو تسمية [ قافية] ،ـ وهي جزء مبتسر من نظام القصيدة ـ، محاولة للولوغ في مسمرة أعصابنا التي لم يستهلكها نزق الكارثة.. محاولة للبحث عن مفردة أو مصطلح جديد يحتمل انثيالات ميتافيزيقا الشعر وانفلاتات العصب السمبثاوي ويدفعها في طريق جديد، يفتحه الشاعر بدبوس أو قل مسمار لفضح الجانب الآخر من هذا العالم. هذه كلمات معجونة بالدم والعصب آلاف المرات.. مثل بطانيات الحرب الملوّثة باللمف وقطع اللحم المتناثرة من شظايا القصف المعادي (!!). وهي، وأن كان قابلة للتعميم والتأويل في أكثر من اتجاه، إلا أنها ـ وحسب التاريخ المذيلة به [26 مارس 2005] أي عامين على بدء عمليات الغزو الفاشي الأمريطاني للميسوبوتاميا [20 مارس 2003] وتمهيدها مرتعاً للعصابات والمآفيات ـ؛ تبقى علامة مضيئة على مفترق طرق تاريخ هذه المنطقة وانقلاباتها الدموية المضاهية لغزو الاسكندر المقدوني لها في القرن الثالث قبل الميلاد، وما تبعها من ضياع الانسان والهوية وتزوير التاريخ والجغرافيا.

لقد مرّ عدنان الصائغ بفترة صمت، أو سبات أو اختلاء مع أنبياء وادي عبقر.. جعل البعض يعتقد أن صاحب عشر مجاميع شعرية خلال عشرين عاماً، استنفد ما في جعبته، أو أنه بلغ من المجد ما يتيح له التلذذ ببرودة القمم، أو أن انهيار تمثال الدكتاتور ذي الخمس أطنان من البرونز.. ليضرب بالنعل على وجهه (!) عقد لسانه وهو القائل : "كلما سقط دكتاتور.. كلما سقطَ دكتاتور من عرشِ التاريخِ، المرصّعِ بدموعنا/ التهبتْ كفاي بالتصفيق/ لكنني حالما أعود الى البيتِ/ وأضغطُ على زرِ التلفزيون/ يندلقُ دكتاتورٌ آخر/ من أفواهِ الجماهيرِ الملتهبةِ بالصفيرِ والهتافات../ غارقاً في الضحكِ/ من سذاجتي/ التهبتْ عيناي بالدموع!"

.. ان مفارقة الشاعر عن المؤرخ والعقل العربي .. أنه ينظر للأمام ويرى المستقبل بينما غيره يعيش في فنادق الماضي ذي الخمس نجوم.. لم يقل أحد أن عدنان الصائغ يمرّ باستحالة جديدة تقوده إلى مستوى آخر وفتوحات جدد.. وليست هذه النفثة أو الشهقة إلا بعض رذاذها.

استحالة عدنان الصائغ الأولى كانت – مثل كثيرين- مرحلة الدكتاتورية الفاشية، ويستحق ( نشيد أوروك ) المكتوب بين غياهب الانتفاضة وظلمات الحرب مرحلة خاصة، أما الاستحالة الثالثة فتمثلت بما كتبه بين المنافي المتعددة في البلاد العربية والغربية، حتى هذه الاستحالة التي اقترنت بعهد ملوك الطوائف وإمارات الخذلان.

ولا أدّعي إذا قلت.. أن كلّ مرحلة أو استحالة اقترنت بنفثة أو شهقة أو صرخة. فالشاعر ليس بطلاً خرافياً كما يتردّد في الأساطير، ولا دونكيخوته يصارع الطواحين، الشاعر طفل، بكلّ ما تحتمله الطفولة من جمال وسحر وعظمة، قضى طفولته في بناء أحلامه وعوالمه التي تسع الناس جميعاً، ولكنه، بعد حين مناص، استيقظ، ليجد أحلامه تتحطّم على أيدي صبيان كبار، الطفل الذي يتأمل العالم ولا يستطيع الكلام، يعاني ويعاني ويتعذب ليتعلم الامساك بقميص الأم أو الاشارة الى فمه وعينيه، لا يعتري الشظية لحظة تفكير أو شعور وهي تندفع إلى صدره أو وجهه أو أحد أطرافه، لكن الطفل يستطيع السخريّة جيداً والازدراء من العالم، يستطيع الصراخ والاحتجاج والبكاء، فدمعة الطفل تهزّ الجبل. وبعد حالة من الصمت العميق تأتي كلمة الطفولة الأولى، مثل شهقة أو أغنية أو صرخة. والجيل الذي سرقت الحرب والكارثة سنواته، قرر الاحتفاظ بطفولته، ضد بجاحة هذا العالم..

استحالات عدنان الصائغ كما تؤشرها قصائده:

1- خرجتُ من الحربِ سهواً:

"أنا خارجٌ من زمانِ الخياناتِ
نحوَ البكاءِ النبيلِ على وطنٍ أخضرٍ
حرثتهُ الخنازيرُ والسرفاتُ
أنا داخلٌ في مدارِ القصيدةِ
نصفَ طليقٍ
ونصفَ مصفّدْ

على شفتي شجرٌ ذابلٌ، والفراتُ الذي مرَّ لمْ يروني. ورائي نباحُ الحروبِ العقيمةِ يطلقها الجنرالُ على لحمنا، فنراوغُ أسنانها والشظايا التي مشّطتْ شَعْرَ أطفالنا قبلَ أنْ يذهبوا للمدارسِ والوردِ. أركضُ، أركضُ، في غابةِ الموتِ، أجمعُ أحطابَ مَنْ رحلوا في خريفِ المعاركِ، مرتقباً مثل نجمٍ حزينٍ، وقد خلّفوني وحيداً هنا، لاقماً طرفَ دشداشتي وأراوغُ موتي بين القنابلِ والشهداءِ."



2- نشيد أورك:

"صاعداً في النشيدِ إلى قلبِ أوروك،

ألقي الظلالَ على وطنٍ لا ظلالَ لهُ غير ما خلّفتهُ البنادقُ من بقعٍ وتماثيل

تأتي الفصولُ وتذبلُ

تأتي الجيوشُ وترحلُ

تأتي الملوكُ وتبقى..

يشيّدُ أحدهم قلعةً من جماجمنا ليهدمها آخرررررررر

..............

يلاحقني وترٌ نازفٌ

- في الكمانِ –

على شارعِ الليلِ.

أشنقُ نفسي بخيطِ ضياءٍ نحيلٍ

تحدّرَ من جسرِ "باب المعظّمِ"، مرتعشاً

ستقاطعهُ المركباتُ......

خسرنا البلادَ

خسرنا الأغاني

ورحنا نجوبُ المنافي البعيدةَ

نستجديَ العابرين

ولي، في الرصافةِ نخلٌ وأهلٌ

ولكنهم ضيّعوا - في الهتافاتِ – صوتَ المغني"

3- تأبط منفى:

"لي بظلِّ النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
انها محنةٌ - بعد عشرين -
أنْ تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ"

.......

...............

أيها الرب..

أفرش دفاترك..

وسأفرش أمعائي..

وتعال نتحاسب!.

..

4- قافية:

" أخذتُ الحياة على محمل الجدّ..

(إلى آحر القصيدة)

..

ثمة أكثر من دالة في هذه القصيدة تدعو للتوقف والثناء لشاعر أوروك وجسر الكوفة.. ليس أقلّها تلك الهواجس والمشاعر المتناقضة التي اعترت وتعتري الكثيرين منا.. ونحن نرى عربة الحياة المزوّقة بصفيح النفايات وأسماء أصدقائنا الشهداء وعيون أطفالنا تنساب من أيدينا مثل كذبة، ثقيلة الدم.. بعد أن خدعتنا أو خذلتنا.. أعني ذلك الجيل المسمى غدراً وبهتاناً بجيل الشعراء والأدباء الشباب، الجيل الثمانيني.. وقد وخط البياض رؤوسنا من اليمين ومن الشمال.. أنها تلك الالتفاتة المؤلمة التي يضطر لها المرء بعد أن يكون قد قطع شوطاً كبيراً.. ولقى رهقاً وإصراً.. وما زال يجد نفسه في نفس النقطة.. فالزمن الثمانيني قد بقي واقفاً أو جامداً لاولئك الذين كانوا ضحاياه، فجعل منهم ضحايا أبدية، بينما العالم من حولهم يمضي بسرعة جنونية. أن طابع الألم العميق، الأقرب للندم الجريح والأسى، يبدو واضحاً في مفتاح القصيدة..

أخذت الحياة..

يقول [Kalevala] "هذه حياة جيدة، لقد أخذت كلّ ما كان موجوداً". أخذت كل شيء لكنها نسيت أن تعطي أي شيء بالمقابل. أستلبت كل شيء جميل وجدير ومسخت حياتنا. انها - إذن- حياة تافهة، غير جديرة بالجدية والمثابرة. يقول بيتر هاندكه في رواية [الحركة الخاطئة] " عليك أن تعرف جيداً كل ما تقول وما تفعل". وفي مكان آخر " ليس المهم أن تكتب، وانما أن تريد الكتابة، ليس مهما الحبّ، وأنما أن تريد الحبّ". فيرى امتلاك الارادة لعمل شيء أجدر من عمل الشيء أو الحصول عليه. في مقاربة لمقولة (الاعمال بالنيّات). ان هذا هو أبسط عزاء يمكن أن يقدمه المرء لنفسه. فأزمة الكاتب الدائمة، أنه لا يريد، أو لا يستطيع أن يكون إنساناً عادياً، لأنه بذلك يعتقد حرمانه لتميّزه وامتيازه. لأنه عند ذلك لا يجد ما يكتبه، أو لا يكون معنى لما يكتبه! (هاندكه/ ن.م). وهو ما دفع بلند الحيدري للقول:

أنا لا أريد.. أنا لست مثل الآخرين!

الشاعر يفضل الغربة والعزلة والمعاناة، على أن يقاسم الآخرين حياة القطيع التي يرسمها الساسة. وعليه.. فتلك السنوات التي اغتصبتها حروب الدكتاتورية ومراهقته الشوفونية قد أنتجت شعوراً مقابلاً بالعدمية، لكن تلك العدمية اقترنت بالتحدي والمكابرة والاعتزاز لدى البعض ودفعت إلى مواقف فكرية ووجودية وسياسية مهمة لدى البعض الآخر. ان المهمّ في ذلك هو الخروج من الدائرة التي نسجتها الكارثة. واعتراف الصائغ بمضيعة العمر.. ليس بعيداً من اعتراف مبكر مرير لشاعر المعرة قبل ألف عام تقريباً..

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً.. تجاهلت حتى قيل أنيَ جاهلُ

فيا موتُ زرْ أن الحياة ذميمة.. ويا نفس جدّي.. أن دهرك هازلُ

والصائغ أتعبه حال الحياة.. وصدمه هزلُها.. فيستمر الصعود النفسي لشهقة الشاعر..

رأيت - بكنه اليقين- منازلها قلّباً (مقلوبة / سافلهاعاليها)

تلك المنازل التي احتفظت بها ذاكرة الشاعر طرية جميلة منتظمة، يفاجَأ اليوم بانقلابها رأسا على عقب، وهو يسوق اللائمة في ذلك على الحياة التي قلبت منطقها أو أخلفت وعدها معه.. والأنكى من ذلك..

يعلو المنابر جهالها..

ان المنطق الرياضي هنا لا يقبل المخالفة.. الزمن الجميل يزهو بجماله، والزمن القبيح يرفل بالقباحات، وعندما يعلو السوافل، فلا بدّ أن يعتليها من هو جدير بها.. ان الرداءة لا توجد مجردة أو منجردة، وانما توجد معها منظومة رديئة في كل شيء.. وهو كذلك مصداق للمنطق المثالي، أي أن النهوض يقود نهضة في كل شيء، بينما السقوط يسحب معه الكثير من الأشياء أيضاً. وهنا يقتضي العروج الى حجم الانقلاب الاجتماعي الذي رافق صعود الدكتاتورية في العراق. فانقلبت موازين المنطق ومعايير العقل ليصبح الولاء والتملق والانتهازية الحزبية معياراً للتفاضل الاجتماعي والرسمي. وبناء على جهل مؤسسة الحكم التي لم يكن فيها أكادميين حقيقيين، نجد ان صعود البعث وصدام مرّ بمرحلتين: سلسلة تصفيات في قيادة البعث القومية والقطرية خلال السبعينيات لتجعله في قمة الهرم. ثم إعادة تنظيم الكوادر العليا والوسطية لاستبعاد العناصر المثقفة والمتعلمة من المراكز القيادية لصالح أشباه المتعلمين. بتفضيل أبناء القرى على أبناء المدن، وأبناء الفلاحين على البرجوازية الصغيرة أو الرأسمالية. لقد وفرت العسكرة الحربية فرصة ذهبية لتحقيق التهشيم الطبقي داخل المجتمع العراقي، اجراء تسهيلات كمية ونوعية في شروط القبول في كليات الضباط والأركان، أنتجت أجيالاً رديئة وبذيئة من ضباط الجيش الذين رسخوا المباذل والمفاسد واستنزفوا أبناء العوائل الغنية من الجنود بالرشاوي والهبات والهدايا العينية، إلى حدّ التنازل لهم عن بعض ممتلكاتهم أو اقتسام ريعها معهم مقابل تمتع أولئك الجنود بإجازات طويلة. وقد أسفر طول مدة الحرب إلى تحقيق الافقار التام لفئات ممن كانوا أغنياء أو متوسطي الحال. النتيجة العملية لذلك أن نسبة أكبر من المجتمع أصبحت مرتبطة بعجلة النظام مصيرياً ومعيشياً، وهنا يحقق الدكتاتور نزوته باعتباره الربّ الأكبر للعراقيين يتحكم بحياتهم وموتهم، سعادتهم وشقائهم، تخدمه مؤسسة من الأرباب الصغار ممثلين بضباط الجيش وسطوتهم شبه المطلقة. وثمة.. فأن سقوط الدكتاتور في 9 نيسان 2003 سيكون عارضاً جزئياً إزاء استمرار إفرازاته وآثار سياساته على مدى ثلاثة عقود. وهي الظاهرة التي غطت بشموليتها وعمقها على مفهوم التغيير وجعلت منه تغييراً فوقياً ساذجاً عاجزاً عن التأثير في البنى التحتية للحياة والمجتمع. وهو ما يدفع الشاعر للاستمرار في ترجمة صدمته النفسية في صعود درامي أخاذ وصراحة أشدّ..

ويكري المحاصيل أنذالها..

وينهش في قيلها قالها..

لقد قدّم الشاعر في هذه الصرخة الشعرية دراسة سياجتماعية مكثفة، تحلل وتشرح جملة المجريات والأحداث العراقية، رابطاً بين الظواهر والنتائج وبين الأسباب والعوامل، ليجمع بين الشعر والفكر على طاولة البحث والتأمل، ويكون مؤرخاً على خطى هيرودوت وفيلسوفاً على هدى سقراط وأفلاطون. وإذا كانت علاقة الشعر العربي بالفلسفة مما تنبّه له النقاد المتقدمون (أبو العلاء ابن عمرو) بقولته الشهيرة: الشاعر البحتري وأما المتنبي والمعري ففيلسوفان!. فما يزال المنظور الاجتماعي يعاني من البؤس المعاصر في النقد أكثر من الشعر. فبينما تمعن الطبقة الانتهازية في إشباع مصالحها المادية والسياسية الضيقة غير عابئة بمعاناة الشعب، أو مستقبل البلاد، لا تجد الطبقات المعدومة غير القيل والقال وتوارد الاشاعات في ضوء غياب الشفافية وسياسات التجهيل والتدجيل الاعلامي التي يعبر عنها الشاعر بالقيل والقال.

أن من مزايا هذه الصرخة على ما عداها انتصار الشاعر على الرقيب الداخلي واطلاق الحرية لأفكاره ومشاعره، ذلك أنه هنا تجاوز دور الشاعر الى الباحث والمؤرخ الحريص على التأشير الدقيق لما يحدث، سيما وهو يمسّ حياة الناس جميعاً ومستقبل الوطن الذي تحول إلى سراب صحراوي. كما أن أهمية هذه النقلة لدى الشاعر تجرّده من حياده المعهود وميوله الوسطية لاستخدام كل ما أوتي من قسوة إزاء الحصيلة المذهلة.. وبعد أن يرسم صورة الفصل الجديد في الكارثة العراقية في أربعة أشطر من الرجز [فعولن فعولن فعولن فعولن] يعود لتحديد موقفه الشخصيّ متواصلاً مع البيت الأول..

أخذت الحياة، على محمل الجدّ - حيناً- فأتعبني حالُها

....

فغسّلت كفيَّ منها ثلاثاً.. وأضربت عما تزاحم سؤّالُها

فاستخدم صيغتين من التراث الاجتماعي الشائع في العراق وصيغة معاصرة، كناية عن البراءة أو الزهد إزاء الشيء:

1- قولة: غسل اليد، ويضاف لها أحياناً إمعاناً في التهكّم نوعية المادة التي تستخدم في الغسيل حسب خلفية المتحدث الثقافية و حدّة الانفعال.

2- استخدام لفظة (ثلاثاً) المرتبطة بالحكم الشرعي لوقوع (الطلاق) أي الطلاق غير الرجعي بالفقه القانوني.

3- أما (الاضراب) فهو من القاموس السياسي المعاصر في التعبير عن المعارضة والرفض أو المطالبة بتعديلات معينة، وقد ورد هنا اضرابا مفتوحاً غير محدد بزمن أو شرط، عن كل ما يدور في ذهن اللاهثين وراء [الحياة] وهي هنا كناية عن مرحلة معينة، أو حالة عامة تمسّ الوطن وما آلت إليه الأحداث الأخيرة.

فدولابها لا يقرّ على حالةٍ

وأن صدَقتْ في عيون المغفل آمالها

فبعد أن يفصل موقفه ويؤكد براءته ولا مبالاته من (تلك) الحياة، ينتهي من الأمر بمقولة تكاد تبدو تقليدية تدلّ على خاصة التغير الدائم في أصل الأشياء وعدم ثبات الظواهر، على أن ورودها جاء لازمة وقفلة لجملة المفتاح أو الاستهلال، وهو البيت السابع بقافية ناقصة (ستّ قوافي) أو ستة أبيات مع اختلاف في عدد تفعيلات البيتين الثالث والخامس.

وتبقى إشارة أخيرة في هذا المقام، تتناول الجانب الفني واللغوي، تتمثل بعودة الصائغ إلى تقاليد العروض والايقاع والقافية الواضحة هنا، وذلك انسجاماً مع البعد النفسي وعمق التأثر والألم الذي أفرزته التغيرات الجديدة. وكأن ذلك تعبير نوستالجي إلى أيام بداياته السبعينية التي أغفل عنها في مجاميعه الصادرة، أو حنين نوستالجي إلى أيام السبعينيات وأجوائها قبل صعود خمبابا وتدمير بابل. ويشترك مع الصائغ في ذلك عدد كبير من الأدباء العراقيين الذي استخدموا أساليب وتعابير مختلفة للتعبير عن رؤيتهم وموقفهم الوطني مثل (نحيا ويموت الوطن) لدى باسم الانصار، (سقوط مردوخ) لدى حسن الخرساني أو تكرار مفردة (الموت) في وصف بغداد لدى أديب كمال الدين ووحيد خيون وكثيرين غيرهم مما يقتضي وقفة خاصة.
النمسا في 11/11/05



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش
- فراشة سوداء
- الرصافي الخالد
- لزوميات نصيف الناصري
- صراع الذات والآخر في قصيدة داليا رياض (تطيش نحو السماء)
- - كفى تناسلاً أيها الخراب!-
- المرثاة في الشعر المعاصر
- عن المرأة والمدينة في ظل التحول الاجتماعي
- الشعر.. الرؤية الكونية.. وبشارة الحاضر
- إشكالية الخروج.. من الاغتراب الذاتي للاغتراب الوجودي
- نظرية التوا زنات الافقية في رواية دابادا
- خُوَاء
- جلولاء.. سيرة مكان.. (1 - 4)
- عودة الزنابق
- بعقوبا .. سيرة مكان)
- وقفت عن حبك
- توقفت عن حبك
- وجوه متداخلة
- غسل العار والعودة لوأد البنات
- الفرد والعالم..


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - استحالات عدنان الصائغ