أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - سجناء بلا قضبان















المزيد.....

سجناء بلا قضبان


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 676 - 2003 / 12 / 8 - 05:38
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


لن يصل الدكتاتور إلا إذا استدعيناه
" الروائي البيروفي ماريا فارغاس يوسا"
قد تسقط الحروب والانقلابات والموت والاغتيال الدكتاتور لكن الدكتاتورية كنسق من القيم والمقاييس يظل عمرها أطول لسنوات وربما لقرون ما لم يقم المجتمع ونخبه الفكرية ـ وليست السياسية ـ بحربه الأخرى الأكثر عمقا وإنسانية ومنفعة وهي: حرب تصفية جذور الفكر الدكتاتوري، فالدكتاتورية كنسق قيم تصفى بالثقافة وليست بالرصاص وحده.

والدكتاتور العراقي ظاهرة ثقافية وسياسية وأخلاقية عراقية على مر العصور ـ كما جاء في نص رسالة من المرحوم المفكر هادي العلوي بخط اليد إلى كاتب هذه السطور في سجن "كويتة" الباكستاني المركزي على إثر عبور الحدود قادما من إيران في كانون الأول عام 89.

والدكتاتور العراقي اليوم رغم تصفيته كمؤسسة حاكمة، إلا أن سجونه الأخرى، الذهنية والعقلية والنفسية والسياسية، قائمة ومستمرة في ممارسة ذات الدور القديم.

ويمكن القول بكل طمأنينة أن الدكتاتور العراقي كان قد سجن ثلاثة أنواع من الضحايا ورمى المفتاح في بئر الأيام وهرب بجلده:

النوع الأول: سجناء القضبان الحديدية والأنفاق والأقبية وهؤلاء مصيرهم إما القتل أو الخروج مشوهين نفسيا وعاطفيا.

النوع الثاني: وهم سجناء الأقبية أيضا الذين خرجوا من تلك السراديب معجزة أو سهوا لكن  لم يعلق في أرواحهم الكثير من نفق الفحم والإقامة المحزنة وهؤلاء ندرة لا تشكل مشهدا واسعا.

النوع الثالث: وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة من السجناء الذين يشكلون المشهد العام، السياسي والثقافي والاجتماعي، رغم أنهم لم يدخلوا تلك الأقبية أبدا التي تشيخ وتهرم وتنهار ولكنهم دخلوا أقبية ومعتقلات أشد ضراوة وشراسة وهي أقبية معايير الدكتاتورية ونظرتها للحياة.

إن فترة طويلة من الإرهاب العام والضاري خلقت داخل النفس العراقية سراديب خاصة وحفرت أنفاقا نفسية من أجل الحماية والوقاية من الموت وبربرية المؤسسة الحاكمة وهذه السراديب ليست قضبانا أو أقبية أو جدرانا يمكن هدمها بسهولة كما حصل مع الأخرى، بل هي شبكة واسعة من القيم والمعايير والمقاييس والأنساق الفكرية والاجتماعية تداخلت مع بضعها ومع قيم الفرد الشخصية وصار من المستحيل الفصل بين هذه وتلك.

وهذا الصهر تم عبر  حقب طويلة ومستمرة كما أن هذا الاندماج بين قيم الضحية وقيم جلادها كان نوعا من السلوك الوقائي الاجتنابي تمارسه الضحية كنوع من التماهي مع الوحش كي تنجو بجلدها غير عابئة بالنتائج المستقبلية فلا مستقبل في  عاطفة الضحية غير الفرار اليومي المتواصل.

لكن المعضلة تبدأ ـ ولا تنتهي ـ من لحظة سقوط الدكتاتور واكتشاف الجروح النفسية العميقة والغائرة إذا تم اكتشفاها مع أن الضحايا لا يحتفلون عادة بالنجاة الداخلية من سراديب الدكتاتور كما يحتفلون بالخروج من الأقبية الحديدية.

لذلك يمكن القول بثقة أن الدكتاتور قد سجن ضحاياه في أقبية سرية وسجون نفسية وعقلية وسمم حياتهم  بصرف النظر عن مصيره الفردي النهائي.

فنحن لا ننجو من الدكتاتور بمجرد سقوطه، بل تبدأ رحلة البحث عن الحرية الداخلية، أولا وأخيرا، من هذه اللحظة التاريخية بالذات وهذه مهمة النخب الفكرية وليست مهمة النخب السياسية التي لا يتجاوز خطابها السياسي سوى الوصف الإنشائي والاحتيال على القارئ من خلال منظومة لغوية فارغة أو خطابات لا تحمل أي مضمون فكري عدا نصب الفخاخ للخصم وسلوك التنكيل.

إن هذا هو بالضبط خطاب الدكتاتور وهذه هي أقبيته: ثقافة وصفية، ولغة افتراسية، وحيل، ومكائد، ورؤية للحياة بوعي أو بدون وعي من خلال عين الدكتاتور.

 والحياة اليومية زاخرة بالكثير من الأمثلة على أن هذا الدكتاتور قد سجن ضحاياه في أنفاق  نفسية وعقلية محكمة وفر بجلده وترك ضحاياه يرفلون بقيود غير مرئية لكنها أكثر قسوة من القيود الخارجية المرئية.

وقبل أيام كنت في زيارة عائلية لمثقف عراقي محترم وقد طلبت مني ابنته الكبرى أن تتحدث معي على إنفراد وقالت لي شاحبة الوجه محرجة أن أباها قد سجن العائلة كلها في سجون الطاغية. 

وكنت أعرف ماذا تعني لكني طلبت توضيحا فأضافت: نحن لا نخرج إلى حديقة في يوم مشمس إلا وصرخ أبي هذا البط يشبه مشية الدكتاتور، ولا نجلس لرؤية فيلم بما في ذلك صور الأطفال المتحركة حتى صرخ أن هذا يشبهه أيضا، ولا نجلس على مائدة طعام إلا وكان الدكتاتور حاضرا بيننا. إن أبي مسجون على نحو أبدي. هل من حل؟

ولم يكن عندي أي حل وخفت أن أقول لها أنني أيضا أعيش مع أبيك في نفس الزنزانة مع فارق واحد هو أني اعي سجني وأناقشه يوميا مخافة أن تشعر بجسامة الوضع وهو فعلا مؤلم جدا.

وهذه المثال ليس نادرا بل هو يتكرر كل يوم تقريبا على شاشات التلفزيون أو الصحف أو المواقع. فما أن يقول كاتب أو محاور بوجهة نظر  ما حتى يرفع الآخر في وجهه راية تسلل :ـ  هذا الرأي هو رأي الدكتاتور أو أنه دفاع عنه.

ليس غير ثنائية (مع أو ضد) الدكتاتور. بهذه الصورة تم اختزال الحياة برجل واحد مشوه حبس  الجميع في قبو داخلي عميق الهوة وفر بجلده.

لم تعد في العالم غير فكرة واحدة تلح على الجميع هي فكرة الدكتاتور، وليست هناك فلسفة أو صورة أو وجهة نظر أو قضية غير قضية الدكتاتور وتلاشت كل العلوم والثقافات والمعارف والأفكار البشرية حتى صرنا لا نرى الحياة، أو الأطفال، أو الحقول،  إلا بعين مشوهة هي عين الدكتاتور الشاحبة الزعفرانية.

هل تحل هذه( العاهة) حلا فكريا أو سياسيا؟ قد يكون الجواب السهل الآني نعم تحل لكن هذا الحل طويل ويحتاج إلى خلق مؤسسات نقيضة وإلى جهود مضنية وإلى مجتمع مدني يتمتع بحريات واسعة فردية وعامة.

لكن هذا الحل لوحده لا يكفي إذ أن المسألة ملحة ومنهكة ومدمرة على مستوى العيش الفردي وتشكل مغصا ينغص صميم الحياة ويقلل من استمتاع الإنسان بمباهج الحياة الشحيحة هنا أو هناك.

وحسب علم النفس السلوكي فإن هذا النوع من العقد المرضية يحتاج إلى أعادة صوغ للأفكار تغرس بهدوء وعلى مدى طويل( منظومة لغوية وفكرية بديلة) لأن برمجة العقل تمت على نحو غير سوي  ومشوه ولمرحلة طويلة.

إن هذه التشوهات الفكرية والسياسية والاجتماعية شكلت بالقوة والخوف، أنظمة متماسكة وصلبة من العادات السلوكية والذهنية والفكرية التي أخذت مظهرا خداعا على شكل قناعات سياسية أو فكرية وهي في واقع الحال أنساق فكرية مرضية تعيش على سطح العقل كطفيلي وتشكل ( ذاتا) أخرى بديلة تتحرك لحسابها الخاص خارج العقل نفسه وتشكل( أنا) منفصلة.

وإذا عرفنا أن الضحايا يحفرون أنفاقا داخلية بقدر عدد الناس الذين يتعاملون معهم في تلك الفترة الدموية، أي يشكلون( مجموعة ذوات ) حسب المناخ والوسط الاجتماعي الذي يتواجدون فيه، لعرفنا حجم الانشطار النفسي والعقلي الذي يعانون منه.

فهذه( الذوات) المصنوعة خوفا، أو تهربا، تحمل شحنة انفعالية وتشكيلة من القيم والأفكار المصاحبة، تشكل مع الذات الأصلية ( تابعا) نفسيا يتحرك لحسابه الخاص، حسب التفسير الدقيق لعالم النفس بيير داكو، وهذه الذوات التوابع تعيش على هامش الذات الشخصية الحقيقية وتزيحها بقوة ولا شعور وتشكل بدلها وجودا خاصا مستقلا يفكر به الضحية وهو يظن نفسه حرا وهو في الواقع محبوس داخل (أنوات) قهرية تشكلت في غفلة عنه وبالرغم منه وصارت تفكر وكالة عنه.

بهذه الانوات نعيش اليوم.
وبها نفكر.
وداخلها نقيم في قبو نفسي محكم بعد أن أغلقه الدكتاتور وهرب. ومنها تخرج ثنائية ( مع أو ضد) الدكتاتور أو غيره، لأن الثنائية، أي رؤية الحياة عبر مفهومين فقط في عالم وكون هائل التنوع هو نوع من حذف الذات، أو الكيان الفردي، وهو أفظع شكل بشري في احتقار النفس حتى لو تم ذلك في حالة زهو مزيف ومضحك.

وعن يقين شخصي دقيق أقول أن الدكتاتور الحقيقي لم يعد له من وجود خارج وجودنا العقلي، لكنه مقيم في داخلنا، ونحن سجناء بلا قضبان.

بلا زيارة.
ولا تصلنا رسائل العالم الخارجي
ولا علومه
ولا قيمه
ولا تجاربه
لأننا صرنا سجناء من الشمع في متحف قبو قديم!        



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصحافة الالكترونية وسلوك الزقاق
- آخر طفل عراقي يبكي غرناطة
- قتلى الورق أهم من قتلى الشوارع
- مكتشفو السراب
- ذهنية السنجاب المحاصر
- حين يختزل الوطن بمسميات
- رائحة الوحش
- محمد شكري وعشاء الثعالب الأخير
- الزعيم الغائب
- زمن الأخطاء الجميلة
- السياسة والشعوذة
- الكلب الأرقط النابح على العالم
- محاربو الغسق والشفق
- السياسي العراقي من الخازوق إلى المسمار
- حنين إلى حفلة
- مغني الفيدرالية
- لصوص الأزمنة الاربعة3
- العراق نحو الهاوية
- لصوص الأزمنة الأربعة1 &2
- غيمة في بنطلون مبقع


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - سجناء بلا قضبان