أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام مطلق - السببية بين السحر والدين والعلم















المزيد.....


السببية بين السحر والدين والعلم


حسام مطلق

الحوار المتمدن-العدد: 2176 - 2008 / 1 / 30 - 03:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ينقسم عمر حركة الوجود إلى أربع مراحل, مرحلة الطاقة المتحررة, ومرحلة الطاقة الكامنة, ومرحلة المادة الحية, ومرحلة الوعي. أي أن رحلة الكون بدأت تخرج عن السكون في لحظة الطاقة المتحررة, التي هي الانفجار الكبير, الذي وصفه عالم الفيزياء واينبرغ في كتابه الدقائق الثلاث الأولى للكون بالكلمات التالية " ... في البدء حدث انفجار كبير ملأ الفضاء كله, وهرب كل جسيم عن كل ما عداه. بعد حوالي جزء من مائة من الثانية, وهي أقدم لحظة يمكن أن نتحدث عنها بشيء من الاطمئنان والثقة, ارتفعت حرارة الكون إلى ما يقرب من مائة مليار درجة مئوية, وكانت المادة المضطربة أثناء هذا الانفجار مكونة من مختلف أشكال الجسيمات الأولية, والكون مفعما بالضياء ...". ومع التبريد الذي حدث لبعض النجوم المتحررة من الانفجار الأول وما تلاه من انفجارات جزئية أخرى دخل الكون في مرحلة الطاقة الكامنة في المادة. هذه الطاقة التي سوف يكون تفسيرها والوقوف على طبيعتها ورغبة التحكم بها هو محور عمل الفكر الإنساني والسبب المحرك لنشوء الفكر الديني, كما سنجد في السياق. المرحلة الثالثة هي مرحلة المادة الحية والتي نشأت عن التقاء المكونات البسيطة الأولى " راجع أخوان القردة ". أما المرحلة الرابعة فقد جاءت نتيجة لتطور المادة الحية الذي قاد في النهاية إلى ظهور الوعي.الوعي بدوره ينقسم إلى أربع مراحل :
- الأولى هي الوعي ألبدئي, وعبر عنه عالم الفيزيولوجيا الفرنسي كلود برنارد بالكلمات التالية " ... كل الميكانيزمات الحيوية على اختلافها إنما تهدف إلى شيء واحد هو إبقاء شروط الحياة ثابتة ..." ففي هذه المرحلة انصرف فعل المادة الحية إلى إعادة إنتاج نفسها, وغالبا بتغيرات محدودة يمكن إهمالها قياسا بالزمن المستغرق لتحققها.
- المرحلة الثانية والتي سنطلق عليها مرحلة الوعي الذاتي والتي بدأت تميز فيها المادة الحية نفسها عن باقي الموجودات والتي هي محصلة للتغيرات الطفيفة التي وقعت في المرحلة الأولى, أي مرحلة الوعي ألبدئي, تلك التغيرات التي قلنا أنها قياسا بالمدة الزمنية المستغرقة تعتبر قليلة التأثير.
- المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوعي المركب وفيها صارت الكائنات تميز ليس فقط نفسها عن الموجودات الأخرى بل باتت قادرة عن تميز نفسها داخل عالم الأحياء وهي المرحلة التي شهدت انقسام المادة الحية الجنسي, أي ظهور الذكورة والأنوثة في الكائنات الأولى.
- المرحلة الرابعة والأخيرة والتي ما تزال مستمرة, هي مرحلة الوعي الغائي. هذه المرحلة تميزت بقدرة أحد أشكال المادة الحية, الإنسان, أن تحرك فعلها لغرض غير بدئي, وأقصد هنا غير البقاء. ففي حين كانت المراحل الثلاث السابقة من الوعي حلقات تطورية دافعها البقاء لتكون تاليا كل الأفعال التي قامت بها المادة الحية هو التغلب على الظروف البيئية وتلبية الحاجات الغذائية والجنسية التي تحقق البقاء. في هذه المرحلة صار الوعي يقود إلى فعل آخر بالإضافة إلى غرض البقاء الأساسي, وهذا الفعل الجديد غبر " البقائي " تميز بخاصتين : الأولى السيادة والثانية الرفاهية. لقد صارت المادة الحية تعمل لأسباب أخرى غير الغذاء والجنس. لقد بدأ الإنسان يسعى لتحسين شروط العيش وعمل جاهدا على تسخير عناصر أخرى لقوته ونفوذه بغض النظر عن الحاجة لهذه العناصر في البقاء الفردي.
مرحلة الوعي الغائي بدورها تنقسم إلى ثلاث مراحل. وقبل أن نلج فيها من المفيد أن نقف من باب المعلومة عن مصدر كلمة غايا أو " جايا " كما تنطق باليونانية. غايا هي كلمة أغريقية الأصل, وهي أسم اله هو أم الأرض أو " الأرض الأولى " التي إليها المصير. وتعدل عند الرومان تسمية تليوس. ويستخدم مصطلح غايا في العلوم الفيزيولوجية للتعبير عما يعرف بـ " Bio-system" أي التوازن الحيوي للمتعضية أو للأحياء عموما وذلك وفقا لتعبير د.جيمس لفلوك الذي يقول إن أي شكل للحياة لابد وأن يقوم بأخذ ومعالجة وطرح المادة والطاقة. أي انه يخضع للإله غايا في دورته. وهي آلية يعبر عنها دينيا بالقول " من التراب إلى التراب ". وفي عالم الاجتماع يطلق على هدف السعي الإنساني الاجتماعي وهو ما قال فيه هيغل أن التاريخ يسير نحو غاية واعية. وهي رؤيا براهمية في أصل الوجود وسيرورته. ولها مستويات في حركتها ومستوعباتها, أحدها حركة الإنسان أو الدورة البشرية, وأعلاها هو حركة الكون والتي تمثل المستوى السابع والنهائي, أي الراهمن الكلي. بعد هذا العرض السريع لمعنى مصطلح غايا نعود لمرحلة الوعي غائي وأقسامها وهي :
أ‌- مرحلة الفردية, وهي مرحلة نفعية مطلقة تشبه في السلوك مرحلة الوعي البدئي القائم على البقاء والحفاظ على الذات بيد أن العمل منصرف لغايات أخرى أيضا كالرفاهية ( سكنى الكهوف وبناء الأعشاش ) والسيادة( راجع تقرير نيويوك تايمز الذي نشرته الشرق الأوسط عما توصل إليه علماء الأنثربولوجي عن وجود علاقات السياسية داخل العشائر الحيوانية ). هذه المرحلة هي مرحلة حيوانية ما تزال معظم الحيوانات عليها كما بعض البشر في الغابات الأفريقية حيث يغيب نظام الأسرة وتنتهي علاقة المولود بالأم مع بلوغ سن النضوج.
ب‌- مرحلة الوظائف الراقية والتي غادر فيها الإنسان مملكة الحيوان إلى عهده المدني الأول. وهي مرحلة تشكلت فيها الأسرة, بمعنى أنها الروابط ظلت قائمة حتى بعد سن البلوغ. وهي مرحلة, وجدانيا, مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات كالحمام والدلافين التي تجعل من العلاقة الزوجية علاقة ديمومة. كما تقدمت فيها هذه الحيوانات على البشر من حيث تكافل الرعايا الأسرية وتوزيع المهام بين الزوجين. بل يمكن تقديم الحيوانات على البشر في تلك المرحلة, حيث كان الذكر يقصر دوره على تقديم الطعام الذي يتطلب الصيد أو باقي أنواع الجهد البدني ولم يكن بعد يقدم الرعايا للأولاد.
ت‌- المرحلة الثالثة, وهي مرحلة الوعي الاستبطاني وفيها انتقل الإنسان إلى التأمل الوجودي مع امتلاك دماغه لقدرة الوعي بالذات والآخر والمحيط. وهي مرحلة التشكل الواضح للأخلاق والعواطف كنتيجة للتأمل الوجودي وفيها ظهور الشكل الأول للأسرة المعروف في عالمنا اليوم. أي أن المادة الحية في هذه المرحلة صارت تصرف فعلها, بالإضافة إلى الوظيفة الأساسية وهي البقاء والوظائف السابقة وهي والرفاهية والسيادة, صارت تتأمل في المحيط وتفك ألغازه.
هاذين العنصرين, السيادة والوجودية, سوف يكونان المحرك الأكثر فاعلية في تشكيل الحضارة الإنسانية, في منظومتها الاجتماعية على وجه الخصوص, عبر العصور اللاحقة. فمنهما تحرر فكرة الدولة والدين والفلسفة وباقي العلوم المعارف الإنسانية. وبسببهما, وانطلاقا من تباين نتائج التأمل تحديدا, قامت الحروب والنزاعات.
على أن العلاقة بين السيادي والوجودي ليست بالاستقلال الذي قد يعكسه استخدامنا لهذه الكلمات, فالفصل هنا حاد للضرورة البحثية. ذلك أن نتائج التأمل الوجودي استخدمت للغرض السيادي غالبا, وفي حالات كثيرة كان الغرض السيادي هو المحرك للفعل التأملي. فقادة المجتمعات القديمة كانوا السحرة, ومن ثم الكهنة, ومؤخرا الساسة. وكما نلاحظ فإن الأصناف الثلاثة هم أصناف غير منتجة بالمعنى المادي المباشر بل طفيلية, واستحضر هنا وصف تولوستوي للسياسي " إنه طفيلي يعيش على أرزاق الفقراء " وهو وصف يصح على سابقيه في التسيد الاجتماعي لنيتشه قول فيهم وكذلك لهيغل وغيرهم من الفلاسفة وفي كل الأحوال هو لا يقل قسوة عن وصف تولوستوي.
النتيجة السيادية التي وصلنا إليها تنسجم مع تقسيم هيغل للتاريخ اجتماعيا إلى ثلاث مراحل, الأولى مرحلة السحر, الثانية مرحلة الدين, الثالثة مرحلة العلم. وهو تقسيم وافقه عليه عالم الأنثروبولوجيا البريطاني السير جيمس فريزر حيث صاغ منه نظرية كاملة عن نشوء الفكر الديني تحدث عنها باستفاضة في كتابه الغصن الذهبي حيث يقول : "... ففي استراليا حيث نواجه أكثر المجتمعات الموثقة لدينا بدائية, نجد أن الجميع يلجأ إلى السحر, بينما نلاحظ غياب الدين بالمعنى التقرب إلى قوى عليا واسترضائها...". انتهى النقل. في هذه المرحلة ظن الإنسان انه قادر على التحكم بالطبيعة بالتعاويذ والكلمات والحركات المجردة. طبعا كان قد مضى بعيدا في تطوير قشرة الدماغ " مركز الوظائف الراقية" ومقدمة دماغه " مركز الوظائف التواصلية " ( راجع تزامن المسارات الخيار الإستراتيجي الذي غير التاريخ). هذا التطور البيولوجي جعل هدفه السيادي يصبح عالي التأثير في فعله الخارجي, وفي بعض الأحيان أكثر أهمية من هدف البقاء. لذا صار مستعدا لبذل جهد أكبر من أجل معرفة تخدم هذا الهدف ولو لم تكن متصلة بالغذاء والتكاثر. بل إنه في حالات صار مستعدا للمغامرة ببقائه نفسه خدمة للهدف السيادي.
في هذه المرحلة وفق البعض في كل مجتمع في الحصول على بعض المعارف ذات الخصائص العلمية, طبعا معرفة بسيطة ولكنها وفقا لذاك الزمن كانت فتحا كبيرا, حيث قاموا بتوظيفها لخلق إيحاء لدى أفراد القبيلة العاديين بامتلاكهم خصائص فريدة تجلهم أكثر تميزا عن باقي العشيرة فصاروا يستغلون جهود البسطاء من أجل رفاهيتهم وسيادتهم " تولوستوي والطفيليين ". هذا التمايز الوهمي أعطى الساحر نفوذا في العشيرة أو الدولة الصغيرة. ولكن شيئا فشيئا صارت المعارف المتراكمة لدى باقي أفراد العشيرة العاديين تطرح أسئلة تعجز السحرة. هذه التجارب كانت مستقاة من التجريب البسيط أحيانا ومن النقل عبر الرسوم أحيانا أخرى وفي ثالثة من حالات التزاوج بين العشائر. لقد صار المواطن في العشيرة يطلب من السحرة وبشكل متصاعد توظيف تلك الخصائص الفريدة المزعومة في خدمة مجتمعه, بمعنى إنقاذهم من كارثة أو جلب الخير بشكل متواصل " سوف يرد معنا تعريف السببية في السحر لتوضيح الفكرة بعد سطور". ومع العجز المتكرر لم يكن أمام السحرة سوى الانتقال إلى مرحلة ثانية جديدة نقلوا فيها خصائصهم الفريدة إلى شخوص علوية تسيطر هي على الظواهر وأبقوا بأيديهم القدرة على التواصل مع تلك القوى. لقد أصبح الساحر كاهنا ولذا احتاج إلى أله. فهو لم يعد يقوى على التدخل في قوانين الطبيعة بكلماته التامات ولكنه وبحكم أنه مقرب من الشخوص العلوية الخارقة صار الأمل للعشيرة في نقل شكواهم واستعطاف تلك الشخوص لمنع العقاب أو جلب الخير. لقد ولدت الإلهة لدى بعض الشعوب أو الشيطان لدى أخرى وذلك وفقا لطبيعة المناورة التي قررها السحرة. فهو إله حين نقل الساحر صفاته الخارقة إلى الشخوص العلوية نقلا كاملا, وهو الشيطان حين نقل الساحر إلى الشخوص العليا قدرة التسبب بالكوارث وأحتفظ بالخيرات لنفسه. مع التذكير أن تلك الخيرات كان يعطل الشيطان تحققها وهذا المخرج من التحكم المطلق الذي افترضه السحرة القدماء والذي صار عبء على السحرة المحدثين, فإن وقع الخير فالساحر هو صاحب الفضل وإن لم يتحقق فالشيطان اللعين من منعه, وتاليا هو حافظ على سيادته متخليا عن خصائص صارت عبء عليه. السير جيمس فريزر يصف هذه المرحلة بالكلمات التالية " ...إذا كان الدين اعتقادا بكائنات خارقة تحكم العالم وبالتالي التدين هو القيام بما من شأنه التأثير على هذه الكائنات فإن الإنسان المتدين يفترض أن سير العمليات في الطبيعة هو عرضة للتبدل والتغير في أي وقت اذا تدخلت الكائنات المقدسة التي تتحكم في الطبيعة..."(أذكر هنا بقول أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة : لو جاء تقي صالح وقال إن الطاولة قد صارت حمار فسوف أقبل منه ذلك لأن الله على كل شيء قدير – واذكر بالقول الشائع في مجتمعاتنا : لا يرد القضاء إلا الدعاء) وهذا يعني أن القوانين في الفكر الديني لا تتصف بالثبات بل هي مرنة يمكن إعادة صياغة النتيجة فيها بالكلمات والحركات المجردة دون أن ننسى أن الدين يختلف عن السحر في انه يفترض أن التغير يقع بفعل نفوذ قوى علوية فيما يقوم السحر على أن المؤثر هو الساحر نفسه. طبعا بهذا التغير مدد السحرة أمد نفوذهم فترة جديدة وحافظوا وهم كهنة على مناصبهم السيادية في قيادة المجتمع. فلم يعد التغير مرتبط بشخص الساحر كي يتحمل هو تبعات الغضب أبناء العشيرة بعد الكوارث والهزائم بل هو الفرصة الوحيدة كي يتمكن أبناء العشيرة من إيصال استعطافهم لتلك القوى وهو الخيار الوحيد كي يقلل الخسائر. فالفعل هنا ليس لكلماته التامات ولكن لتلك القوى وبالتالي أي ضرر هو ناتج عن سوء سلوك أبناء العشيرة أنفسهم والمنفعة تقع بفضل قدرة الكاهن على استعطاف تلك القوى العلوية. إنها نقلة نوعية وفيها مخرج ذكي سمح بأن يكون مداها طويلا وعميقا في الوعي الإنساني. إلا أن الانتقال لم يكن نهائيا وهو أمر يؤكد عليه علم الاجتماع حيث أن تغير ثقافة المجتمعات يتطلب عصور وأجيال فحتى عند تبدل الحقائق تبقى المصطلحات اللغوية والرهبة الداخلية وتأثر اللاوعي في الفعل الواعي من العوامل التي تعيق التغير الجذري السريع والحاسم. (راجع رؤيا ليبرالية في الأخلاق وتطور المجتمعات – بين العرف العام والعرف الخاص) ومن هنا كان لابد من مرحلة متداخلة بين الدين والسحر مثلتها المرحلة الموسوية. أي الديانة اليهودية وأساطيرها, ويمكننا أن ندعم هذا الفرض, التداخل بين الدين والسحر, بالكثير من الشواهد, سواء من القصص الإسرائيلية أو من التوراة نفسه فمثلا ورد في سفر الخروج ( 10-13 ) " ...فأخذ موسى وهارون رماد الآتون ووقفا أمام فرعون وذراه موسى نحو السماء فصار دمامل في الناس وفي البهائم...". الطقس السحري في الواقعة جلي للقراء ولاشك, فقوانين الطبيعة يمكن تغيرها, ولكن ليس بإرادة الساحر, كما كان الوضع سابقا, ولكن بإرادة يهوى إله اليهودية. هذه المرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة السحر الديني كونها تعتمد على قانون الأثر بين السبب والنتيجة سببيته قوة تتوسط بين طرفي الحادث أي بين الكينونة الأولى والكينونة الثانية. وهذا طبعا يخالف العلم الذي يفترض أن السببية هي نتيجة لخصائص كامنة في طبيعة الأشياء, وبالتالي فإن إخضاع المادة لنفس المؤثرات يعطي نفس النتائج . فعلميا الخشب يحترق بالنار, ولا تكفي الكلمات كي تكون النتيجة سلاما, بل التفحم حتمي مهما تكررت العملية. وهذا يعاكس الرأي في مرحلة السحر الديني, حيث أن صلابة الخشب من الأمور التي يمكن تحويلها إلى مرونة, و " الجمادية " تصبح حالة حية كما جاء في التوراة "... طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا, فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة ففعل عرافوا مصر بسحرهم كذلك طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم...". هذا النص بالإضافة إلى أنه شاهد لتطويع السحر الديني لقوانين الطبيعة يمكن أن نستند إليه في جملة استنتاجات :
-أولا أن الدين لم يكن معروفا لدى المصريين بدليل أن الملك استدعى السحرة والعرافين والحكماء ولم يستدعي الكهنة والأنبياء.
-ثانيا أن الحكمة والسحر كانا متداخلين لدى المصريين القدماء بدليل الترابط السردي بين الوصفين.
-ثالثا إن السحر كان مقبولا في الفكر الديني بدليل أن التوراة لم ينفي صحة سحر السحرة ولكنه تحدث عن الانتصار عليهم. وعليه, وكون الفكر الإنساني تراكمي, فلا يبقى لدينا أي شك في أن الدين هو من نتائج تطورات عهد السحرة وهو ما يؤكد صحة نظرية هيغل عن تقسيم التاريخ اجتماعيا. كي تستقيم الأمور أكثر, خصوصا من حيث العلاقة التراكمية المعرفية, نحن بحاجة إلى ربط الحالة الموسوية, أي السحر الديني, سببيا, عبر الوقائع التاريخية كما ترويها الكتب الدينية. فالمراجع الدينية متفقة على أن موسى, أو مو ( ماء ) سى ( منتشل ) في العبرانية, عاش في مصر طفولته وشبابه. وهي تتوافق أيضا على أنه سكن في العراق بين ثمان وعشر سنوات حيث تتلمذ على يد رجل سمي بالصالح وتزوج من ابنته التي أعجبت به لصلابته ورقي خلقه حين سقى لها وحشمها عن الرعاع. كارين أرمسترونغ تقول في كتابها عمر الله في الأرض أن حمى مو سى هو احد تلاميذ زرادشت. أي أن مو سى حمل في ثقافته نوعين من الوعي. الوعي السحري الذي رباه عليه المصريون, والوعي الديني الذي كان عليه أهل العراق وبلاد فارس. وبذلك يغدو طبيعيا أن يكون مو سى هو ممثل فترة السحر الديني لأنه ابن الثقافتين. بل إن الدراسات الأثرية تنسب للمصرين أول تسجيل للشيطان في بردى كتبت فيها صلوات لهم. وهو ما يقيم العلاقة بين تهرب الساحر من القدرة المنفردة وتحميل التبعات أمام العامة إلى القوة الخفية. والتي يبدو أن السحرة في مصر كانوا ممن أبقى لنفسه قدرة الخير ونقلوا الشرور للشيطان. أما في العراق وبلاد فارس فالفكرة كانت قد ذهبت أبعد, بل بدأت تخط أول معالم الوحدانية, حيث اختصر الإله إلى ربين, فكان الخير من فعل رب والشر من فعل أخر لدى الزردشيتة وبذلك أخرج السحرة نهائيا من الوعي الجمعي هناك ليتم نقل السيادة إلى الفلاسفة والمفكرين. ذلك أن الظواهر الطبيعة المختلفة, الجيدة والسيئة, من الأعاصير والبراكين والأمطار هي من نتاج صراع الربين ولا علاقة للقوى البشرية فيها نهائيا. هذا كله تم إسقاطه في اليهودية برب لليهود اسمه يهوى تطلب إعادة تقسيم للنوع الإنساني يصبح فيه اليهود هم شعب الله المختار فيما باقي البشر مرحلة أعلى من الحيوان وأقل من بني إسرائيل بحكم أن أبناء عيسو, وهو الأخ التوأم ليعقب – يعقوب- لم تشملهم رحمة يهوى, فالنذر الذي قدمه يعقب ليحصل على بركات يهوى كان أفضل من نذر عيسوا, وتاليا حقت اللعنة على أبناء عيسو الذي لم يعطي جل همه لطاعة يهوى. هذا استطراد ولكنه مفيد في تفسير التسلسل التاريخي لفكرة الله في الأرض من جهة وهو أيضا يلقي الضوء على مصدر التماثل الطقسي بين اليهودية والزردشتية. فوفقا لكارين أرمسترونغ لقد أعاد موسى صياغة التعاليم الزردشتية بما يوائم عادات القبائل الإسرائيلية وأعاد صياغة نظرية الإلهين التي تعلمها لدى تلميذ زرادشت. وكما نلاحظ فإن هذه المرحلة, مرحلة السحر الديني, ما يزال الوعي فيها يجعل قانون السببية قائم على خاصية القوة الخفية, ولكنه في السحر بفعل الكلمات التامات للساحر, وفي السحر الديني بفعل إرادة القوى العلوية التي تتجلى على يد الكاهن. كي لا تختلط الأمور على القراء الكرام أميز هنا وانطلاقا من قانون السببية في التعريف بين الفكر السحري والفكر الديني والفكر العلمي.
1- في السحر الانتقال في الأثر بين السبب والنتيجة يكون بفعل القوة الخاصة التي يمتلكها الساحر والتي تؤهله بها كلماته التامات في تغير النتائج. الساحر له قدرة على تغير قوانين الطبيعة.
2- في الدين الانتقال في الأثر بين السبب والنتيجة يكون بفعل القوة الخاصة تتحكم بها القوة الخفية العليا " واحدة أو عدة وفقا للمعتقد ", وهنا أيضا الطبيعة تقوم على قوانين مرنة يمكن تطويعها وفقا للحدث السياسي أو الاجتماعي.
3- في العلم الانتقال في الأثر بين السبب والنتيجة يتم بفعل القوة الكامنة في طبيعة الأشياء ومحررها هو توافر الشروط الفيزيائية والكيميائية المحيطة بغض النظر عن الواقع الاجتماعي أو السياسي, وهذا الرأي هو الذي أجاب فيه ابن رشد أبو حامد الغزالي عن تحول الطاولة إلى حمار حين قال في تهافت التهافت : " ولكن لما سيجعل الله الطاولة حمارا!." إنه فصل تام للعلمي عن الاجتماعي والسياسي وإقرار باستقرار قوانين الطبيعة وتمحورها حول الشروط الفيزيائية والكيميائية الصرفة.
وأنوه إلى أن المعتقدين بالعلم أيضا بعد اتفاقهم على السببية الكامنة فهم على قولين: الأول بأن الموجود الأول, كما أسماه الفارابي وباقي الفلاسفة في الزمن الإسلامي, وضع القوانين الأساسية غير القابلة للخرق والتغير وتاليا الكون سائر إلى غاية ولكنها منه وليست بخارجة عليه, وهو قول أرسطو أيضا " غاية العالم تكمن فيه ". والثاني وهو قول الملحدين بأن الكون نتيجة لنفسه وهم بين رأيين في نهايته وفناءه. الأول توسع ينتهي للفناء نتيجة البرودة الأزلية. وثاني تقارب يؤدي للدمار. ويبقى أن نذكر بمقولة البراهمن, أي الكلي غير المشخصن الذي صدر عنه ما عداه, والتي تتحدث عن دورة أزلية تدعى السنسكريتية. وهي دورة أبدية تتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الظواهر الطبيعية حيث تعيد الحياة إنتاج نفسها من النقطة التي تنتهي إليها. وهو ما يطابق في مصطلحات عصرنا مصطلح " قانون الطبيعة ". ولا يخفى على أحد مدى التلاقي هنا بين نظرية التقارب, حيث تؤدي التصادمات المتكررة بين النجوم والكواكب في طريقها لإعادة اندماجها, والذي يفترض منطقيا أن يصل هذا التقارب إلى نقطة من الضغط الشديد تقود على انفجار جديد يعيد إنتاج النشوء الأول الذي بدأ من الانفجار الكبير الأول. وبنفس الطريقة التي نتجت فيها هذه الحياة سوف تعود حياة أخرى وفقا لشروط تطورية أخرى في إنتاج نفسها, إلا أن هذا لا يتحقق وفقا للبراهيمية إلا بعد أن تكتشف الدورة الحياتية وحدتها, وتتم تحقيق غايتها في التلاقي ولعل مثل هذا الإحساس على الصعيد الفردي يتطلب تجربة خاصة جدا يعيها الصوفيون أو من كانت لهم مشاهدات خاصة كتلك التي عبر عنها راسل شفايكارت وهو رائد فضاء أميركي حين قال وصفا مشاهدته للأرض من الفضاء " كان كوكبا جميلا, وديعا, أزرق اللون, ذا سحب بيضاء و وهو ما يمنحك شعورا عميقا بالوطن, بالوجود, بالهوية... إنه الشعور الذي أفضل أن أسميه بالوعي الكروي " هذا الوعي الكروي هو ما يجعل المتصوفة والفلاسفة رافضين لكل شكل من أشكال التميز العنصري بين البشر يقوم على التقسيمات الدينية والعرقية الطبقية التي تقيم الحواجز بين البشر وتقلل من أدمية بعضهم على حساب بعض وتستأثر لنفسها حق امتلاك الحقيقة وحق التفكير والتأمل الذي يوظف سياديا تماما كما فعل السحرة في العهود الأولى.



#حسام_مطلق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اخوان القردة بكلمات فلاسفة العرب
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثالث - في الوحدانية وا ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الرابع - في القصص وأخبار ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الخامس - في الاعجاز العل ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء السادس - في الصلاة وتماث ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء السابع - الخلية الأبيوني ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثامن - في الصفات المحم ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء التاسع - الاضطهاد والتعت ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء العاشر والأخير - محاكمة ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثاني ( في اللغة و الاض ...
- الاسلام في التفكيك والتركيب - مقدمة
- اخوان القردة
- الدماغ رحلة 300 مليون سنة من التطور
- تزامن المسارات : الخيار الإستراتيجي الذي غير التاريخ
- سباق بين بورش وديزل
- جنس - حب - ارتباط
- المثلية الجنسية - حدد جنسك ذاتيا
- آليات خلق الجماعات الدينية - الصلاة كمثال
- الفاتيكان والقضية الفلسطينية موقف و دور
- مختارات من اقوال الحكماء


المزيد.....




- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام مطلق - السببية بين السحر والدين والعلم