أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - جلولاء.. سيرة مكان.. (1 - 4)















المزيد.....



جلولاء.. سيرة مكان.. (1 - 4)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2175 - 2008 / 1 / 29 - 00:34
المحور: سيرة ذاتية
    


مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
علاقتي بالأشياء، تبدأ بعد فقدانها، لأني خلال وجودي معها أو فيها، أكون مدفوعاً بقوة قدرية، مثل القانون الطبيعي للمادة، الذي يمثل انسجامُنا معه ضمانة لحفظ توازناتنا النفسية والوجودية. الحياة تقوم على (التلقائية) والانسجام، أما العلاقة فهي مسألة قصدية (ذهنية) قائمة على التفكير. والتفكير يعني تحويل (مقطع حيوي) إلى شيء، والشيء كائن يعيش في الذهن، مختزل في الواقع. كلما اكتشفت تعلّقي (بشيء)، وحاولت التفكير فيه شعرت بحزن مفاجئ، كآبة كونية تطغى على كل صور الحياة، وتخلق في داخلي ميلاً للانطواء والسكونية والعزلة. ذلك الحزن المقترن بالفقدان والخوف من الفقدان. منذ تلك السنوات المبكرة ارتبط التفكير (كعملية قصدية إرادية) بالشعور بالفقدان والحزن في علاقة جدلية ملغزة. كلما فكرت زدت كآبة وعزلة، في الوجود والمجتمع. كلما أقلعت أو تحررت من التفكير، وجدتني أكثر خفة واندغاماً في الوسط. وكانت أمي تردد كثيراً.. حشر مع الناس عيد.
بيت جدرانه سميكة..
في تلك المدينة رأيت العالم لأول مرة. أقول، العالم، لأن تلك الصورة الأولية التي تتفتح عليها مداركنا للمرة الأولى، هي الصورة التي تبقى ترافقنا كل العمر، مهما تغيرت الظروف والمقادير. الاكتشاف الأول، الحبّ الأول، الدفء، الخوف الأول. صورة البيت التي ترافقني اليوم، هي ذلك البيت الطفولي الأول، بحجرتيه المتعامدتين وشجرة الرمان اليتيمة وسط الحوش والممرّ الطويل الموصل للباب الخشبية الخارجية. الباب الحمراء الفاقعة، والتي قمنا، أخي الأكبر وأنا بشراء علبة صبغ أخضر دهني وأعدنا طلاءها. كان طول ذلك الممر خمسة أمتار، تنفتح على باحة واسعة مربعة الشكل، تتوسطها شجرة رمان ضعيفة، في نهاية الباحة قاطع المعيشة الذي يتكون من ثلاثة أقسام، حجرة جلوس مفتوحة على الحوش في الوسط، على يسارها حجرة المطبخ ، وعلى يمينها حجرة النوم. كانت كل واحدة من تلك الحجرات مربعة الشكل. وحجرة النوم أقدم أجزاء البيت، عميقة عن مستوى الحوش بحدود نصف المتر، باردة جداً في الصيف ، ومثلجة في الشتاء، معتمة ومخيفة لنا نحن الأبناء حتى في النهار، في نهاية الحجرة كانت خزانة خشبية صاج قديم تنتظم فوقها الأفرشة والأغطية. ماكنة خياطة يدوية وطاولة مهملة . تلتصق بالمطبخ حجرة ثانية بابها على الحوش من الجهة الأخرى، وهي أحدث أجزاء البيت، كانت تستخدم غرفة للضيوف. على الجهة المقابلة لها والقريبة من الحجرة العميقة كانت حجرة صغيرة للحمام وخلفها (بيت الأدب). من الملاحظات الرئيسية على هذا البيت عدم وجود سطح، أو بالأحرى عدم وجود سلم للصعود إلى السطح، لذلك كنا ننام في الحوش في ليالي الصيف. كانت الباحة (الحوش) مفتوحة نحو الأعلى على سماء زرقاء باهتة، يحيط بنا من الجانبين بيتان مبنيان بالطابوق الأصفر، بيت صالح قصاب على اليمين، وبيت محمد باييز على اليسار. ذات مرة كنا نلعب فوقعت حاجة على السطح، وأردنا إحضارها دون علم الأهل. كان للحجرة العميقة شباك خشبي بأسياخ حديدية متعامدة، صعد أحدنا على كتف الآخر، متشبثاً بأسياخ النافذة وارتقينا إلى السطح. لم أكن ضخم الجثة ولكنني انحنيت بلا وعي مني خشية أن يصطدم رأسي بالسماء، لا أدري.. بقيت منحنياً وأنا أتقدم لالتقاط الحاجة وإلقائها نحو الأسفل، وقلبي يكاد يقع.. قبل أن أفكر في النزول اعتراني الفضول للنظر خلف دارنا. نظرت نحو اليسار واليمين ثم ابتعدت بناظري واستقمت بقامتي.. رأيت عدداً لا نهائياً من بيوت متلاصقة مثل صناديق الشاي، بعضها مفتوح الفوهة ولبعضها سياج أو سطح .. خلف محلتنا يمتد (وادي العوسج) الواسع حتى الشارع الرئيس الذي تبدأ بعده محلات سكنية أخرى، ترتفع على سفوح التلول والجبال الشرقية الموغلة في الافق . تراءت لي مدينة جلولاء يومذاك، مثل نيويورك اليوم بازدحامها وناطحات سحابها. لم أكن قد رأيت من المدينة غير محلتنا، وطريق المدرسة القريبة من المعسكر، والسوق.
باب بيتنا الذي صبغناه بالأخضر الدهني، هي الباب الثالثة من جهة الشرق، الأولى باب بيت الحاج قادر، تليها بيت ولده صالح، بابنا، باب جارنا أبي خالد، باب بيت كبير هو أوسع بيوت المحلة قاطبة، بعده باب بيت صغير يتقدم عن مستوى صف بقية البيوت، ليعلن بدء الضلع المستعرض من جهة السوق، في الضلع المستعرض ثلاثة بيوت، لا أذكر أسماء أصحابها، كان الأول منها يعود لعائلة كردية، لوالدهم (موتورسيكل) عسكري قديم لونه أسود يستخدم لنقل الأشخاص إلى مدينة (كلار) الشمالية. يترك هذا البيت على يمينه ممراّ بعرض المتر (دربونه) لمرور المشاة إلى سوق المدينة. وفي هذه الدربونة الضيقة أبواب بيوت متلاصقة عديدة لا أذكر مرة أنني أحصيتها أو عرفت شيئاً عن ساكنيها. طول تلك الدربونه في حدود العشرة أمتار، تنفتح على فضاء، من الجانب الأيمن بيت موسر يحاذي البيت الكردي من الخلف، وتشتهر أمام هذا البيت بستان (بقجة) كبيرة عامرة بالفاكهة والأشجار المثمرة، وهي منخفضة عن مستوى الطريق بحدود المترين. وعلى الجانب الأيسر يستمر صف من البيوت حتى حافة (وادي العوسج) ثم يستدير الطريق ليبدأ صف من البيوت المرتفعة المطلة على فضاء (الوادي) عائدة نحو الشرق، وهي البيوت المحاذية لنا من الخلف. أما طريق السوق فيبقى ملاصقاً لسياج (البقجة) متجهاً نحو اليمين عبر قنطرة واهية على مجرى الوادي باتجاه بيوت عمال السكك وهضبة المحطة التي يليها (سوق جلولاء). كانت تلك القنطرة تهتز عند المرور عليها وكنت غالباً أعبرها عدواً من بداية السكة حتى (البقجة).
ساحة المحلة البيضوية..
وعودة إلى صف البيوت المستعرضة الثلاثة، لم يكن البيتان الثاني والثالث مشغولة على الدوام. بعد البيت الثالث تبان حافة الهضبة أو بداية انحدار الأرض نحو مجرى الوادي المحيط بمحلتنا من جميع الجهات. بعد مسافة واسعة نسبياً تكفي لمرور سيارتين كبيرتين، يبدأ صف من البيوت المقابلة لنا، وهي في حدود سبعة أو ثمانية بيوت، تخترقها بعد البيت الخامس (دربونه) ضيقة متعامدة مع خط المحلة باتجاه حافة الوادي من الجهة الأخرى والمؤدية عبر السكك الحديد باتجاه الحي العسكري ومدرسة جلولاء الأبتدائية الثانية.
بعد الممر الضيّق المقابل ثمة بيتان متجاوران هما آخر بيتين في الصف المقابل، تنتهي بعمود كهرباء ضغط عالي، البيت المستعرض من جهة الشرق واسع ومترف وكثير الحجرات، وهو بيت (ركن)، يستمر معه صف من البيوت نحو الوادي بانخفاض متدرج، بينما يستمر امتداد فضاء محلتنا بجواره لتليه ثلاثة أبواب، آخرها بيت جدي الكبير. يقابلها باب بيت صغير، كانت تسكنه عائلة (مايخان) ويجاوره من الجانب بيتان متجاوران بابهما في دربونه أخرى توازي الدربونة السابقة المتعامدة مع محلتنا وتستمر عبر بيوت السكك نحو طريق المدرسة. كان أحدهما يعمل في صنع الخبز، والثاني بيت أبو هاشم ولهم دكانة صغيرة لبيع السجائر والشوكولاته والمواد البسيطة. أما الصف المقابل لهذين البيتين فالأول وهو ملاصق للبيت الأخير المقابل لنا، لعائلة كردية، يستعرض المحلة أمام بيت جدي، ويجاوره بيت يعمل في صناعة الخبز أيضاً وصاحبه ابن عم البيت المقابل له (الخبازين).
هذه صورة محلتنا (الهضبة) التي كان يطلق عليها محلة (اللوكه) لقربها من (كراج) القاطرات حيث يتم غسلها وتشحيمها وصيانتها قبل عودتها للاستخدام والعمل. وقد استبدل الاسم إلى محلة الجماهير أو العروبة في سياق التعريب في السبعينيات، ولكننا كنا قد انتقلنا إلى مدينة أخرى . واقتصرت مراجعاتنا على مناسبات الأعياد والعطل المدرسية لزيارة بيت جدي.
جبال (زاكَروس) .. رهبة الصمت والأسرار
تحدّ المدينة من جهة الشرق سلاسل جبلية وعرة ومتداخلة تأخذ بالارتفاع كلما توغلت شرقاً، كما يتكشف ذلك من التدرج اللوني لقمم الجبال التي تستمرّ كذلك نحو الشمال بينما تبتعد مع الاتجاه نحو الجنوب حيث مدينة خانقين الأكثر توغلاً في الحدود. يفصل المدينة عن سلسلة الجبال الداكنة جادة إسفلتية هي امتداد طريق السيارات الرئيسي من مفرق السعدية – خانقين جهة الجنوب صعوداً إلى مفرق كفري – كلار شمالاً عبر جسر عسكري. غرب الجادة الرئيسية تقع المدينة بين سلسلة الجبال السامقة ومجرى نهر ديالى المنحدر جنوباً. حتى بداية السبعينات كان الجانب الآخر من الجادة أرضاً بكراً غير مستوطنة، ما خلا مفرق بداية المدينة حيث مركز الشرطة العتيد ومديرية الناحية ودائرة النفوس (التسجيل المدني) وإلى الخلف منها بناية معلقة على ربوة هي (دائرة تجنيد جلولاء) تفصلها عن مستوى الشارع ثمانية وعشرين درجة فتبدو للرائي من بعد مثل زقورة سومرية مطلة على جناح المدينة النائمة. جدير بالذكر هنا أن المقبرة كانت علامة بداية المدينة. مقبرة كائنة على هضبة متصاعدة بكبرياء جلي وهي تلقي بنظراتها على تهدجات مياه نهر ديالى الذي يأخذ في الاتساع في نقطة مقابلة حتى يمتدّ للأفق ويبدو كأنه بلا حدود.
في بداية المدينة – قبل تقاطع الكراج والناحية- ينبسط سطح الأرض على جانبي الجادة شرقاً وغرباً، ومع تدرجها في الارتفاع نحو الشرق، تتدرج في الانخفاض نحو الغرب حيث مجري النهر والسهل الرسوبي وهو من أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة. ومن الأحداث الرئيسة في تاريخ المدينة هو رفع المقبرة، وحركة الاحتجاجات المتواصلة لأهالي المدينة ومراجعاتهم الجريئة للمراجع العليا، وتغريرها بالمواطنين، حيث تم رفعها بعد تأخير مدة تزيد على سبعة أشهر.
جلولاء.. سيرة مكان.. [القسم الثاني]
" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."

"اللحود تبتسم بشهية في مدفن جلولاء الحديث" (الشاعر حسن النصار)
كنت يومها طفلاً صغيراً، وبالكاد تتسع مداركي لألاعيب السياسة ومعاني الموت والتقاليد الخاصة، ولكنني كنت أشعر بنفسي، رغم عدم دخولي تلك المقبرة وخوفي (الباطني) من الاقتراب منها، أنني ضد رفع المقبرة. رأيت والدي منهمكاً ومغتماً بشكل غير اعتيادي. ولكنه كان قليل الكلام في أموره ومشاغله. ورغم أسئلتي وفضولي المبكر وزعلي فقد كان قادراً على التملص والتظاهر باللامبالاة، وحتى الترنم بآهات (تركمانية) أمامي ليقنعني بعدم وجود شيء. لكنني كنت أرافقه كثيراً، وكان يحب أن يصطحبني في مشاويره وزياراته وهو ما فتح ذهني على كثير من أمور دنيا ، بدت لمن لا يدقق في ملامحها، على ما يرام وربما جميلة أيضاً لبعض البعض. كنت أرهف سمعي عندما يلتقي أشخاصاً آخرين، وألتقط كلاماً وكلمات تعلمت معانيها ودلالاتها بالتكرار. في تلك الأيام، قام والدي بزيارات متتالية لعدد من الأقارب والمعارف، وكان موضوع الحديث، المقبرة. كان لنا أقارب تحت أرض هذه المدينة، لم يحدثني أحد عنهم. ولم نذهب يوماً في زيارة إليهم. لأن أهلينا لم يكونوا يصطحبوننا إلى القبور. ولم نسمع منهم أشياء مؤلمة حدثت قبل أن نولد. كان عدد موتانا كبيراً، وكان موضوع النقل يدخل في متاهات اجتماعية وفقهية وإنسانية. ولم يُبدِ أي من الأقارب يومها حماساً للمساعدة. فجر ذات يوم وضع والدي (غترة) بيضاء على رأسه وحمل كيساً فيه مواد، وجدتني أنظر إليه، وبدون أن أسأله قلت له بصوت متوسل: أجيء معك!. لم يقل شيئاً، ارتحت نفسياً، بعد قليل قال لي.. هيئ نفسك!. انطلقنا منذ الفجر. لم أسأله عن الوجهة. كنت أتعلق كالعادة بإصبع يده الأصغر، وهو مندفع في مجاهيل صمته. صعدنا القطار.. في منطقة قاحلة نائية توقف القطار فترجلنا. وعدنا نغذ السير ثانية.. الشمس آخذة بالارتفاع، والحرارة من هنا وسرعتنا التي تجعل سيول العرق تنزّ فوق ملابسنا.. كان طريقاً ترابياً.. من الخلف تقدم صوت (موتور سيكل) فوقفنا على جانب الطريق.. كنت أعتقد أن غاية والدي تجنب (العجاجة). أبطأ سائق الدراجة من سرعته وعندما وصل إلينا وضع قدميه على الأرض.. تحدث مع والدي، كان هذا معلماً في تلك القرية، صعدنا خلف المعلم وانطلق كالسهم. بدأت نسمات رياح باردة تلسع أجسادنا المعروقة فتسري البرودة في أعماقنا وأشعر بالانتعاش. ربما كانت تلك المرة الأولى التي أركب دراجة بخارية. صرنا نرى مجرى نهر ديالى الواسع أمامنا ثانية. بيوت طينية واسعة. توقفت الدراجة. ترجلنا . عدنا لمواصلة المسير. نهر ديالى يبتعد نحو الغرب.. ونحن نشق نحو الشرق.. هناك تجلت آثار مقبرة.. في بداية المقبرة بئر ماء مزودة بدولاب ودلو جلد لسحب الماء. ملأ والدي الدلو بالماء ودعاني للاغتسال.. واغتسل هو .. ثم روينا عطشنا من الماء. تقدم والدي من ضريح (امام اسماعيل) المدفون داخل كهف تحت مستوى الأرض، لأداء الزيارة. ثم تجول في أنحاء المقبرة لوهلة، وهو ينقل بصره. في مكان ما، أفرغ محتويات الكيس، أحضر معولاً من مكان قرب الضريح، وراح يحفر في الأرض. أجول بناظري فوق شواهد القبور. والدي يعمل بصمته المعهود. قطرات عرق كبيرة تنزّ من جبينه يمسحها بطرف (غترته) البيضاء. في تلك الساعات المرهقة. كنت أشفق من الكلام . ولا أعرف ماذا أفعل . عندها فقط . نظر إليّ. قال بهدوء. هذا قبر جدك. أبي. سوف تقوم الحكومة بالغاء مقبرة جلولاء، ولا يجوز ترك موتانا تحت رحمة الجرافات والأبنية الجديدة التي ستقام عليها. هذه مقبرة عشيرتنا. كل أجدادنا مدفونون هنا. شعرت بامتنان لهذا التوضيح. أحسست أنه أزاح عن كاهله سراً. قبيل أن تتعامد أشعة الشمس.. جمع والدي (العدّة) ثانية، وضعها في كيس، وتركها جميعاً في سقيفة قرب الامام. عدنا للمسير عائدين تجاه القرية. مرّ على بعض الدور. تناولنا غداءنا لدى أحدهم. ثم اعتذر والدي لانشغاله. في اليوم الثاني اصطحب والدي أحد أصدقائه معه ، أخرجا جدث والده ومضيا به إلى القبر الجديد. بعد إسبوع اصطحبني معه ثانية وعمل على بناء القبر وخطّ شاهدته. تكرر ذهابنا لتلك المقبرة بعدها، تعلمت منه قراءة سورة الفاتحة، والسلام على الموتى. كان قبران متقاربان على كل منهما شاهدة خضراء كتب عليها والدي بخط قيري واضح، إسمي والده (سمين ابراهيم سليمان) ووالدته (أرزي). يجلس أمامهما ويقرأ سورة يس، ثم يقفل راجعاً. ان سوق جلولاء الحديث وكراج جلولاء الحديث ومستشفى المدينة والبيوت الحكومية للموظفين، اليوم، قائمة في مكان المقبرة القديمة، التي فقدت المدينة الكثير من نكهتها وانسجامها بعد رفعها، فقد كانت أرواح الموتى تبعث الأمان والسلام في عروق تلك المدينة، قبل أن تأكلها الجرافات.
النهر.. عواء عميق وبعيد..
في نقطة معينة، يقرر كل من الجبل والنهر الافتراق، بعد مسيرة طويلة نسبياً في الجبال المقابلة لسهل شهرزور عبر الحدود إلى دربند خان، نزولاً حتى [قره خان]. تستمرّ السلسلة الجبلية في امتدادها مسافة قليلة قبل أن تنحرف نحو الشرق مبتعدة تاركة هضبة (دشت) واسعة نحو الغرب. بينما ينحرف مجرى النهر مباشرة نحو الغرب ثم ينعقف نحو الجنوب وبعد انحرف بسيط نحو الشرق يعود بقوة نحو الغرب والجنوب تاركاً المدينة وراءه. بينما تستمر الهضبة في انخفاضها المتدرج نحو الغرب ملتحقة بضفة النهر التي تنفتح من الجهة الأخرى في صورة سهول خصبة فسيحة.
يخترق مجرى نهر ديالى سلسلة الجبال في نقطة شمال شرق المدينة، بضفافه الصخرية الناتئة القريبة من بعضها والمنحدرة بعنف صائت لتبتعد ضفتاه بالتدريج ويخفت خريره وتتهادى أنفاسه وأمواجه، مثل وليد يخرج من عنق الرحم إلى فضاء، تتهادى أمواج مياه ديالى بحشرجة مسموعة وقسمات مرئية مثل كائن خرافي بأرداف هائلة، يذكر بوصف امرئ القيس لليل، [فقلت له لما تمادى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل]. لكن النهر بسيوله الوفيرة لا يتحرر من عقدة ضيق المجرى إلا عندما ينأى بضعة كيلومترات مغادراً الأرض الصخرية البازلتية لتستقبله سهول رسوبية فسيحة فتتخلص ضفتاه من النتوءات والحافات الحادة متعاقبة على الجانبين في لعبة المدّ والجزر اليومية. وتنتشر على الضفة البعيدة من النهر مزارع موسمية خصبة مقابل المستوطنات البشرية، تستمرّ كتقليد ثابت مع انسيابه عبر المدن التالية.
عندما احتل الانجليز العراق اختاروا نقطة افتراق الجبل السامق والنهر العميق موضعاً لبناء حامية (معسكر) في المنطقة لأهميتها الستراتيجية المسيطرة على منافذ الشمال والجنوب. كانت الضفة الشمالية لمجرى النهر مقراً لمنشآت الحامية في شريط منحصر بين سلسلة الجبال من الخلف، ومجرى النهر من الأمام. وفي نقطة على حافة السلسلة نحو الغرب تمّ شق جادة لمرور السابلة العسكرية والمدنية نحو الشمال، يمتدّ هذا الطريق محاطاً بالجبال من جانبيه مسافة قبل أن ينفرج قليلاً، قرب مفرق [كلار- كفري] ثم تعود الجبال من الجانبين مع صعوده إلى مدينة (كلار)، التالية لمدينة جلولاء من الشمال.
ويتبع الحامية النادي العسكري المشهور والملاعب الرياضية وأحياء الدور السكنية لمنتسبي الحامية من ضباط الصف والضباط. وأحد هذه الأحياء في الضفة الشمالية من النهر نحو الشرق بينما الآخر في الجهة الجنوبية منه وإلى الغرب من (جادة) السيارات حيث مدرسة جلولاء الابتدائية الثانية.
لمجرى النهر جمالية ساحرة وهو يمتدّ بين سلاسل الجبال قبل بداية المدينة، وتترقرق مياهه في مناطق معينة حيث يبان الحصى اللماع خلل شفافية الماء. ولجريانه خرير موسيقي لا ينقطع ليل نهار، كأنه أصوات نداءات محملة من عصور أو بلاد بعيدة. حين يرفع المرء حافة بنطاله ويخوض في تلك الشواطئ الضحلة الباردة لا يتبادر للذهن أن هذه المياه، رغم جريانها السريع، سوف تمضي بعد قليل لتشكل مجرى عميقاً، لا يستطيع غير سباحين أقوياء معاركة أمواجه الهادرة. لا توجد صورة جوية للمدينة، لتجسيد التفاف مجرى ديالى الحميم على هذه المدينة الصغيرة. فإذا صوّر لنا الخيال سلسلة الجبال في هيئة (خاصرة) كائن بشري، يشكل نهر ديالى ذراعاً عالية تنكسر في نقطة المرفق نحو الأسفل بموازاة الجسد (سلسلة الجبال). والمنطقة المحصورة بين عقفة الذراع والخاصرة هي مستوطنة مدينة جلولاء.

جلولاء.. سيرة مكان.. [القسم الثالث]

" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."

هالة كبيرة لمدينة صغيرة..
تتشكل المدينة من ثلاث هضبات تفصل بينها وديان متفاوتة العمق والسعة ، تتجمع فيها مياه الأمطار وتلتحق بمجرى النهر أوقات الفيضان، أكبر تلك الوديان سعة وحجماً وامتداداً هو ما يطلق عليه بوادي (العوسج). يبدأ هذا الوادي من بطن السلسلة الجبلية نحو الغرب وتشكل (جادة) السابلة العالية حافته الشرقية الفاصلة بين بداياته وامتداداته، حيث تتخلل الجادة عدة منافذ وأنابيب لتسريب المياه المنسابة من الجبال إلى الوادي. وله عدة تفرعات داخل المدينة. يستمر امتداده الرئيسي تحت جسر السكك الحديد مخترقاً جانب السوق والشارع الرئيسي للمدينة في جدول يصبّ في النهر جنوب المدينة. بينما يلتف فرع له قبل خط السكك الحديد عائداً نحو الشمال والشرق تاركاً في وسطه هضبة متوسطة الارتفاع، وهنا يلتقي بأحد فروعه العميقة التي اتخذتها منشآت السكك الحديد لالقاء زيوت التشحيم الفاسدة وفيها مياه راكدة طوال العام. في شرق الوادي والهضبة كذلك نهاية خط السكك الحديد (الصيانة والكراج) والممتد عبر الوادي إلى الهضبة الوسطية الأكثر ارتفاعاً من هضبة (اللوكه). أما من الجهة الجنوبية على امتداد (الجادة) الرئيسية فتترامى أبعاد الوادي الرملية الناعمة حيث بقايا خان كبير قضت السكك الحديد من الغرب والجادة من الشرق على جوانب منه وبقيت منه آثار حجرات كانت مركزاً للسوق الشعبي يتم فيه البيع والشراء وتبادل الحاجات والاحتياجات بطريق المقايضة أو التبادل النقدي، حيث يلتقي الفلاحون والتجار وباعة الماشية والحيوانات من الأطراف مع أهالي المدينة أيام الاسبوع وخاصة يوم الجمعة. كما كانت تقام في مكان الخان طقوس الأعياد وألعاب الأطفال واجتماع الناس والعوائل. وقد تم تسوية بقايا الخان وامّحت من الوجود. في نهاية الوادي مبنى مدرسة الشروق أو التطبيقات الابتدائية المقابلة لمبنى دائرة الشرطة والنفوس القديمة.

وينطلق من نقطة المثلث الموصوفة بسوق وكراج جلولاء الحديث شارع يخترق الجادة الرئيسية والسكك الحديدية ممتداً في المنطقة الوسطية بين مجرى ديالى من الغرب ومنشآت محطة القطار من الشرق، مشكلاً سوق جلولاء الرئيسي الذي يستمرّ حتى نهاية المدينة حيث أحياء موظفي السكك وبداية المنشآت العسكرية.

أعلى من قرية وأدنى من مدينة..

باستثناء الأحياء الحكومية، التابعة للسكك والحامية وبيوت الادارة المحلية في بداية المدينة، فلا يوجد تنظيم عمراني أو توزيع فني للأحياء والمحلات. وباستثناء البيوت القريبة من السوق فأن الطين (اللبن) هو المادة الرئيسية المبتناة به بيوت الأهلين.

تبدأ عقدة الدور السكنية من المنطقة المحيطة بمدرسة جلولاء الابتدائية المناظرة للحامية تجاه الجنوب والغرب. خلف المدرسة أحياء طينية بسيطة تنتهي في حدود منشآت محطة السكك الحديد. نحو الجنوب صفان من البيوت، تنتهي بصف مستعرض يطل على الوادي في بدايته القريبة من الجادة الرئيسية (قرية جارالله). بالقرب منها دعامة نهاية السكك الحديد و(جمالون) صيانة القطارات، وإلى الجنوب منه امتدادات من دور سكنية تتقدمها صفان من بيوت عمال السكك الصفراء اللون، وصولاً إلى محلة (اللوكه) التي كان سكننا فيها يومئذ. يفصل مجرى وادي (العوسج) محلتنا من الأمام عن محطة مفرق السكك الحديدية القائمة على هضبة مرتفعة عن سواها ومستقلة تقريباً. في وسط المحطة باتجاه الحامية خزان مياه الإسالة، وإلى الخلف منها تبدأ صفوف أحياء موظفي السكك، والمختلفة عن بيوت (عمال) السكك، في الطراز والمساحة والموقع. حي موظفي السكك يشكل من الجهة الغربية بداية شارع السوق الذي تتوزع على جانبيه الأسواق والمحال التجارية ومن خلفها الأحياء السكنية. ولا غرو، أن تشكل بيوت أحياء السكك، النسبة الأعظم، بجانب الأحياء العسكرية من نسبة بيوت الأهلين حتى بداية السبعينات.

تنضم مدينة جلولاء لمجموعة المدن التي ظهرت في العراق بين الحربين عقب تأسيس الحامية ومحطة السكك الحديدية التي تربطها بأنحاء البلاد. وكان إسمها (قره خان) أي الخان الأسود نسبة للخان الذي كان في بداية المدينة على حافة (وادي العوسج)، ويلفظها الناس (قره غان) بإبدال الخاء والغين وأحيانا القاف بالكاف فتكون (كره غان). وتسمية جلولاء جاءت ضمن حملة التعريب والتنظيم العمراني عقب الجمهورية، الذي جعل منها مركز (مديرية) ناحية جلولاء.
ورغم وقوعها على نهر ديالى وتوفرها على أراض زراعية خصبة ومياه وفيرة على مدار العام، فهي لا تدخل في عداد المدن (الزراعية). فقد كان سكان القرى القريبة يتولون زراعتها واستثمارها، قبل أن تظهر للوجود كمدينة. ارتبطت نشأتها مع مدّ خطوط السكك الحديدية فيها وإنشاء محطة (مفرق) السكك الحديدية والحامية العسكرية ومرافقها ومنشآتها ، مثل مدينة ألعاب (السكك) والنادي العسكري ونادي موظفي (منتسبي) السكك. وقد تحول كثير من منتسبي هذين القطاعين بعد تقاعدهم للعمل في القطاع التجاري الخاص ، بينما تفرعت عوائلهم وشكل أبناؤهم طبقة جديدة من المتعلمين والكوادر الإدارية والتعليمية في المجتمع. في البدء كان على المتقاعد من الخدمة أو المفصول منها تسليم دار السكك المقيم فيها. وقد ترتب جراء ذلك جملة مشاكل ومعاناة، لأن الراتب المتدني و (إكرامية) التقاعد ما كانت لتكفي تأمين بيت للسكنى أو تحمل نفقات الايجار والمعيشة. ومن بين الحوادث معاناة عائلة فقيرة مات عائلها العامل في السكك، وليس له من الخدمة ما يؤهله للتقاعد، ولم يحتسب موته جراء الخدمة فلم يحصل على تعويض أو تقاعد، وبالمقابل أجبرت عائلته على ترك (البيت الأصفر). في مرحلة تالية سمح للمقيمين في دور السكك من العاملين فيها التقدم بطلب تمليك الدور لهم مقابل مبالغ تستقطع من رواتبهم الشهرية، وكان في ذلك حل لمشكلة عويصة، وقد ألغيت مميزات (السكن الوظيفي) بعد عرض منشآت الدولة للبيع [الخصخصة]، وفقدت تلك الأحياء بهاءها وتمايزها كما فقدت المدينة نكهتها (التنظيمية) والادارية التي ميزتها عن مدن أخرى.

وإزاء النمو السكاني لما بعد السبعينيات وارتفاع معدل زحف الأطراف على المركز، وتملكهم بيوت المدينة، انتقل غير قليل من السكان القدماء إلى مدن أخرى في مقدمتها العاصمة بغداد. وفي مقدمة أولئك منتسبو مصلحة السكك الحديدية الذي حصلوا على دور سكنية أو قطع أراض سكنية مدعومة في العاصمة. وبذلك تغيرت الملامح السكانية لمدينة جلولاء عقب السبعينيات إسوة بالملامح السياسية والاقتصادية. وكانت شرارة التغيير تلك، حادث نقل المقبرة، ففقد البعض تلك الصلة الروحية أو النفسية بالمكان.

جلولاء.. سيرة مكان.. [القسم الرابع والأخير]

" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."

من ثقوب الذاكرة..

[الفيضان]
امتياز السكن قريباً من مصادر المياه يرافقه ضريبة تحمل (ثورة) النهر في مواسم الفيضان التي كانت تتكرر قبل إنشاء السدود ومنظمات الريّ. ومن أشهر الفيضانات التي عاشتها المدينة هي فيضان [1954 - 1957] التي غمرت المدينة بكاملها وتسببت في خسائر فادحة للأهلين. ويحكى أن (الملك) زار المنطقة في أعقاب ذلك، وأوعز بتعويض السكان وإنشاء قطاعات دور سكنية حكومية من الطابوق وزعت على العوائل التي فقدت منازلها، ومعظمها في جانب السوق . تكرر الفيضان في بداية السبعينيات وامتلأت الوديان بمياه السيول وما تكرفه في طريقها من أشجار الغابات والعوسج والحشائش وقطع الألبسة والأدوات المنزلية للبيوت المنخفضة في حافة الوادي. كانت صورة الفيضان تتكرر كلما زاد معدل هطول الأمطار أو ازداد معدل ذوبان الثلوج في نيسان، فتبدو المدينة مثل بحر جرار تطفو في وسطه بيوت بسيطة يداوم أهلها على المبيت على السطوح خشية صعود مناسيب المياه خلال الليل بفعل المدّ. وكانت الحجرة العميقة في منزلنا جهاز انذار مبكر حيث تنز تربتها بالمياه فنضطر إلى (كرفها) بالأواني والسطول باستمرار خشية امتلاء الحجرة وطوفانها ما يهدد بانهيار البيت أو غرقه. وقد بيع ذلك المنزل أواخر الستينيات لعائلة من نفس المحلة في الصف المقابل، بثمن بخس (مائتان وسبعون ديناراً).

[أعياد نوروز]
من المناسبات الاجتماعية والطقوس الجميلة في حياة المدينة أعياد الربيع. وهو عيد رأس السنة الفارسية الذي يجري الاحتفال به مع مقدم الربيع (21 مارس) تحت مسميات مختلفة. وكلمة [نو- روز] تتكون من مفردتين ومقطعين، (نو) جديد، و(روز) يوم/ فيكون معناها اليوم الجديد أو بداية العام الجديد مصطلحا. منذ الصباح تحرق (إطارات) السيارات المطاطية على سفوح الجبال وتنطلق العوائل بملابسهم المزركشة الجديدة والجميلة وحليهم وأطفالهم وأطعمتهم إلى السفوح الجبلية المعشوشبة، فتحدث اللقاءات وتنعقد الرقصات وتقام الألعاب ووسائل التسلية وتحضر فرق غنائية وموسيقية، وذات عام أقيم مسرح على جانب وادي العوسج الملاصق للبيوت وعرضت مسرحية (كاوه الحداد) ومسرحيات أخرى قصيرة (سكتشات) باللغة الكردية. ويمثل احتفال عيد نوروز أحد الطقوس المميزة في المدينة وتترك على السكان أثراً طيباً وذكريات حميمة.

[المظاهر المسلّحة]

كانت المظاهر المسلّحة جزء من المشهد اليومي لسوق المدينة، حيث يتجول المقاتلون الكرد (بيش مركَه) بكامل أسلحتهم ورشاشاتهم أو بنادقهم (الايرانية). ولم تكن تحدث مشاكل إلا نادراً. بينما أفراد من شرطة الناحية بملابسهم العسكرية أو عنصر من جماعة الأمن المدني المعروفين بعلاقاتهم مع بعض أصحاب المتاجر أو التجهيزات الكهربائية، يجلسون عندهم وبين وقت وآخر يقومون بجولة تفقدية راجلة عائدين لأماكنهم. كان الأمن سائداً ولكن الجوّ الأمني كان على درجة من التوتر تقتضي الحيطة والابتعاد حيث يوجد الآخرون. كانت المشكلة الرئيسة بين المقاتلين الكرد أنفسهم، حيث ينقسم أولئك إلى فصيلين مختلفين، يمكن تمييزهم من مظاهرهم الخارجية، عبر عدة نقاط. طريقة شدّة الرأس (الجراويه) وربما لون اليشماغ (أحمر - أسود). شكل الشنب (الشوارب) وطولها وعقفة النهاية. نمط السروال (الشروال) العريض جدا في الوسط ووجود جيوب خارجية في القميص أو عدم وجودها. كان أحد الفصيلين يرتدي جاكته جلد قصيرة وبدون ردن، تتميز (بكتافية) معلقة من الجانبين. وبعد حصول استفزازات مصحوبة بطلق نار، انقطع نزول الطرفين للمدينة، ثم عادوا النزول ولكن اليوم الذي يظهر فيه أتباع هذا الفصيل لا يظهر أتباع الفصيل الآخر. ولم تتكرر أية أحداث لاحقة حتى ظهور قرار الحكم الذاتي، ومن بعدها اتفاقية الجزائر وسيطرت الحكومة بشكل كامل على المدينة.

[الدراويش]

كان الدراويش أحد الظواهر المميزة في حياة المدينة، بظهور بعض (الدراويش) في السوق بشعورهم الطويلة المجدولة ويحملون في بعض الأحيان معهم السيوف أو النبال أو الرماح. ولم يكن لهم شأن بالمارة رغم أن منظرهم يبعث على الخوف أو المظاهر غير المستساغة بأسلحتهم، سيما لدى الأطفال والنساء وغير المسلمين. ولم يكن يمرّ شهر دون احتفال ديني [يطلق عليه تسمية (مولود) بين الناس، من (عيد المولد النبوي)] إضافة للمناسبات الدينية. وكانت هناك ثلاثة أمكنة تتردد فيها هذه (الطقوس)، منطقة السوق، منطقة (الناحية) في بداية المدينة، منطقة اللوكه. وفي هذه الأخيرة كانت الساحة المقابلة لبيت جدي هي المكان المألوف. يجلس الناس على الأرض في حلقات يتقدمهم صف من الدراويش (المتصوفة) مع شيخهم وضاربي الدفوف والمنشدين. ترتل خلالها الأناشيد والتراتيل الدينية، وتستخدم الأضوية والأنوار والمايكروفونات فتصل أصداؤها نهايات المدينة. بينما يتجمع الرجال والشباب حولهم والنساء والأطفال على سطوح المنازل المجاورة حتى ساعات متأخرة من الليل.

[خلف]

يقال أن إسمه (خلف). رجل في الثلاثين أو الأربعين من عمره. يذرع شارع السوق الوحيد من أوله إلى آخره ثم يعود إدراجه، من الصباح الباكر حتى المساء. لا يعرف عنه شيء، ولا يقول أحد عنه أي شيء. يرتدي دشداشة بيضاء ويشدّ خصره بنطاق، وعلى رأسه يشماغ عربي. الاعتقاد الساري لدى الأهلين أنه من المتصوفة الزهاد، المنقطعين عن الدنيا. لا يكلم أحداً ولا يولي اهتماماً لأحد. أحياناً يتوقف وشفتاه تتمتمان أو تدمدمان بدون صوت، ينظر إليك بعينين صفراوين ولكنه لا يراك، ولا يقصدك، كنت أجلس في دكانة جدي وأراقب حركة المارة، وتعلمت أن لا أنظر لأحد في عينيه، سيما عندما يتوقف نظره قربي كي لا يشعر بالاستفزاز. كانت له مكانات أو مسافات محددة يكرر الوقوف فيها، تشعر أنه يتكلم. أحياناً يسأله بعض كبار السنّ من أهل المتاجر، إذا كان يلزمه شيء، ينظر نحو السماء أو يرفع كفيه نحوها، مرات رأيته يبتسم، علامة الامتنان.

[عدنان القيسي]
من الأحداث الملغزة التي شهدها التلفزيون العراقي غب الحكم (البعثي) في أواخر الستينيات، بطولة العالم بالمصارعة الحرة المقيدة. تابع الجمهور العراقي وقائع البطولة عبر شاشة التلفزيون، ولم يكن التلفزيون يومها كثير الانتشار في البيوت، فكانت المقاهي تغصّ بالمشاهدين وتنقطع الأنفاس والناس يفترشون أرضية المقهى يتحمسون لبطولات (عدنان القيسي) المشهور بـ(العكسية). شارك في تلك البطولة عدد من المصارعين الأجانب وكل منهم من بلد، أمثال (جو فريري) الطويل (داني لانج) ذو اللحية القصيرة والشنب، وآخرين، من بينهم المصارع العراقي المقيم في أمريكا (عدنان القيسي). كنا نحن الأطفال نشتري صور المصارعين أولئك مع مشاهد المصارعة ضمن كارتات الصور الأخرى المتداولة يومذاك لأبطال كرة القديم أمثال عمو بابا وجمولي أو الممثلين والمطربين العرب والأجانب. أما أخبار تلك البطولة وتكرارها فقد انقطع من الذكر كأن لم يكن. ولا أدري لماذا لم يكشف أحد المعنيين بالصحافة الرياضية حقيقة أو (لغز) تلك البطولة العالمية التي كانت أول مناسبة استأثرت بحماس واهتمام الناس قبل ان تتحول البطولات والمهرجانات إلى الثقافة والمربد والغناء.
كانت قرية (الكروية) إلى الشمال من مدينة جلولاء، والتي منها عشيرة (القيسية). وقد أشيع أن (عدنان القيسي) بعد انتهاء البطولة قام بزيارة (عشيرته) ومرّ بالسيارة على الجادة الرئيسية شرق المدينة، وقد اصطف أهل المدينة في صف الجادة لرؤيته. هذه (الحادثة) تحولت في الذاكرة الشعبية إلى شيء من (الأسطورة) مختلطة بخيوط الميثولوجيا التي صورت ضخامة هيئة المصارع بشكل خارق، وأنه لذلك كان يجلس (فوق) السيارة ويلوح للجمهور. ولكن تلك الذكرى ما فتئت انسحقت تحت ركام الأحداث والتغيرات السريعة المتعاقبة بعدئذ.

[الفدائي البطل]..

وفي يوم.. رأيت أهل المدينة يتراكضون من كل صوب، باتجاه المحطة، وبشكل جعل الدنيا تبدو كأنها في يوم القيامة. كنت ماضياً إلى دكانة جدي في السوق وأنا أرى الجميع يتجهون إلى مكان واحد، وبعضهم يقفل متجره، فأعتقدت أن جدي أقفل متجره هو الآخر، وربما هو في الطريق فماذا أفعل والدكانة مغلقة. تذكرت مقولة أمي المأثورة [حشر مع الناس عيد]، وهكذا تبعت فلول الناس بخطى مترددة حتى وجدتني بينهم. على جسر السكك الحديد المعلق فوق (وادي العوسج) كان شاب وسيم في العشرين من عمره يرتدي الزي العسكري المرقط (القوات الخاصة)[ لم نكن رأينا هذه الملابس بعد]، مع كامل عدته العسكرية وصفوف الرصاص والرمانات على خاصرته، ويتقدم على جسر السكك (مثل رامبو الأمريكي). أحاط به الناس ورافقوه مثل (ملاك) مسلح نازل من السماء. كان شكله يستثير اللب والاعجاب، وكنت أحدق إليه وأحدق لأحفظه جيداً أو أشبع منه قبل أن يختفي. لم أكن أعرف الشخص، لكن الناس كانوا يعرفونه ويسلّمون عليه. مشيت في صفوف الناس الذين نزلوا من جانب السكك متجهين نحو محلة اللوكه. كنت أعتقد أن الحشد سيمر عبر محلتنا إلى المحلات الأخرى التي بعدنا. لكن الحشد بدأ يتركز متوقفا عن التقدم، بينما استمرت أواخره في الالتحاق. توقف الجميع في بداية المحلة، ثم دخل (الفدائي) إلى البيت الأول لصاحب الموتور سيكل الأسود في بداية محلتنا، في الأيام التالية رأيته بملابسه العادية. كان شاباً في بداية شبابه، ولكنه بعد أيام عاد واختفى. كان ذلك الشاب هو أول (فدائي) تقع عليه عيني لتكبر صورة (البطل) في مخيلتي التي ستتغذى فيما بعد عبر الأناشيد وشعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وعبد الرحيم محمود [سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى- فإما حياة نسرّ الصديق وإما مماة يغيض العدا].

[تسمية جلولاء]

كانت التسمية الشائعة لهذه المدينة كما سبق القول هي (قره خان) أو (قره غان). وفي الكراج حيث تنتظر سيارات الأجرة يتردد النداء (قره خان). وعندما يسألني أحدهم من أين أنت، أو أين تمضي، فالجواب (قره غان). ولم تعرف التسمية الجديدة إلا في الكتب وبعد انتقالنا إلى مدن أخرى. وفي كتاب التاريخ الاسلامي أو العربي يرد ذكر معركة [جلولاء] بقيادة خالد ابن الوليد ضد الفرس. ويوحي ذلك لمن لا يعرف المدينة أنها قديمة قدم التاريخ حتى اكتسبت معركة خالد ابن الوليد أسمها منها. وهو أمر لا جذور له في الواقع. فمعارك [ذيقار - القادسية] جرتا على ضفاف الفرات الجنوبية، وموضع [جلولاء] عبر نهر دجلة على مجرى نهر ديالى، وهي منطقة تضاريسية مغلقة تختلف عن جنوب الفرات الصحراوية المنبسطة. وعلى افتراض وجود رغبة التوغل إلى ايران لملاحقة الفرس، فأن المنطقة الأكثر انسجاماً هي (خانقين) حيث المعبر الدولي الاستراتيجي عبر قصر شيرين. كما أن الحفريات والاستكشافات الأثرية كان لها أن تقدم ما يدعم (نظرية) التسمية. ان كلمة (جلولاء) تتشكل من مقطعين حسب رواية جدّي [جلو - لا] . بمثابة سؤال : هل جلوا؟.. أي تركوا الأرض. والجواب : لا. وبالتالي فالتسمية إسقاط غير مدعوم (لعسكرة) واقع المجتمع العراقي. لقد بعثت تلك التسمية في داخلي أنني ولدت في (خضم) معركة، وأن قدمي أينما تنقلت في تلك المدينة كأنني أتنقل في (أجواء) معارك ومشاهد حرب. تلك الحرب التي ارتهن بها مصيرنا وعمرنا بعد سنوات لتصبح سمة طاغية علينا وعلى ضياع نكهة الحياة (العادية) من أعمارنا بين التشرد والغربة. وفي كل الافتراضات، ما كان لهذه المدينة أن تنوجد كما هي معروفة اليوم، لولا محطة (مفرق) السكك الحديدية الشمالية، وموقع الحامية العسكرية، التي كان اللواء التاسع عشر بقيادة العقيد عبد الكريم قاسم معسكراً فيها يوم تقدم على العاصمة بغداد ملتحقا بلواء العقيد عبد السلام عارف في معسكر سعد في بعقوبة لانهاء الملكية واعلان الجمهورية في العراق.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عودة الزنابق
- بعقوبا .. سيرة مكان)
- وقفت عن حبك
- توقفت عن حبك
- وجوه متداخلة
- غسل العار والعودة لوأد البنات
- الفرد والعالم..
- الترجمة والهوية والمسؤولية الاخلاقية
- طُرُقٌ صَحْراويّة
- أطفال المهاجرين ضحايا مزدوجة
- (سيرة يوم غائم)*
- من القاموس العربي
- علّقيني في طرف مباهجك
- (الفارزة بين القاعدة والاستثناء)
- الوجودية والعولمة
- ظاهرة الاغتراب في نصوص مؤيد سامي
- بقية العمر
- ليلة ايزابيلا الأخيرة
- مستقبل المرأة الرافدينية وقراءة الواقع
- قاع النهر قصة: الفريد بيكر


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب بنيويورك
- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - جلولاء.. سيرة مكان.. (1 - 4)