أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين القطبي - مشاهدات عبد الكريم كاصد في المدينة الفاضلة















المزيد.....


مشاهدات عبد الكريم كاصد في المدينة الفاضلة


حسين القطبي

الحوار المتمدن-العدد: 2166 - 2008 / 1 / 20 - 11:21
المحور: الادب والفن
    


هي سر اباد، اي مدينة الاسرار، او سراب اباد، اي المدينة السراب، وفي كلتا الحالتين فان المدينة الفاضلة التي يسميها الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد بـ "سراباد" هي المزيج من الهاجسين، هي المجهول الاكثر غموضا، السر المشوب بالامل، تذكيه المعاناة مثل الريح على موقد البدوي، وهي الافق الفضي اللاهث لارواء عطش يلضي القبيلة المضطهدة من بني البشر.
باكورة القصائد في المجموعة الشعرية التي تحمل هذا الاسم يخصصها الشاعر لرحلته باتجاه هذ المجهول الحلم محاولا ان يروي عنها احاديث يقظة وكأنه ينقل عن ذاكرة وليس عن طيف. أو كأنها بالنتيجة تجربة شخصية عاشها مرتحلا مع ركب قبيلته الكبرى، وليست مجرد كابوس كان قد خيم على مخيلته، او استنتاجات فكرية متأثره بالاحباط السياسي الذي عاشه، أنها الرحلة الملحمية للعمر، حلم اليقظة بين دروب لم تطأها من قبله قدم انسان.
في هذه القصيدة، سراباد، يصف النهايات في الرحلة، تخوم المدينة الواقعة على اطراف الخيال، تشبه الى حد التماهي مسيرات المشاة ايام الزيارة الحسينية، تلك التي تنطلق قبيل العشرين من شهر صفر الهجري الى مدينة كربلاء، تحتشد فيها جموع السائرين من مختلف المدن الجنوبية، حين تختلط النسوة الواهنات بالرايات السود، والرجال المكابرين على الالم مع الصغار في ملابس الحداد.
سراباد اذا مدينة مقدسة، وهي نهايات المطاف، يقصدها قاصد بمرح المنتصر، و وهن الزائر، المنتشي بكأس القداسة، والمثقل بالعطش والسهر، املا بلقاء القباب الصفر، وهو يستمد من اليقين نشاطا، نعم اليقين بانها رحلة الانسان الابدية، الى حيث يجب ان ينتهي به المطاف.
ورويدا يتسلل الوهن والشك، ففي اسقاطات الخيال – الطيف - على عالم المادة الواقعي، هذا المحيط المجرد من العاطفة، وفي محاولة تجسيده مختبريا، وهذا ما ترومه القصيدة، تتكشف له التراكيب وكانها خدعا بصرية، والحلم كأنه تشكيلات نورية تتلاشى وتنقشع لتترك فيه انكسارات قاسية ومؤلمة حد الندم.
و تستشف قداسة سراباد في البدء من التكثيف المركز للغة وكأنه يصوغ الجمل الشعرية بحروف من ذهب فيختزل الصور التي تعكس دراما طويلة بكلمات منتقاة، بارزة اشبة بزخارف المراقد المقدسة، يوضف مهاراته في تطويع الكلمة لكي تشع بكل معانيها، ورغم ان هذا التكثيف والتقشف في استخدام المفرده هو الميزة الابرز في الشعر الحر، وهو لازمته التي تميزه عن الالوان الادبية الاخرى، الا ان براعة عبد الكريم كاصد، وتمرسه فيه يجعلك امام لوحة من الايحاءات، فتشدك هذه القدرة على توضيف الكلمة بالشكل الذي يوهج المخيلة، ويذكيها، بروح معاصره تعكس الجزع والمزاج البرقي الذي لا يتحمل الاسهاب في الوصف.

سألنا في الطريق
وقد قربنا من سراباد البعيدة
هل سنقضي الليل في هذا العراء

هكذا، في واقع افتراضي تزدحم الجملة الشعرية بمؤثرات خيالية تقحمك في الصورة وكانك امام شريط طويل من الرؤيا، من خلال ايحاءات منمقة، فاستخدام صيغة الجمع في اول مفردة، ثم الطريق، ينقلك الى غبار القوافل دون ان يتطرق الى الكلمة وبذلك فهو يجرك الى واقع دون ان يقرب من التقريرية في الوصف، ثم يستخدم براعته في مزج الاضداد في بيت شعري واحد وهي ميزة للشاعر وجدتها في الكثير من قصائده، فهو اذ يحضر "القرب" ثم يردفه بالبعد لوصف ذات المكان فأنه يدفع بلا وعي المتلقي الى المقارنة، ثم استشفاف مدى البعد في هذا "البعيد"، ومع حضور صورة القافلة في الذهن، واللا ثبات يجعلك تشعر بالحركة وقد وصلت مديات بعيدة، وكانك امام بلوغ نهايات، ثمة نهايات ما.
والاضداد هنا هي المقولات الفلسفية التي تقارن جوهر الاشياء عن طريق استقصاء حدودها من الضد، وتوضح معالم الجوهر، او المفهوم بتخوم حدود الضد، والاستخدام الملحوظ في قصائد الشاعر للمقولات الفلسفية، والارتكاز عليها في الكثير من اعماله انما يظهر الحرفنة الذي يوضفها عبد الكريم كاصد في توجيه مخيلة القارئ. والوضيفة الثانية التي تؤديها المقولة هي كسر جمود الواقع وصلابته وقوانينه الصارمة، الى حالة الوعي الرخو وهي بذلك توفر للخيال مجالا اكثر رحابة يتفاعل فيها المتلقي حسب قدرته او خزين ذاكرته الصورية.
وفي البيت الثالث، حيث يأتي التساؤل المكمل لبداية الجملة الشعرية، ويغلقها على شكل شريط واقعي، قد يشط قليلا عن لغة الشعر ويقرب من الاسلوب القصصي، وكان سيقع في تقريرية واضحة لولا توضيفه السابق لمقولة القرب والبعد ولغز سراباد المفعم بالتحفيز الحسي. فلو كان النص هكذا ( سألنا في الطريق / هل سنقضي الليل في هذا العراء) لشعرت لوهلة انك لا تقرأ قصيدة شعر، الا ان اسرار سراباد بغموض هذه المفردة المبتكرة يجعل المساء مليئا بالخبايا في عراء غريب، بعيد قريب. ولهذا فان هذا الجنوح والارتداد للواقع لم يقلل من حسية الصورة بل منح القصيدة بعدها الفلسفي.
والمدينة الفاضلة، او سراباد هي بالنهاية نتاج لهفة انسانية ملحاحة نحو بناء المجتمع الاكثر عدالة وهي ناتج من منتوجات الالم والكفاح الطبقي الذي رافق مسيرة الانسانية منذ اول عبد استخدم في اول قبيلة استعبدت الاقنان الى اليوم، اي انها وليدة واقع اكثر منه خيال، ولا يمكن تناول موضوعة بهذا العمق وهذا القدر من الواقعية من جانب واحد وهو الحس، اي ليس من المعقول التشبث بالضوابط الشعرية وحدها لمجرد المحافظة على الشحنات الحسية في القصيدة.
كما انها ليست حلم ترعرع في مخيلة الفلاسفة فحسب، فقد حاول الكثير من المصلحين تجسيدها قبل افلاطون من بوذا الى زرادشت، الى الثوار في القرون المتاخره مرورا بالانبياء الذين قدموا لها صورا تفصيلية وقربوها الى اذهان العامة، فهي موضوعة اساسية وجوهرية تمس كيان الانسان وسيرورته ولا يمكن التعامل معها على اساس انها محض فكرة او تهومات انفعالية غير ناضجة وحين يتناولها الشاعر هنا فانه يدرك حضورها ويجعلها محورا وبوصلة لحركة الانسان الدائبة نحو الكمال المفترض، الا انه في الوقت ذاته يجردها في هذا التناول من محتواها التاريخي ويجعلها اشبه بتجربة عابرة او محاولة ماضوية عندما يشي بالوصول لنهايات طريقها. وفي هذا التفاف على منطق التاريخ وتسلسله، اذ انها ماتزال فكرة، او انها واقع لم يولد بعد. فهل كان يبحث عن ثمة مسوغ لاشهار مثاليتها، ام لدحضها واعلان فوضويتها قبل ان يمنحها الانسان فرصتها؟
بعد تلك الصورة النقلية البارعة نراة يتراجع على حساب التركيبة الفنية للقصيدة، فرغم الحفاظ على الايقاع والسرد الحسي، فانه يقحمها بابيات لم تكن لها ضرورة سوى اضفاء الحدث وكأنه كان مطالبا بتقديم مواكبة درامية، انشغل بتسجيل انتهاء الليل وبزوغ الفجر من اجل مواصلة الطريق، او ليشبع رغبته في منح القصيدة بعدا ملحميا ينسجم والموضوعة التي يتناولها، خصوصا وانه يعتبرها اشبه بسيرة سياسية لحياته التي كانت كلها جزءا من هذه الرحلة ( ظلالنا انتشرت/ واقبلت السماء / ونجمة/ او / نجمتان / تحاذيان السهل / والاشجار تقبل / والروائح تستريح......الخ).
لم يقدم افلاطون، ولا الفارابي قبل احد عشر قرنا ثمة وصف تفصيلي للمدينة الحلم، بل تناولاها كقيم وقوانين صارمة، هذه القوانين والشرائع التي تحد في بعض جوانبها من النزعة الفردية، وتكبح الى حد ما الخصوصيات الذاتية للافراد وتعتبرها المساحة الهشة التي عليها ان تفسح مجالا ارحب للنظم الاجتماعية الاكثر صرامة، وتناولتها الاشتراكية وفق هذه النظرة ايضا، الا ان الشاعر يجسدها من زاوية اخرى، فيرسم ماكيتا لابعادها بكيانها وحضورها الجسدي وكأنه يتجرأ على مسائلة الفكرة اساسا، هل هي في شكلها المادي هذا قابلة لأن تخرج من الخيال، الى عالم الابعاد الثلاثة، وهل بامكانها ان تعيش على الارض الصلبة ام لا، مع ان التجسيد المادي يفضي الى تدنيس القداسة وجرح الهالة التي تشع من حول الفكرة دائما.


قبابك التمعت
وجندك من رخام يرقبون الافق
جندك من نحاس
اي اجراس
تهب
واي اقواس
نرى من زرقة الشرفات

اول ما يلوح من كربلاء، لقوافل المشاة القادمة من مدن الجنوب هو القباب المذهبة، تلك التي تلتمع من بعد عشرات الكيلومترات، بالاضافة الى قطعات العسكر ورجال الامن المدججين طوال الطريق، واول ما راه الشاعر عند اقترابه من المدينة تلك هو القباب التي تزيدها الشمس بريقا، يستعيد اللهفة التي توهج الخطى والنظرات المشدودة الى الامام في صورة تتشكل في ذهنية المتلقي بنفس الادوات التي استخدمها في مطلع القصيدة، لتنضج في المخيلة دون مباشرة في الوصف، بل من خلال ايحاءات مجردة لكنها واضحة للحد الذي لا يتعب المتلقي من ناحية، ولا يكبل مساحة الخيال في الذهنية من ناحية اخرى، في جملة شعرية موفقة يقترب بتدرج، من لمعان القبب البعيد، والافق الى الجند ثم الاقواس والشرفات التي ينظر من اسفلها فتلامس زرقة السماء في حلتها النقية. اي الانتقال من البعيد العام الى القريب الاخص، متلهف البحث عن ثمة كنه ما.

بين اليقين والشك
وكاصد ليس صوفيا، اي لا يلاحق الكمال لمتعة، او يسلك درجات العرفان لكشف الحجب النورانية وصولا الى المطلق المقدس المتجلي، فهو ريبي يشكك في وجوده اساسا، انه يرتحل بالاتجاه المعاكس تماما، ذلك الذي يفضي الى العدم لاثبات، من خلال افتراض النفي، اذا كانت الفكرة موجودة ماديا ، رغم حضورها الحسي، فاصابعه الخدرة عطشى الى ان تتلمس وترتوي باليقين. والا فان محاولة خطف فكرة ما من الخيال، ومن ثم تجسيدها على هيكلية فيزيائية لاختبار قدرتها على المقاومة والثبات في الاجواء المادية القاسية تبوح بيأس وتردد في التسليم بوجودها اساسا، وتبوح برغبة دفينة باللحاق بتلابيبها من اجل استشعار هذه الفكرة المتموهة بين الشك واليقين، وكأنها عبء لا يسهل الانفكاك من قيودها، والا لكانت حافظت على سموها في ملكوتها الايماني.
والتجاوز على اليقين المطلق، وعلى الشك المطلق عند عبد الكريم يعبر حدود الشعر الى تفاصيل حياتية خاصة، فيقول عن مدينته في احدى مقابلاته مثلا: "لم تعد البصرة مدينة بالنسبة إليّ، بل حلماً نائياً يبتعد أكثر فأكثر كلما اقتربت منه"، ويجيب على تساؤل اخر بـ: " سأظل أنقر على أبواب طفولتي ولعلّها لن تفتح لي أبداً." (*).
وكمثال على تشتته لا اجد بدا من استدراك قصيدته القصيرة "مقهى" التي تشي بالهوس الحسي ومعاناة الفرز بين شكه ويقينه اللذان يتناوبان ويتقاسمان لحظة عابرة.
"مقهى / مقهىً صغيرٌ عند ذاك الشّط / يلمعُ مِنْ سنينٍ / يعتليهِ النخلُ / لا مقهىً / سوى قمرٍ/ يجذّفُ في هزيع الليل من ألْفٍ / وجندٍ يعبرون / وعائدين توقّفوا في الجرف / لا جندٌ / ولا قمرٌ / سوى مقهىً صغيرٍ عند ذاك الشط".
والحيرة مردها برايي ان الشاعر صفائي المذهب (**) يبحث عن النقاء والوضوح ولا يسلم بفكرة قلقة ولا برؤيا مشوشة، ويجسد في اغلب اعماله هذا العناء في درك المشهد الجلي المبسط المفقود غالبا.
فهو لا يحاكي المدينة الفاضلة من خلال الاستقصاء العلمي التجريبي الاستنتاجي ايضا و لا يبتغي اقناعنا بارائه من خلال محاضرة جدلية واستنباط معرفي، وهذه ليست من مهمات الشعر في اكثر الاحوال، لا يتخذ منحى كازانتساكيس في طريقة استدراج القارئ الى حقيقة اننا كبشر نعود في صيرورتنا الى هذه الارض، التي انشقت بدورها من مجموعة شمسية، تلك التي نِشأت من مجموعة اكبر، ليعيدنا الى جذورنا الكونية لنقتنع بان احدنا حين يفتح فمة بالحديث فان الكون ينطق من فيه.
ولا يريد استدرجنا ايضا لاكتشاف ان المدينة التي نفكر في الرحيل اليها غير موجودة اساسا، فهو يعلن من عنوان قصيدته انها ليست سوى سراباد، تلك البقعة المغمورة في اسرارها، ولكنه يتساءل عن جدواها، متاثرا بتجربة انسانية قاسية طبعتها تقلبات المزاج السياسي العام منذ ثمانينات القرن الفائت وبتداعيات القنوط التي اصابت النخب الثقافية في عقد التسعينيات وما تلاه.
وصراع الشك واليقين يتأثر عنده بطبيعة الحقبة التي عاشها هو نفسه متشضيا بين المنفى الاختياري في مجتمع الغرب، المادي، الواضح والصريح، الذي يحترم الفكرة بمقدار ما تستطيع ان تحول ذاتها الى جسد كماكينة انتاج او جهاز خدمي، وبين جذوره النائية من الشرق، حيث مايزال المجتمع يقتات على الخيال، من انجازات ماض بعيد، مشوب بالاسطورة يجسده حمورابي وكلكامش، الى تهومات مستقبل بعيد يرتكز على رغبة المهدي المنتظر بالظهور في اختيار زمان الظهور. صراع الشك واليقين انعكس على صراع الفكرة والمادة.
وهو هذه القصيدة يخاطب مخيلة الشرقي الجامحة الدافئة بالميتافيزيقيا، بواقعية لغة الغربي الذي يرى الجدوى تكمن في التجسيد الهيكلي للافكار، وكأن حاضره يخاطب ماضيه، ومن اجل ان ينتصر للحاضر فانه حين يتناول المقدس الفكري الهش ليحطمه لم يجد امامه فكرة اقرب اليه من سراباده التي قضى عمرا في مطاردتها.
واليقين حين يلامس السور، سور مدينة سراباد، يفتح بابها، يحمل خزين اللمعان المنعكس من بياض البرج ينهزم بوضوح امام الشك حيث ينأى السور عن كفيه وتفضح بابها عن صحراء لا وجود لحياة فيها ليصل الى لحظة الانتصار، اللحظة التي تنكشف فيه المدينة عن خواء، لا وجود لناس فيها.

اين الباب ندخله؟
(فنبصر خلفه الصحراء)
اين السور؟
(نلمسه فيناى)
اين ذاك البرج؟
يلمع بالبياض؟
واين...
اين الناس؟

وتستقرئ الشك ينتصر بنشوة على اليقين من خلال تكرار حرف مضخم له سطوة على الاذن في جملة تأكيدية "فنبصر" و "الصحراء"، وكأنها صراخ، ثم تداعي الى هدوء يشوب رنة الكلمات والارتكاز على حرف اخر اخف على المسمع في "السور" و "نلمس" بتهادي تدريجي نحو اللحظة السكون الاخيرة ، تنعكس الرؤيا في التركيز، فينتقل عائدا من الاصغر، الباب، الى الاكبر، السور، الضوء والناس، اذ تذوي الرغبة في مطاردة التفاصيل، من الاصغر والادق الى الاكبر والاعم في تراجع درامي معكوس لخطواته السابقة التي كان يركز فيها مشحونا بالامل من الاعم البعيد الى الادق الاقرب.
ان التجسيد الشكلي للمدينة الفاضلة جاء في الوعود اللاهوتية، ولكن بأشتراط الايمان المسبق وليس التحليل العلمي، والايمان يتنافى مع قيم العلم ومع الطبيعة ايضا لكونه خوض ميتافيزيقي متحرر جدا من القيود وهذا ما يفتقده الشاعر عبد الكريم كاصد، اذ انه بمحاكاتها ماديا قد تجاوز على الاشتراطات الما وراء الطبيعية، وعلى الايمان ايضا.
ورغم الصور الكثيرة التي توفرها كتب الدين والتراث المستنبط منه عن الجنة، او نهاية المطاف، في وصف القطوف الدانية وانهار العسل واللبن والحوريات، الا ان التفاصيل الاكثر دقة تبقى حكرا على الخيال ايضا، فالمحاكاة التجسيدية ظلت ممنوعة فلا يمكن التساؤل عن حافات الانهار، مثلا هل يمتزج العسل بالتراب، او هل علينا ان نغوص بوحل الحليب على الجرف لنحصل على كأس نقي من وسط النهر، وغيرها من الاستدراجات المحرمة الاخرى.
منعت هذه التساؤلات لان ضعف الفكرة المزمن امام الملموس خطر قد يقود الى الاحباط، واذا اخذنا بنظر الاعتبار مجمل الوضع الاجتماعي المزري الذي تعيشه البلدان المتخلفة مع الانكفاء الذي اصاب الايديولوجيات التي كانت تبشر بطرق قصيرة نحو مجتمع عالمي يعمه السلام وفق طرق علمية وليست ايمانية، فان الفكر يكون في اضعف فتراته، والمفكرون على حافة الاضطراب، وهذا ما تتداركه القصيدة من خلال صور متعاقبة لعل خلاصتها في لمحة عابره تاتي في السياق ( من هناك وراء تلك التلة السوداء/ يبكي؟ ).
في استقراء لمسيرة المجتمع الانساني في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه، ما كان انطواء مرحلة الكولونيالية و الامبريالية، و استقلال معظم الشعوب الفقيرة في العالم الثالث، ثم بزوغ الحركات التحررية الطبقية الطابع والمنادية ببناء مجتمعات اشتراكية تحاكي المدينة الفاضلة في مخيلة المثقفين الا بداية انطلاقة جديدة للنظام الرأسمالي العالمي وبلورة مرحلة اخرى اكثر عنفوانا تجلت في الهيمنة الاكثر انانية على الثروة في العالم في ما صار يطلق علية مرحلة العولمة، وكان لتشبث النخب البورجوازية الوطنية بالسلطة وتحولها الى ديكتاتوريات تناقض مصالح الشعوب الفقيرة اثرا على ركب الحضارة، وكانها توجه المسيرة الى الخلف بدلا من الوجهة الحقيقية المنتظرة.
في المقاطع الاخيرة تتراخى اللغة وتتهدل الجمل اليائسة على عكس ما لحضناه في بداية القصيدة، وكأن انهيار الحلم قد اضفى الى لا ابالية مفرطة. ويصبح الندم هو الخاتمة المنطقية لجهود عظيمة استنزفت طاقات الانسانية من اجل فكرة تتحطم باليقين.
تتكرر المفردات بريثم متهدج كانها لحن عويل طويل ثم تنتهي بلا اكتراث وعبث، حتى ان الشعور باللاجدوى الذي يخيم في النهاية يصرفه عن اكمال البيت فيتركه مبتورا ليخرج من القصيدة قبل ان تنتهي.

ليت انا ما نأينا عن سراباد القديمة
ليت انا ما قربنا من سراباد البعيدة
ليت انا لم...

تنتهي سراباد بما الت اليه الفكرة في قصيدة الشاعر الفارسي فريد الدين العطار "منطق الطير" التي كتبها في العام 1175م. ان المدينة الحلم، الخالية من الخوف والظلم التي سماها "سيمرغ" ليست سوى العالم الذي نعيشه، ليست سوى نحن.
العطار ابن مدينة نيشابور التي اشتهرت بانها موطن الفيلسوف الفلكي عمر الخيام يحكي عن طيور معذبة، تحلم بكوكب خالي من العذاب، حيث يوجد ذلك المخلوق النوراني السيمرغ، فتقرر الطيران باتجاهه في رحلة عذابات قاسية، تموت خلالها الطيور المهاجرة، ولا يبقى منهى سوى ثلاثون على قيد الحياة. ولكن المفاجأة في نهايتها، حين يبلغون ذلك الكوكب، الحلم، لا يجدونه سوى سرب من ثلاثين طير تراءت لهم عبر مسافات الفلك على شكل كوكب، غامض مثل الامنيات الغريزية. هذه الطيور، الثلاثين، هي ليست سوى الطيور المهاجرة نفسها، اكتشفت بالنتيجة بانها ما كانت تنظر الا في مراة كون عاكسة، كانت الطيور تنظر نفسها، انها هي ذاتها كانت السيمرغ دون ان تدري.
وكلمة سيمرغ بالفارسية كما سراباد تشتمل على مقطعين، هما سي وتعني "ثلاثون" و مرغ، وتعني طير، انه كائن الطيور الثلاثين المهاجرة نفسها تكتشف ذاتها.

"وعندما كانوا ينظرون باتجاه السيمرغ كانوا يرون انه كان حقا السيمرغ الذي كان في ذلك المكان وكانوا يوجهون نظراتهم باتجاه انفسهم، وكانوا يرون انهم هم السيمرغ اخيرا، كأنهم كانوا ينظرون بالاتجاهين في ان واحد..... وهكذا فقد غرقوا في حيرة من امرهم."
وفسر لهم السيمرغ:
"هي مراة، من يأتي يرى نفسه فيها، يرى روحه وجسده، وبما انكم جئتم الى هنا ثلاثين طيرا - سي مرغ – فستجدون انفسكم في هذه المراة ثلاثين ولو جاء اربعون او خمسون لانفتحت الستارة التي تخفي السيمرغ. ولو تبدلتم الى اقصى حد، لرأيتم انفسكم كما كنتم في السابق."(***)

منطق الطير تصل بنا الى نهاية المشوار، نهاية رحلة، نهاية تبدو وكانها بداية لرحلة اخرى اكثر غموضا، وسراباد مدينة على الطرف الاخر من الخيال، نهاية رحلة، تبدو وكانها بداية لحالة جديدة لمعاناة اكثر ايغالا في المستقبل الذي يحاكي الماضي ويبحث عن ثمة احلام جديدة.
قصيدة سراباد هي حزمة ضوء سلطها عبد الكريم كاصد على بقعة معتمة في خبايا النفس البشرية، هي من جنس الشعر الذي يرقى من استعراض حسي للواعج وهموم الشعراء اليومية الى توضيفه في استشفاف مسلمات فلسفية، بجدالاتها التاريخية، لكنها عجزت عن ادراك كنه هذه الموضوعة التي جاءت بها، كعجز الفكرة ذاتها في طرح نفسها، هل هي سر اباد، مدينة اسرار عصية على التفسير، ام انها سراب اباد، هل بامكانها الخروج الى عالم المادة، ام انها حبيسة الروح الى الابد، اي مجرد فكرة طوباوية تنتجها الام المجتمع الانساني، المتواصلة مع صيرورة الحياة، وهل الحياة هي غير الام تذكيها الرغبة والطموح ولهاث الفرد في حركة جمعية لا تعرف الاستقرار وراء الهدف الانساني الاخير الذي لا يدركه احد؟

هامش:
(*) في لقاءه مع جريدة المنارة في 26 مايو 2007
(**) نسبة الى المذهب الصفائي الذي ظهر في العام 1918 في فرنسا على يد اوزانفان ولو كوربوزييه الداعي الى الوضوح بالضد من التكعيبية، وليس المذهب الصفائي في الفقه الاسلامي.
(***) ترجمها الى الفرنسية غارسان دوتاسي في جوقة الطيور.



#حسين_القطبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كركوك صعبة وفهمناها!
- ألو.. ناصرية..؟
- لا تحرقوا كركوك
- الشهرستاني يسوق النفط الكردستاني
- مجانين تركيا وارهاب نوري المالكي
- واتفق العرب واسرائيل... حول الاكراد
- وللأنثى مثل حظ الذكرين
- حكومة كوردستان مطالبة ب
- شيعة سنة، خلاف انتهى منذ الف عام
- صدام مشافش حاجه
- شبح امرأة في البرلمان الكويتي
- مصافحة، مصارحة، مصالحه
- على ابواب كأس العالم، موت الفريق السعودي
- راضع من صدر عجمية و اعدام الطاغية عبد الكريم قاسم
- من سخرية العداله
- حل الميليشيات، لماذا؟
- الجعفري، سنة اولى حكم
- حمار الحضارات مرة اخرى
- العراق والجوار، من يتدخل في شؤون من؟
- متى اصيب الله بالحول؟


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين القطبي - مشاهدات عبد الكريم كاصد في المدينة الفاضلة