أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - نقد العقل المسلم ح 29















المزيد.....


نقد العقل المسلم ح 29


سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)


الحوار المتمدن-العدد: 2164 - 2008 / 1 / 18 - 08:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من خلال هذه المُقدّمة أود أن أشير إلى أن تعاملنا مع محيطنا كبشر لا بُدَّ أن يقوم على أساس أنّ الفرد هو الأساس و المنطلق للفكرة و للإيمان الدّيني أيضا ، و لو فرضنا جدلا أنّ الدّين هو مسألة "وراثة" ـ كما يريد المشايخ و المنغلقون فكريّا ـ إذا لكان لزاما على الآخرين رفض دعوة النبي محمد مُقدَّما كون هذه الدعوة كانت تتعارض و تناقِض عقائد و موروثات و تقاليد العرب و الشّعوب الأُخرى ، كما أنّ المسلمين أنفُسُهُم لن يعود في إمكانهم دعوة الآخرين إلى دينهم ، فالحرية الفكرية الشخصية و الجماعيّة تشكل العنصر الأساس لأي مجتمع ناجح.
و أنا هنا عندما أقوم بنقد "فلسفتنا" و "اقتصادنا" لا أريد من الآخرين أن ينظروا إلى الموضوع بمنظار قديم حينما كانوا يعتبرون النقد مسألة "مشاعر" تتعلق بالكراهية أو المحبّة ، فعندما تحبُّ شخصا ـ حسب العقلية القديمة ـ لا يمكنك أن تنتقده ، و هذا ممكن في المسائل الاجتماعيّة و الشخصيّة ، لكنه مرفوض حينما يتعلق الموضوع بنظرية فلسفية أو اجتماعية و غيرها من المسائل الّتي تتداخل مع النظم العامة و الهيكلية السياسيّة ، و "كلمة حق عند سلطان جائر" تمثّل قمّة الكمال الإنساني بتشجيع الناس و الأفراد على إبداء الرأي ضد من يرفض تعدد الرأي "الحاكم الجائر" ، و سواء كان المحتكر للسلطة "شخصا" ، "جماعة" ، أو "فكرة" ! فأنّ النقد يمثّل الغاية و المحرك الّذي سوف يتبعه سلسلة من عمليات النقد المتواصلة و الّتي سيُقضى بموجبها على "احتكار" السلطة من أي طرف ، و كثيرا ما يُتحفنا المُفكّرون الإسلاميّون بالحديث عن "الاحتكار الاقتصادي" و لكنّهم يتجاهلون "الاحتكار السّياسي" ربّما لأنّهم يُدركون مسبقا أنّهم أيضا يدّعون احتكار الحقيقة.
إن أزمة عالمنا الشّرقي الإسلامي ليست أزمة "هوية" أو بحث عن "الذّات" كما يُصِرّ المفكرون الإسلاميّون ، و الصدر واحد منهم ، بقدر ما هي مشكلة ترتبط بالكينونة و الصّيرورة في آن واحد ، فنحن نطرح الكثير من "العظمة" و "الدور الأساسي" لحضارتنا المزعومة و لكننا لا نجد أمثلة لمنجزات تستحق الذّكر لا في الماضي و لا في الحاضر ، بالتالي فإن المستقبل هو مجرد فراغ ، إنّ أزمة حضارتنا تتمحور حول نقطة أساسيّة تتعلق بها كل الموضوعات و الإشكاليات اللاحقة و هي "حُريّة الفرد" ، و هذه الكلمة طالما بقيت دون جواب فإن "حضارتنا ـ لاحظ العقل الجمعي" ستبقى تدور في فلك من الأسئلة الفارغة الّتي لا جواب لها ، لأن أفراد هذه الجماعة تدور في أفلاكها بشكل قلق و مسيَّر في أغلب الأحيان و النتيجة هي عجز في كُلّ المجالات.
يعيش "أفراد" مجتمعنا حالة من التناقض المنطقي المتواصل ، فبينما ينشأ الفرد على ثقافة تُلقّنه أن "الإسلام" هو دين التكامل و أنه الحل السّحري لكل الإشكالات و يمنع الظلم ، يجد في الواقع نقيضا لكل ذلك ، فبدءا بالاستبداد السياسي و مرورا باستبداد الآباء و هيمنة الرّجال على النّساء و التفاوت الطبقي من حيث الثّراء الفاحش و الفقر المدقع و أخيرا الظلم الاجتماعي و فقدان الحريّة ، هذه الصّورة اللا منطقيّة جعلت الفرد المسلم و الشّرقي تحديدا يعيش منطق "اللا منطق".
ذات مرّة سألني صديق: هل المسلمون قابلون لأن يصبحوا ديمقراطيين ؟؟ فأجبته: لقد كان المسلمون قبل 1000 عام أكثر قابليّة للديمقراطية .."!! و بقدر ما كان هو مذهولا للجواب كنت مطمئنا لهذا الجواب ، فقبل ألف عام كانت حضارتنا تتيح "للفرد" أن يكوّن نمط حياته و تفكيره ، و كنا نجد ـ كما نقرأ في التاريخ ـ مجالس يتناظر فيها المفكّرون ، الملحد و المتدين و السنّي و الشيعي و المسلم و غير المسلم ، بل كان من الطبيعي أن يسأل أحدهم و في مجلس عام عن مسائل خطيرة أعتقد أنها لو طُرحت الآن لكان كفيلا أن تصدر بحقّه فتوى قتل ، و كانت مواضيع العلاقات بين الرّجال و النساء رائجة في المجالس العامّة.
و لكي نفهم مكانة "الفرد" في مجمل النظرية الإسلامية كما وضعها الصّدر الأول ، لا بد لنا من أن ندرس و نتابع ما طرحه في كتابيه "فلسفتنا" و "اقتصادنا" ، و أول إشكال يواجهنا في تعامله مع قضية "الفرد" و "الجماعة" تكمن في أنه صنّف الفرد ـ و هو جزء من كلّ ـ إلى فرد ينتمي إلى مجتمع "شرقي" ، "إسلامي" ، و آخر "غربي" ، "مسيحي" ، "يهودي" و "ملحد" ، و من ثُمّ انتقل إلى جعل الشرقي حالة خاصّة تختلف عن الآخر الغربي ، و اعتبر الإنسان المسلم الشرقي "متدينا" بالفطرة أو بالطبع ، مما يعني أن النموذج الديمقراطي اللبرالي لا يمكن أن ينسجم مع "الفرد" و "المجتمع" الشّرقيين ، و هو استنتاج نشُكّ في صحته ، فالإنسان هو الإنسان لا يختلف إلا باختلاف الظروف الموضوعيّة.
يقول الشهيد الصّدر في معرض حديثه عن النظام الرأسمالي الديمقراطي:
". هذا النظام الذي أطاح بلون من
الظلم في الحياة الاقتصادية, وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية. وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية, وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة
جديدة حلت محل السابقين, وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب
جديد.
وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيمانا لا حد له. وبان مصالحه الخاصة بنفسها تكفل ـ بصورة طبيعية ـ مصلحة المجتمع في مختلف
الميادين ... وان فكرة الدولة إنما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصة,
فلا يجوز أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها" فلسفتنا.
حقيق هنا بأن نطرح السؤال: إذا كان المنجز الغربي فيما يتعلق بالحياة الاقتصاديّة و إلغاء الدّكتاتورية و منع استغلال الدين لصالح فئة من النّاس ، كلّ هذه المنجزات إذا لم تكن كافية و بقي لنا شيء من "حبّ النقد" لمجرد النقد ! فلا معنى لأي برامج سياسية ، خصوصا و أنه لا يوجد في باطن التاريخ و لا في الحاضر الّذي نعيشه دولة أو نظام سياسي "مثالي" لا يوجد فيه أيّ عيب ، و كما سبق و قلنا قي أبحاث أخرى ، فإن العقل الفلسفي الإسلامي يفكر دوما في المثاليّات ، و يبقى اهتمامه منصبّا على البحث عن "الأتقى" و "الأنقى" و "الأكثر عدالة و ورعا" ، بينما الواقع بخلاف ذلك ، و حتّى لو وافق المجادل بأن النّبي "مثل موسى و محمد" الّذي يقف على رأس هرم السلطة هو "مثالي"! فإن المحيطين به لم يكونوا كذلك ، فكم من مخالفات و تعديات على حقوق خاصة أو عامة ، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأئمة ، بل إن إبن عباس " و هو أخلص خلصاء الإمام علي ، ارتكب مخالفات مالية أغضبت الإنسان المثالي علي بن أبي طالب ، و ربّما يكون من المثير أيضا لو قلنا أن عليّا لم يحكم حقيقة لأن مجتمعه و الّذي كان يعيش حالة إنهيار إخلاقية في تعريف العلاقة بين الحاكم و المحكوم ، لم يستطع استيعاب عظمة شخصيّة عليّ بل و أصرّ على اضطهاد رجل نزيه وجد نفسه في قمّة السلطة ، و الأمر الآخر ها هنا هو أنّ البحث الّذي طرحه الصّدر ليس بحثا حول "تاريخ أنظمة الحكم" ، بل محاولة فكريّة للوصول إلى أفضل صيغة حكم أو نظام حكم أو عقد اجتماعي يناسب ظروف الشّعوب الشرقيّة الإسلامية ، خصوصا و أنّه مهّد لكتابه "فلسفتنا" بالحديث عن أهميّة النظام الاجتماعي ، يقول السّيّد الصّدر:
" ويتقاسم العالم اليوم ـ كلام السيد الصدر يعني أواسط القرن العشرين و ليس القرن الحالي ـ إثنان من هذه الأنظمة الأربعة. فالنظام الديمقراطي
الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض, والنظام الاشتراكي هو
السائد في بقعة كبيرة أخرى. وكل من النظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً,
يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطاله في
سبيل الحصول على قيادة العالم, وتوحيد النظام الاجتماعي فيه".
إن غالبية مضامين كتابيه "فلسفتنا" و "اقتصادنا" تتمحور حول فكرة "خلق معسكر آخر للصّراع مع المعسكرين الشّيوعي و الديمقراطي" و هو أمر لم يعُد في الإمكان الحديث عنه منذ إنهيار المعسكر الشّيوعي الاشتراكي عام 1991 م و تحول العالم ليس نحو "القطب الأمريكي الأوحد" كما قد يُطلق عليه البعض! لكننا نفضل أن نسمّيه القطب الديمقراطي القائم على "حريّات الفرد" و إن كانت الولايات المتحدة أبرز المدافعين عن هذه المباديء.
و هنا يقف الإسلاميّون على مفترق طرق ، فإمّا أن يبذلوا كلّ الجهود باتجاه ترسيخ العلاقة بين الدّين و الحريات الفرديّة و الجماعية و التصالح مع الديمقراطية و تعدد الآراء ! أو البقاء في ظل المنطق القديم الّذي يؤمن بهيمنة الدّين على الحياة و تحديد الحرية و تقييدها بقيود ، بالتالي هيمنة "نمط واحد" من التفكير على السّاحة الفكريّة ، و المِثال الإيراني خير نموذج ، ففي ظل هذا النظام يتردّد شعار "العدالة" و "الحرية" بكثرة ، لكن لكلا المصطلحين تعريف مُحدّد و مُقيَّد مما يعني "حريّة" شكليّة صورية و غير حقيقية.
يقول السّيّد الصّدر:
" وأما النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص, غير أن
النظام الإسلامي مر بتجربة من أروع النظم الاجتماعية وانجحها, ثم
عصفت به العواصف بعد إن خلا الميدان من القادة المبدئيين أو كاد, وبقيت
التجربة في رحمة أناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم, ولم يملا أرواحهم بروحه وجوهرة فعجزت عن الصمود والبقاء, فتقوض الكيان الإسلامي, وبقي نظام
الإسلام فكرة في ذهن الأمة الإسلامية، وعقيدة في قلوب المسلمين, وأملاً
يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون. وأما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة
حتى الآن تجربة كاملة, وإنما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جو اجتماعي له بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم فأعلنت
النظام الاشتراكي وطبقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقة" فلسفتنا.
إنّ النظامين "الشيوعي ـ الاشتراكي" و "الاشتراكي ـ الإسلامي" ليسا إلاّ حلما مثاليا غير قابل للتطبيق ، و نحن هنا سنطلق على "الإسلاميّة" صفة "الاشتراكية" لأنها بالفعل تتكون من مجتمع "الملائكة" و هو ما لا ينطبق إلاّ على تجارب صغيرة محدودة بحدود المصادر التاريخية ، و الّتي قد تختلف في وصف أي تجربة بأنها خيّرة أو شريرة ، فما يراه المسلمون مثلا "مثاليا" و خيرا كاملا ، ينظر إليه غير المسلمين ـ قطاع لا بأس به على الأقل ـ على أنه تجربة شريرة و قمعية ، فمجتمعات الأنبياء ، موسى ، المسيح و محمد ، هي تجارب في قيد الماضي و ليست تجارب واقعيّة معاشة الآن ، خصوصا و أننا نعيش الآن في عصر العولمة و تعدد وسائل الاتصال و طبعا من المستحيل فرض نظريّة بعينها على الجّنس البشري ، باستثناء الديمقراطية الّتي تنظر بنظرة "نسبيّة" إلى كل القضايا.
إن الترابط بين الفرد كذات مهمة في المجتمع و العلمانية كنظام حكم هو ترابط حيوي ضروري ، لأنّ الفرد مخلوق على أنه حرّ في تفكيره و معتقده و أقوى الأنظمة و أكثرها بوليسية لا تستطيع أن تقهره قناعات الفرد الموجودة في وعيهِ الذّاتي ، فالفرد مخوَّل من الله أن يكون حرّا ، و قهر حريّته هو أمر طاريء اخترعه البشر عبر مراحل تكون الدولة بفهومها المعاصر ، من هنا تمثِّل العلمانية المعتدلة جوهر كلّ الحلول الوسطى بين كلّ الأديان و المعتقدات و حتى الآيديولوجيّات القوميّة ، فلا بدّ إذا من خلق ظروف موضوعية لإيجاد أرضية لحكم علماني يحمي حقوق الأفراد و بالتالي يتمتع كل فرد بحريته في إيطار قانوني يحمي السلم الأهلي.
و لنعد إلى الأفكار العامّة التي طرحها الشّهيد الصّدر ، حيث أنه و بعد أن يسرد وجهة نظر الديمقراطيين الرأسماليين في الحديث عن دور الفرد في الحريات الأساسية السياسيّة ، الاجتماعية ، الفكريّة و الاقتصادية ، فإنه يحاول إيجاد مساحة اضطراب "ثغرة" ليستطيع من خلالها أن ينتقد قوام هذه الحريّة:
" ومن الواضح أن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص, أخذ فيه
الإنسان منفصلاً عن مبدئه, وآخرته, محدوداً بالجانب النفعي من حياته
المادية, وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي
كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية... لم يبن على فلسفة مادية للحياة وعلى
دراسة مفصلة لها. فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام, فصلت عن كل
علاقة خارجة عن حدود المادة والمنفعة, ولكن لم يهيأ لإقامة هذا النظام فهم
فلسفي كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك أن العالم لم يكن فيه
مدارس للفلسفة المادية وأنصار لها, بل كان فيه إقبال على النزعة المادية: تأثراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي وبروح الشك والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي, في طائفة من الأفكار كانت تعد
من أوضح الحقائق وأكثرها صحة وبروح التمرد والسخط على الدين
المزعوم, الذي كان يجمد الأفكار والعقول, ويتملق للظلم والجبروت, وينتصر
للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية, في كثير من العقليات الغربية..." فلسفتنا.
و بعد أن ينتهي من طرحه هذا فإنه يخلص إلى أن النظام الغربي عبر مادّيّته هذه قد فصل بين القصد من خلق الإنسان و الحكمة من خلقه و أن يكون للدين دور في بناء الإنسان و مجتمعه بالتالي فهو مجتمع مضطرب لتخليه عن ضرورة وجود الدين ، لكن السؤال الخطير الّذي سيطرح نفسه في حال اتّفقنا مع السّيّد الصدر في أطروحته و هو: لو سلّمنا بأن يكون للدّين دور في رسم معالم النظام السّياسي و الاقتصادي؟ فإلى أي حدّ سنسمح للدين بالعمل و متى نستطيع القول أن رجل الدين أو حتّى فكرة الدين تخطّت حدودها؟ و من يضمن أن لا يقوم البعض باستغلال الدين لأهداف شخصيّة أنانيّة ، و لا يكفي أن نمتلك بضع أفراد من ذوي النية الصادقة و الطيبة من أمثال السّيّد الصّدر لنضمن عدم حصول ذلك ، و استغلال النظامين السعودي و الإيراني للدين لا يحتاج إلى برهان.
فأن نفصل الدين عن المنظومة السّياسيّة لا يعني فصل الدين عن الحياة! بل هو منع و فصل بين الدين و من يريد احتكاره و نحن لا نستطيع أن نلوم رأي السّيّد الصدر حينما يقول:
"وإذن فمسالة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه, ليست مسألة فكرية خالصة
لا علاقة لها بالحياة, لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها,
مع اغفال تلك المسالة وفصلها, بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة
جميعاً" فلسفتنا.
فالمسألة هنا ليست إن كنا نؤمن بالله عن عدمه ، هذا الموقف العلماني جاء كنتيجة طبيعية لتجارب مُرّة و مؤلمة في تسخير الدين من قِبَل أقلية للهيمنة عاشتها و لا تزال شعوب تعاني منها في آسيا و أفريقيا ، و سبق لأوربا أن عانت قبل الإصلاح الديني و قبل وضع الدين في مكانه الصحيح ، إن الفرق بين الإسلام و المسيحية واضح في هذا المجال ، فالمسيحية كانت دوما فكرة مبسطة و من السهل إصلاحها ، أما الإسلام فقد ارتبط دوما بشمولية تستوعب كل تفاصيل الحياة ، خصوصا و أن التراكم الفقهي ، أجيال الصحابة و المذاهب الأربعة عند السنة ، و الكم الهائل من الروايات عن النبي و الأئمة الإثني عشر في التراث الفقهي الشيعي الّتي تتدخل في كل مجالات الحياة ، كُلّ هذا كان له تأثير سلبي في علاقة الدّين بالدّولة ، غير أن هناك نقطة أمل وحيدة في الوسط الشيعي و هو فصل تقديس الأئمة المعصومين عن أؤلئك الفقهاء "المجتهدين" الذين هم غير معصومين مع مُلاحظة أنّ عامّة الشعب و الفئات غير المُثقّفة في الوسط الشّيعي تُقدِّس "السّيّد ـ و هو سليل النّبي محمّد من أبناء فاطمة" تقديسا مبالغا فيهِ ، من هنا كان الإصلاح يجد نفسه أمام كمّ هائل من النصوص المقدّسة التي لا تقبل التأويل و من ثمّ كان "الاجتهاد" ، حتى في المدرسة الشيعية يدور في فلك الثوابت و لا يمكن لمراجع الشّيعة من الخروج عن هذه الأُطُرْ التّقليديّة و الّتي أصبحت سُنّة تُتّبع نتيجة التّراكم.
إن هناك فرقا كبيرا بين أن نؤمن بالله و بين أن نستغل اسم الله لفرض هيمنتنا و تفسيرنا الخاص على الآخرين ، و من ثمّ نفرض الجماعة على الفرد و نلغي فهمه و دوره الأصيل في رفض أو قبول الدين ، و من هنا فليس تغني الإسلاميين بالحرية ليس إلا أغنية يغنونها و يمكن أن نضيفها إلى الأغاني التاريخية كـ"طلع البدر علينا" فهي محض وهم ، إن الحرية في الفكر الإسلام الموجود الآن لا تعني إلا أن يكون المرء حرّا في دائرة ضيقة ، و هذا يشبه ربط القط بحبلٍ قصير ثم تركه حرا في تلك البقعة الضيقة ، فأي حرية تلك التي تقتل بتهمة "الارتداد" أو "الكفر البواح" أو "رجم الزاني" و "قطع الأيدي و الأرجل" من خلاف.! و الحقيقة أنّ المسيحيّة كانت أيضا عائقا في وجه التّطور و الحُرّيّات الفرديّة و الاجتماعية و كانت الكنيسة الكاثوليكية تُعاقِب المخالفين و المهرطقين بأقسى العقوبات كالحرق أو النّفي أو التّوبة تحت التّعذيب ، لكن منذ ظهور الإصلاح الدّيني على أيدي مارتن لوثر و كالفن و ترسيخ مدرسة العقلانيّة Rationalism تحولت أوربا و الغرب إلى مجتمعات متوازنة ، يعيش فيها المؤمن المتديِّن إلى جانب الملحد الّذي لا يلتزم بشيء سوى القانون ، و من هنا ندرك أهميّة بدء عملية الإصلاح من خلال إصلاح الفكر الدّيني و تهميش المتطرفين الّذين يريدون علوّا في الأرض.
إنّ الفكرة التي لا تنهض بنفسها و لا تستغني عن "القيادات المؤمنة" لكي تنجح! ليست إلا نظريات طوباوية غير قابلة للتطبيق ، لأنها ببساطة مفروضة من أعلى ، و المسلم حينما ينظر للأعلى يجد "الحاكم" و "السلطان" و "الرئيس" أولا ، ثم يأتي الله بالمرتبة الثانية ، إن فرض منهج يؤمن بأسلوب محدد للحياة هو ـ عدى كونه دكتاتورية ـ تدخل في حياة الناس التي يجب أن تسير بشكلها الطبيعي ، كما أن الديمقراطية لا تنظر إلى المجتمع من أعلى و من منطلق "الأبوة" بل من منطلق "الأخوة" و "المساواة" بين كل المواطنين على اختلاف أديانهم و جنسهم "الذكر و الأنثى" أو قومياتهم.
من الواضح أن السيد الشهيد الصدر غير راض عن هذه المعادلة حتى عندما يحاول الحديث عنها بشكل حيادي:
" والحرية الفكرية تعني أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم.
يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم, ويعتقدون ما يصل إليه
اجتهادهم أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة.
والإعلان عن أفكاره ومعتقداته, والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.
والحرية الشخصية تعبر عن تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف
ألوان الضغط والتحديد. فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة, مهما
نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج,
ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم. فالحد النهائي الذي تقف عنده
الحرية الشخصية لكل فرد: حرية الآخرين. فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح
عليه أن يكيف حياته باللون الذي يحلو له ويتبع مختلف العادات والتقاليد" المصدر فلسفتنا.
فما يظنه السيد الصدر ضررا يترتب من سلوك "الفرد" مسألة لا شكّ فيها ، إذ لا يوجد مجتمع في العالم و التاريخ كُلّه لا يتسبب أفراده أو مكوناته بأيذاء بعضه البعض باستثناء أن المجتمعات تختلف في درجة و حجم المشاكل و نوعها ، لكن الفلسفة الغربية لم تنظر إلى الموضوع و الإشكال من هذه الزاوية ، لأن المُشرّعين الغربيين وجدوا أن الفرد في حريته الخاصة لا يتسبب بفساد و إشكالات بالقدر الذي يترتب عن التدخل في حياته الشخصية ، ثم من قال أن النظم الغربية و الديمقراطية لا تتدخل في سلوك الأفراد حينما يُخشى وقوع الضرر ، فمن المعروف أن من حق الدولة أن تتدخل إذا كان فرد من الأفراد يتسبب بأيذاء أفراد آخرين ، و كنماذج على ذلك يتعرض الآباء الذين يسيئون لأبنائهم أو زوجاتهم أو أيّ كان إلى عقوبات و غرامات زاجرة ، و كذلك يدخل هؤلاء في علاج نفسي لتغيير السلوك العنيف و القضاء على أسبابه.
ترى ما القبيح أو المشين في أن يعتقد المرء ما يشاء ؟ أم أن عقلنا "الإسلامي" يأبى إلا أن يعيش في نمط واحد من التفكير ! هذا على الأقل ما يبدو لي و إلا فلماذا يهرب الجميع طالبين اللجوء إلى الدول الديمقراطية الرأسمالية ؟ مشكلة العقل الإسلامي أنه يقيس الأمور و يحكم عليها من خلال "العقل النظري" فقط ، و التعامل مع البحوث و النظريات كأنها قرآن مطبّق حرفيا ، مع أن هذه البحوث عليها إضافات و تطبيقات أخرى يضفي المجتمع عليها نظريته و قناعته في النهاية ، ففي ظل الحرية يتعايش الفكر المادّي و الدّيني ، بينما ينتهي تدخل الدين في تفاصيل الحكم بفقدان الحرية ، من المؤسف حقا أن العقل الإسلامي لا يستوعب الحرية و الديمقراطية إلا من خلال إطار ضيق جدا.
و لكي يكون العقل حرّا في حكمه على الموضوعات و القضايا ، عليه النظر إلى الموضوع من خارج لا من داخل الذات ، فالحكم من الداخل هو تحصيل حاصل و إعادة إنتاج لأفكار مسبقة ، و معروف لدى الإسلاميين أن الدّور فلسفيا باطل ، مثالا على ذلك نستعير مسألة أخذ الفقهاء "السّنّة" بإجماع الفقهاء كمصدر للتشريع و حين يستدلون بنصوص شرعية يأتون بأحاديث آحاد و عندما يُطرح السؤال حول "حجّيّة أحاديث الآحاد" يعودون إلى الاستدلال بالإجماع الذي يعتمد أصلا في ضمن ما يعتمد عليه على أحاديث الآحاد ، و كذلك الأمر بالنسبة إلى الإيمان بالإسلام أو المسيحية أو أي دينٍ آخر ، إذ لا يمكن للمؤمن بالإسلام أن يفرض رأيه على الآخرين إستنادا إلى آية قرآنية أو حديث لأن هناك من لا يؤمن بقدسيّة هذه النصوص أصلا.
من المهم هنا أن يفترض الإسلامي لنفسه موقفا نسبيا من كل القضايا ، صحيح أن من حقّه أن يدافع عن امتلاكه الحقيقة المطلقة ـ و هي مطلقة حسب رأيه هو ـ و لكن حينما يفرض نظريّته هو عن الدين فإنه يعطي الآخرين الحق في أن يفرضوا عليه ما يرونه صوابا و حقا ، مشكلة الحرية أنها غير واضحة الحدود على الأغلب رغم أن الفرد يشعر بها ، فالحرية ليست أمرا مادّيّا يمكن التعامل معه حسب الكيف و الكم و الحدود ، بل هي أمر نظري يتوقف على الثقافة و الدين و أمور أخرى ، فقد يضيّقها دين ما بينما يرحب بها دين آخر بشكل أكثر تسامحا.




#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)       Sohel_Bahjat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العقل المسلم ح 28 الفرد و الدّولة
- نقد العقل المسلم ح 27
- نقد العقل المسلم ح 26
- نقد العقل المسلم ح 25
- نقد العقل المسلم ح 24
- نقد العقل المسلم ح 23
- نقد العقل المسلم ح 22
- نقد العقل المسلم الحلقة الحادية و العشرون
- نقد العقل المسلم الحلقة العشرون
- نقد العقل المسلم الحلقة التاسعة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الثامنة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة السابعة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة السادسة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الخامسة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الرابعة عشرة الإسلام و الإرهاب .. ...
- نقد العقل المسلم الحلقة الثالثة عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الثانية عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة الحادية عشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة العاشرة
- نقد العقل المسلم الحلقة التاسعة


المزيد.....




- الاحتلال يستغل الأعياد الدينية بإسباغ القداسة على عدوانه على ...
- -المقاومة الإسلامية في العراق- تعرض مشاهد من استهدافها لموقع ...
- فرنسا: بسبب التهديد الإرهابي والتوترات الدولية...الحكومة تنش ...
- المحكمة العليا الإسرائيلية تعلق الدعم لطلاب المدارس الدينية ...
- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - نقد العقل المسلم ح 29