أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - ثقافة الطوارئ نقد الثقافة السياسية السورية















المزيد.....

ثقافة الطوارئ نقد الثقافة السياسية السورية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 671 - 2003 / 12 / 3 - 05:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


كانت الغارة الإسرائيلية على موقع عين الصاحب السوري في 5/10/2003 مناسبة لم تفوتها مختلف أطراف "الحركة الديمقراطية السورية" للتنديد بالاعتداء والتذكير بموقفها من القضايا العامة للبلاد. فيما عدا استنكار الاعتداء وإدانته، كانت العبارات الأكثر تواترا في البلاغات والتصريحات والبيانات الصادرة بالمناسبة هي "الجبهة الداخلية" و"الوحدة الوطنية"، و"التحصين" و"التمتين" و"التعزيز"، و"المواجهة"، و"الأخطار والتحديات". ويصلح التصريح التالي للناطق الرسمي باسم "التجمع الوطني الديمقراطي" نموذجا أو مثالا قياسيا للمواقف الأخرى: "آن الأوان لأن تعيد القيادة السياسية النظر في سياساتها الداخلية وتعيد ترتيب البيت الوطني بما يكفل تحصين الجبهة الداخلية؛ وتغيير البنيان السياسي، بما يفسح المجال لتحقيق بنية ديمقراطية تكفل للوطن منعته وهيبته وللمواطن كرامته وحريته و... وتهيئة الظروف المناسبة للوقوف صفا واحدا في مواجهة الأخطار والتحديات الكبرى التي تواجه الوطن والأمة".
قوام النهج المشترك بين الأطراف الحزبية وغير الحزبية من "الحركة الديمقراطية السورية" هو المطالبة بالديمقراطية من أجل تعزيز الوحدة الوطنية وتمتين الجبهة الداخلية وفي مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية. المعادلة العامة هي: انفتاح ديمقراطي = تحصين وطني.
غير أن المدركات المذكورة أساسية في ما نسميه ثقافة الطوارئ التي تشكل ركنا أساسيا من مضمون العقيدة الرسمية للسلطة السورية (الركن الآخر هو تمجيد الذات: ذات الحاكم أو ذات الحزب ...). وتقوم ثقافة الطوارئ القارة على أننا في حالة حرب وأن العدو على الأبواب وأن المجتمع جيش رديف (جبهة داخلية) وأن المرحلة حرجة... إلخ، وتطالب من ثم بالوقوف صفا واحدا في ميدان المواجهة... ولا يقال شيء عن "النحن" التي تحدق بها الأخطار، فهي متجانسة في غيابها أو هي غياب متجانس، فإن حضرت فعلى شكل تجانس منضبط، بريئ من الانشقاق والخروج والمفارقة: جبهة داخلية أو "صف واحد".
إلى بناء مفهوم ثقافة الطوارئ، يريد هذا المقال إظهار تعارض هذه الثقافة مع ثقافة الديمقراطية من جهة، وانعدام جدواها في الرد على الأخطار من جهة أخرى. وكذلك النظر في جوانب من الثقافة السياسية السورية وإثارة نقاش حولها من وجهة نظر مطلب التحويل الديمقراطي المطلوب. نريد أن نقول لا نستطيع الاستناد إلى ثقافة الطوارئ من أجل المطالبة بالديمقراطية.

وظيفة ثقافة الطوارئ
لم تنتج ثقافة الطوارئ الأخطار والتحديات، بل لعلها لم تبالغ فيها، لكنها أدمجتها في نظام إيديولوجي وسياسي يستنبط تنظيماته وشرعيته، وحتى ما ينسبه إلى القائمين عليه من فضائل، من الرد عليها (على الأخطار...). ليس من المفاجئ، تاليا، أن حصيلة النظام العملية من الرد على المخاطر معدومة. فالأخطار الخطابية مختلفة كليا عن الأخطار الفعلية، بل هي بالفعل عائق خطر أمام الإدراك الواقعي لهذه الأخيرة. فقد تحولت الأخطار إلى ضرورة خطابية لتماسك خطاب سياسي طوارئي، ووظيفة من وظائفه في آن معا. بعبارة أخرى، لم تعد المخاطر تهديدات أو اعتداءات موصوفة يمكن التعرف عليها موضوعيا، أعني بصورة مستقلة عن خطاب الأخطار وثقافة الطوارئ، بل أمست حاجات أيديولوجية وسياسية لإدامة حالة الطوارئ وكتم أية أصوات ناقدة أو منشقة قد "تعلو فوق صوت المعركة". الخطر هنا ليس موضوعا للمعرفة (و لا حافزا للمعرفة) بل هو "قالب" معرفي قبلي مثل قوالب حساسية الذات المتعالية الكانطية.
وبهذا "التخطير" الشامل تتيح ثقافة الطورائ التغطية على الأخطاء بالأخطار، وعلى الامتيازات الفئوية بالمصالح الوطنية، وعلى المكاسب والسلطات غير المشروعة باحتكار المشروعية الوطنية بالذات، وتقوض بالتالي مبدأ المسؤولية وتلغي أي معيار مستقل للمساءلة والنقد. هذه هي الوظيفة الحقيقية لثقافة الطوارئ وخطاب الأخطار المرتبط بها. وفي ظلهما، وخصوصا بفضل المفعول التطبيعي لإزمان ورسوخ المصالح المتحصنة بهما، سيتم ردع أية مساءلة بوصفها  تشكيكا بوطنية الحكم واعتداء على "الدولة" وتهديدا للأمن الوطني- وهو ما لا يمكن أن يصدر إلا من أطراف متعاونة مع الخارج طبعاً.
ولعل في تضافر المفعول الردعي لهذه الثقافة مع تشويش المسؤوليات ما يفسر حالة التراخي والخدر في أوساط نشطة عادة من الرأي العام السوري بعد اعتداء عين الصاحب. فكأن هذه الأوساط لم تستوعب أن الخطر حقيقي هذه المرة وليس مجرد لازمة لا يكتمل الخطاب الرسمي دونها. إذ لما كان كل شيئ طارئ وخطر ضمن ثقافة الطوارئ المعمرة فلن يتمكن أحد من تمييز الطارئ الحقيقي حين يداهمنا. وهذا لأن لثقافة الطوارئ مفعول شبيه بمفعول الإدمان. فكما يقتضي ارتفاع عتبة تخدير أعصاب المدمن زيادة مقدار ما يتناوله من جرعة الكحول أو المخدر وصولا إلى يوم لا يعود يتخدر فيه، فكذلك لم تعد هناك أخطار كافية لتنبيهنا إلى أن الخطر حقيقي. وهكذا تثلم ثقافة الطوارئ حسنا بالخطر بدلا من شحذه، وتبلد شعورنا بالتهديد بدلا من إرهافه.
عدم تصديقنا أن الخطر حقيقي هذه المرة يفسر أننا بالكاد جرجرنا أقدامنا لنتظاهر... وبالكاد بضع مئات من الأشخاص و... بعد خمسة أيام من الاعتداء الإسرائيلي. هناك أيضا كان الطبل الأبدي جاهزا: فالاعتداء الإسرائيلي مناسبة لتعلن عن نشاطها "اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين" التي لم تكن بحاجة إلا إلى مناسبة لتطبّل، فهي على طريقتها في حالة حرب دائمة ضد الامبريالية والاستعمار والبرجوازية الطفيلية والعولمة وكل أنواع الأعداء. ولما كانت الطبول، والتظاهر عامة، وسيلة مجربة لإبعاد عامة الناس عن المشاركة وليست تعبيرا عن الاحتجاج والاهتمام بالشان العام (لأنها تثير لديهم منعكس انمحاء الشخصية وازدرائها المرتبط بالمسيرات الإلزامية) فقد حشدت مظاهرة دمشق ما لا يزيد عن ألف شخص.

نظام الاعتباط
ذكّرت غارة عين الصاحب أن المخاطر الخارجية الحقيقية لم تغب عن آفاقنا، وأعادت إلى الأذهان أن البلد مهدد بالفعل. لكنها كشفت أيضا كم بات جلدنا سميكا، وكم تعاملنا مع الاعتداء كأنه مشهد في نشرة أخبار أو خبر في جريدة. هذا يقيس درجة  انفصالنا عن أنفسنا، أو بالأحرى انفصال مصيرنا وتعاليه على فاعليتنا وجهودنا. العمل معدوم الجدوى هنا. وهو أيضا أحد أصلي الموقف القدري المنتشر حتى في أوساط المثقفين. الأصل الآخر هو الاعتباط أو الطارئية المطلقة للوجود: كل شيئ يمكن أن يحصل في كل وقت لكل الأشخاص. لا يمكن التنبؤ بشيئ ويستحيل توقع ما قد يحصل غدا. العقل لا يمكن أن يعمل هنا. لذلك يتصالح مع عجزه ويسميه قدرا. وكلاهما، اليقين بلا جدوى العمل أو انفصال المصير ثم الاعتباط أو الاستحالة المطلقة للتوقع، يشكلان نظام حياة أكثرية الناس في بلدنا.
مشكلة ثقافة الطوارئ ليست في اختراع الأخطار بل في الواقع في إغراقها في خطاب أخطار جعجاع، متجانس لا فرق فيه، لا يهدأ ولا يترك فرصة للتفكير والتبين؛ مشكلتها - بالأصح مشكلتنا معها- مراوغتها وعدم إدراكها حقيقة الأخطار المهددة للبلاد وعدم صلاحيتها لبلورة استراتيجية وطنية من أي نوع للرد عليها. الأخطار حقيقية وخطاب الأخطار زائف، ومن هنا خطره الجذري. 
على أرضية هذا التحليل تكتسب المطالبة بإلغاء حالة الطوارئ شرعية مضاعفة. فإلى جانب أن إلغائها خطوة نحو حياة سياسية طبيعية في البلاد وتمهيد لإرساء سيادة القانون ووضع حد لتحكم الاعتباط والعسف بحياة المواطنين وإلغاء المحاكم والقوانين الاستثنائية، إلى جانب ذلك هو ضرورة حيوية لكي نستعيد القدرة على التمييز بين الخطير والحميد، وبين درجات الأخطار المتفاوتة. فإذا كنا نريد إقناع الشعب أن البلاد تواجه خطرا حقيقيا وأن عليه أن يستنفر ويتأهب للدفاع عن وطنه، فإنه ليست هناك وسيلة تعبوية أقوى من الإعلان عن إلغاء حالة الطوارئ. ففي هذه الحالة فقط سيصدق الشعب أن المسألة جد وأن هناك طارئا حقيقيا يتهدد البلاد.
والقصد أن تعرية ثقافة الطوارئ وتفكيك خطاب الأخطار شرط لا غنى عنه لتبين الاخطار الحقيقة، وبالتالي لبلورة استراتيجية وطنية متماسكة. بل قبل ذلك هما (التعرية والتفكيك) ضروريان لمجرد تحديد موقعنا في إطار إقليمي وعالمي لا يكفان عن التغير. حالة الطوارئ مشكلة وطنية وليست حلا لأية مشكلة وطنية، ووظيفة ثقافة الطوارئ هي تطبيع حالة الطوارئ وحمايتها من الاعتراض.
 إن حالة البُروك العقلي والسياسي والروحي التي أصابت المجتمع السوري منذ ربع قرن على الأقل هي ثمرة ثقافة الطوارئ الفتاكة والمتهافتة معا، أكثر حتى مما هي حصيلة عسكرته، أي التعامل معه كجبهة داخلية تنفذ ولا تعترض، تحاسَب ولا تحاسِب. فإذ تقضي على ملكة التمييز بين الأخطار وتحديد مصادرها فإنها تفقد المجتمع القدرة على التوجه وتفضي به إلى الشلل والقعود والاستسلام. ثم إن "الجبهة الداخلية" التي تتحصل بطرد الاختلاف والتعدد والسياسة من المجتمع ترتد بهذا عملياً إلى تعايش سلبي، ما قبل سياسي ومضاد للسياسة معا، بين عصبيات متخارجة.

ديمقراطية طوارئية
هل يمكن الاستناد إلى خطاب الطوارئ ذاته لتسويغ المطلب الديمقراطي المضاد لحالة الطوارئ؟ وهل، بالفعل، "تحصّن" الديمقراطية البلاد وتكفل "البنية الديمقراطية" ظروفا مناسبة "للوقوف صفا واحدا في مواجهة التحديات والأخطار" كما ورد في تصريح الناطق باسم التجمع الوطني الديمقراطي؟ وهل يؤدي "الانفراج الداخلي والانفتاح على الشعب" إلى "تعزيز الوحدة الوطنية، وتمتين الجبهة الداخلية" كما قال صدر الدين البيانوني المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية؟ وهل "احترام حقوق الإنسان في البلاد في سياق انفراج سياسي عام" يضمن "صيانة الوطن وحمايته" و"يقوي ويدعم من حصانة وطننا سورية"، كما صرح أكثم نعيسة الناطق باسم لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية؟ 
إذا كانت الديمقراطية تتضمن التعدد السياسي وحرية الرأي والضمير والاعتقاد (وهل يمكن أن لا تتضمنها!) فإنها تتعارض، بداهة، مع اعتبار المجتمع "جبهة داخلية"، ولا تصلح بالتالي أن نتوسلها لتحصين البلاد. ولا يمكن إلا بقفزة بلاغية خارج العقل الجمع بين "البنية الديمقراطية" و"الوقوف صفا واحدا"، فأبسط تعريف لهذه "البنية" هو حرية عدم الوقوف في أي صف واحد.
يعتقد الديمقراطيون السوريون أنهم "يحصنون" مطلبهم الديمقراطي بتسخيره لتمتين الجبهة الداخلية وحماية الوحدة الوطنية في وجه المخاطر والتحديات، لكنهم بذلك يضعونه في سياق يهدره، سياق عسكرة الوعي والسياسة: مصادرة الوعي لمصلحة مسلمات لم تفحص منذ زمن بعيد، ومصادرة السياسة الفعلية لمصلحة حرب لا تخاض إلا خطابيا. هذا تناقض بين المناهج والأهداف، حسب عبارة المرحوم ياسين الحافظ، ومحصلته خسران المنهج الديمقراطي دون كسب الهدف المتمثل في "تحصين الجبهة الداخلية". الديمقراطية ليست منهجا تحصينيا ولا هي عقيدة تعبوية ملائمة، تماما كما حالة الطوارئ ليست منهج تنبه أو صمود أو مواجهة للعدوان. وإذا كان "التحصين" هدفا حقيقيا، وهو كذلك، فينبغي السعي إليه بمناهج مناسبة.
لكن ما الأصل في "تحميل" الديمقراطية على "برنامج" ثقافة الطوارئ؟ هناك عاملان في تقديرنا: (1) الثقافة السياسية السورية لا تسمح لأي مطلب، اقتصاديا كان أو تعليميا حقوقيا...، أن يدخل حقل النقاش العام إلا مغلفا بلغة الوطنية والرد على التهديدات الخارجية. ولهذا التكوين أصوله في تاريخ الكيان السوري الحديث في نهاية الحرب العالمية الأولى مرورا بالاحتلال الفرنسي ثم وقائع التوسعية الإسرائيلية، كما في تكوين النخب السياسية والثقافية التي حكمت البلاد وحددت اتجاهات النقاش العام خلال نصف القرن المنصرم، مما لا مجال في التوسع فيه هنا. (2) ضعف الحركة الديمقراطية يدفعها إلى "تحصين" نفسها بالتمسك بما تظنه الموقع الحصين للإجماع الوطني، وبما يضعها بمنأى عن التخوين والاتهام بالوطنية. ولعلنا نذكر أن من النقاط الأساسية التي أخذها نائب الرئيس على ربيع دمشق في شباط 2001 هو تجاهلها للخطر الإسرائيلي.    
 
المناعة تنخفض في مراحل النمو
الديمقراطية مطلب حيوي لأنها عنوان لحقوق وحريات بديهية لا تشتق من شيئ آخر، ولاتحتاج إلى تبرير من شيئ يعلو على وجودنا "النثري"، بشرا ومواطنين. والأرجح أنه في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية تكون "المنعة الوطنية" أدنى حتى مما هي في ظل الاستبداد في طور تفسخه. هذا يطرح مشكلة حقيقية على الحركة الديمقراطية وعلى مجتمعنا لا تغطي عليها الحلول التلفيقية واللفظية، إذ ليس هناك توافق بديهي ومحتوم بين الديمقراطية ومقتضيات التعبئة الوطنية إلا في مرحلة متقدمة من استقرار الدولة الديمقراطية الحديثة، حين تغدو الديمقراطية مكونا جوهريا للوطنية وتغدو الوطنية الإطار الحي الوحيد لتفتح الحياة السياسية الحرة للشعب. ولهذا السبب بالذات، أعني لعدم التوافق المحتوم بين الانفتاح الديمقراطي والتماسك في وجه الخطر الخارجي، بل للتعارض المحتمل بينهما، لعبت التوسعية الإسرائيلية، المهدِّدة دائما، ضد مصلحة تحديث المجتمعات العربية وانفتاحها على ذاتها (الاعتراف بتعددها الذاتي) وعلى غيرها (الاعتراف بأنها جزء من متعدد أكبر هو العالم)، ولمصلحة تأبيد حالة الطوارئ وأنظمة الطوارئ.
نريد الديمقراطية كي نتكلم بحرية ونلتقي بحرية وننتقد حكامنا بحرية... وليس لعلاج أمراض لم تنشأ أصلا عن غيابها (وإن كان غيابها قد منعنا من معرفة تطورها وتفاقمها؛ وإن كنا نأمل أن حضورها سيساعدنا على إدراك وضعنا بصورة أفضل). لا ينبغي أن نبهظ المطلب الديمقراطي بأعباء من غير المرجح أن يستطيع النهوض بها، وبالخصوص حل مشكلات الأمن الوطني والقومي بالغة التعقيد. وكما نستطيع نقد حالة الطوارئ حتى بصرف النظر عن انعدام جدواها التعبوية، كذلك ينبغي أن نعمل من أجل الديمقراطية دون رهنها بمفعولات تحصينية غير مضمونة.  
قد يقال: ربما لا تستمد الديمقراطية شرعيتها من تمتين أي شيئ أو تحصينه، لكن هذا لا يلغي حاجتنا إلى تمتين وتحصين "شيئنا" الوطني، وبالخصوص في مواجهة تحدي العدوانية الإسرائيلية. نعم بالتأكيد. كل ما نريد قوله هو إن ضرورة التمتين والتحصين لا تستمد من الديمقراطية ولا تلبيها الديمقراطية- في المدى المنظور على الأقل.

الوضوح هو الدفاع
ما هي المناهج الملائمة للدفاع الوطني والرد على الخطر الإسرائيلي؟ لا يمكننا حل مشكلة غير مطروحة بالطبع. وإنها لمفارقة أن نظامنا السياسي يتمحور حول وظيفته الدفاعية المفترضة، لكن مشكلتنا الدفاعية ليست مطروحة لأي نقاش عام أو تخصصي. وتسليمنا بهذه المفارقة، وهي متناسلة عن المفارقة الأكبر التي تطبع حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، أعني تأبيد حالة الطوارئ وارتقائها إلى مستوى نظام كامل، يقود إلى تحلل العقل ذاته وانهيار دفاعاته. لقد تعفنت عقولنا لكثرة ما روضت نفسها على عدم الدهشة حيال المفارقات، ولفرط ما تطبعت على قبول ما هو غير طبيعي، ولكثرة ما سوت بين مطالب تمتنع التسوية بينها، وبالخصوص لأنها جعلت من الخوف منهجا للتفكير والحياة.  
لذلك لا نشك في أنه لا يمكن إطلاق نقاش جدي حول الشأن الدفاعي دون أن يكون في الوقت ذاته نقاشا واسعا ومفتوحا وجذريا لمختلف قضايانا العامة، بما فيها نظمنا السياسية والفكرية القائمة والمسار الذي أوصلنا إلى الحضيض الراهن، أي دون تسمية جميع الأشياء بأسمائها وتحديد المسؤوليات دون جمجمة ولا غمغمة. ببساطة، لا مجال للتفكير في الشأن الدفاعي دون الدفاع عن حقوقنا في النقد والفهم والتمييز. الوضوح هو الدفاع، وهو خط دفاعنا الأول.
نعم، التهديد الخارجي يعقد مسألة الديمقراطية في بلدان ضعيفة عسكريا و يضعف فرص بروز مواقف انشقاقية ويساعد بحد ذاته على نمو وانتشار ثقافة سياسية دولانية وتعبوية. لكن حالة الطوارئ المقيمة وثقافة الطوارئ تضحي بالمطلب الديمقراطي دون أي عائد على مستوى الرد على التهديد الخارجي. هذا التوتر بين الديمقراطية والدفاع الوطني يثير قضايا خصبة وصعبة تتطلب من المثقفين جهودا تأسيسية وشجاعة معنوية كبيرة.
حاولنا أن نبين أن الأخطر في ثقافة الطوارئ ليس عدم ملاءمتها للرد على الطوارئ الفعلية، الأخطر بالأحرى هو تقويض قدرتنا على التمييز والتوجه، وتعميم حالة من الاختلاط والبلبلة وتشوش الوجود (وليس الإدراك وحده)، وبالنتيجة دفعنا إلى التخلي عن مصيرنا. هذه هو الاستسلام الذي لا يحلم أي عدو بأكثر منه. وهل حالنا الواقعي غير ذلك؟
الغرض من النبش في هذه المسائل هو حفز اهتمامنا، كمواطنين وكناشطين وكمثقفين ديمقراطيين، بقضايا هي من صلب أي برنامج محتمل للتغيير في بلادنا، وهو أيضا الدفع باتجاه تفكير مختلف وخطاب مختلف حول هذه الشؤون. فبعض السر في خمود النقاش العام في سورية هو افتقار فكرنا وخطاباتنا إلى التنوع المحرض للنقاش. 
دمشق 18/11/2003



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكم العضوض والتغيير الممنوع
- نحو إعادة بناء الإجماع الوطني في سوريا
- بعد دكتاتورية صدام ديمقراطية فسيفسائية في العراق
- صدام الحضارات: صراع طائفي على الصعيد العالمي
- ماكبث بغداد...وإخوته
- أزمة الإبداع في الثقافة العربية المعاصرة
- السلطة والتبعية -تحالف- الأمير والأميركان
- الإرهاب العربي-: بعض الأصول والمحددات
- احتلال من باطن نظام إقليمي جديد في -الشرق الأوسط-؟
- ندوة حول الارهاب وعالم ما بعد 11 ايلول - المشاركون: د. صادق ...
- الشــرط الإرهــابي تمزق معنى العالم
- تغيير الأنظمة- و-إعادة رسم الخرائط
- المعارضة السورية والعلاقات السورية اللبنانية
- ديمقراطية بالوكالة
- الشــرط الإرهــابي تمزق معنى العالم
- التجمع الوطني الديمقراطي .. إلى أين؟
- رياض سيف والإصلاح السوري
- الفلسطيني الذي فجّر الهويات
- السلطة و... التوبة
- السياسة المبدئية والسلطة والدستور


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - ثقافة الطوارئ نقد الثقافة السياسية السورية