أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير مبارك - المثقف العربي و-المستبد العادل-















المزيد.....


المثقف العربي و-المستبد العادل-


زهير مبارك

الحوار المتمدن-العدد: 2164 - 2008 / 1 / 18 - 08:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن استمرار حالة ولاء المثقف العربي للحاكم المستبد على اختلاف الزمن أدى إلى إظهار الاستبداد بصورة مجملة ما دفع إلى القول: بأن المستبد يمكن أن يكون عادلا. فمن أين جاء هذا المفهوم، ولماذا يتم تداوله حتى اليوم؟
جذور المستبد العادل
لقد كان للمثقفين وما زال الدور الأبرز في إظهار الاستبداد بلباس الوداعة والعدل وبخاصة عندما يجهدون في الربط ما بين العدل والاستبداد، من خلال البحث في الإرث التاريخي الإسلامي ليبرروا ذلك. يرى البعض أن الاستبداد في التاريخ الإسلامي يختلف عما هو موجود اليوم والمأخوذ من الفكر الغربي؛ ذلك أن النظرة السائدة للاستبداد كانت تعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار، وكذلك عدم التردد في تنفيذه، ما أدى في التاريخ الإسلامي إلى ظهور مقولة: " إنما العاجز من لا يستبد". وعليه، تم الربط بين هذا المفهوم للاستبداد وبين مفهوم "المستبد العادل " كنموذج للحكم الحامل للفضيلة، حيث يتم ترديد هذا المفهوم وترويجه باستخدام تجربة عمر بن الخطاب الذي كان يتميز بالحزم والعدل في خلافته؛ وبالتالي كان هذا نموذجا، من وجهة نظر البعض، للاستبداد العادل. فهو (عمر) شكل حالة من الحزم مع العدل، إذا افترضنا تمثله ذلك، ولكن تجدر الاشارة أن استخدام عمر كنموذج لم يكن إلا ذرا للرماد في العيون، إذ لم يستمر الحال على ما هو عليه ذلك أن "الفكر الإسلامي" الذي أطر للاستبداد العربي بصورة منهجية لم يكن خالصا بل إنه شكل بالتأثير من منابع مختلفة، وأهمها الفارسية فالفكر الفارسي _ الساساني هو الحاضن الأساسي لمفهوم "المستبد العادل "، وقد كان ذلك من خلال أردشير وما قام به من حالة توأمة الملك مع الدين. فكما مر معنا مثل الدين أساسا للملك، والملك حارس الدين. وانطلاقا من ذلك ظهرت في الحقبتين الأموية والعباسية فكرة " المستبد الضروري للدين"، التي اعتبرت صبغة عربية بمضمون فارسي مستمد من كلام أردشير الموحد للدولة الساسانية. وكذلك التأثر بنموذج كسرى أنو شروان الذي كان يلقب بـ"العادل" أو "الملك العادل ". شكل هذا نموذج "المستبد العادل " الذي تغلغل في الفكر الإسلامي من الموروث الفارسي فترك اثرا كبيرا في كل ما كتب من "الآداب السلطانية " التي كان المثقف الإسلامي فيها البوق المروج لهذا المفهوم، على أساس أنه النموذج الأكثر قبولا للمسلمين.
بين الاستبداد والعدل
لم يمثل مفهوم المستبد العادل أحد الروافد الأساسية للاستبداد العربي فقط؛ بل إنه مثل الديمومة التي تغذي هذا الاستبداد حتى اليوم، انطلاقا من إمكانية إيجاد مثل هذا النوع من الحكم. وهنا يلح السؤال الآتي هل يلتقي الاستبداد مع العدل، بغض النظر عن تفسير الاستبداد؟ إن مفهوم الاستبداد بما يحمل من ظلم وعسف للمحكومين منفر لكل من يسمع به، ولهذا عمل مثقف السلطان على إضافة مفهوم العدل إلى الاستبداد، حيث تم دمج الأخلاق بالسياسة لطمس مدلولات الاستبداد، وإظهار جوانب العدل الأخلاقية، أي أنه استبداد عادل. وهذا لا يعني اللعب بالكلمات فقط بل إنه يحمل " شحنة أيديولوجية عقلانية شديدة الشفافية والوضوح فهو لا يشير إلى العدل فحسب …بل إلى حكم قيمة أخلاقية وعقلانية ". بمعنى أن فكرة المستبد العادل تبحث عن العلاقة بين السلطة السياسية بالشرعية السياسية لأنظمة الحكم المستبدة فهو الباحث عن شرعية سياسية لنظام حكم غابت عنه الشرعية ما دفع بعض المثقفين الموالين وبدعم من الحاكم المستبد إلى القول: بوجوب قيام التطور والنهضة بوجود هذا الحاكم المستبد العادل. وهنا لا يمثل هذا الطرح إلا مصدرا أساسيا من مصادر الشرعية السياسية.
يأتي حديث المثقفين عن المستبد العادل من باب إيجاد علاقة للسلطة السياسة بالشرعية السياسية لأنظمة الحكم. وليس المطلوب هنا تحقيق العدل من خلال الاستبداد بل السعي لتحقيق شرعية سياسية ولتثبيتها، واعتباره مصدرا وحيدا لهذه الشرعية. فشرعية المستبد مستمدة من شرعية وجوده في الحكم، وبصورة أدق من شرعية مشروعه، ومن الصفات التي تتضمنها الصورة التي يقدم بها ومن خلالها.
وجاء دور المثقف في هذا المجال ليقوم بعمل مقاربة للخروج من الأوهام السياسية لتتمثل كفكرة سياسية، وهي ليست بالضرورة كذلك، فالمطلوب من الترويج لفكرة المستبد العادل تحقيق " الطلب السياسي والحاجة العملية منه، ويدفع إلى تجاوز التناقض الذي يحتوي عليه، أو بالأصح إلى التعامل معه كما لو كان هذا التناقض لا وجود له "، وبما أن صورة المستبد، بالشكل المجرد، هي صورة قبيحة، يرى فيها الناس رجلاً شريراً ودموياً وظالماً أقرب إلى صورة الشيطان اللعين، فإن مصطلح "المستبد العادل" يأتي ليزيل هذه النعوت عنه، ولكن دون تغيير حقيقي على دوره السلبي الذي يقوم به.
على ضوء تزيين المستبد العادل، فإن هذه الصورة المبتكرة للمستبد جاءت من خلال الشراكة بين "المثقف والحكيم للحاكم الذي يستخدم الدولة وإمكانياتها من أجل تحقيق مشروع هو في الحقيقة مشروع المثقف بخصوص الحكم … فمشروعه كبير، ويقتضي منه الأمر أن يمركز السلطة كلها ويجمعها بين يديه (المستبد ) ".
يمثل الربط بين الاستبداد والعدل زواجاً بين السلطة والمشرع والحاكم والفقيه من حيث وضعهما تحت عمامة واحدة، وجمعهما تحت سقف واحد، ويعود سبب ذلك إلى أن مفهوم "المستبد العادل" ما هو إلا من التمدد السلطوي على حساب الحرية التي لا يمكن أن تلتقي مع الاستبداد، فـ"الحديث عن الاستبداد حديث عن الحريـة ولكـن بشكـل آخر ". إنه نفي الحرية باسم العدل، وهو لباس الاستبداد الأخلاقي الجديد الذي يضمن استمراره بمسميات تنوجد كلما بان قبح الاستبداد حيث يستنفر المثقفون السلطويون للدفاع عنه؛ لأن مهمتهم تقتضي ذلك فهم وجدوا من أجل ذلك.
يأتي ذلك الحديث انطلاقا من فكرة المستبد العادل التي لا أساس لها؛ لأن العدالة لا تجتمع مع الاستبداد تحت سقف واحد، فإحداهما ينفي الآخر إذ لا مجال للتعايش بين العدل والاستبداد، "فالاستبداد" هو الحكم المطلق أو ما يؤدي إليه، وهذا، بحد ذاته، كفيل بنسف الحرية، والعدالة إن وجدت فيه فإنها لن تكون في خلفه الذي من البديهي أن يكون من نسله.
إذا كان مفهوم المستبد العادل يدخل في إطار أيديولوجية الحاكم المستبد فإنه لا يمثل الرغبة من طرف الحاكم، وإلا أصبح الفشل مصيره لو كان وحيدا، ولكن الميل السلطاني اتجاه المثقفين يمثل الانبعاث الأقوى لهذا المفهوم، فلولاهم لما تم إظهاره على هذا النحو، وقد يكون وراء صورة المستبد العادل المطروحة تلك الصورة التي أطرها المثقف الذي يستخدم الدولة ليحقق مشروع الحاكم مع أن المطروح هو تحقيق مشروع المثقف. ولكن كيف للعبد أن يطلب من سيده الحرية، وهل يعرف العبيد الحرية.
لقد استنبط مفهوم المستبد العادل من ذات الثقافة الأبوية التي بررت الاستبداد. فالمستبد العادل رجل فاضل يريد خير الناس جميعهم، وهو، غالبا، يشبه أباً عاماً تتسع أبوته لأبناء المجتمع بأسرهم، ولكنه في الوقت نفسه حامل للنزعة الأبوية التي تسمح له أن يقوم بممارسة القسوة، والعنف وبث الخوف متجاوزا الحلم الذي بين ضلوعه، فهو أب عادل لكنه في الوقت نفسه قاس لهدف. وهكذا يتم تبرير المستبد العادل والسعي للمزاوجة بين الطرفين . ولكن شكيب أرسلان يرد على ذلك بالقول: " إن الاستبداد لشر مطية تمتطيها الحكومة المستبيحة لنفسها التطوّح في البغي والجور والعتو. ولكن بعضهم يقول :هناك "المستبد العادل " النازل من الرعية منزلة الأب من الأسرة…، وإنما ذلك وهم وخيال لا ظل لهما في الحقيقة ".
استبداد العدل
على ضوء ما تقدم، فإن مفهوم المستبد العادل لا شك فيه يمثل فخا محكما ذلك أن جاذبيته والتغرر فيه يكون من خلال التركيز على العدل، مع أن هذا الجانب لا يكون إلا من أجل الاستبداد وليس بالتلازم معه إلا بمساحة التلاقي المفاهيمي الذي يعزز من خلال الترابط ما بين الثقافة والسلطة " غير أن المصطلح هو باستمرار من اختراع المثقفين أو أحلامهم إن لم نقل أوهامهم وربما كان الفلاسفة وكبار المثقفين هم أكثر الناس الذين روجوا للمستبد العادل وحرقوا البخور على محرابه ". في الوقت الذي يكون فيه المستبد جاثما لا تغيير على الأرض صحيح أن المستبد العادل يتفرد في التنفيذ لكنه لا ينفذ مشيئته في معظم الأحيان ولا ينفذ على هواه تعسفاً بالمطلق، وإنما وفق قوانين أو دساتير نافذة. ولكن يبقى دون محاسبة أو فوق المحاسبة ولا يخشى تبعية حقيقية لتنفيذاته التي يجور فيها أكثر الأحيان. وهذا يخالف ما ذهب إليه البعض من أن استخدام مفهوم الاستبداد العادل يأتي في سياق " المركزية الموضوعة في خدمة تطبيق القانون ورعاية مصالح الجمهور، ضد الاستبداد الفردي والظالم الذي لا يهدف إلا إلى خدمة مصالح السلطان والحاشية". وهذا يعني إمكانية المساواة بين الأفراد، وهنا الوقوع في "فخ" الكلمات القائمة على إمكانية قبول الاستبداد انطلاقا من إمكانية تحقيق العدل والمساواة، وهو ما لم يطبق تاريخيا.
كما تقع الإشكالية الخطيرة من الصيغة التي تم رسمها لفكرة المستبد العادل عبر الآداب السلطانية ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن البعض يظن أن هذا المفهوم اخترعه محمد عبده، الذي تطرقنا إلى فكرتة الأساسية التي نادى بها فيما يتعلق بالمستبد العادل حيث قال: "إنما يظهر في الشرق مستبد عادل" وبما أننا لسنا بصدد التكرار في هذا المجال لكننا نرى أن إعادة هذا المفهوم للسطح وتجديده بنفس بالمضامين نفسها أحدث تخريبا عميقا في أفكار المثقفين الذين قبلوه، وهذا ما يرحب به حكام الاستبداد. لأنه يضمن لهم الاستمرار، ولأنه لا ينقص مكانتهم وصلاحياتهم، فلا اختلاف إلا في الكلمات بمعنى نحن أمام الخديعة والكلمات. وعليه، فقد كان الاستبداد عبر الحقب المختلفة بشتى أشكاله وباختلاف مسمياته من المثقفين السلطويين الذين ما زالوا ينظرون له. وهذا يأتي في سياق أن "كل سلطان ظالم مستبد كان دائما من يدعو له بالتوفيق". وهذا الأمر خلق بطانة بشتى أوجهها تسعى لتعزيز الاستبداد وتأصيله ولا يتعلق الأمر فقط بمثقفي السلطة كأحد أطراف بطانة الحاكم.
تجدر الإشارة إلى أن مفهوم " المستبد العادل " انبثق عن الخطاب الإسلامي كونه ليس بعيداً كفكرة عن باقي التيارات في الساحة العربية، حيث تم التأثر بهذا المفهوم بصورة أو بأخرى، فكل الأطراف تقف على الأرضية نفسها التي يقف عليها الخطاب الإسلامي. فالمتأثرون سواء الإصلاحيون أو الراديكاليون يتبادلون الأدوار ذاتها، فيما يتعلق بالمستبد العادل، فمثلا ينظر الخطاب اليساري إلى استبداد الزعيم أو الطبقة أو الحزب نظرة ايجابية، كان مقبولا في الذات الراديكالية، لأنه تمت وراثة فكرة المستبد العادل الموجودة في العقل السياسي العربي، وهو ما جند المثقفين العرب كي يقوموا بأدلجة المستبد العادل كل حسب مشربه الأيديولوجي، وهذا ما فتح المجال أمام المثقفين للتماهي مع السلطة، فهو يضع جل اهتمامه في تجسير الفجوة مع الحاكم المستبد. وقد ذهب إلى ذلك سعد الدين إبراهيم الذي سعى لتكريس الاستبداد، ولكن مع إظهار العلاقة التاريخية بين الحاكم والمفكر القائمة على التعاون، متناسيا أن الحكم يحمل في ثناياه كل الاستبداد والعسف، ويبرر ذلك بالقول: " لا ينبغي أن يفهم ... "أن تعاونا ما" لا يحدث بين الحاكم ونوع أو آخر من المفكرين فإذا كان في كل قطر عربي حاكم واحد في أي وقت ففي هذا القطر مفكرين عديدين _ أفرادا وأفخاذا وبطونا وعشائر وقبائل ولم يعدم الحاكم في أي لحظة أن يجد مفكر أو أكثر من بين هذا الشتات يعتمد عليه ".
ويرى سعد الدين إبراهيم أن الحاكم يسعى للحصول على شرعية تقليدية من الفقهاء ليتم من خلاله تبرير ممارسات الحاكم وإضفاء الشرعية المطلوبة. وبعد كل ذلك ينتقل إلى تقديم اقتراحات لتجسير الفجوة مع الحاكم حيث يرى أنه مستبد، ولا يتوانى عن تقديم سلسلة اقتراحات لتجسير الفجوة. وهنا يتم دمج الرافضين لحكم الاستبداد، وإلحاقهم بمثقفي السلطة، وإلا ما معنى أن يتم تقديم إصلاح الخلل بين الحاكم والمفكر. من خلال وقف كل أنواع القهر التي يمارسها الحاكم على المفكر لأن الحاكم يمارس القهر ضد المثقف غير السلطوي كما يمارسه ضد المحكومين، والسبب هنا لأن المثقف "المتمرد" على السلطة يشكل خطرا على حكم المستبد، لأنه من جانب يقف ضده، وفي جانب آخر، يدعو المحكومين للخروج من حالة السبات والاستسلام للمستبد. فهل إذا زال الاستبداد تبقى الإشكالية قائمة وتحتاج إلى تجسير فجوات، أم أن الأمر يدور حول تلميع الاستبداد بصورة مبتكرة ويمثل صورة أخرى من صور المستبد العادل. يمثل هذا إقرارا من المثقف بعدم جدوى طرح مسألة السلطة السياسية ضمن أجندتهم فهي من المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها.
يمثل ما سبق حالة من الاستسلام والخضوع الفكري للحكم المستبد في الواقع العربي؛ لأنه ما زال يعيش في أجواء الثقافة الأبوية المهيمنة، وما المثقف إلا جزء منها، ولهذا فإن عملية تجسير الفجوة ومحاولة التعايش بين المثقف والسلطة تأتي في سياق الوهم السياسي المتخيل أنه القادر على تجاوز الاستبداد مع أنه يبقى حاضران وقد عبر هشام شرابي عن دور المثقف في هذا بالقول : " يعيش المثقف العربي في وهم أنه قادر على تجاوز الثقافة الأبوية إذا تعامل معها"ضمـن حدود معينة " فيضع لنفسه الحدود التي يعتقد أن السلطة ( السياسية والأيديولوجية) تقبـل بها. إنه لا يدرك _ أو ربما يدرك ولكنه يخفي هذا الإدراك عـن نفسـه دون وعـي _ أنه بذلك إنما يشارك في عملية الإخضاع السياسي والأيديولوجي الذي يفرض عليه. وحتى حين يرى نفسه في موقف المجابهة الخطابية إزاء السلطة. أي "ضمن الحدود المعينة" ، إنما يساهم في دعم هذه السلطة وفي تعزيز شرعيتها" .
إن مساومة من قبل المثقف العربي للسلطة السياسية تأتي من حالة تذبذبه الفكري بسبب تعبيره عن إرادة السلطة المستبدة أو بسبب جبنه الذي يقوده إلى النتيجة ذاتها، وفي كلا الحالتين يتم تعزيز شرعية السلطة القائمة، ودعمها. ويبقى مفهوم المستبد العادل أحد إفرازات هذه النماذج من المثقفين.
كنا قد تحدثنا عن واقع المثقف العربي في تبرير الاستبداد ومدى تطوره نحو البقاء، وليس بالضرورة إزالته، وهذا لم يأتِ من فراغ، فحالة التأثر من الآداب السلطانية لها مفعولها . فقد جاءت الهالة التي وضعت حول الحكم منهم، بحيث أصبح الملك مقدساً، والطاعة أمر ديني و"التدبير عناية ورعاية "، وهذا يقودنا إلى ملامح السلطة المفترضة التي يجب أن تكون مستبدة، وذلك عبر تبريرات مختلفة أوصلتنا إلى وضع "مسوغات الاستبداد التي تحول الشأن الملكـي إلـى شـأن قريـب مـن الشـأن الإلهي " .

المستبد العادل بين الوهم والعدل
أما السؤال الذي يلح علينا فهو كيف يمكن تبرير الخطاب السلطاني في الوقت الحاضر ؟ في أغلب الدول العربية، إن لم تكن جميعها، ما زالت علاقة الحاكم بالمحكوم تقوم على أساس الآداب السلطانية، وما زالت السلطة ترى في نفسها أنها " الحاكم السلطان الآمر الناهي الآمر الذي لا راد لأمره، ولا ضابط قانونيا ومؤسسيا لقراره وحكمه وسطوته ". فهي تقوم بتعزيز هذا المنطلق من خلال استمرار شرعيتها من قوة القهر التي تمارسها على المحكومين، كما تعزز وجودها في الجانب الآخر من خلال الآداب السلطانية لتحمي نفسها وتخلق شرعيتها، "ولتنشئ بواسطته سياجا أيديولوجيا يمنحها إمكانية الاستمرارية الحامية لمصالحها المتمثلة في تملك أبهة السلطة والتعالي بها عن المجتمع ". ولهذا لم يكن قيام الدولة القطرية التي مثلت أداة من أدوات القمع فالحاكم في هذه الدولة منشغل بالبحث عن شرعيته وعن مصالحه الشخصية مع اهمال المحكومين. وعليه، ما الدولة العربية القطرية سوى نموذج للاستبداد القائم على التسلط والتهميش للمحكومين " وقد كان [ومازال] لهذه السلطة وسائلها وأتباعها من المثقفين الذين أسهموا في فرض أو تسويغ حكمها وسياستها، فأمنت لنفسها الاستقرار النسبي والاستمرارية والحفاظ على النظام العام، على الرغم أن الشعب كان [وما زال] يعاني الفقر والإذلال ".

في ظل هذا التصور أو الانطباع المسبق في عدم الجدوى من إزالة الاستبداد فقد تم هروب المثقفين إلى الأمام حيث رأوا أن مفهوم المستبد العادل يمكن، من خلال أوهامهم، أن يتحقق متجاوزين التناقض بين الاستبداد والعدل واستحالة المزاوجة بينهما. وخلال هذه التراكمات من الأوهام يسير المثقف العربي نحو طرح إمكانية وجود مثل هذا النمط من الحكم، وفي الوقت نفسه، إمكانية قيام مشروع حضاري على الصعد كافة، وهو الموجود في ثنايا أروقة المثقفين المروجين للمستبد العادل ساعين إلى تحقيقه وتجسيده واقعيا رغم أن هذا الحاكم المستبد العادل غير موجود إلا في خيالهم. فالمثقفون هنا يرون أن " فكرة المستبد العادل تخرج السياسة من إطار التاريخ وتغدو الدولة التي يراد لها أن تكون وسيلة للحكم والعدل هي غير الدولة التي تفعل في التاريخ والتي عرفتها البشرية منذ بدء التاريخ بل تلك التي "يجب" أن تفعل في التاريخ ". إن هذا الانبعاث الخيالي دفع وما زال كثيراً من المثقفين للانجذاب لهذا السحر الكامن في هذه الفكرة، فهم يرون أنه لن ينقذ العرب مما هم فيه إلا حرق المراحل للوصول لنمط الاستبداد العادل، وهذا هو قمة المتاح لبقاء الحاكم المستبد، ولكن مع استجداء العدل.

وهكذا، فإننا نرى أن أي تطور لم يحدث ولن يحدث ما دام الإصلاح والتطور مرتبطين بمفهوم "المستبد العادل". فالدول العربية تسعى من خلال "الإصلاح" لإيجاد فرصة لتقوية سطوتها، فهي ما زالت تمسك بزمام الأمور بصورة أقرب للاستبداد أكثر من ذي قبل. وبالتالي مايحدث لن يثمر سوى في اتجاه واحد هو تطوير آليات التسلط بدل تقليصها أو الحد منها.
ورغم هذه "الحقيقة" إلا أننا نجد، حتى اليوم، أن المثقف يجتر التراث وبإصرار باعتباره المخرج له حيث وضع نفسه ومن حوله في بوتقة "التراث المقدس". وهو باستمرار يسترجع الماضي دون أن يصنع الحاضر، يمجد الماضي بكل ما فيه، ولا يرى إلا الواقع البائس، يذهب مرة إلى المستبد العادل، ومرة إلى الخلافة أو الإمامة، ومرات يهمل التاريخ الذي فيه العثرات والكبوات لا لشيء إلا لأنه وضع هذا التراث أو التاريخ في زاوية القداسة والمقارنة بالحاضر؛ وبالتالي يبرر كل شيء من الماضي مهما كان. والاستبداد ما زال حاضراً بسبب هذه الموروثات التي ما زالت متأصلة حتى اليوم حيث يصر مثقف اليوم على تبني قضايا أكل عليها الدهر وشرب، والهدف منها إبقاء الحاكم المستبد رابضا على صدور العباد ومتحكما في أعناقهم.



#زهير_مبارك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الثابت والمتحجر: اتحاد المغرب نموذجاً
- الخطاب السياسي العربي وثقافة الاستبداد
- مثقف السلطة ... الولاء المطلق
- النفط العراقي بين الحقيقة والوهم الأمريكي


المزيد.....




- شاهد: دروس خاصة للتلاميذ الأمريكيين تحضيراً لاستقبال كسوف ال ...
- خان يونس تحت نيران القوات الإسرائيلية مجددا
- انطلاق شفق قطبي مبهر بسبب أقوى عاصفة شمسية تضرب الأرض منذ 20 ...
- صحيفة تكشف سبب قطع العلاقة بين توم كروز وعارضة أزياء روسية
- الصين.. تطوير بطارية قابلة للزرع يعاد شحنها بواسطة الجسم
- بيع هاتف آيفون من الجيل الأول بأكثر من 130 ألف دولار!
- وزير خارجية الهند: سنواصل التشجيع على إيجاد حل سلمي للصراع ف ...
- الهند.. قرار قضائي جديد بحق أحد كبار زعماء المعارضة على خلفي ...
- ملك شعب الماوري يطلب من نيوزيلندا منح الحيتان نفس حقوق البشر ...
- بالأسماء والصور.. ولي العهد السعودي يستقبل 13 أميرا على مناط ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير مبارك - المثقف العربي و-المستبد العادل-