أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ميرَاثٌ مَلعون 3















المزيد.....


ميرَاثٌ مَلعون 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2162 - 2008 / 1 / 16 - 11:40
المحور: الادب والفن
    


قبل حلول ذلك الصيف الساخن ، الشاهد على تألق زقاقنا بفتنةٍ حجبتْ ما قبلها وما بعدها ؛ قبل ذلك كله ، رحل " شور صورو " عن هذه الدنيا ، دونما أن يتسنى له معرفة ، أنّ الكنز الموعود ، الحقيقيّ ، قد باتَ في حوزة إبنه البكر . كنتُ إذاً في سنتي الإعدادية ، الأخيرة ، حينما زفتْ " مريم " ، ذات الأعوام الستة عشر ، إلى " يوسف " ، الذي شدّت على عمره أنشوطة الحلقة الرابعة . العروس الفاتنة ، تمتّ لأمي بقرابة العمومة ؛ وقرابة اخرى بي ، بما أن كلينا قد منحا في سنّ الرضاع الصدرَ العامر نفسه . إنها " ماما دنيا " ، والدة صديقي " نورو " ، من جمعتنا معاً في صفة الأخوّة ، المعلومة ؛ حالُ دارها الكبيرة ، التي إحتبت ألعاب طفولتنا ، الأثيرة ؛ وهيَ الدار ، المهيمن عليها في كل زمن ، ظلّ " قادريكي " ، الكبير .

ما أذكره من فترة خطبة أختنا ، المزعومة ، ما كان له إلا أن يطبعَ ، بالمقابل ، فترة مراهقتي . كتلك الظهيرة الحارّة ، في منزل " نورو " ، حينما شاءَ هوَ التمدد قربي ، على البلاط العاري لحجرة الجلوس ، وبمواجهتنا السرير الواطيء ؛ أين حركة البنات ، المتماثلات في السنّ ، لا تعرف الهدوء . ما يلبث صديقي أن يشتبك في لعبةٍ معابثة مع شقيقته وخالته ، محاولاً عبثاً جرّ " مريم " إلى تفاصيلها . هذه الأخيرة ، كانت تتأمل هدوئي ، باسمة ؛ أو ربما مثارة . كنت أهرب من لحاظها ، الخضراء ، المخترقة أعماقي ـ كسهام لا مرئية ؛ أهرب بعينيّ إلى حيث السجادة العجمية ، المثبتة على الجدار المقابل ، والمصوّرة حريماً عثمانياً ، ضجراً . فما أن تعود نظراتنا لتلتقي ، حتى تفتح " مريم " عينيها على وسعهما ، مستطيبة ً على ما يبدو ما سيعقب ذلك من تضرّج وجهي .

لا بدّ من القول ، بأنّ عرس قريبتنا ، الحسناء ، لم يمرّ دونما تسجيل حادثة معينة ، ما كان للحارَة إلا أن تعيدَ تأويلها ، في وقت آخر . فما أنّ إستوى العروسان على " الأسكي " ، المجلل بالسجاد الأحمر ، وخفتت حدّة زغاريد النسوة ، إلا والعجوز " عابدة " ، تظهر بأسمالها ، الرثة ، وكأنما الأرض إنشقت عنها . إنها إمرأة متشردة ، تعيش على الصدقات وهبات المحسنين . فلا غروَ إذاً أن تتقدّم من " يوسف " بيدها ، المتسوّلة . بدوره ، وليس بدون إضطراب ، مدّ لها العريسُ علبة السكاكر ، المكسية بأرجوان مخمل . في جمودها لبرهةٍ من الوقت ، بدا أنّ " عابدة " كانت تنتظر من الرجل ورقة مالية ، تليق بكنزه . هكذا تناولت ملبّسة ، سكريّة اللون ، فتأملتها ملياً ، ثمّ ما عتمت على الأثر أن لوحت بها في وجه العروس ، قائلة بلهجة لا مبالية ، فيما يدها تهتزّ من الرعشة : " كذلك أخذكِ من أمّكِ .. وكذلك أيضاً ستعودين إليها " . وكان من " مريم " أن ندّتْ عنها شهقة خافتة ، مصفرّة ، ما دامت العجوز قد فتحت كفها ، المضمومة ، عن ملبسة من النوع الآخر ، القاني .

***
كنت نادراً ما أقف على الشرفة ، فبإعتقاد الأمّ أنها عادة غير لائقة . إلا أنني ، في تلك الآونة ، ما عدتُ لأستطيع منع عيني من إختلاس نظرات ، عابرة ، مستطلعة القسم العلوي من منزل المرحوم " صورو " . ثمة ، أين الغرفة ، العروس ، المتصدّرة المكان ، والمتفرّدة ـ كبرج جليّ . نافذة الحجرة تلك ، المعتلية حوضاً صغيراً ، ضاجاً بأزهار الزينة ، هيَ المتعيّن عليها تأثل روحي . ما مضى يومان على الزفة ، حتى رأيت من موقفي على الشرفة ، المألوف ، ما جعل قلبي يخفق زمناً وبشكل مؤلم . كانت هناك ، مقتعدة إفريز النافذة ، مرتدية ثوب النوم ، القصير ، المنحسر عن ساقين ، عاجيتين ، متوهجتين ـ كشمس آب . لم أسترد بصري آنئذٍ ، إلا إثر إيماءة " مريم " المنذرة ، والمرحة على كل حال . إلى حجرتي ، تراجعتُ متهالكاً على السرير ، المكتنف برطوبة الستائر السميكة ، المنسدلة ، وقد ألمّ بي دوّار ، غريب . ضربة شمس ، على الأرجح .

ضجراً ، لا عمل لي سوى ردّ التحيات ، العابرة ، وقفتُ عصر أحد الأيام بباب الحوش ، وقد حفل الزقاق بصخب الطفولة ، الطرية . كنتُ بلا صحبةٍ ، صديقة ، إثر مغادرة " نورو " إلى الساحل ، رفقة أسرته ، لتمضية أسابيع من الصيف في ربوع " الشاطيء الأزرق " . عيني المتشاغلة هنا وهناك ، ما تفتأ عن تسديد نظراتٍ ، متولعة ، صوبَ باب المنزل ، المقابل . برهة اخرى ، وفتحت درفة الباب ، الحبيب ، عن هيكل " ناصر " ، الفارع . ها هوَ يواصل حديثاُ ما ، مع إمرأة أخيه ؛ مع " مريم " ، التي سرعان ما تبدى رأسها ، الأشقر ، من خلف كتفيه ، العريضتين . وإبن " صورو " هذا ، الأصغر ، فتىً أفاقٌ ، له صيتٌ في الحارَة ، ذائعٌ ـ كلصّ محترف . إنه " ردّ سجون " ، بحسب محكيتنا ، المحليّة ؛ وشعره الحليق ، دوماً ، خير شاهدٍ على ذلك . وكان قد أشيع ، مؤخراً ، عن توبته عن الحرام ، وأنه أضحى مريداً للرجل الأخرق ، الغريب الأطوار ، المنعوت بـ " كوْكش " ، والمدّعي علامات الحلول والتجلي والتقمّص ، الغامضة . وإذاً ، حقّ لجارنا " ناصر " أنّ يحييني بصوته الأجش ، المتماهي برنة خفيّة من السخرية ، وأنّ يمضي من ثمّ لشأن ما ، ربما لا يمتّ لتوبته . بأثره ، تظهر قريبتنا الجميلة ، لترمقني بنظرة ، عسلية ، فيما هيَ تعتني بتسوية إيشاربها ، الرهيف .
ـ " ماما ، في البيت ؟ "
أجبتها إيجاباً بهزة من رأسي ، المطروب بصوتها الذي رنّ فيه ـ كقطع ذهبية . ثمّ عادت قيثارتها لتصدح بنغمة ، جديدة : " أكيد ؟ " .

***
شمسٌ اخرى ، حلتْ إذاً في سمائنا . وجوه الطبيعة ، أمستْ بلون واحدٍ ، مصفرّ . هوَ الخريف ؛ ريح هوجاء ، تطاردُ إخضراراً ، عنيداً ، يكاد لا يسوؤه في تداعي أوراقه ، صريعة ً ، سوى مهانة نزع ، محتملة . هائماً بأحلامي ، كنت أخطر ـ كمسيح ، فوق الفراغ القائم بين شرفتي وبرجها . مواصلاً بلا كتابٍ ، سريّ ، متاهة السلالة ، أقتربُ فينأى كنزها . أبصرها في كل يقظةٍ ، صاعدة أو هابطة ، مرتدية أحياناً بنطال ربّة البيت ، المشدود على أرداف ربّة حسن . تنحني مرة ً على سلك الغسيل ، كيما تنتشل سروال العروس ، الناصع ، فتنحني رغبتي . هوَ ذا إبن أختي ، في منزلنا ، يقودني في إحدى الأيام تلك ، إلى حجرة الجلوس ؛ أين أمه الزائرة ، المعتادة على شغل المكان المنذور لماكنة الخياطة . أدفعُ باب الحجرة ، الخشبيّ ، لينفتح أخرسَ على تمثال " مريم " ، المتسمّر ثمة . بياض ظهرها شبه العاري ، الفاضح النصاعة ، راح عندئذٍ يحدّق فيّ ـ كأعمى . مباغتة ً كأيّ إمرأة ، إلتفتتْ بلهوجة وهيَ تضمّ التفصيلة ، غير المكتملة ، إلى تفاصيل جسدٍ ما حُبكَ قط أكملَ منه وإبتسامتها الناعمة ، الحيية .

وقلتُ ، يومئذٍ ، أنني لا بدّ أن أسكرَ . زجاجتا نبيذٍ أحمر ، مزّ ، كانتا بإنتظارنا ، " نورو " وأنا ، في حجرتي العلوية ، محوّطة ٌ بما تيسّر من المازة . سهرة الخميس ، عادة ً ، نمدّها حتى الفجر ، مصحوبة بصدح صوت كوكب شرقنا ، الألق . تنتصف الليلة ، فيخرج كلانا إلى الشرفة ، فيما نهيقٌ متطاول ، شاكٍ ، لأتان آخر رعاة حارتنا ، أخذ يملأ العتمة البهيمة ورأسينا ، المثقلين بالخمرة . يعقب صديقي ، متفكهاً : " إنه رنينُ ساعة " برج بيغبن " ! " . متملياً السكون ، ومسكوناً بالعبق العطريّ لعارشة " الكولونيا " ، أقول فيما عيني منساحة نحو الحجرة العلوية ، للمنزل المقابل :
ـ " إنه برجُ العذراء "
ـ برجُ " مريم " ! "
ـ دعنا من سيرتها ، يا رجل "
ـ دعنا أنتَ من مغامضكَ ، أيّها الداهية ! "
تطلعتُ إليه في هالة القمر ، لأخاطبه بسرّي : " وماذا يعنيكَ ، أنتَ ، من أمرها ؟ " . وعلى كل حال ، شئتُ تحويل مجرى الحديث ، فسألتُ صديقي عمّا جدّ من قراءته للكتاب السريّ ، المنذور للكنوز . تأملني في النور الخافت ، المنسلّ خلل نافذة حجرتي ، قبل أن يجيب بأن لا جديد في الأمر . ثمّ ما لبثَ أن أشار إلى الجهة الاخرى ؛ أين " البرج " الماثل في غلسة الليل ـ كحارس خرافيّ ، قائلاً وكأنما يواصل حديثنا ، الأول : " إنهما اللحظة عاريان ، ربما ؛ عاريان ، كما خلقتني ربّي ! " . وعلى الأثر ، دلى جذعه بحركة متناعسة ، منهملة به حتى أسفل الحافة الواطئة للشرفة . ثمّ راح إذاكَ يحدّق بالسماء ، المنجمة . مثلي ، كان البدرُ يتطلع ناحية الضوء الشحيح ، الورديّ ، لتلك النافذة ، الحبيبة ، لما إنطلقتْ على حين فجأة ضحكة " نورو " ، الماجنة ، المهتزّ لوقعها قلبي الواجف والعتمة المطمئنة ، سواءً بسواء .

***
لم تخرج أمي من لا مبالاتها ، الحرب الجديدة ، الناشبة في الجبهة ، على تخوم مدينتنا . شاردة الفكر ، كدأبها ، راحت تتأمل تبختري ببدلة الفتوّة ، الخاكية اللون ، فيما بندقية ، تشيكية ، على كتفي . وكانت السلطات ، الإشتراكية ، قد قررت ، أيضاً ، إشراك الشعب في المعركة ؛ بما كان من دعوة البالغين إلى حمل السلاح وإجراء التدريبات ، السريعة ، في مراكز خاصة . وكان على الغريب ، الداخل إلى حيّنا ، أن تلفته هذه الكلمات ، المخطوطة على لافتة قماشية ، كبيرة ، مثبتة على أحد جدران ضريح " ركن الدين منكورس " : " الشباب الكردي فداءً للوطن " . هوذا اليوم ، الأخير ، المقرر لهذه الحرب ، بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام عن هدنة وشيكة . كنتُ إذاً في المطبخ ، حينما باغتني أزيز ، حاد ، لرشقة ناريّة ، صادرة من الجوار . ما لبث الهرج أن حلّ قربَ باب منزلنا ، فإندفعت خارجاً . ومن ثمّ عليَ كان أن أدخل مع بعض الأقارب ، المتجمهرين ، إلى منزل " صورو " ، كيما ألاحظ وجود " مريم " ثمة ، بقامتها المتناسقة ، المنتصبة ـ كتمثال إغريقيّ ، مروّع : " كنتُ على وشك فك البندقية ، بهدف تنظيفها ، وإذا بعيار ينطلق منها ويمرّمن فوق رأس إمرأة أخي ، مباشرة ً " ، قال " ناصر " وهوَ يحاول إخفاء إضطرابه بتلويحة من يديه ، طريفة .
ـ " الحق عليها هيَ ؛ فما كان يجدر بها الوقوف بمواجهتك ! " ، لعلع صوتُ " فاتيْ " ، هذه المرة . لم يعرها أحدٌ إلتفاتاً ؛ ولا حتى كنتها ، المستيقظة للتوّ على حقيقة نجاتها من هلاك ، محقق . ولكن محاربنا بادر ثانية للقول : " السلاح الشرقي ، بضاعة مغشوشة .. تفوو ! " . وراح يلوّح برشيشه ، " الشباكن " ، مما سبب جفولنا وتراجعنا ، خوفاً من إنهمار المزيد من عيارات بضاعته هذه . في اليوم التالي ، على الأثر ، تناهى إلى علمنا أنّ " مريم " ، المسكينة ، أجهضتْ حملاً ، مبكراً . ذاكَ الحادث الحربيّ ، المحزن ، كان على الدوام حجة ً لأمّ " يوسف " ، مبرمة ، في كل مرة تتطاير فيها الأقاويل ، المغرضة ، عن الأسباب الحائلة دون إنجاب زوجته . سأصدف ، من جهتي ، بعضاً من الأقاويل تلك ، في يوم آخر ، مصاقبٍ لحلاقتي الدورية ، الشهرية . ودكان مزيّن الحارَة ، كان مرتعاَ ، خصباً ، لنموّ ديدان النميمة . ولا أذكرُ ، تماماً ، مناسبة الحديث . سوى أنّ المدعو " ضرغام " ، المنحرف المسلك ، كان ثمة يحركُ فمه بتشفّ وغلّ ، مع إنهماك الحلاق بقصّ شارب شيخ ، آخر ، للشباب : " أنا لا أفهمُ ، والله . يعني ، إذا كان المرءُ عاجزاً عن القيام بواجباته ، فلمَ عليه ان يتزوّج بنات الناس ويسخمهنّ ! " . ثمّ سكتَ صاحبنا ، الحكيم ، وهوَ على ما يبدو بإنتظار من يسأله عما وراء أكمة القول ، الجزاف :
ـ " يعني ، خذ إبن " صورو " ، مثلاً . عنده تلك السوسة ؛ ومن منا بلا سوسة ، ها ؟ "
ـ " ربما أنّ معاملته لعائلته أبويّة ، محض " ، لاحظ أحد الحضور ، من ماسحي الجوخ . حدّق الضرغام في المرآة ، متكرماً على القائل بإبتسامة فرس نهر . بلهجة محايدة ، تكلم الحلاق أخيراً : " يا جماعة ، وحّدوا الله ! هناك من يفكّ البراغي ، وينجب مع ذلك دزينة من الأولاد " .

إستفهامي من " نورو " ، ذلك المساء المُثارة فيه الأقاويل ، عمّا إذا كان " يوسف " قد غيّر مهنته ـ كممرّض في مشفى عموميّ ؛ هوَ المُسرّح تواً من خدمة الإحتياط ، العسكريّ . هكذا مساءلة ، قدّر لها أن تجلبَ قهقهة صديقي ، حدّ إختناقها بسعال سيكارته . هنأتُ نفسي ، بهذه الحالة ، ما دمتُ لم أتوجه بالسؤال نفسه ، لجماعة الحلاق ؛ وخاصة ً " ضرغام " ، المعروف بعلاقته السيئة مع " حيدر " ، شقيق " مريم " . بيْدَ أنّ كلا الغريمين ، المنحرفين ، سيتلاقيا في الليلة ذاتها ، وفي المقمرة التي يديرها إبن " زينكي " ، العتيّ ، بتغطية من ضابطٍ ، علويّ ، متنسّب لأمن القوات الدفاعية . هكذا يُفتح باب المكان ، شبه العلنيّ ، على سحنة " حيدر " ، الجمريّة ، المتطاير منها لهب الشرّ . يتجه رأساً إلى الزاوية القصيّة من المقمرة ؛ ثمة ، أين الضرغام المقرفص قرب طاولة اللعب ، والمتخشع لملكة " بستوني " ، كان قد إفتتح بكرْتها ، الأسود ، جولة حِداد ، جديدة ، من خسائره المتفاقمة . بلا تحية ، يطلب منه عتيّ عائلتنا مبلغاً من المال . وليس بلا رعدة ، يقسم " ضرغام " أنّ أخا " مريم " إنما أقبلَ عليه لهدف آخر ، لا شأن له بالنقود . رغبَ هذا ، على كل حال ، التأكد من يقينه ؛ ودونما أن يخطر له بحال تحدّي الرجلَ ، المعروفَ بجنون طبعه . إعتذر إذاً ، وبمفردات باهتة ، مصفرّة ، عن عدم توفر المبلغ ، المطلوب . ثمّ إستنجد بأنفاس اخرى ، وهوَ يهمّ الإستطراد في القول ، بأنه سيتدبر له المال غداً . القبضة الماحقة ، غير المنتظرة غدَ الجبناء ، تمتدّ إلى عنق الغريم ، لتنتزع بحسم وغلظة سلساله ، الذهبيّ . ثمّ يقف " حيدر " على رأس " ضرغام " هنيهة اخرى ، متحدّية ، فلا تبدر عن هذا سوى كلمة حسب ، شوهاء : " تكرم ! " . إبن " زينكي " ، كان هناك ، إذاً ، شاهداً على فصل الإذلال ، المنتهي تواً ؛ وخلل مكانه ، المعتاد ، في صدر الصالة ، المحتفي بأنفاس من النرجيلة ، عبقة وثقيلة في آن ، رأى جرمَ " حيدر " ، الهائل ، المندفع دونما نأمة . راعي المقمرة هذا ، البادي الإضطراب ، يسحبُ نفساً آخر من تسليته ، ثمّ يعقب ذلك بالرمي جانباً بعباءته ، المطرزة بوشي ذهبيّ ، ليُبرز حزامه المشكوك بغدارة ، كامدة .
ـ " هاكَ ! وديّة مجنون آل " قادريكي ، أتحملها أنا " : قالها الرجلُ للضرغام ، فيما يناوله المسدس ذاك . ولكنّ الآخر ، الممسك بحركة تلقائية ، مستسلمة ، بالسلاح المعروض لخدمته ، ما عتمَ أن تمتمَ بمفردات مبهمة ، خافتة . في صبيحة اليوم التالي ، عندما خرقَ الرصاصُ إبنَ " زينكي " ، بين البطن والعنق ، ربما حقّ له التساؤل ، منهاراً ، عن ذاكَ المتعهّد دفع ديّة دمه .

***
همساتُ الحارَة ، أكدتْ أنه " ناصر " ، من قادَ القاتل على مطية دراجته الناريّة ، إلى حيث المكمن الكائن في فيء جامع الحارَة ، ذي الحجارة البيض . رصاصتان ، أطلقهما " حيدر " ، أولاً ، بإتجاه مغلاق صالة القمار ، القابعة بأسفل منزل إبن " زينكي " ، ذي الدورين . الغريم هذا ، كما شهدَ الخلقُ ، كان قد خرجَ من ذلك القبو وبيده غدارة الأمس ، التي رفضها الضرغام . هكذا تابع " حيدر " رشق طلقاته في الجسد الهامد ، المتهالك قرب باب المقمرة ، ولينحدر من ثمّ مغادراً موقفه ، الدامي ، غيرَ عابيء بالنصب البشرية ، الجامدة ، القائمة في طريقه .

أكثر توتراً ، أستلقيتُ على سرير الأمّ ، متشاغلاً بتصفح مجلة فنية ، من مخلفات مراهقة " شيري " . من عليتي هذه ، كان من الممكن لي ، عن كثب ، متابعة ما يعتمل من هواجس في نفس والدتي : لقد أشيع أنّ القاتل ، الهارب ، قد تمكن من التسلل ، آمناً ، إلى لبنان ، وأنه الآن في رعاية أخي " جيان " ، ودونما أن تتبصّر الأقاويل تلك بحقيقة ، أنّ الأخ بنفسه كان في عداد المفقودين بالنسبة لعائلتنا ، على الأقل . وهيَ ذي التغريدة ، الحبيبة ، يصدى بها دهليزنا ، العتم : " يا خالة ! " . كانت بصحبة شقيقها ، الأصغر ، " عيسى " ، والذي بالكاد خطت الفتوّة سوادها فوق فمه . كم من الشجون في حديث النسوة ! إلا أنني في سني تلك ، المراهقة ، كنتُ سكراناً بفوح المسك ، المؤرج من حديثها ، القلق . ولم تنسَ ، معبودتي ، في ختام القول ، أن تثني على تعقلنا ؛ " عيسى " وأنا . لستُ عاقلاً ، أختاه ! بل أنا مجنون ؛ متيّم بما أبصرت عيوني من مناظركِ ! أما شقيقك هذا ، الفائق الحسن ـ كإله إغريقيّ ، فما كان يخطر لي عندئذٍ أنه يملك بين جوانحه قلبَ " مارس " .

في غمرة الهواجس ، راحت الأمّ ، كما هيَ العادة المرقشة طبعها ، تصدرُ أصواتاً ، خافتة ، دونما أن تدري ، على الأغلب ، أنها تتناهى لمن حولها : " ماذا يريدون من " جيان " ؛ من غربته وعثرته وسخامه ؟ " . هكذا قررت في اليوم التالي ، وكدأبها في ظروف مماثلة ، أن تزور إبنتها ، المقيمة في " الحارَة الجديدة " . أوصتني ، مشددة ً ، ألا أغادر المنزل ، فيما هي تلملم بمنديل الحِداد شعرها الأشقر ، المتغلغلة فيه خيوط الشيب ، الناصعة . متوجهاً إلى عليتي ، كنت ممسكاً بمجلة فنية ، حينما سمّرني النداء المنغوم : " يا خالة ! " . دعوتها للدخول ، حالما أطلت إيماءتها ، الحبيبة ، من وحشة الدهليز . إجتازت أرضَ الديار ، بهيّة ومتألقة ، تحت شمس ، خريفية ، أقلّ بهاء وألقاً . ثمّ ما لبثت أن بادرتني : " ماما ليست في البيت ؟ " . وقلت لها بسرّي ، منتشياً ، أنكِ محتالة ، حسناء !
ـ " مجلة " ألف ليلة " ! أريد إستعارتها . ممكن ؟ " : قالت فيما تسحب المجلة من يدي وبحركة عفوية ، آسرة . على أنها لم تنتظر ردّي ، حينما تراجعتْ إياباً وبيدها الغرض ، المطلوب . كانت تهمّ إذاً بالمغادرة ، فإستوقف لحظها مشهدٌ ما . إنها وردة جوري ، حمراء ، متفتحة بين الأصص الذاوية ـ كمعجزة شتوية . قالت لي بدلال ، مومئة إلى الناحية المقصودة :
ـ " هل تريد أن تقطفها ، لي ؟ "
ـ " إنها وردة أمي ، الأثيرة "
بدا من بسمتها ، المُغيّضة في إنكسار ، أنها لم تقدّر مزاحي . أردتُ مداراة حماقة الموقف هذا ، فيما أنا أهرع للإتيان بالمطوى . وفيما أهمّ ببتر العنق الشوكيّ للوردة ، إذا بـ " مريم " ، مضرجة ً برجاءٍ ملح ، ، غامض ، مجلل قسماتها ، تقول أن لا داعي لذلك . بيْدَ أنني ، في اللحظة ذاتها ، كنتُ أقدّم لها بيَدٍ مرتعشة ، ضائعة ، الوردة الذبيح .




#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة
- جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
- زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
- الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
- زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
- نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
- من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
- طيف تحت الرخام
- زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
- زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
- جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
- الحل النهائي للمسألة اللبنانية
- زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
- أشعارٌ أنتيكيّة
- زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه
- أبناء الناس


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ميرَاثٌ مَلعون 3