أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - حسرة في مقهى















المزيد.....

حسرة في مقهى


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 2156 - 2008 / 1 / 10 - 10:25
المحور: الادب والفن
    


( إلى روح محمد طالب البوسطجي )
احترسْ .. لكي لا يختلّ بك توازنُ الموجةِ .
اعتدْنا أنْ نركبَ نهراً ونعودَ بقمرِ الطفولةِ ، نضعهُ على هامِ النخيلِ ونرتشف مِن وجنتيه نوراً للصلاةِ. اعتدْنا أنْ نُطاردَ غيمةً بيضاءَ حتى حدودِ الصحراء . أنْ نُراقصَ الدّخانَ المتصاعدَ مِن أفرانِ الفجرِ إلى وجهِ الشمسِ الخجول . نعودُ بحفنةٍ من أناشيدَ بريئة نلهو بها حين تنسكبُ الأصباحُ في صدرِ المدينةِ . كنّا نقفُ تحت سموِّ الوردةِ المتصدرة أبهةَ الغصونِ ونأمرُها : ارشقيْنا نفحةً مِن عطرِك الأخّاذِ فهذا الوقت سنقضيه وقوفاً أو سجوداً . سنقطفُ من ثمارِ الذاكرةِ ، الموغلةِ في عرضِ بحرٍ أجاجٍ ، ثمرةً دانيةً فلا تتحرشي بزهرةِ القلبِ لكي لا نرتكبَ إثماً ويفسد روحُ الثمرِ .
في الأصباحِ حين يهبُّ علينا النسيمُ ، تتمايلُ البصرةُ ، بكلِّ خرابِها الجميلِ ، ثملةً وتتراقصُ تيجانُ النّخلِ طرباً لغناءِ بلبلٍ غرّد فجراً ورحلَ باتجاهِ الشمسِ . منذُ أكثر مِن ربعِ قرنٍ وأنا ألفُّ البلدانَ لم أرَ بلبلاً في أعلى نخلةٍ ولم أسمعْه يُغَرِّدُ كما سمعتُهُ في أصباحِ البصرةِ . تقولُ المُخيلةُ : يأتي البلبلُ ينقرُ تمرةَ البرحيِّ يضعُ فيها شيئاً مِن لعابِهِ أو مِن روحِهِ ثم يغلقها ويطير . يتركُها تتخمرُ . بعد حينٍ يأتي فجراً يمتصُّ ما في البرحيّةِ مِن خمرٍ ويسكر . البلبلُ السكرانُ يُغني . لا توجد برحيّةٌ واحدةٌ في كلِّ أرجاءِ المعمورةِ إلاّ في البصرة .
ارشقيْني نفحةً أخرى مِن عطرِك الفوّاحِ فهذا الليل مهيضُ الجناحِ . ارشقيْني حين تتعاقبُ الفصولُ وحين تكتمُ المسافةُ أنفاسَها ، فنحن نحرْنا على أبوابِ الصبختين* بعضَ ورودِنا وصرْنا بالشوكِ نَتَلَوّذُ. هل كان الوقتُ رمادياً ؟ في أيِّ الأوقاتِ كنّا حين أقبلَ علينا الصّبا في متوسطةِ الأصمعي التي أُنشئتْ حديثاً وافتتحت ، لأبناءِ الفقراء من الأحياءِ القريبةِ والبعيدةِ ، تواً . هل هي مصادفةٌ أنْ تُرسلَ مديريةُ تربية البصرة آنذاك نخبةً من شبابٍ ، مدرسين ؟ صاروا فيما بعد يتدفقون شعراً ويستنطقون المُخيلةَ كلّما أَجْهشتْ في سمائهم لحظةُ ألقٍ .. حملوا في صدورِهم جذوةَ عشقٍ بدائيٍّ وفي عيونِهم أشرقت دهشةُ الكلامِ . يأتي منهم القاص والروائيُّ والشاعرُ والعابرُ في ليلِ الصحراء والماشي فوق حبلٍ دقيقٍ مُعلّقٍ في الفضاء : يأتي إسماعيل فهد إسماعيل ، قبل أنْ يُصبحَ روائياً أو كويتياً ، بلهفتِهِ الأولى التي تنهضُ بين ثنايا دفتي مجموعته الأولى " البقعة الداكنة" .. يُدرّسنا الرسمَ الذي لم نتعلمْه بعدئذ . يأتي يعرب السعيدي بأحلامٍ مؤجلةٍ أو مشاريعَ مستقبليةٍ لا نعلمُ عنها شيئاً سوى شرودِ عينيه الدائمِ نحو الأفقِ البعيدِ ربما يستقطبُ نجماً قادماً من زرقةٍ قصيةٍ ، يُدَرّسنا التاريخَ والجغرافيا وأحياناً التربيةَ الدينية . يأتي كاظم الأحمدي بانكسارِه الأول فيقرأُ علينا مخطوطتَه الأولى أو قصتَهُ الأولى بعنوانِ " الإنكسار " وكان سعيداً بإصغائنا له . لكننا كنّا نحن الصبية لا ندري في أيِّ روضٍ نَمْرَحُ وفي أيِّ سماء نطير .
في العامِ الدراسيِّ 1967 ـ 1968 ، إنْ لم تخنّي الذاكرةُ ، أطلّ علينا شابٌ ، بهيُّ الطلعةِ ، معتدلُ القامةِ ، كثُّ الشاربين ، عذبُ الحديثِ اسمه محمد طالب محمد وكنّا لا نعرفُ له لقباً في تلك الأيام . يقفُ هادئاً ، صافياً ، نقياً أمامنا ويتعرّفُ علينا واحداً واحداً ، هذا لم يحدث مع معلمي ذاك الزمان ، ثم وحين ينتهي منّا يُقدِّمُ نَفْسَهُ بخجلٍ بَصْريٍّ جميلٍ . كنّا في حالةٍ من الوئامِ التامِ مع هذه المخلوقاتِ الجميلةِ الهائمةِ وراء جدرانِ المبنى والتي أرسلتْها إلينا مديريةُ تربية البصرة آنذاك . درّسنا محمدٌ ، الذي تعرّفْنا على رقّتِهِ فيما بعد ، اللغةَ العربية التي كان يوصلها بصوتٍ مهموسٍ . صرْنا نتشوقُ لتلك الحصةِ الهادئةِ .. سَحَرَنا خجلٌ فيه وحديثٌ عذبُ المأتى إنما محمدٌ عن طاقتِهِ الشعريةِ لم يعلنْ ربما لعفّةٍ في نَفْسِهِ فلم يكن استعراضياً ولم يُطلقْ صوتاً دعائياً كما يحصلُ مع آخرين وفي كثيرٍ مِن الأحيانِ. كان يحملُ الهمَّ الشعريَّ بصبرٍ جميلٍ وبصمتٍ هو مِن سجاياه .
نلتئمُ نحن أبناء الأحياءِ القريبة والبعيدة في متوسطةِ الأصمعي للبنين . نأتي مِن أنحاء شتّى راكبين أو راجلين .. لا نعرفُ حرّاً في صيفٍ ولا مطراً في شتاء نلتمُّ من الأصمعي الجديد ومن الأصمعي القديمِ من الجمهوريةِ والموفقيةِ والحيانيةِ وصبخةِ العرب ويأتي محمدٌ مثلنا من صبخةِ السّيف ذلك الحيّ الذي تتصدرُ أُبهتَهُ محكمةُ استئناف البصرة وينحصرُ مابين نهرِ العشّار وكوتِ الحجّاج . يخترقُ الطريقَ المحاذيةَ لثانويةِ الزهراء يتنفسُ فوقَ الجسرِ .. يُرسلُ إلى النهرِ عقبَ سيجارتِه وسحابةً من نَفَسٍ أخير. أراه واقفاً يوزِّعُ نظراتِه فوق سطحِ الماء .. إلى أين أيُّها الجميلُ تبعثُ بتلك الزوارقَ النَّضراتِ الصغيرةِ ؟ هل تُطلقُها إلى المجهولِ ؟ اختلَّ توازنُ دراجتي الكبيرةِ الحمراء حين رفعتُ يدي لتحيتِهِ من على جسرِ الثانويةِ . كنتُ عائداً من جولةِ المساء . صاح : احترسْ .. كي لا تؤرجحَك السماءُ . استقام المقودُ بيدي.
هل عاد محمدٌ في سوْرةِ الماء ؟
أم تخطفتْه سفائنُ الغواية
يا أيُّها الحالمُ أمامك جنحُ الطير
فلا تمسكْ
وأمامك دربُ النجمِ
فلا تسلكْ
هل عادَ محمدٌ ذات مساء يحتفرُ بئراً في الأنحاء ؟
لكن محمداً يصدحُ فينا كلَّ صباح
وفي الليلِ يشرقُ في سمائنا قمراً
في مقهى هاتف الذي يطلُّ على طرقٍ شتّى ومنها شارع بشار بن برد الذي منه ينطلقُ شبّانُ البصرة نحو بيوتِ المبغى . في المقهى القائمِ بأُبّهةٍ منذ الأزلِ ، والذي من بابِهِ تخرج كلُّ الطرقِ كأنها أغصانُ الدّفلى ، ينزعُ سترتَهُ الخضراء .. يُمسِك بعصا البليارد ، وبالمضربِ يقصفُ كراتٍ تكركرُ بوجهِ أخوةٍ لاعبين ليسوا مِن دينِ الشعراء ولا مِن صنفِ الأدباء .. ليسوا مِن نطفةِ النخبةِ أو مِن الجنِّ إنما بشرٌ مِن عامةِ الناسِ ومحمدٌ بين كتفيه يحملُ بصمتٍ شيطانَ الشِّعرِ ولا يعلنُ عنه إلاّ في حالاتٍ حيث ينده عليه بصوتٍ خافتٍ : أُخرجْ يا شيطانَ روحي .
في منتصفِ السبعينات من القرنِ الماضي كنتُ عائداً بحافلةِ آخر الليلِ فصعدَ في منتصفِ الطريقِ صديقٌ قديمٌ ، كان مهتماً بالشعرِ . سألني : هل تذكرُ أستاذنا محمد طالب محمد ؟ قلتُ أجل وكيف أنسى ؟ قال وهو يمدُّ يدَهُ إلى داخلِ حقيبةٍ له : لقد أصدرَ ديوانَهُ الأول " التسول في ارتفاع النهار " هل قرأتَه ؟ أجبتُه بالنفيِّ فوعدني الرجلُ أنْ يوصلَه إليّ بعد قراءته إلاّ أنّ ظروفاً قاهرةً حالت دون ذلك .
محمد طالب البوسطجي شاعرٌ لا يعرفهُ أكثرُ العراقيين وأكاد أجزم أنّ شعراءَ في العراق يجهلون اسمَ محمد طالب فهو نادرُ الظهورِ في الأمسياتِ الأدبيةِ وهو عفيفُ النَّفْسِ لا يلجُ مكاناً أو يقتحمُ مهرجاناً شعرياً أو قصصياً لم يدع له .. ومحمدٌ عاش بعلاقاتٍ وصداقاتٍ محدودةٍ وهو علاوة على هذا وذاك بسببٍ من حيائه لا يحبُّ الأضواءَ . محمدٌ هذا شخصيةٌ زاهدةٌ ، طاهرةٌ وعفيفةٌ ، وحتى بعد أنْ صدرَ ديوانُهُ الأول ظلّ محمد طالب مبعداً ومهمشاً من قبل زملائه وأصدقائه ومعارفِه فمِن طبعِ العراقيِّ إقصاء الآخر " المبدع " والتعتيم عليه وإزاحته عن مناطق الضوء وإنْ لم يسع إليها . وبسببٍ من الحسدِ الذي ينهشُ النفوسَ والغيرة التي تغلي في الصدورِ ، يستطيع البعضُ إقصاءَ أمةٍ مِن مبدعين وهذا أمرٌ يختصُّ فيه العدو والصديق ، فالصديقُ له طلبٌ واحدٌ منك هو أنْ تكسرَ قلمَك وتتبعه في أهوائه .. هو يشعر بضآلةٍ ما أمامك حين تكتبُ عندئذ لم يعد صديقاً . ما يقرّب هؤلاء من الشاعرِ هو الموتُ .. موتُ المبدعِ هو الشيءُ الوحيدُ الذي يجمعهم حوله ، عندئذ الكلّ يدّعي علاقةً ما أو صحبةً ما حتى لو كان طارئاً في حياتِه أو هامشياً . لم يكن محمد طالب إلاّ ذلك الحالم الجميل الذي لم يترك لنا فراغاً كئيباً بل ترك عالماً مزدحماً بالصورِ الرائعةِ التي تغمرُ حياتَنا ظلالاً شفيفةً ، وروحاً إنسانياً خالصاً متجسداً في مجموعتيه الشعريتين وذِكراً طيباً .



#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عدن حانة البحّار الأزلية
- دهشة الكوثر
- على مياهك أصبُّ هديلي
- ابن الرؤيا
- أغنيتان ليوسف الصائغ
- عطرٌ لجسدِ البلادِ
- عشقتنا أميركا
- حَيْرَةٌ على الكسندر بلاتس
- صاحب الهمس .. يحيى علوان حين يكون نديماً
- ورق الظلّ .. ورق الهمس
- سراباد .. المكان واتساع مساحة الحلم
- حيرة النادل في ليل الحانة
- ذاكرة الماء .. ذاكرة الصحراء
- برق في حانة .. من عناوين حانة القصب
- وطن القسوة .. الوجوه البيضاء عن أدب الداخل والخارج
- مرثية عوني .. حين تكون الريح صبا


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - حسرة في مقهى