أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمود كرم - حمّوديات















المزيد.....



حمّوديات


محمود كرم

الحوار المتمدن-العدد: 2153 - 2008 / 1 / 7 - 11:29
المحور: سيرة ذاتية
    


( 1 )

ما أن تزوجت حتى بدأت الأحلام الجميلة تتدافع في روحي ، تحقق بعضها والبعض الآخر تلاشى واندثر ، وكانت واحدة من أحلامي أن يأتيني مولود صبي أو بنت يحمل بعض صفاتي ولا يحمل بعضها الآخر ، ولكني في الوقت نفسه كنت أحبذ التروي والانتظار في هذه المسألة بالذات ، مؤمناً بأن الانجاب يجب أن يأتي بعد فترة من الزواج نستمتع فيها بحياة الهدوء والراحة والانطلاق ، ولكن لم تدم تلك الفترة من حياتي طويلاً ، فكانَ أن جاءت فترة الحمل الأولى قاسية وشديدة على زوجتي ، ولكن مرت الفترة المتبقية سريعة جداً ..

وما أن حانت ساعة الولادة حتى كان المولود ابني يطلق صيحة البكاء الأولى في حياته ، لم تكن أمي موجودة آنذاك ، حيث كانت خارج البلاد ولكن أتاني صوتها مباركاً ، أما أبي الذي توفاه الأجل في وقت سابق من ولادة ابني كان حلمه أن يرى حفيده مني وظلّت هذه غصة في قلبه وفي قلبي أيضاً ..

مرت ساعة الولادة بطيئة بعض الشيء والفرحة كانت تطوقني من كل جانب ، لا أعرف ماذا أفعل غير الانتظار ، وحينما حانت لحظة الولادة أحسست فجأة بأني أولد من جديد ، قد أتى الى الدنيا ابني يحمل معه بعضي وكلي ، يحمل معه بعض أمنياتي وبعض آمالي وبعض آلامي ..

وكانت مسألة وضع اسم جميل لابني تحيّرني ، فكان أن اقترحت علينا أخت زوجتي اسماً جميلاً ( فراس ) ، وحينها لم تكن زوجتي قد قررت الاسم وكذلك أنا ، ولكن أخواتي البنات أصررن على أن يحمل اسم ( محمد ) على اسم والدي ، وكان ذلك ..

وبعد ليلتين من الخدمة الفندقية في مستشفى السلام غادر حمّودي المستشفى وسط باقاتٍ من الزهور الطبيعية والمجففة وعلب الشوكولاته و ( كراتين ) العصائر ، وحينما هممنا بالخروج من باب المستشفى التفتتْ إليَّ زوجتي وهي تحمل بين يديها حمّودي بكل لهفة وشوق وحنان قائلةً لي على طريقة الأفلام المصرية هذا ( سمرة حـُبـِّنا ) فضحكتُ وقلتُ لها : لقد أرجعتيني الى الوراء كثيراً ، حينما كنتُ مراهقاً أتابع بشغف كل ما يُعرض للفنانة المصرية الفاتنة ( ميرفت أمين ) حيث كنتُ أرى فيها فتاة أحلامي ، فضحكتْ هي الأخرى لأني كشفتُ لها سـراً ستراتيجياً ظلّت إلى الآن تُمازحني بهِ كلما عرضوا على شاشة التلفزيون فيلماً لميرفت أمين ..

ركبنا السيارة في يوم صيفي لاهب ، ولكن هذه المرة كان يجلسُ معنا في مقدمة السيارة ضيف جديد بعد أن كنا وحيديْن لا يُشاركنا سوى صوت الفنانة الكبيرة ( فيروز ) وهي تصدح بأعذب الأغاني عبر مسجل سيارتي ، وإن أصبحتُ فيما بعد أنحاز كثيراً للنجمة المضيئة ( ماجدة الرومي ) ، فكنتُ مبتهجاً فرِحاً أدندن مع الموسيقى والأغاني لوجود حمّودي بجواري إلى درجة أني نسيتُ تشغيل مكيف السيارة ، ونسيتُ أيضاً الطريق المؤدي إلى المنزل ، ولكي تخفف عليَّ زوجتي شدة ابتهاجي التفتتْ إليَّ قائلة : اثقل يا رجل ..

أتى ( حمّودي ) كما أود مناداته هكذا دائماً ، وكما كان والدي يناديني هكذا ايضاً ، أتى إلى هذا العالم الرحب يحمل في وجهه بعضاً من ملامحي ، والكثير من ملامح أمه الجميلة ، وفي أغلب فترات النهار كان بكاؤه قليلاً ، ولكن في الليل تبدأ رحلتنا الماراثونية مع صياحه وبكائه ، وكأنه لا يريد لهذا الليل أن يأتي ..

في الصباح حينما أذهب للعمل كنت أتلهف كثيراً للعودة مسرعاً لاحتضانه واللعب معه ، مع أني لست من النوع الذي يملك سعة الصدر وطولة البال في اللعب مع الاطفال ، بينما كانت زوجتي ترى في تربية حمّودي أمراً جميلاً ..

( 2 )

ما أن وطئت أقدامنا ( الكريمة ) باب المنزل وبمعيتنا ولي العهد حمّودي حتى فوجئنا بعاصفةٍ من التهاليل والأهازيج الشعبية ، وكأننا للتو قدِمنا من نصرٍ عظيم ، وفي الحقيقة كنتُ أتلمس لهم العذر في ذلك ، فلم تفلح كل محاولاتهم لتزويجي من قبل بعد أن بلغتُ نهاية العقد الثالث من عمري ، ولكن حينما طرق الحب قلبي أخبرتهم بنيتي للزواج ، فتدافعوا حينها وتسارعوا وتزاحموا للتبريك ولنيل شرف المشاركة في العرس البهيج ..

وفي تلك الأثناء من احتفاليتهم العظيمة بالجديد حمّودي كنتُ أسمع بعض الهمس الذي كان يتردد بينهم : ( ما بغى يتزوج ذبحنا ) ظناً منهم بأني قد بلغتُ من العمر عتيا ، بينما الثلاثون من العمر وما زاد عنه تعتبر سناً مناسبة جداً للزواج في نظري بالطبع ، تكون فيها معالم النضج قد بدأت بالتبلور عند الرجل ، ولذلك كان استقبالهم لي وأنا أدخل عليهم أحمل ابني أمراً جميلاً انتظروه طويلاً ، وقلتُ في نفسي لو كنتُ أعلمُ بأنهم سيفرحون لهذه الدرجة لوفرتُ على نفسي منذ زمن إصرارهم المزعج والمتكرر بشأن الزواج ..

وبينما كنتُ هائماً في شرودي ، أتفحصُ فاتورة المستشفى وأشعل سيجارةً مترعة بنكهة مزاجية ، كان حمّودي يتمرجح بين أحضانهم متدفقاً بنقاوة البياض ، وبعد فترة من تلك التظاهرة الاحتفائية الأسرية انفضّ القوم من حولي وتركوني وحيداً ..

وما أن استقر بيَ المقام في ( صومعتي ) التي آوي إليها بين الحين والآخر طلباً للهدوء والاسترخاء ، حتى كانت زوجتي على الطرف الآخر من المنزل ، تطلبُ مني الذهاب فوراً إلى السوبر ماركت لشراء ( الحفاضات ) وبعض الحليب لحمّودي ، وحينها لم أكن أعرف شيئاً عن هذه التي يسمّونها الحفاضات ، عموماً ذهبتُ على مضض ، لأن مشوار السوبر ماركت لا أحب على الإطلاق ، وبالكاد أذهب إلى الجمعية التعاونية للتسوق لأنها في حقيقة الأمر تزعجني ، وكنتُ في وقتٍ سابق قد حسمت موضوع الجمعية ، على أن تتولى زوجتي عملية التبضع منها ( وتفكني ) من هذا الإزعاج الشرائي الذي لا أفهم فيه شيئاً ، ولكن ما دام الأمر هذه المرة يتعلق بحمّودي العزيز ، فلا بأس بالذهاب إلى الجمعية ، ولكن كيف لي أن أحفظ بالضبط في كل مرة نوع الحفاضة والحجم والماركة ، فأول شيء تعلمتهُ وأنا في زغب البدايات الأبوية كيف أشتري ( الحفاضة ) وألا أقع في الخطأ كما في المرات السابقة ولأكون تالياً مستشاراً جيداً في هذا المجال لمن يريد أن يصبح أباً من رفاقي وصحبي ..

وفي كل مرةٍ حينما أشتري فيها ( الحفاضات ) كنتُ أودُّ أن يسألني أحد من المارة عن شعوري وأنا في تفتحات مرحلة الأبوة ، لكي أفتح معه أو معها نقاشاً أبوياً يعزز فيَّ مشاعر الأبوة المتفاقمة ، وكل ما كنتُ أفعلهُ في كل مرةٍ حين عودتي من مشوار الجمعية مثقلاً بأكياس الحفاضات ، أن أسأل زوجتي العزيزة : متى تنتهي معاناتي اليومية مع هذا الذي يسمّونه الحفاضات ..؟؟

( 3 )

في إحدى الليالي الصيفية المُقمرة ، اصطحبتُ زوجتي وحمّودي الذي كان لا يزال طفلاً يخطو نحو عامه الثاني إلى أحد المطاعم الجميلة ، وفي الهواء الطلق وأمام مائدةٍ عامرةٍ بالمقبلات ( اللبنانية ) اللذيذة وبرفقة صوت ( فيروز ) العذب الذي كان يتهادى رقراقاً ، كانت شهيتي مفتوحة ( ع الآخر ) لحوارٍ حميميْ عن الموسيقى والذكريات ومستقبل الأيام ..

فقلتُ لزوجتي : فيروز لا تكف عن تلوين أرواحنا بتلويحاتها الغنائية العذبة ، وأتذكر إنها قالت ذات مرة بشفافيتها الفيروزية : أن كمية الحلم باتت أقلّ بكثير من المعقول ..!! فهي تعرفُ جيداً بأن الحلم ليس سلعة يتم استيرادها من الخارج بل ينبوع يتدفق من قلب لبنان ..

في صوتها الحلم يختال شهياً على أجنحة الليل ، هي والقمر يتفردان جمالاً في ساحة الحفل فلا يهرب المكان منها والزمان اختزلته في لحظة آسرة ، فصوتها وحضورها يحتضنان الأرواح التي تنتظرها على بوابة الغناء المشرق ، ليتحول الانتظار إلى قطعةٍ من الشوق الملتهب يهامس شهية الحلم ، والأجساد في انتظارها أرواح تقف على عتبات القمر ..

يا سلام ، هكذا ردت زوجتي ، فتابعتُ الحديث معها في جانبٍ آخر متسائلاً : كيف تمر الأيام بهذه السرعة المهولة لأجد نفسي الآن متزوجاً وتتملكني مشاعر الأبوة ..

ابتسمتْ ، وبعد أن أدلت رأياً فنياً في ( التبوله ) قالت : وهل كنتَ تتصور بأن الأيام ستبقى كما هي دون أن تجرف معها أحلامنا وأمنياتنا وتطلعاتنا .!! أجبتها : ولكن الأمر الآن استجد عليهِ شيء جديد ..
ـ كيف يعني .. ؟؟
استرسلتُ بشيءٍ من الحماس الذي يصاحبُ ذهن المتحدث : حينما كنّا صغاراً وبعد أن كبرنا في العمر ، كنّا نرى الدنيا وكأنها قد خُلقت لنا فقط وكنا نتعامل معها على هذا الأساس ، ولكننا الآن أصبحنا نرى الدنيا في عيون أطفالنا ، وما كان لنا في السابق أصبح لهم الآن ، في السابق من أيامنا كنّا أكثر قرباً من الدنيا والآن أصبحنا أكثر اقتراباً من أولادنا ، وحينما كانت الدنيا تأخذنا ببهجتها وزينتها ، أصبحنا الآن مأخوذينَ بزينةِ وبهجةِ أطفالنا ..

قد تكون هذه هي متعتنا الحقيقية في هذه الدنيا الآن بعد أن كانت الدنيا هي متعتنا فقط ، ولم يقطع عليَّ استرسالي في الحديث سوى صوت ( النادل ) وهو يسألني : سيدي هل تريد أن تأكل ( الحَمَام ) مشوياً أم محشياً ..

( 4 )

لا أدري ، ربما الأم بحكم التصاقها الدائم بالطفل ، وربما أيضاً بحكم تمتعها بمجسّات حواسية فطرية مشبعة بالحنان والعاطفة ، أكثر قدرةٍ على فهم حركات الطفل وسكناته وميوله وأيضاً بكائه وضحكه ، ففي أشهرهِ الأولى كان حمّودي حينما تجتاحه نوبة البكاء المتواصل ، أقفُ على أعصابي متوتراً وحائراً ، لا أعرف ماذا عليَّ أن أفعل ، وخاصة إن الطفل في هذه المرحلة من عمره لا يعرف كيف يُفصح عن سبب بكائه ، فلا يمكن معرفة السبب أيضاً وراء بكائه ، فكانت زوجتي تهديء من روعي وقلقي ..

وحينما كان يرتفع صوته بالبكاء في بعض الأحايين كانت أمي الحبيبة تأتي إليه على جناح السرعة مدفوعة بتاريخ عريق من الخبرة ، وكانت تقول لي : لا تقلق ، الأمر عادي جداً ، يحدث هذا دائماً للطفل وخاصة في أشهره الأولى ، ثم تردف قائلة : حينما كنتَ أنتَ في مثل عمرهِ كان بكاؤك يرجرج سكون الجدران ..

ومع مرور الأيام صرتُ أكثر خبرة واتـزاناً وهدوءاً في التعامل مع بكاء حمّودي ، فقط كنتُ أتمنى ألا يُطلق العنان ( لبكائياته ) المعتادة حينما يحين وقت النوم ، لأن بكائه كان سبباً في تشردي الدائم ، حينما أريد أن أنعم بشيء من الهدوء ، فكثيراً ما جعلني أنام مشرداً أتنقل من غرفةٍ إلى أخرى أستجدي من هدأة الليل لذائذ النوم الهانيء ..

وفي أحد الأيام وبينما كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل ، ولم يبقَ على موعد إقلاع الطائرة سوى ثلاث ساعات فقط ، وفيما كنتُ أستعد للخروج من المنزل لأتوجه إلى المطار مسافراً ، استوقفني شيءٌ يُشبه وخز القلب ، حيث كانت هذه هي المرة الأولى لي وأنا أفترق عن حمّودي وهو في شهره التاسع ، ولم أكن من قبل قد مررتُ بشعور كهذا ، وما خامرني من شعور في تلك اللحظة كان يشبه إلى حدٍ بعيد شعور الحبيب وهو يفارق محبوبته ، والعاشق معشوقته ..

وكنتُ من قبل أن يولد حمّودي اضطر للسفر وفراق زوجتي العزيزة ولكن شعوري به هذه المرة يختلف تماماً ، وأنا أودع حمودي أحسستُ بأني أودع صديقاً أعرفه منذ سنين طويلة ، وأدركت حينها بأن فراق من تحب موجعٌ ولكن الإحساس به يختلف من شخص إلى آخر ، كما سألتني إحدى الصديقات ذات مرة : هل تحب زوجتك أكثر أم ابنك ؟ فقلتُ لها : كأنكِ تسألينني هل تحب صوت ماجدة الرومي أكثر أم صوت فيروز ، كلا الصوتين أحب ولكن الإحساس بهما هو الذي يختلف ..

وأنا أودع حمّودي إلى لقاء قريب تسرب إلى قلبي حزن من كل الجهات ، فطبعتُ قبلة طويلة على خدهِ الغض ، وبينما كنتُ أهمُّ بالخروج من المنزل ، استقمتُ في وقفتي واستجمعتُ رباطة جأشي قائلاً لزوجتي : خذي قلبي وأدفنيه في الكويت .!!
ـ مـاذاااا ..؟؟
ـ ألم تسمعي نابليون بونابرت حينما استبد به الحنين لوطنه ، أطلق صيحته الشهيرة في أيامه الأخيرة من منفاه : خذوا قلبي ليدفن في فرنسـا ..

( 5 )

أكثر الأشياء التي ينتظرها الأبوان هو رؤية ابنهما في أولى خطوات مشيهِ ، ففي هذه المرحلة من عمر الطفل يطمئن الأبوان لنموهِ الطبيعي وتتبدد عندهما المخاوف بشأن تأخره في المشي ..

كانت لنا محاولات كثيرة ومتعددة في تمرينهِ على المشي ، وقد أثمرت تلك المحاولات نتائج جيدة ومع قليل من الصبر بدأ ( حمّودي ) بالإعتماد على نفسه في المشي وكانت فرحتنا بذلك لا توصف ، وأحسستُ حينها بأنه قد اصبح مستقلاً يعتمد على نفسه في الوصول إلى ما يريد وأخذ ما يشاء ، وفرحة الطفل بقدرته على المشي وإطلاق ساقيه للريح تزيده بهجة وثقة وانطلاقاً ، لأنه في هذه الحالة يتصور بأن لا قيود تحدّ من حركته وانطلاقتهِ ، وكلما كان ثابتاً في مشيه كلما كان أكثر انطلاقاً وتحرراً في حركاته ..

حينما بدأ حمودي بخطواته الأولى في المشي كنتُ أتركه يمشي على حريته لأرى أي الأماكن في البيت تستهويه ، فكانت مكتبتي المتواضعة في مرمى هدفه خاصة الأرفف السفلية منها ، حيث كانت تحتوي على دواوين الشعر ، وكان يسحب الديوان الذي يعجبه ويُجري عليه مسحاً جيولوجياً ويرميه أرضاً ، وكنتُ أقول في نفسي ربما سيعثر يوماً على قصيدة شعرٍ تعجبه ، ويظل هكذا أمام المكتبة ممسكاً بما تتلاقفه يداه ، لأجدُ بعد برهةٍ كومة من الكتب ملقاة على الأرض ، وحينما كنتُ أرفع صوتي عليه قليلاً ليكف عن العبث بالمكتبة ، أجدهُ يزداد إصراراً على التخريب ، وحينما نكون بالقرب من المطبخ تكون ( الثلاجة ) المسكينة مرتعاً لنزهتهِ المعتادة ، يسرع إليها منتشياً يحاول بكل ما أوتيَ من قوة فتحها وحينما لا يستطيع يبدأ بالإحتجاج والصراخ والبكاء عندما يصل الى مرحلة اليأس ، ولا أدري لماذا الثلاجة تستهويه الى هذه الدرجة ، ربما يدفعه لذلك شغف الطفل بفتح الأشياء المغلقة ليكتشف ما بداخلها حينما يراقبنا عن كثب ونحن نفتح الثلاجة ونغلقها في كل مرة ، بينما نحن حينما كنا أطفالاً وحسب الروايات التي ترويها لنا الوالدة العزيزة ، كان يستهوينا في مرحلة المشي المبكر باب البيت ، نذهبُ إليه مسرعين لأنهُ يطل على ( الفريج ) جنتنا الموعودة في اللعب والركض والمرح ..

أما المكان الأكثر استحواذاً على اهتمام حمودي وهو يستمتع بالتجوال على قدميه كان التلفزيون ، يذهبُ إليه مدفوعاً برغبة جامحة للإمساك بالأشكال الملونة وهي تتقافز أمام عينيه على الشاشة الفضية والعبث بالأزرار وتلطيخ الشاشة ببصمات يديه ..

وأكثر ما يستفزني حينما يصرّ على الوقوف أمام التلفزيون وأكون منسجماً بمتابعة مباراة لفريقي المفضل ( ليفربول ) ، فلا أجدُ أمامي طريقة إلا حمله لأنزل به الى باحة ( حوش ) المنزل لأقول له في نفسي دونك هذا ( الحوش ) إطلق ساقيك للريح بعد أن أوصي أمي الحبيبة بالعناية به ..

أما عن مرحلة دخوله عالم النطق ، فتلك تجربة لا زلتُ أحتفظ بذكرياتها اللذيذة معه ، فالطفل في مرحلة النطق الأولى أشبه ما يكون بلعبة الكلمات المتقاطعة ، حرفٌ من هنا وحرفٌ من هناك وفي النهاية كلمة مُبهمة عليكَ أنتَ أن ( تفلترها ) لتفهم مغزاها ، وكنتُ كثيراً أتشوق لسماع ما ينطق بهِ لسان ( حمّودي ) في بداية تركيبه الشاق للأحرف ، وأول الكلمات التي كان لها وقعٌ خاص على قلبي نطقه لـ ( بابا ) و ( ماما ) ، وكثيراً ما أشبه أيضاً أذن الطفل بالطبق الفضائي الذي يلتقط كل موجة حرفٍ وكل همسةٍ وكل إشارة واردة أو صادرة ، وحينما كان في أشهرهِ الأولى كنتُ أنا وزوجتي نُحادثهُ كثيراً ولم نلقَ منه إلا الضحكات وكان الهدف من ذلك تمرين أذنه على بعض الكلمات والأحرف ..

ربما كانت هذه وسيلة جيدة لا أعرف ، لأني لستُ متخصصاً في علم التربية ، ولكنها معلومة سمعتها من أصحاب الخبرة ، فكنتُ أقوم بتسجيل ما ينطق به حمّودي في بدايات كلامه من باب ( توثيق التجربة ) ، وبقدر ما كانت فرحتنا كبيرة ونحن نسمعهُ يتمتم ببعض الكلمات التي يصاحبها موسيقى خاصة به ، كانت فرحتهُ هو شخصياً بتلك التمتمات أكبر كفرحتهِ حينما أصبح يمشي ، وكان يردد على مسامعنا بعض الكلمات السهلة والبسيطة التي يسمعها منّا بين الحين والآخر ، وحينما كان يأخذه الحماس في التشديد على بعض الكلمات كان ينزعج من أي مقاطعة له وكأنه يريد أن يقول لنا لا تصادروا حقي في الكلام ، وحينما لا تأتي الكلمة التي ينطق بها متسقة لغوياً في تركيبها كانت هي الأكثر متعة لنا ونحاول أن نرددها فيما بيننا من باب التندر ..

للأطفال لغتهم المحببة لهم ولنا ، يقولون ما يشاؤون دون خوفٍ أو حذر أو تردد أو خبث ، وتأتي كلماتهم عفوية طاهرة صادقة نقية ، وفي مرةٍ بينما كان حمودي يتعثر كعادتهِ في إكمال جملةٍ ما ، نظرتُ إليه مستحضراً عنوان قصيدة أحمد مطر في ناجي العلي قائلاً له : فعلاً ما أصعب الكلام ..

( 6 )

لطالما أحببتُ تناول وجبة الغداء بالذات برفقة حمّودي ، وإن كنتُ أعلم بأن هذا الأمر لا يخلو من الإزعاج والفوضى العارمة ، وعلى الرغم من ذلك كنتُ أجد فيه بعض المتعة التي تمنحنا شعوراً اضافياً بحميمية أن نتشارك في الطعام مع مَن نحب ، وحينما بدأ حمّودي يستعذِب مذاق بعض الأطعمة على تنوعها ، أخذ وضعهُ الطبيعي في الجلوس معنا على مائدة الغداء ..

ورغم محاولات زوجتي إبعاده في بعض الأحيان بلطفٍ ورقة عن مائدة الغداء حتى أنعم بالهدوء التام في تناول الوجبة كما يجب ، ولكي يتسنى لها بعد أن أفرغ من طعامي بمعرفة رأيي الفني بطبخها ، ولكن حمّودي يصرّ عبر صراخه واحتجاجاته على البقاء بيننا ككيان آدمي يحقّ له الحضور الكامل ، وخاصةً إنه أصبح يرى نفسه قد أكمل عاماً ونصف العام من عمره ، ولا نجد مناصاً من الاستجابة الفورية لحقهِ الإنساني المشروع ، خوفاً من اندلاع شرارة العصيان المدني ..

وقد استطاع أن ينقل ساحة المعركة إلى حيث تتواجد ضحاياه الجدد من ملاعق وصحون وكاسات وأطعمة ، وأصبحت هذه الساحة الجديدة بالنسبة له من أحلى الساحات التي أخذ يمارس فيها هوايته المعتادة وينتظر بشغفٍ كبير ساعة الصفر للهجوم في معركة ضارية لا تبقي ولا تذر ، تتطاير فيها الملاعق من كل حدبٍ وصوب ، وتنقلب فيها الأطباق رأساً على عقب ، وتتناثر فيها الأطعمة هنا وهناك ، وبعد أن تهدأ الحرب قليلاً وسط ضحكاتهِ وضحكاتنا التي ينتزعها منا انتـزاعاً رغماً عنا ، يبدأ بعزفِ سمفونية صاخبة مستخدماً الشوكة والملعقة والأطباق وتتخللها بعض صيحاته المعتادة ، وعندما تضع الحرب أوزارها ويخيّم الهدوء على ساحة المعركة ويذهب إلى حال سبيله ألتفتُ إلى زوجتي قائلاً : من هنا مرّ حمّودي ..

وأتذكر أنه حينما أكمل العامين من عمره وبدأت معالم الجاذبية والفتنة تتفتح انشراحاً على تقاسيم وجهه ، أصبح الوقت ملائماً لاصطحابهِ إلى استوديو التصوير لأخذ عدة صور فوتوغرافية ( تاريخية ) له نزيّن بها صالة الجلوس ، فألبسته زوجتي ( بدلة ) جديدة اشتريتها لهذه المناسبة بالذات وأنا في طريق عودتي من البحرين ، كنتُ قد ذهبتُ إليها في يومٍ شتوي قارس ، طلباً للحلوى البحرينية اللذيذة ..

قلتُ لزوجتي أعرفُ مصوراً بارعاً يقع محله في منطقة ( الشرق ) ، فضحكت : متى آخر عهد لك به ؟ فقلت لها : حينما ذهبت إليه متأبطاً شهادتي الدراسية مسروراً ومزهواً بها لأني حصلت على الترتيب الأول من بين زملائي في المرحلة المتوسطة النهائية ، فقالت زوجتي وهي تطفح بإبتسامة رشيقة : ربما أصبح محله الآن أنقاضاً يترحم على أمجاده السابقة ، الآن هناك استوديوهات للتصوير حديثة وراقية مجهزة بأحدث التقنيات في عالم التصوير ، فقلت : المهم في الأمر المصور ، الفنان المبدع وليس الاستوديو الراقي والحديث ، ولكن محاولاتي لإقناعها بالذهاب إلى مصوري العتيد حيث الذكريات والحنين باءت بالفشل ..

عموماً ، ذهبنا بحمودي المتألق بحلتهِ القشيبة و ( قصة ) شعره الجميلة إلى استوديو للتصوير الحديث في منطقة السالمية ، جلسنا بانتظار أن يأتي دورنا ، فقلت لزوجتي : لا أريده أن يخرج بالصورة منفرداً ، أحبُّ وأرغبُ أن أكون معه في الصورة وخاصةً إننا سنضعها في مكان بارز تتصدر صالة الجلوس ، استغربتْ زوجتي من طلبي فقالت سريعاً : كان الاتفاق بيننا أن نُصوره منفرداً احتفاءً به ، لماذا تحشر نفسك بالصورة ؟
ولكني صممتُ على موقفي وطلبي ، واقترحت عليها حلاً وسطاً أن نصورهُ منفرداً ، وفي صورة أخرى مجتمعين كلنا ، فوافقتُ بكل سرور وأريحية ، وكان دورنا للتصوير قد فات نتيجة محادثـاتـنا الثـنائيـة لحل الإشكال الذي كنتُ أنا سبباً فيه ، وبعد لحظات قليلة اعتـلى حمّودي عرش التصوير يوزّع ابتسامات هنا وهناك ، وكان في وقتها يُحسِنُ استخدام الايماءات التعبيرية ، ما أدى إلى وقوع المصورة الجميلة في غرامه ، وعندما فرغتْ من تصويره من عدة جهات ، جاء دورنا مجتمعين ولكن الأخ المحترم ( الأستاذ ) حمّودي قد توقف نهائياً عن إطلاق الإبتسامات والحركات ، وفشلت محاولاتي أنا وزوحتي في تحريك الوضع ، ما جعلني أسأل زوجتي بعد إنتهاء التصوير عن السبب المحيّر وراء صمتهِ المفاجيء حينما جاء دورنا للتصوير معه ، فقالت : ربما كان يريد أن يستحوذ بمفرده على اهتمام مصورته الجميلة ..!!

( 7 )

يُروى أن الحجاج بن يوسف قال لمعلم أولاده : علم أولادي السباحة ، قبل أن تعلمهم الكتابة ، فأنهم يجدون من يكتب عنهم ولكنهم لا يجدون من يسبح عنهم .!! وبما أني لستُ ( الحجاج ) فلم أعهد بمعلم خاص لحمّودي ، وبما أن الدولة تتكفل بتعليم ابني الكتابة ، قررتُ أن أعلمه السباحة بنفسي في مرحلة مبكرة جداً من عمره ، وكان حينها قد تجاوز العامين بشهور قليلة ، وصادف أني كنت أشاهد برنامجاً تلفزيونياً في إحدى القنوات الأجنبية يعرض مدربينَ وهم يلقون بأطفال صغار في حمام السباحة ، ليغطس الطفل فجأةً ويطفو تلقائياً بعد ذلك على سطح الماء بكل سلاسة ويسر ، فقلتُ سأجرب أن أعمل مثلهم ، وتذكرتُ ( أبي ) يرحمه الله حينما كان يزجّ بنا ونحن صغار في البحر لنعتمد على أنفسنا في مصارعة المياه ومصارعة الحياة ..

وذهبتُ من فوري إلى أحد فنادق الدرجة الأولى لعلمي المسبق بأنه يتمتع بحمام سباحة جميل تحيط به ( كبائن ) للعائلات ، مجهّزة بكل مستلزمات الراحة ، فاستأجرت واحدة من تلك ( الكبائن ) بواقع يوم واحد من كل أسبوع ، وأوصيت زوجتي أن تشتري لي ولحمّودي ( شورتات ) أنيقة وملونة للسباحة ، واشتريت بدوري ( طفاحيات ) لحمّودي للاحتراز الأمني ، وذهبنا إلى هناك وكانت الشمس دافئة بعض الشيء ، وما أن رأى حمّودي لمعان المياه وتدفقها في بركة السباحة حتى بدأتُ أفقد السيطرة عليه تماماً ، وكأنه كان على موعدٍ مع جنةٍ تفتح ذراعيها له ترحيباً ومحبة ، سلحتهُ على الفور ( بالطفاحيات ) وتركته يذهب مسرعاً وسط صيحات من زوجتي بضرورة الإمساك به ، ولكنه توقف عند حافة البركة مستنجداً بي لمرافقتهِ في رحلتهِ ( المائية ) غير مكترثٍ بأهمية تمريغ جسده بزيت ( اللوشن ) لحمايته من أشعة الشمس ، في حين كنتُ أنا أضع الزيت بعناية على جسدي ( الرشيق ) خوفاً عليه من التآكل والصدأ ، وبحركةٍ ( طرزانية ) فوضوية قفزت بحمّودي في المياه متناسياً أن عليّ أن أعلمه ألف باء السباحة ، منصرفاً فقط للعب معه وسط المياه ، ولم يكترث أبداً هو الآخر لتوجيهاتي التكتيكية في التعامل الحضاري مع بركة السباحة ، وشيئاً فشيئاً أخذ حمّودي بالاعتماد على نفسهِ وعلى ( الطفاحيات ) في اللعب والتحرك وسط المياه بانسيابية ومرونة بعد أن كسرَ الرهبة التي اعترته باديء الأمر ، وبينما كنا غارقين في نشوة السباحة التفتُّ لزوجتي طالباً منها الاتصال بمطعم الفندق لتجهيز وجبة الغداء الشهية ..

وأتذكر أنه في إحدى الليالي اجتمعت العائلة صغيرها بكبيرها في منزل أخي الذي يصغرني بعام تلبيةً لدعوة عشاء ( باربكيو ) على شرف ابنه ( حسين ) الذي انتظره طويلاً ليأتي إلى هذه الدنيا حاملاً آمال أبيه وأفراح أمه ، وكان الجو ربيعياً منعشاً وبدأت رائحة ( الشواء ) تضرب بالرأس قبل الأنف ، وبدأت معه الصيحات تتعالى من أطفال العائلة الصغار بضرورة الإسراع في سد جوعهم قبل أن يهددوننا بتظاهرة عاصفة ، ولكن أمي أصرّت على أن يكتمل شمل العائلة بمجيء أختي الكبيرة التي أخرها على ما يبدو رغبة الجميع بتجهيز جاط ( الفتوش ) الذي تتقنه ببراعة ، في حين كانت ( التبولة ) على أصولها ترقد بأمان وطمأنينة على طاولة الطعام وهي من صُنع أختي الوسطى التي تجيد بمهارة فائقة عمل ( التبولة ) ، أما ( ورق العنب ) فقد جاءت به زوجتي العزيزة وهو من اختصاصها الحصري في العائلة حيث لا نكف عن الطلب منها كلما اجتاحتنا رغبة مزاجية في تناوله ، أما أطباق الحلويات فجاءت بها أختي الصغيرة وهي الأخرى متخصصة فنية في هذا المجال لأن زوجها ( المزيون ) يحب الحلويات إلى درجة أنه لا يستطيع العيش بدونها ، أما أنا وحمّودي فقد اكتفينا بشراء ( الكنافة النابلسية ) الخطيرة ، ولم يبقَ أمام أخي ( بوحسين ) سوى المضي قدماً في التفنن بعملية ( الشواء ) ، وبينما كنا غارقين ومستمتعين في إطلاق النكات والضحكات والأحاديث المتنوعة على هامش المناسبة الجميلة ، انبرى ( حمّودي ) فجأةً وسط هذا اللفيف العائلي محتجاً بصراخهِ الطفولي المتقطع : أريدُ ( ريشاً ) والريش هي قطعة اللحم اللذيذة التي يعشقها حمّودي حد الجنون وخاصة حينما يكون ( الشواء ) هو سيد الموقف ، فهمستُ بأذن زوجتي : إننا في ورطة حقيقية ، كيف لنا أن نُقنعهُ بأن ( الريش ) ليس متوفراً هنا، وكيف نقنعه بالبديل الناجح ؟! فقلتُ لأخي أن يفعل شيئاً تجاه هذه الأزمة قبل أن تتفاقم وتصبح جماعية بفعل العدوى ، وتخرج عن نطاق السيطرة ، الأمر الذي يستدعي منا السرعة وبأية طريقة في اخماد هذه الإنتفاضة ( الريشية ) ، فحاول أخي تهدئته وإقناعه ( بالكباب ) كبديل ناجح ، وتارةً أخرى إقناعه بفوائد ( العرايس ) المشوية ، ولكن لم تفلح محاولاته السلمية معه ، فتدخلت زوجتي وانفردت به إلى ركن منزو في المنزل وتنبيهه كلامياً بالكفِّ عن الاحتجاج ، وافهامه بأن كل ما ليس متوفراً لا يكون مدعاةً للطلب والإلحاح ولكنه أصرّ على عنادهِ وتعنته ، وما كان من أمي إلا أن تدخلت في محاولةٍ أخيرةٍ منها لإنهاء الأزمة لتوعده أن في المرة القادمة سيكون ( الريش ) أول الحاضرين ومع ذلك لم يتوقف عن الاحتجاج ، وبعد أن تمكن اليأس منهم جميعاً ، قلتُ لهم دعوني أعالج هذه ( الأزمة ) على طريقتي الخاصة فهمستُ بأذنهِ : ما رأيك بوجبة ( همبورغر ) شهية من أحد مطاعم الوجبات السريعة ، فوافق على الفور ، تملأ وجهه ابتسامة مظفرة مزهواً بنصره الذي حققه أخيراً ، فالتفتتْ إليّ زوجتي من فورها قائلةً لي بغضب : كل الخراب منك يا محمود ..!!

( 8 )

حينما بلغ حمّودي عامه الرابع تقريباً أبدى رغبة ملحة بضرورة اصطحابهِ إلى دور السينما ، فكنتُ أقول في نفسي : ممتاز ، على الأقل سأتبادل معهُ وجهات النظر فيما يخص الثقافة السينمائية بعد أن كانت النقاشات هناك تدور بيني وبين زوجتي فقط ، واكتشفتُ فيما بعد ولعهُ بالأفلام البوليسية والحربية ، وانزعاجه من الأفلام الإجتماعية الباردة حيث تصيـبـه بالملل والفتور ، وكان يحرص في كل مرة قبل أن ندخل قاعة العرض أن نشتري له الفشّار وبعض الشوكولاته ، وأصبحت هذه المأكولات من أساسيات التمتع بالمشاهدة السينمائية عنده ، وانضمت إليه في وقتٍ لاحق ابنتي ( فروحة ) التي تصغره بعامين ، وكانت لا تعير أي اهتمام لمجريات الفيلم بل ينصبّ اهتمامها بتذوق ( الفشار ) وإزعاجنا بطلباتها وأوامرها ، وعلاوة على ذلك لا تبخل علينا بابداء رأيها ( الفني ) حول الفيلم بعد انتهائه ، وعادة ما يتلخص رأيها في كلمتين : مو حلو !! فكنتُ أقول لها معلقاً : في المرة القادمة إدفعي تذكرة الفيلم من جيبكِ الخاص .

وفي ذات يوم ذهبتُ بهم إلى فيلم ( طرزان ) الكرتوني وكان الأحدث سينمائياً في ذلك الوقت ، ولكن المضحك في الأمر أنني كنتُ الوحيد بينهم مستمتعاً بمغامرات ( طرزان ) ، في حين كانت زوجتي تتبرّم مللاً من أحداث الفيلم ، بينما كانت ( فروحة ) تهمسُ بأذنها أن عليها ألا تُصدق كل ما يقوم به ( طرزان ) ، أما حمّودي فكان يخفي بين الحين والآخر ضحكاته كلما رآني مندمجاً بأحداث الفيلم ..

وكنتُ قبل أن أتزوج أسمع كثيراً من أصدقائي المتزوجين وأخواتي المتزوجات بأن الطفل عادةً ما يطلب من أبويه أن يرويا له القصص والحكايات ، وقد لمستُ هذا بشكل واضح حينما صرتُ أباً أتمتع بكامل اللياقة الذهنية والعاطفية ، ومع علمي المُسبق بأن الطفل الذي يصيخ السمع بشيءٍ من الإلحاح والمتابعة للقصة المحكية فإنه بذلك يستجيب تلقائياً لاحتياجاته الحسية والذهنية والشعورية ربما ، وعلى الأبوين أن يساعداه في تنمية تلك الاحتياجات وتغذيتها بالخيال الجميل الملهم ..

كان موعد حمّودي مع القصة المحكية يبدأ قبل أن يغط بنومه وهو في أواخر عامه الثالث ، وقد أدمن سماع القصة قبل أن ينام وكـأنه على موعدٍ مع فتاةٍ فاتنة يظلّ ينتظرها بشغفٍ وتلهف ليبادلها فتنة الهمس الشهي ، وحينما تأتي ( فاتنتهُ ) أقصد القصة في موعدها المعتاد ، يقوم بطقوس عدة استعداداً لاستقبالها بما يليق بها ، يضع الوسادة أولاً تحت رأسهِ ويشخصُ بعينيه ناحية ( الثريا ) التي فوق رأسه ، وكأنه يتخيّلها قمراً يتقافز فوقها فرحاً وبهجةً مع فاتنتهِ ، بعدها يسحبُ طرف ( الشرشف ) الخفيف ليغطي بها جسمه وكأنه يستدعي له ولفاتنته شيئاً من الخصوصية وحميمية الدفء ، بعدها يأخذ نفساً عميقاً ليقول لزوجتي التي اعتادت أن تروي له القصص : أوكي ، وحينما تبدأ زوجتي بسرد القصة عليه ، أبقى أتأملهُ وأراقب تعابير وجهه وحركات يديه ونظراته التي يجول بها أطراف الغرفة ، وكأنه يخشى من أي دخيل يخطف منه فاتنته على حين غرة ، وكان على زوجتي العزيزة أن تجيب على تساؤلاتهِ واستفساراتهِ أثناء سردها للقصة ، ومع الأيام اكتشفتُ بأنه لا يحب سماع القصص ذات الطابع التوجيهي مُفضّلاً عليها القصص البوليسية وقصص الإثارة والمغامرات والشخصيات الكرتونية ، وكان لا بد من أن تحشر زوجتي بعض النصائح والإرشادات في سياق القصة ، مع علمي بأنهُ أصبح يفهم بطريقته الخاصة بأن ليس هناكَ ربطاً موضوعياً بين تلك النصائح وبين سياق القصة ، ولكنهُ يغض الطرفَ قليلاً خوفاً على فاتنتهِ من الضياع أو التلاشي ، وفي ليلةٍ طلبَ مني شخصياً أن أروي له قصة ( عجيبة ) على حدِ قوله ، ولم يكن أمامي إلا الرضوخ لطلبهِ ، حيث أن مشكلتي المزمنة أني لا أحفظ شيئاً على الإطلاق حتى أرقام هواتف أعز أصدقائي لا أحفظها ، وما كان أمامي إلا أن أبدأ بسرد قصة ( حلمنتيشية ) من تأليفي الخاص مُستعيناً بخيالي ، بينما كانت زوجتي تراقبني وهي تخفي ضحكاتها خوفاً من أن ينفضح أمر القصة ( الملفقة ) ، وما هي إلا فترة وجيزة حتى فوجئتُ بحمّودي يدير لي ظهره ، طالباً من والدته ( بطانية ) إضافية لينصرفَ إلى نومهِ تاركاً لي فاتنتهُ التي شوّهتها ..

( 9 )

الرياضة التي ( تولعتُ ) بها منذ صغري وإلى الآن أمارسها بين الحين والآخر هي رياضة ( البولينغ ) وأجد فيها متنفساً ( إبداعياً ) ، وبعد أن تزوجت وجدتْ زوجتي في لعبة ( البولينغ ) رياضة حماسية فكانت ترافقني قبل أن يجيء حمّودي إلى الدنيا ، وحينما جاءَ وتجاوز عامه الرابع بأشهر قليلة كنتُ أصطحبه معنا ، في باديء الأمر كان يكتفي بمشاهدتنا فقط من دون أن يتدخل أو يُبدي حماساً معيناً تجاه اللعبة ، وكانت أكثر اللحظات التي يسعـد بها ضحكاً وكركرةً حين متابعته لعبنا ( للبولينغ ) عندما يراني أتعثر وأنا أهمّ ُ برمي ( الكرة ) أو حينما أخفق في رميتي ، وكأنه لا يريد لي أن أفوز على والدته ..

بعدها أصبح يعرف بعض الشيء قواعد اللعبة وأصولها ، وفي بعض الأحيان تغريه ( كرة البولنغ ) فيريد قذفها ، ولكنه بالكاد يستـطيع أن يحملها ويقذف بها باتجاه الهدف ، وحينما يجد مجرى اللعبة أصبح فاتراً وبارداً بعض الشيء ينصرف إلى اللعب بالمكائن الالكترونية المنصوبة في صالة البولنغ ، وإذا أحسّ بالملل فإنه يريد مني أن أطلب له ( الآيس كريم ) الملكي من كفتيريا الصالة ، وأصبحت فيما بعد هذه من عاداته المحببة التي تشجعه على المجيء معنا إلى صالة ( البولنغ ) ، وفي وقت لاحق كان يصـرّ على أن تأتي أخته ( فروحة ) معنا لتسانده في التشجيع ، ليس تشجيعنا بالطبع ، بل لكي تشجعهُ في كل مرة لطلب ( آيس كريم ) إضافي له ..

وفي تجربة سابقة معه ما زلتُ أحتفظ بذكرياتها اللذيذة حيث كانت الكاميرا الفوتغرافية تتسابق لتـصويرهِ لحظةً بلحظة منذ اللحظة الأولى لولادته وكأننا بصدد توثيق تجربة تاريخية ، فكنا حريصين على التـقاط الصور له مع كل حركة ووثبة ومناسبة ومرحلة ، إلى درجة إننا في سنواتـه الثلاث الأولى ملأنا خزانة كاملة ذات الحجم المتوسط بصوره ، وأعترف بأنني كنت أكثر شغفاً من زوجتي في تصويره ، ولا أدري لماذا ، ربما لأنني كنتُ أستمتع بالتجربة المرئية الموثقة ، حتى أني في بعض الأحيان أبحث عن صوري بالأبيض والأسود أستعيد معها ذكريات الطفولة والصبا وأيام الشقاوة ، وأضحك كثـيراً ، لأن ملابسنا وأشكـالنا في ذلك الماضي تختلف عما هي عليه الآن فكانت تـبعث على الابتسامة والضحك وربما الحنين ، وعلاوةً على ذلك فالوقت الذي كنتُ أقضيه في تقليب الصور القديمة كان نوعاً من الانصراف إلى العبث بالأشياء الصغيرة الجميلة التي تجعلنا نبدو سعداء في ممارستها وقضاء بعض الوقت معها ، وحمّودي ورث مني هذه الصفة ، فكان بين الحين والآخر يطلب منا أن نفتح له خزانة الصور ليجد فيها عالمه السحري الجميل ، وأنا أنظـر إليه متأملاً ، تارةً أجد فيه طفولتي وصباي ، وتارةً أخرى ضاحكاً من طريقتهِ الفوضوية العبثية في تقليب الصور ، حيث ينثـرها هنا وهناك ويتفحص بعضها جيداً وكأنه يقرأ من خلالها تاريخه القديم ، ويحتـضن أخرى كعزيزة عليه يحسب أنه قد فارقها منذ زمن بعيد ، ويلصق أخرى على الجدار كلوحةٍ يظلّ يتأملها بين الحين والآخر ..

أحببتُ فيه هذا العبث الطفولي البريء ، لأنها تعكس سلوكاً طفولياً جمالياً ، هذا السلوك الذي نراه نحن الكبار عادياً وربما ليس ذا قيمة ، إلا أنه في نظرهِ يعتبر متعة كبيرة يستمتع بممارستها انطلاقاً من حياتهِ الخالية تماماً من العقد والمسؤوليات والهموم ، ناهيك بولعهِ الدائم بعرض أشرطة الفيديو الخاصة به ، وفي أكثر الأحيان يلزمنا أن نتابع معه ما يشاهد ، وكأنه يريد أن يقول لنا بأن هذه الذكريات والمشاهد هو مَن تفننَ في صنعها واخراجها ، وفي الحقيقة كنا نشاركـه متـعـتـه هذه لـكـي ننمّي فيه الحس الجمالي بتذوق الأشياء الجميلة وإن كانت صغيرة بنظرنا ..

( 10 )

أكثر الأشياء المحببة إلى زوجتي التسوق لحمّودي ، ولكن في بعض الأحيان كانت تنتابني رغبة أبوية جارفة لا أدري كيف تأتيني فجأةً تجبرني على أن أتدخل في اختيار بعض ما يناسبه من ثياب ، وإن كان ذلك يدخلني في حلقات حوارية حول الموديلات والألوان مع زوجتي ، ولكني أحاول أن يكـون الحوار فنياً بحتاً ينتصر فيه الذوق أولاً وأخيراً ، وحينما بلغ حمّودي عامه الرابع ونمت فيه ككل الأطفال في هذه الـسـن خاصية التفضيل الجمالي ، طبعاً مع شيء من التوجيه الفني الذي كنت أنا وزوجتـي نحاول أن نمارسه معه بما يتناسب واستيعابه البسيط ، فكان يميل دائماً إلى الألوان الفاتحة والبعيدة عن التـعقيد في الشكل ويمتعض من الألوان الداكنة ، ويحب كثيراً اللون الأزرق الفاتح والأبيض والأخضر الفستقي وفي بعض الأحيان يصرّ على اللون البني الفاتح ولا أعرف السبب في ذلك ، ويميل كثيراً لارتداء ( الجينز ) ، ويكره ارتداء القميص مفضلاً عليه ( البلوزة ) العادية شرط أن تكون عصرية متماشية مع الموضة ، وكان يستنكف من ارتداء ( الدشداشة ) لأنه يرى إنها تعيقه عن الحركـة واللعب ، ولكنه في الآونة الأخيرة اقتنع بارتدائها في مناسبات الأعياد وفي مناسبات مشابهة ، ولكنه يشترط أن يحمل قلماً يزيّن به ( الجيب ) العلوي لدشداشته مع محفظة نقود يضعها برفق في أحد ( جيوبه ) الجانبية ويتفحصها بين الحين والآخر ليرى بأن ما فيها يفي لشراء سيارة من طراز ( كورفت ) وفقاً لخياله الواسع ، وأمام إصراره العجيب ذات يوم ونحن نتسوق في أحد المحال التجارية وقفتُ مندهشاً من طلبهِ الغريب ، حيث أصرَّ أن يختار نظارة شمسية من النوع الأنيق غالية الثمن لا تصلح إلا للكبار ، ووسط دهشتي التفتُّ لزوجتي قائلاً لها : هذا الجيل ( مشكلة ) بنطلون جينز مع طموح شديد لاقتناء سيارة ( كورفت ) وفوق هذا نظارة شمسية من النوع السبورت !! وأردفتُ : يبدو إننا سنواجه صعوبة بالغة في السيطرة على توجهات هذا الجيل ، فقالت لي سريعاً وهي تشير إلى ثوب جميل فاحش الأناقة ينتصب في واجهة المحل : أعترف لكَ يا عزيزي بصعوبة الأمر وأمامنا جهد كبير ، وأمامك الآن أن تدفع فوراً لهذا الثوب الباهر !!

ما أن يبلغ الطفل سناً معينة حتى تراه يهيم شوقاً بلعب ( الكرة ) ويحول المنزل إلى ملعبٍ صغير تتقافز فيه الكرة هنا وهناك لِتسقط لوحة من على الجدار أو تحطّم مزهرية وادعة مركونة بأمان بزاوية الصالة ، كان حمّودي من النوع الذي عشق ( الكرة ) بجنون لا حد له ، يلعب بها صباحاً ومساءً وفي وقت الغداء وأثناء العشاء ، ولا يكتفي بكـرةٍ واحدة بل يرغمني على أن أشتـري له ( كرات ) عدة ، وأصبح فيما بعد من المتابعين الجيدين لمباريات الدوري المحلي ، وحينما تشعبت اهتماماته الرياضية أصبح من المشجعين الدائمين لنادي ( مانشستـر يونايتـد ) الإنجليزي ، وبما أني كنتُ من مشجعي ( نادي الكويت ) أيام السبعينات ، واعتزلت بعدها متابعة مباريات ناديّي المفضل باعتزال لاعبيه الكبار أمثال الحوطي وشعيب والعنبري والطرابلسي ، بينما حمّودي لم يرث مني تاريخي الرياضي بل اتجه بكـل كيانه إلى تشجيع ( نادي القادسية ) وأصبح يتابع ناديه في جميع مبارياته ويحفظ أسماء لاعبيه ، ويردد عليّ أسمائهم وكنتُ لا أعرف أحداً منهم ، ولكني كنتُ أجاريه في حماسهِ لكي لا أقطع عليه مشاعره في التعبير الكروي ..

وفي أحد الأعوام بمناسبة مهرجان ( هلا فبراير ) أقيمت بطولة كـروية على هامش المهرجان وشاركت فيه منتـخبات عدة من دول مختلفة ، وفي حينها أصرّ حمّودي على أن أذهب به إلى الملعب ليشاهد إحـدى مباريات المنتخب الكويتي ، ولم يكن من قبل قد حضرَ مباراة في الملعب ، وأمام إصراره ورغبةً مني في جعلهِ يعيش جو الانفعال والحماس داخل الملعب ، ذهبتُ به ذلك اليوم إلى الملعب ، وأتذكر أنه آخر حضور لي في ملاعب كرة القدم كان قبل أكثر من عشرين عاماً ، ورأيت في حضوري هذه المرة بعد تلك السنين فرصة جميلة أستـعيد من خلالها الذكريات ، وكان حمّودي يومها يقترب من عامه الرابع ، وما أن دخلنا الملعب حتى بدأ يمطرني بالأسئلة التي لم تتوقف ..

وبدأت المباراة وكانت بين منتخب الكويت ومنتخب إحدى الدول الشقيقة ، وبدأت معها الجماهير في الهتاف والتشجيع ، وبدأ حمّودي معهم يلوّح بالعلم ويقوم ويقعد ويهتف بأعلى صوته ، بينما كنتُ أنا غارقاً في ذكريات السبعينات ، وكنتُ أرغبُ كثيراً أن تكون النتيجة لصالح منتخبنا لكي يسعد حمّودي ويتوّج يومه بالنصر المؤزر ، ولم يتوقف عن التشجيع لحظة واحدة ، وكان يهتف باسم ( بشار والهويدي ) وكنتُ بالكاد أعرف أن أميّز بين اللاعبين ، وجاءت النتيجة عكس حماسه ورغبتـي ، وتلاشت نشوته الأولى في حضور الملعب بعد أن فاز المنتـخب الشقيق ، وحين خروجنا من الملعب قلتُ له : بعد عشرين عاماً أحضر إلى الملعب فأصاب بخيبة الأمل ، وقـلت في نـفسي ربما كنت أنا ( بومة ) على المنتـخب الكويتي في أول عودة لي إلى الملعب بعد عشرين عاماً ، وأخذ حمّودي يتحسّر على النتيجة وهو يقول لي : مع هذا راح ناخذ كأس الخليج !! ضحكتُ كثيراً على كلامه فقلت له : صحيح ، المهم كأس العالم .!!

( 11 )

أحرصُ دائماً على الاحتفال بعيد الأم في كل عام ، وقد أورثتُ هذه العادة المحببة لحمّودي وفروحه منذ الصغر ، ومع شيء من التوضيح البسيط لهما بضرورة الاحتفال بهذا اليوم كان كفيلاً بأن يخلق فيهما النزعة الشعورية لممارسة هذه الاحتفالية بجمال وحب ، وفي أحد الأعوام قبل مجيء عيد الأم بأيام قليلة أخبرتُ حمّودي وفروحة أن عليهما أن يفكرا بهدية جميلة لوالدتهما ، إلا أن فروحه كانت تسارع من فورها بإخبار زوجتي بتخطيطنا المسبق من شدة تعجلها وفرحتها ، وتحرق بذلك المفاجأة ، ويحاول حمّودي الذي يكبرها بعـامين افهامها بأن عليهـا أن تتكتم على هذا الأمر ، إلا إنها كعادتها دائماً ( تطنشه ) ، وفي ذات يوم بعد عودتي من العمل اجتمعتُ بهما لأخبرهما إننا في المسـاء سوف نذهب إلى إحدى الأسواق لشراء هدية لوالدتهما لهذه المناسبـة ، فقال حمّودي سريعاً ما رأيكما أن نشتري لها ساعة يد ، بينما كانت فروحه تفكر في هدية مناسبة ، وبعد تفكير طويل اقترحت أن نشتري لها ( لعبة ) حلوة على حد تعبيرها ، كالتي تباع في محلات ألعاب الأطفال ، ولكن حمّودي أفهمها بأن ( الماما ) كبيرة وليست بحاجة إلى لعبة ، إلا إنها أصرّت على موقفها ، وإذا لم نوافق على اقتراحها سوف لن تأتي معنا ، ونشبت بينها وبين أخيها معركة سلمية ومشادة كلامية ، وكنتُ بينهـما أجلسُ ضاحكاً ، لا أعرف كيف أتوصل معهما إلى حـل يرضيهما ، فقلتُ لهما في نهاية الاجتماع : سنذهب سوياً إلى السوق ، وكل واحدٍ منكما يختـار ما يريده ، وانتهى الأمر بتناولي حبة بندول ..

لا أدري ما السر وراء تعلق الأطفال الجنوني والحميمي ( بالآيس كريـم ) ، وكنتُ حينما أريد أن أعاقب حمّودي أهددهُ سريعاً بقطـع امدادات ( الآيس كريم ) عنه ، فكان هذا التهديد يصيبه بالكآبة والحزن الشديد ، وسرعان ما كان يرجوني بأشهى ( الآيس كريمات ) لديه ألا أنفذ تهديدي ، بينما كانت فروحه تسرح وتمرح لأن قانون العقاب بقطع الآيس كريم عنها لم يشملها بعد لكونها صغيرة جداً ، وكانا يطلبان ( الآيس كريم ) في كل وقت ، يطلبونه في الصباح ووقت الظهيرة وعند المساء وقبل النوم ، إلى أن عمّت الفوضى أرجاء المنزل ، وأصبح السطو غير المسلح على ( الفريزر ) للقضاء على كل الآيس كريم المتبقي فيه طريقتهما المعتادة في كل وقت ، إلى درجـة أني في بعض الأحيان حينما يجرفني الاشتياق لقضم قطعة من الآيس كريم الشهي لا أجد قطعة واحدة منه في ( الفريزر ) ..

وأمام هذه الفوضى الأمنية العارمة أصبح الأمر يتطلب تطبيق قانون ( الطواريء ) بمنع التجول حول ( الفريزر ) خلال ساعات النهار والليل ، لتسمح لهما زوجتي بتناول ( الآيس كريم ) خلال فترة الظهيرة بعد وجبة الغداء فقط ، وكانا يعلمان جيداً بأن القفز على هذا القرار ( التعسفي ) في نظرهما كفيل بسنِّ قرار ثان أكثر شدة من الأول ، لذلك كانا مستسلمين ، ولم يحاولا إثارة المتاعب أو تنفيذ العصيان المدني ، وأمام هذا الوضع الجديد أصبح حمّودي في كل مرة ( يوشوش ) في أذن فروحه حينما يأتي وقت ( الآيس كريم ) بأن تطلب بدل القطعة الواحدة قطعتين ، وكان هو الآخر يقوم بنفس العمليـة ، وبذلك كانا يخرقان ذاك القرار الجائر بحيلةٍ بريئة ، فكانت زوجتي ترضخ لهما وفي بعض الأحيان ترفض طلبهما ، وبما أني ( الحلقة الأضعف ) في تطبيق هذا القرار بحذافيره لأني في بعض الأحيان أتخذ الأسلوب ( الليّن ) حينما تكون زوجتي قد اتخذت الجانب ( المتشدد ) ، لذلك كانـا يلجآن لي حينما ترفض زوجتي طلبهما بإضافة قطعة ثانية ، وكنتُ أوافق ولكن من دون أن يؤثر ذلك على قرارها المتشدد ، وكانت موافقتي مشروطة ، حتى لا تعمّ الفوضى من جديد وتنفلت زمام الأمور منا ، وفي مرةٍ بعد أن التهمتُ قطعة آيس كريم لذيذة ، هممتُ بأخرى ، لأجـد زوجتي تطلبُ مني أن أجلب لها الأذن من والدتي للقطعة الثانية ..

( 12 )

بمجرد أن أفرغ من وجبة الغذاء أجد حمّودي قد وضع الصحف اليومية أمامي مع ابتسامة يطلقها في وجهي إشارة منه بأن الوقت قد حان لقراءتها كعادتي في كل يوم ، وما أن يضعها أمامي حتى يقفل راجعاً ليأتيني بعد دقائق يحمل معه صحف اليوم الفائت حيث يسحبـها من مكانها المخصص ، ثم يجلس قبالتي مفترشاً واحدة من تلك الصحف محدقاً فيها من دون أن ينبس ببنت شفه ، وكأنه يقرأها بتمعن وجدية ، ويتصفحها كلما يراني أقلّبُ الصفحة تلو الأخرى ، ثم يغادرنـي فجأة تاركاً صحيفته على الصفحة التي توقف عندها ليجلب كأساً من الماء يضعه بجانبهِ يشرب منه بين الحين والآخر ، وكأنه بحاجةٍ إلى ما يساعده على ( بلع ) ما يقرأ من الصحيفة ، وبعد أن يصل إلى منتصفها ، ينبطح أرضاً متخلياً عن جديته السابقة في قراءة الصحيفة ، ولكني أعرف بأنه حينما يكون بهذه الوضعية ( الاسترخائية ) فذلك يعني إنه قد استقرّ على صفحة الرياضة ، ويظلُّ على هذه الوضعية إلى أن أفرغ من صحيفتي ، ينهض بعدها ، يأخذ مني الصحيفة ويذهب إلى حال سبيله ، وفي اليوم التالي يتعمّد التأخير في جلب الصحف ..

في أحد الأيام كنتُ أفكر في اختراع خطة مناسبة يتم من خلالها تشجيع الطفل على اتباع السلوك الجيد ، وفي الوقت نفسه تدفعه للابتعاد عن ممارسة السلوكيات السيئة التي تجلب الأذى له ولغيره ، وبالفعل وضعت أنا وزوجتي خطةً تمنينا أن نجني ثمارها الجيدة سريعاً ، بحيث أن تكون الخطة مبسّطة في خطواتها تقوم على عملية احتساب النقاط بشكلٍ يومي لحمّودي ، وإذا ما استطاع أن يحصد عشر نقاط في الأسبوع فهناك جائزة ما تنتظره ، وتطلبَ الأمر منا أن نضع كشفاً لاحتساب النقاط له في مكان بارز من المنزل لمزيدٍ من ( الشفافية ) ولكن ذلك لا يعني أن نجعله يعتقد أن أيّ عمل جيد وحسن يفعله لنفسه أو لغيره يجب ينال في مقابله جائزة ، بل هذا التصرف منا كان فقط من باب التحفيز والتشجيع له في إطاره المحدود والبسيط ..

راقَ هذا الأمر لحمّودي وطبعاً كان لا بد أن تحشر فروحه نفسها فيه بطريقةٍ أو بأخرى ، وكانت النقاط تحتسب للتصرفات السلوكية الجيدة والجميلة ، مثل الانتظام في الأكل وعدم العبث بالأشياء ، والتقيد بالنظافة وغيرها من الأمور والسلوكيات الجيدة ، مع ضرورة تنبيهه بأن أيّ تصرفٍ غير جيد يجعله يخسر نقطة ثمينة ..

واستطاع حمّودي أن يحصد في الأسبوع الأول عشر نقاطٍ كاملة ونيل الجائزة ، بينما كانت فروحه تسعى لتقليد حمّودي في كل شيء من دون أيّ اكتراث منها بنتيجة ما تقوم به ، فقط من باب حشر مع الناس عيد ، وأصبح حمّودي فيما بعد يضع شروطاً مسبقة للجائزة التي يهواها ، وكان علينا أن نجاريه في بداية الأمر تشجيعاً له ، بينما فروحه لم يكن يهمها سوى توفير أكياس البطاطا الجاهزة كجائزة لها ..

وفي ذات يوم استسلمتُ لإصرار فروحه المزعج بتسجيل نقطة لها هكذا ( مجازاً ) لكي تحصد النقاط العشر وتحصل على حبيبتها الأثيرة ( البطاطا ) ، فاكتشفت زوجتي الأمر لاحقاً ، لنخسر أنا وفروحه نقطة ثمينة ..

( 13 )

الكوابيس ، الأحلام ، المنامات ، يسردها الطفل وكـأنها إحدى الحكايات الغريبة التي تقتحم عالمه الخاص عنوةً ، وكنتُ أستغربُ كثيراً حينما يُخبرنا حمّودي وهو في بدايات عامه الرابع عن بعض الأحلام المزعجة التي يراها في منامه ، وكنتُ أقول في نفسي ربما يبالغ أو إنه ربما ينسجها من خياله ، وفي أكثر مرةٍ كان يسرد حلمه بتفاصيله الدقيقة ، عكسي أنا تماماً حيث كانت إحدى أمنياتي التي لم تتحقق إلى الآن أن أتذكر تفاصيل حلمي بالضبط ، ولكن ما أن أصحو من نومي حتى أجد حلمي قد أصبح في عداد المنسيّين ، والطريف في الأمر أن حمّودي كان يسرد حلمه علينا على طريقة أفلام ( الأكشن ) ، وانتقلت العدوى فيما بعد إلى اخته فروحة ، فأصبحتْ هي الأخرى تجد متعةً كبيرة في سـرد أحلامها العجيبة ، وفي كل مرةٍ حينما أعـود من العمـل يجب أن أسألها أولاً عن أحلامها الجديدة ، وكنتُ أستمتع في الانصات إليها لأن أحلامها كانت فسيحة الخيال وتجعلها تنطلق في سردها بحماس متزايد ، وترفض أدنى مقاطعة ، وتُجبرنا على أن نستـمع لها وسـط ابتساماتـنا المتلاحقة ، وفي قرارة نفسي كنتُ أعرفُ أن سـردها من خيالها المحـض وتأليفها الخاص ، ولكني لا أقاطعها ، وحينما تفرغ من سرد أحلامها أنبهها تنبيهاً لبقاً بضرورة التخفيف من ( البهارات ) الكثيرة التي تضيفها إلى حلمها ، واستطاعت بحق أن تسـتـقطـع وقـتاً جميلاً منا لسماع حديثها المسلي ، وكانت تعتقد أن طريقتها هذه تجعلها تنافس حمّودي في مجال سرد الأحلام لتسرق الأضواء منه ..

وحينما شعرَ حمّودي بأننا نستمتع بحديثها عن أحلامها العجائبية لتفوقـها الواضح في مجال السرد والاختلاق ، بدأ حمّودي ينتقدها أمامنا على فوضويتها وشغبها ونحن مجتمعين على مائدة الغداء ذات يوم ، ووسـط دهشتنا من هجومه المتواصل عليهـا واختلاق بعض الـقصص عنها ، تراجع فجأةً قائلاً لنا : لا تقلقا هذا حلم رأيته في منامي وليس حقيقة ..

كنتُ أحرص أن أضع بين يدي حمّودي مجموعة من الوسائل التعليمية قبل أن يدخل مرحلة الروضة وينتظم في صفوفها ، لأني كنتُ أعتقد أن تلك الوسائل التعليمية ستوفر له بعض المعلومات الأساسية وتوسع مداركه وفهمه للأشياء من حوله ، وبالفعل شرعت زوجتي في البحث عن هذه الوسائل في المكتبات التجارية وفي المحال المتخصصة والسؤال عنها ممن سبقوها في هذه التجربة ، وقد نجدُ بعض الصعوبة في توصيل ما نودّ إليه عبر مجهودنا الشخصي ، لعدم اطلاعنا الكامل على نوعية تلك الوسائل والفنون ، ولعدم معرفتنا الكاملة أيضاً بالطريقة التي يتم من خلالها إيصال تلك المعلومات إليه بشكل محبب ومشوق ، فكان من الضروري الاستعانة بتلك الوسائل الحديثة في عالم المعلومات المعرفية لضمان سرعة الوصول إليها بطريقة سلسة ، وكان التـخوف من أن لا يُقبل حمّودي على تلك الوسائل بشوق وتودد ، ولكنه كان يصرّح لنا بحاجته إلى تلك الوسائل كلما رآها عند أحد من أبناء أو بنات العائلة ، أما في أيامنا هذه فإن شبكة الأنترنت المهولة توفر للأبوين ما يودان معرفته في هذا الخصوص ..

وكان تركيزنا في البداية على أشرطة الفيديو التعليمية التي توضح وتبسّط المعلومات للطفل ، وقضى حمّودي وقتاً جميلاً مع هذه الأشرطة التي أمدته مع مرور الأيام ببعض المعلومات الخفيفة عن أمور شتى ، وكنا أيضاً نوفر له على الدوام كراسات الرسم المختلفة ليقوم بتلوينها كما يشتهي ، وكانت هذه من أحب الأشياء إلى قلبه ، حتى إن ملابسه وأجزاء من جسده لم يسلما من التلوين والتلطيخ ، وأيضاً وفرنا له الكثير من كراسات القصص القصيرة التي تعتمد على تـوصيل أحداث القصة له عبر الصور فقط ، وكانت هذه الوسيلة تتعبني بعض الشيء ، لأنه كان يجبرني ويجبر زوجتي في البداية على أن نحكي له كيف أن القصة تتكامل من خلال الصور ومع الأيام فُتن بهذه القصص لدرجة أنه استطاع أن يملأ أدراجاً منها ، والطريف في الأمر ، إنه كان يخفي هذه الوسائل عن فروحة لكي لا تعبث بها كعادتها ، ولكنه اقتـنع في النهاية أن فروحة شريكته الدائمة في الاستمتاع بتلك الوسائل ، وأخذ فيما بعد يستعرض أمامها شيئاً من معلوماته وفنونه واكتشافاته ..

( 14 )

وأخيراً سيلتحق حمّودي بمرحلة الروضة بادئاً بذلك أولى خطواته التعليمية في المشوار الطويل ، وسنجدهُ يجلس في الصباح البـاكر مرتدياً الزي الخاص للمدرسة ، وستضع له زوجتي العزيزة ( سندويشته ) المفضلة ، وسيحمل حقيبة ثقيلة مدججة بالكتيبات والكراسات وعـلب الألوان والأقلام ، وسيذرفُ بعض الدموع حينما نتركه في المدرسة وحيداً يستقبل يومه الأول وسط حيرته وذهوله ، وسيكون له أصدقاء وصديقات ، وسيحكي لنا عن عالمه الكبير هذا أشياء جديدة لم نسمعها منه من قبل ، وسيذكر لنا أسماء مدرساته ، وسيخلد للنوم مبكراً يحتضن أحلامه الجديدة متهيئاً لليوم التالي ، وسيطلب منا أن نشتري له الحاجيات التي ستطلبها المدرسة منه ، وستقوم زوجتي بالاهتمام جيداً بهندامه وتسريحة شعره وتلميع حذائه ومتابعة دروسه ، وسيطـلب المزيد من الكراسات للتلوين والخربشة والعبث اللذيذ ، وسيرتبط بعلاقـة حميمية مع أدوات ووسائلَ قريبة منه ( كالمحاية ) و ( البراية ) و ( المسطرة ) ، وأعرفُ أنه سيطلب الأشكال الملونة التي تـكون على هيئـة ( نجمة ) لكي يلصقها على كراساته ودولابه وحقيبته وحتـى على ملابسنا ، وسأستمتع بكل لحظةٍ أجده فيها يقوم بترديد ( الأنشودة ) التي يصدح بها في طابور الصباح ، وسأحرص على جلب ( الشوكولاته ) التي يحبها ، وسأعمل على دسّها خفيةً في حقيبته ..

كل تلك الأشياء الجميلة تزاحمت في روحي دفعةً واحدة وأنا أتطلع ُ إلى اليوم الذي أجدها ماثلةً أمامي أستمتع بها لحظةً بلحظة ، وعلى حين غرة سألتني زوجتي العزيزة وأنا غارق في ذلك الزاحم اللذيذ من تدفق الأشياء الرائعة في مخيلتي : يا محمود أين وضعت مفاتـيح السيارة ؟ فأجبتها من فوري : في حقيبة المدرسة ..

بينما كانت زوجتي في خضم التجهيز لاستقبال اليوم الدراسي الأول لحمّودي ، كنتُ أنا سارحاً في ذكريات قديمة تعود إلى العام ( 1966 ) تحديداً يوم التحقت بروضة ( بلقيس ) الكائـنة في منطقـة ( الدسمة ) والتي كانت تُسمى في تلك الأيام بمنطقة ( واو ) !! فقلتُ لزوجتي : أتصدقين ، لا زلتُ أتذكر أيام ( الروضة ) ، والله أيام زمان ، أيامنا كانت غير أيامكم هذه !!

ما أتذكره جيداً أني كنتُ متمرداً ، لا أحب الذهاب إلى ( الروضة ) وكان أبي وأمي يحاولان معي بشتى الطرق عبر الاغراءات العديدة والحيل المختلفة حتى لا أزعجهما بتمردي المستمر ، وعندما كانت والدتي الحبيبة تحكي لنا أنا وأخوتي عن ذكرياتها معي في تلك الأيام كانت تقول دائماً : محمود كان الوحيد من بينكم ( راسه يابس وعنودي ) ، وكنا نعاني معه كثيراً ، فكان يعترض على كل شيء ، بدءاً من الزي وانتهاءً بالحذاء ، ولم نصدق كيف استطعنا أن نجاريه ، ويُنهي مرحلة الروضة على خير ، فكنتُ أقول لها مبتسماً : تمنّي ألا يرث حمّودي هذه الصفة مني ..

ولكن رغم ( تمردي ) إلا أن أيامنا في الروضة كانت جميلة جـداً ، حيث كنا محاطين بعناية حانية ورقيقة من قِبل ( المدرسات ) والإدارة ، وكان وقت تناول وجبة الإفطار بمثابة النزهة الجميلة ، ننتظره بفارغ الصبـر ، نستمتع من خلاله بالأكل والضحك والفرفشة ، وكان الإفطار شهياً ، قطعة من ( التوست ) الطري وكوب من حساء العدس اللذيذ ، وفي بعض الأحيان طبق من ( العجّة ) اللذيذة ، وخلال فترات اليوم كانوا يوزعون علينا علبة من العصير وقطعة من ككاو ( الكت كات ) الأصلي ، أما في فترة الظهيرة كان علينا أن نرتاح في ( الأسرّة ) المخصصة للنوم زهاء ساعة من الوقت ..

أتصدقين ، كنا ننام في ( الروضة ) وكان الدوام ينتهي تقريباً وقت العصر ، كانت أيام جميلة ، وليس مثل أيامكم وأيام حمّودي هذه ، فقالت لي : ( باين ) من صورتك التي ما زلتَ تحتفظ بها أيام كنتَ في ( الروضة ) وتصرُّ على أن يكون موقعها دائماً في مقدمة الصور على المنضدة ( خد متورد ) وطلّة بهية ، فقلتُ لها : ولم أزل يا حلوتي محتفظاً بذلك الرونق الأخاذ ..!! فقالت وهي تكتم ضحكةً هادرة : عدااال يا الحلو ..!!

( 15 )

صحا من نومه حمّودي في صبيحة ذلك اليوم ( التاريخي ) المجيد تعانقه ( فلاشات ) الكاميرا الفوتغرافية وهو يرتدي بدلته الزرقاء ( المقلّمة ) استعداداً للذهاب إلى الروضة في أول يوم له ، وبينما كانت فروحه تجلب له حقيبة المأكولات الصغيرة ، انشغلت زوجتي بوضع آخر اللمسات الفنية على هندامه ، في حين كنتُ أنا أتلذذ بكوب الشاي ( المنعنع ) ، وتركت أمي الحبيبة قبلة حانية على خدهِ وهو يخرج من المنزل ، وفي طريقنا إلى السيارة يتوسطنا حمّودي بابتساماتـه المُلهمة ، طلبَ منا أن نرافقه كظلهِ ولا نبتعد عنه قيد أنمله حينما يدخل ساحة الروضة على الرغم من إننا قد وضعناه نفسياً في الجـو الخـاص للروضة قبل فترة معقولة ، وهيّأنا له الأجواء المناسبة لاستقبال هذا اليوم ، إلا أن مخاوفه كانت واضحة في عدم قدرته على الإمساك ( بتلابيب ) العالم الجديد الذي وجد نفسه فيه للمرة الأولى ..

هالهُ في البداية تدافع وتزاحم السيارات في الشوارع في الصبـاح الباكر من ذلك اليوم حيث لم يألف مشاهدة هذه الزحمة في شـوارع منطقتنا من قبل ، فسألني مندهشاً : على ماذا تتكالب هذه السيارات !؟ وما سبب هذه الزحمة الكثيفة ؟ أجبته بكثير من الانشراح : يا حبيبي ، العلم نور ، وكل هؤلاء يريدون تلمّس انبعاث النور في يومهِ الأول .! فالتفتتْ إليَّ زوجتي تطلق في وجهي ابتسامة منشرحة وهي تخاطبني : يا محمود ( يوز من هالكلام ) ، فحمّودي إلى الآن لم يطّلع بعمق على مواهبك ( الفلسفية ) ، حاول يا عزيزي أن تخفف منها في الوقت الحالي ، وتوجهتْ بالحديث من فورها لحمّودي قائلةً له : يا حبيبي هؤلاء يريدون أن يُثبتوا حبهم الكبير للدراسة ، فقلتُ له سريعاً : صحيح ، الحب قوة الدفع الأولى نحو عالمٍٍ نصنعه بأيدينا ليبقى جميلاً في عيون أطفالنا !! ضاق حمّودي ذرعاً ( بفلسفتي ) فقال لوالدته متبرماً : بابا ذبحنا شنو يقول !؟

عند مدخل بوابة الروضة توقفَ حمّودي فجأةً ، وكأنه قد أخطأ في العنوان .!! وظلّ هكذا للحظات قصيرة ، ثمَّ التفت بعدها إلى والدته يسألها : هل هذه مدرستي !؟ فردت عليه : نعم ، اطمأنَ قليلاً ، ومضى في خطواته يتلفتُ يميناً ويساراً ، وكأنه يبحث عن شيء قد رسمه في مخيلته ..

أصرَّ على أن يحمل حقيبته بنفسه ويجرها بين الحين والآخر ، وكأنه يريد أن يقول لنا إنه يستمتع بهذا العمل على الرغم من تعثرهِ بها بين كل خطوة وأخرى ، انتبه فجأةً أن عليه أن يتوجه إلى ( الفصل ) كما أوضحنا له ذلك سلفاً ، فأخذَ يطلب منا أن نتوجه به إلى هناك ، وبعـد البحث والتقصي اهتدينا إلى ( فصله ) المحدد ، استقبلته ( الأبلة ) بابتسامة وديعة ، فبادلها هو الآخر بابتسامة خجولة وفي عينيه ترقد دهشة صغيرة ، أجلسته ( الأبلة ) على أحد المقاعد ، وبقربه كان يجلسُ طفل يغالب دموعهَ ، التفتَ إليه حمّودي وأخذَ يشدُّ من أزرهِ ببعض من دموعه المدرارة .! فهمستُ لزوجتي مبتسماً : يبدو أن ( مناحة ) طويلة سيشهدها هذا اليوم ، ولم تمر سوى لحظات حتى ضجّتْ قاعة الفصل ( بسمفونيات ) بكائية ، بينما كانت ( الأبلة ) مع بعض أولياء الأمور المتواجدين في الفصل يبذلون جهداً للتخفيف من حدة البكائيات التي انفجرت في كل أرجاء الفصل وكان من الصـعـب السيطرة عليها ، وبمجرد أن يتوقف حمّودي والمجموعة القريبة منه عن ذرف الدموع بعض الوقت ، أبادرُ فوراً إلى انتزاع الابتسامة منهم ببعض من التعليقات السريعة المضحكة ، وبعد أن توقفت الدموع عن الهطول قليلاً اقتربتُ من حمّودي هامساً بأذنه أن يكفَ عن البكاء وإلا أخبرتُ فروحه بالحقيقة ، فنظرَ إليَّ ممتعضاً وهو يتحشرج بكلمته المعتادة : ( انزززززين ) ، وطلبتُ منه أن يستمتع ببقية يومه ، فقال : ( اشلون ) بابا ؟؟ فقالت له زوجتي : حاول أن ترسم بالدفتر ، وتتابع مع ( الأبلة ) ، فقلتُ له : لا يا بابا ، حاول أن تقضي الوقت في تبادل الحكايات الشيقة مع زميلاتك الجميلات في الفصل ..

( 16 )

وأنا أهمُّ بالخروج إلى العمل في صباح ذلك اليوم الباكر ، قلتُ لزوجتي سأتولى هذا اليوم أمر الإتيان بحمّودي من المدرسة ، فقد تملكتني رغبة جامحة في الذهاب إلى حمّودي وقـت ( الهـدة ) بعد أيام قليلة من بدء دراسته في الروضة ، في الحقيقة لا أدري ، ربما حنيني إلى إيقاظ ذاكرتي التي لم تعد قادرة على التقاط الأشياء الصغيرة ، تلك التي كانت تمثل لي عالماً من البهجة والسرور في وقت ( الهدة ) أيام دراستي سببٌ في اشعال تلك الرغبة ..

فبعد أن استعدتُ ذكريات اليوم الدراسي الأول حينما وقفتُ بكل شوق أنظر إلى حمّودي في طابور الصباح وأنظر إلى مشهد انصراف الأطفال إلى الفصول المخصصة لهم ، أخذني الحنين لأستحضر ذكريات وقت ( الهدة ) ، ولذلك كنتُ متشوقاً لمشاهدة هذه اللحظة ، لأقرأ في وجوه الأطفال وحمّودي ، ماذا تعني لهم لحظة ( الهدة ) ، بعد أن كانت تعني لنا ولجيلنا لحظة الهروب الكبير من المعتقل ، حيث كنّا قبل وقت ( الهـدة ) بدقائق قليلة نُطلق بكل عفوية بعض الأهازيج الحماسية ونحن نستقبل نسائم الحرية التي كانت تهلُّ علينا من خارج أسوار المدرسة ، وأعترفُ أن أيامنا تلك تختلف تماماً عن أيام حمّودي ، وما كنا عليه من ( شيطنة ) لم تعد موجودة بنفس القدر في أيامهِ هذه ، إلا أن طقوس ( الهدة ) وما كان يرافقها بالنسبة لتلك الأيام وهذه لا تختلف في كونها اللحظة الحاسمة التي ينتظرها التلميذ بفرح وبهجة ، متحرراً من همينة النظام والقيود والأوامر ، وربما هذه اللحظة وما تشكله من فرح آني يتكرر مشهده نهاية كل يوم دراسي بمثابة الأمل الذي يبقى ينتظره التلميذ بشوق وتلهف ، وكان لرنين صوت ( الجرس ) الذي يتردد صداه على مسامعنا كل يوم معلناً نهاية ( الحصّة ) الأخيرة وقع خاص ونغمة محببة في آذاننا وعلى نفوسنا ..

وبينما كنتُ سارحاً في ذكريات أيامي تلك وأنا أنتظرُ وقت ( الهدة ) في سيارتي خارج سور الروضة ، انتبهتُ إلى الوقت فجأةً ، وإذا بي قد تجاوزتُ وقت ( الهدة ) بربع ساعة ، فذهبتُ مسرعاً إلى حمّودي لأجد ( الأبلة ) تحرسه بينما كان يغط في نوم عميق ..

بعد مرور شهر على انتظام حمّودي في الروضة ، عكسي أنا تماماً حيث لم أطق يوماً الانتظام على مقاعد الدراسة ، تلقينا دعوةً لحضور فعاليات اللقاء التنويري الذي تقيمه إدارة الروضة لأولياء الأمور ، وبما أني جديد على هذه العوالم التنويرية ، أجلستُ حمّودي بقربي طالباً منه بنبرة التودد أن يمنحني من وقته الثمين بضع دقائق قبل أن ينصرف إلى اللعب مع أخته فروحة ، وطلبتُ منه بشكل شخصي إيضاحاً موجزاً عن حيثيات هذا اللقاء ، لكني لم أفهم منه سوى أنه بصدد القيام بأداء بعض المهام الحركية والغنائية في شيء يشبه الأوبريت الغنائي ، فحملتُ السؤال ذاته إلى زوجتي ، وقلتُ لها إن إجابة حمّودي لم تكن كافية لتنويري ، فأخذت زوجتي تسرد لي تفاصيل اللقاء التنويري ، وإن الهدف من إقامته أن يقف الوالدان على طريقة إعطاء الدروس للتلميذ ، ومعرفة مدى تجاوب وتفاعل التلاميذ مع ( الأبلة ) وقت الشرح والتدريس ، وسيتخلل اللقاء بعض الفقرات الغنائية والموسيقية والمسرحية ، وكان حمّودي أثناء ما كانت زوجتي تشرح هذه التفاصيل يوميء برأسه بين الحين والآخر دلالة الموافقة والثناء على كلام والدته ، وقبل أن تنصرف زوجتي لأداء باقي مهامها ، قالت لي : هل تنوّرت عزيزي ؟ فأجبتها سريعاً : نوركِ يكفي عزيزتي ..



#محمود_كرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الحر في مواجهة التخلف والأدلجة
- تلك الأنثى الحُلم
- الموروث الديني وثقافة الخوف
- عن حق الإنسان في التفكير والاختيار
- العقل وصراع المفاهيم
- أيها الألم كم أنتَ جميل !
- التعصب الديني وصناعة الكراهية
- الرفض .. جمال الموهبة وشجاعة التمرد
- تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 4 ) الأخيرة
- تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 3 )
- تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 2 )
- تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 1 )
- الكاتب العربي .. أين يقف .؟
- العقل في معركة التحرير
- أشخاص ومواقف
- القراءة ... ممارسة الحضور الذاتي
- رحيق المواقيت المقدسة
- في العلاقة ما بين الأفكار والوقت
- أشخاص ومواقف 1
- الحياة أصغر بكثير


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمود كرم - حمّوديات