أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم عليان - سيمفونية الحج رواية















المزيد.....



سيمفونية الحج رواية


عبد الكريم عليان
(Abdelkarim Elyan)


الحوار المتمدن-العدد: 2147 - 2008 / 1 / 1 - 09:36
المحور: الادب والفن
    



نص تسجيلي لرحلة الحج من فلسطين إلى مكة

الإهداء

إلى كل عربي يبحث
في كل الأوطان عن وطن له ...
وإلى الخالد الوحيد في التاريخ المعاصر .. الذي حاول أن يجعل الأوطان العربية وطنا واحدا ..


( نخل )
والحافلة 36

ملعب اليرموك بغزة كان ومازال الساحة الكبيرة التي تستخدم لمناسبات مختلفة ، غير المناسبات الرياضية التي خصصت لها . هذه المرة كانت لتنظيم أفواج الحجاج الذين سيرحلون عن الوطن إلى الأراضي الحجازية لأداء مناسك الحج … اكتظت الساحة بالحجاج والجماهير المودعة .. زغاريد وصراخ .. فرح وحزن .. غوغاء ، أقاويل وإشاعات عن انفجارات وعمليات فدائية ضد المستوطنين بالقرب من مستوطنة ( كفار داروم ) المقامة على أراضي دير البلح .. الطريق إلى رفح مغلق وقد يتأجل سفر الحجاج إلى يوم آخر ..
تجمع حجاج الفوج الثاني في حافلاتهم ، ثم بدأت التحرك متجهة إلى معبر رفح ، ومن ثم إلى الأراضي الحجازية عبر سيناء ثم الأردن ..
عند مرورنا الشارع بجانب ( كفار داروم ) شاهدنا من نوافذ الحافلة الطريق مسدوداً ، ولا أدري كيف سمحوا لنا بالعبور من المكان .. جنود وضباط وقيادات من الجيش .. ثلاثة تغطي رؤوسهم (القبعات) التي يتصف بها المتدينون كانوا يلتقطون عن الأرض شظايا وبقايا المتفجرات التي تناثرت في المكان ثم يعبئونها في أكياس من النايلون .. مرت قافلتنا بسرعة ولا أحد منا استدرك ما حدث ، ولا أحد استحوذ ه الفضول لأن يعرف ما جرى .. يبدو أن الذهول ارتابهم ، أو تملكهم السكون والنسيان نظرا لأنهم متوجهون للعبادة ، وأن شعائر الحج ابتدأت منذ اللحظة الأولى لسفرهم …

في الساعة الثانية بعد الظهر انتقلنا إلى الجانب المصري من معبر رفح الحدودي ، حيث كانت في انتظارنا حافلات أخرى تم استئجارها من الشركات المصرية ؛ لتقلنا كل رحلتنا الطويلة حتى عودتنا .. منذ البداية اتضح لنا حجم المعاناة التي سنواجهها طيلة الرحلة ، فالحافلات جديدة وشكلها أنيق إلا أن مقاعدها ضيقة ومتراصة خلف بعضها ، ولن تسمح لراكبها أكثر من أن يعقف رجليه إلى أسفل بزاوية حادة ! ولا يمكن للأرجل أن تنفرج عن الزاوية القائمة ، ناهيك عن الممر الضيق الذي يتوسط صفي مقاعد الحافلة ، ولن يسمح لك المرور فيه بشكل عرضي نظرا لضيقه الشديد ، إضافة إلى النوافذ المغلقة التي لا يمكن فتحها حين اللزوم؛ فيمكن لمكيف الهواء أن يعطب في كل لحظة .. أو ربما يستغل ذلك السائق لابتزازنا كي ندفع له ( إكرامية ) كما يسميها المصريون ، وهذا ما حدث لاحقا في أثناء الرحلة ..

قال لي أحد الحجاج قبل السفر : إن وزارة الأوقاف المسئولة تماما عن الحج قد استدركت الأخطاء ، واكتسبت العبر من المرات السابقة .. قلت له : إننا سنواجه أخطاء وإشكاليات أخرى هذه المرة وقد تكون أتعب وأعقد من المرات السابقة ، لا أعرف كيف تملكني هذا الإحساس .. ربما من تصرفات بعض المنظمين لعملية الحج ..
تجمعنا في الحافلات وبدأت القافلة السير في صحراء سيناء متجهة إلى ميناء نويبع .. الحافلة التي تقلنا كان على متنها سبع وعشرون حاجة وثمانية عشر حاجاً ، وتحمل الرقم ( 36 ) ، إضافة إلى اثنين ، قال لنا أحدهم : إنه الإداري المسئول عن حجاج هذه الحافلة خلال هذه الرحلة .. بدا لي أنه بسيط ولا تبدو عليه ملامح أخرى .. وقال الآخر : إنه الشيخ الواعظ والمرشد الذي سيكون معنا ويعلمنا مناسك الحج ـ بإذنه تعالى ـ شكرنا الله على وجود اثنين آخرين معنا .. قيل أنهما طبيب ومساعدته ، كانت تلتصق به في المقعد كعصفورين من عصافير الحب .. لا يفارقان بعضيهما .. حمّلا عدة صناديق للأدوية وضعت في المقاعد الخلفية للحافلة ، فيما بعد فهمنا أنهما مسئولان عن صحة حجاج القافلة التي تبلغ ثماني عشرة حافلة ..

تعرفنا إلى السائق ورحبنا به ، قلنا : إننا والمصريين أخوة في العروبة والإسلام .. همست لوالدتي أن تعيد ما أقول داعيا لله  بسملت ، وقلت : " سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون .. اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وسوء المنقلب في المال والأهل .. " ، تساءلت في ذاتي : لماذا لم يدع المرشد الحجاج لترديد دعاء السفر ؟ ربما أنه لا يعرف ؟.

أشرفت الساعة على الثامنة مساء .. استراحة في بلدة (نخل) بسيناء .. توقفت جميع حافلات القافلة أمام أحد المطاعم بجانب محطة لتزويد الوقود للسيارات المسافرة .. نزل الحجاج من حافلاتهم ، منهم من دخل المطعم وطلب وجبة ، ومنهم من ذهب للوضوء لصلاة العشاء والمغرب جمع تقصير .. لم أشعر بالجوع فذهبت إلى حيث الوضوء .. نزل الماء من الصنبور شحيحا .. أكملت وضوئي بصعوبة ، صليت واسترحت قليلا .. نظرت حولي عسى أن أجد شيئا في هذه الأرض اليباب .. قفراء ومخيفة ، إنها صحراء التيه .. قاحلة لا أحد يمكنه العيش فيها ، لا أعتقد بأن يسكنها إنس .. سوى نفر قليل ممن يقدمون الخدمة للمسافرين على الطريق ..

اللاجئون في قطاع غزة يحملون في ذاكرتهم أشياء مخيفة عن هذه الصحراء .. لا أحد منا يحب ذلك الفيف ، منذ انتفاضة مارس 1955 .. ضد مشروع التوطين ، انتفض سكان قطاع غزة بأكمله معلنا رفضه للمشروع ، وما كان من البوليس إلا مواجهة الجماهير المنتفضة .. فسقط العديد من الشهداء والجرحى .. وكما قيل حينئذ : " المشروع الذي كتب بالحبر .. انمحى بالدم .. "

سألت والدتي إن كانت تحتاج شيئا .. شعرت أنها بحالة غثيان ، استدعيت لها الطبيب ، فأعطاها قرصين .. يبدو أن ذلك دوار السفر ، ونصحها بتناول بعض الأكل .. ألححت عليها بتناول الطعام فرفضت ، وقالت لي : لا تنزعج ! تناولت الدواء وقليل من الماء .. تركتها تستريح .
أحد الحجاج في متوسط العمر يحاول إشعال قطعا من الفحم لنار جيلته الصغيرة .. ساعدته في ذلك بحرق قصاصات من الكرتون .. أحد رجال الأمن المصري حضر مسرعا عندما شاهد أوار النار .. أخذ يبحث عن شيء لإطفائها ، وصرخ فينا بأن نطفئها قبل أن يرانا أحد .! كانت النار قد أمسكت بقطع الفحم المراد إشعالها ولهب الكرتون بدأ ينهار لوحده .. التقط صاحبي قطع الفحم المشتعلة وبدأ ينفث الدخان من نار جيلته العامرة .. فهم الجندي مغزى النار ، وقال : لماذا كل هذا التعب أيها الحاج ..؟ وحثنا بأن نطلب ( الشيشة ) من المطعم .. رد عليه صاحبي : لا يوجد عندهم ( تمباك ) ففي مصر يعرفون ( المعسل ) ، لم يعجبه الرد ، وطلب منا بأن نحافظ على الأمن والهدوء ، وأخذ يدور من حولنا ..
تجمع الحجاج في حافلاتهم وبدأت القافلة بالسير في عمق الصحراء الجبلية ..



الرابية



كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل ، وصلنا إلى ميناء نويبع على البحر الأحمر ، فنزلنا من الحافلة وسط ساحة كبيرة مباشرة لساحل البحر .. أقيم في أحد أطرافها مسجد ، وعدد من الغرف قد تكون مكاتب رسمية .. ومظلة ليست كبيرة ودكانا عاديا به أشياء مختلفة ، اتضح لنا بأن انتظارنا سيطول .. ريثما يعود المركب الذي سينقلنا عبر البحر إلى ميناء العقبة الأردني .. كانت فرصة لي للنوم بعيدا عن مقعد الحافلة الضيق .. سحبت كيس النوم الذي أعطاني إياه صديق ليلة السفر حين وداعه لي ، حيث قال لي هامسا : بأن هذا الكيس سينفعك كثيرا .. فرشته على الأسفلت ودخلت فيه طالبا النوم …
أيقظني أحد الحجاج ، قائلا : إننا سنركب البحر ! لففت الكيس ووضعته على رف الأتوبيس ، صاح الإداري في الحجاج : كل حاج يأخذ حاجته من الأكل وجواز سفره ويتوجه إلى البحر حيث يرسو المركب الذي سينقلنا إلى ميناء العقبة .. الشمس لم تشرق بعد ، توجهنا إلى البحر وصعدنا إلى المركب .. تساءل الجميع عن الحافلة وحاجياتنا التي تركناها فيها ، قالوا : إنها ستلحق بنا في السفينة ( العبارة الكبيرة ) ، إذن لماذا لم نركب بها مع حاجياتنا ؟ لا بد أنها لا تليق بنا ! أو أنها مخصصة فقط للشحن .. أخذ المركب ينهب البحر بسرعة عجيبة .. ستون دقيقة ونكون على رصيف العقبة ، مقاعد المركب جميلة ومريحة ، شبهها أحد الركاب بمقاعد الطائرة .. تحت المقعد سترة للنجاة ، بدا على وجوه الحجاج الأرق والنعاس ، ومنهم من استغرق في النوم بعد لحظات، جاء أحد العاملين يجر عربة أنيقة ، تحمل أباريق ومواد أخرى .. إنه يبيع الشاي والنسكافيه ، سألته إن كان لديه قهوة عربية ، أجاب: فقط قهوة النسكافيه ، إنها تشبه قهوتنا ، استغربت من الأمر! نظرت إلى أمي وبجانبها صاحبتها أم مروان ، عرضت عليها شرب الشاي الساخن فكانتا متلهفتين لذلك ؛ ابتعت ثلاثة أكواب .. بعد شربها استرخت أعصابنا المشدودة .. وقفت أتمشى قليلا في ممرات المركب أبحث عن مكان أدخن فيه سيجارة ! صعدت سلما ينقلني إلى الطابق الثاني ، فوجدت قسما في مؤخرة المركب مكشوفا على البحر .. استنشقت نسيما عليلا بعث في روحي انتعاشا مريحا ، أخرجت سيجارة وأشعلتها ، سحبت نفسا عميقا ونفثت دخانا كثيفا .. سحرتني السماء الصافية ولون البحر الأزرق .. لماذا يسمونه بالبحر الأحمر ؟ لعل السبب هو : لون الجبال الممتدة على الساحل تميل إلى اللون الأرجواني ..
هبطت إلى الطابق السفلي وإذا بي أمام ركنٍ يبيع السجائر والخمور والعطور وأدوات للتصوير .. عرفت حينها أن المركب مخصصا للسياحة ، تساءلت : ألا يعلمون أننا حجاج مسلمون ؟ لماذا لا يحافظون على مشاعرنا ؟ ويخفون زجاجات الخمر التي تملأ واجهة العرض ..؟ دفعت ثمن قرطاس من السجائر ، أخذته وجلست في مقعدي .. بدأت أراقب وصولنا إلى ميناء العقبة .. نظرت باتجاه الغرب لأشاهد آخر جزء جنوبي من وطني المسلوب، أم الرشراش .. يسمونها ( إيلات ) حتى الاسم سرقوه من تراثنا الكنعاني .. أم الرشراش تحد العقبة من الغرب .. إذن لماذا هذا الالتفاف عبر سيناء ؟ قسموا أوطاننا كي نعيش غرباء فيها .

التصق المركب برصيف الميناء ، نزل الحجاج .. كان بانتظارنا قاطرات طويلة تشبه لعب الأطفال إلى حد ما .. نقلتنا من الرصيف إلى صالات الميناء .. جلسنا في ركن من الصالة الجميلة، أخرجت أمي بعض الطعام ، ساندويتشات كانت زوجتي قد أعدتها لي ساعة السفر ، غسلت وجهي ويدي واسترحت .. كان يجلس بجانبي شاب وامرأتان ، حدقت النظر في الشاب كأني أعرفه، سألته إن كنا نعرف بعضنا الآخر ، قلت له :
ـ ابن جباليا .. وجوهنا مألوفة .
ـ أنا أعرفك من خارج المخيم أيضا ، اسمك محمد ، أكنت في لبنان عام 1979 ، التقيتك هناك ؟
ـ أجل ، ذكرى بعيدة .. أكثر من عشرين سنة !
ـ اليوم نلتقي أيضا خارج الوطن .. في رحلة جهاد ، كما كانت الرحلة الأولى ـ رحلة التعليم ! أأكملت تعليمك ؟
ـ نعم ، حصلت على ليسانس في اللغة العربية .
ـ أين تعمل الآن ؟
ـ أعمل داخل البيت في مهنة آبائي القديمة ( النول ) النسيج اليدوي .. أعرفك بوالدتي وزوجتي ..
ـ مرحبا بكما ، حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور ـ بإذن الله .
انضم الثلاثة إلى مائدتنا .. عرفتهم بوالدتي وصاحبتها ، لحظات ونادى المسئول : على حجاج الباص رقم 36 التوجه خارج الصالة للانتقال من هذا المكان .. انتصبنا وانتقلنا إلى الخارج ، أحضروا لنا سيارات ( مايكرو باص ) فركبناها وبدأت تغادر بنا حدود الميناء .. ابتعدنا عن البحر قليلا .. هذه مدينة العقبة عن يسارنا ، عن يميننا كان مخيم اللاجئين الفلسطينيين ـ بيارق الأمم المتحدة ترفرف فوق مدارس ومؤسسات المخيم .. لا شك أن قضيتنا كبيرة كبر وجودنا في كل مكان ! ابتعدنا بضع كيلو مترات عن مدينة العقبة إلى الشمال الشرقي في الصحراء القاحلة . نحن أمام مدخل مكان يدعى ( الرابية ) .. سجن أعد خصيصا للمسافرين كنوع من الحجر ريثما يتم تنظيم سفرهم ..

في الرابية هذه ، شوارع و مواقف للسيارات ، مطبخ وصالة كبيرة ، كشك لبيع السجائر والشاي والفطائر السريعة ، أمام الكشك مظلة انتظار كبيرة انتصبت بها مقاعد ثابتة استخدمها البعض أَسرَّة للنوم ، تحيط بها أكوام من الزبالة يتراكم عليها أسراب من الذباب والناموس .. غرف متباعدة بين شجيرات صفراء من شح الماء والعناية ، مصلى صغير ، حمامات ، مكاتب للإدارة والاستعلامات، أمام البوابة يجلس حارسان بدون سلاح ..
توقف المايكرو باص الذي يقلنا عند حافة مظلة الانتظار القذرة ! في البدء لم نكن نعرف غيرها ولم يدلنا أحد على الاستراحة في مكان آخر ؟ اكتشفت فيما بعد أن بإمكاننا استخدام الغرف المتباعدة .. الطقس كان شديد الحرارة ، والكل يتساءل ما الذي يجري ؟ لماذا كل هذا الانتظار ..؟ وماذا ينتظرنا بعد ؟ الانتظار هو ( قطعة من نار ) في السفر .. هل هذا ينطبق على كل الجنسيات العربية ؟ أم على الفلسطينيين فقط ؟؟

كنت مسافرا إلى الشقيقة لبنان عبر الأردن ثم سوريا .. عند دخولي لمكان ختم الخروج في الجانب الأردني من الحدود ، قرأت أربعة عناوين تعلو شبابيك تقديم الجوازات ، كان عليَّ التوجه لإحداها : الأردنيون ، السوريون ، العرب ، الأجانب . ذهبت إلى شباك العرب حيث دفعني دمي الذي يجري في عروقي .. هناك تفاجأت بأنني لست من بين هؤلاء الأربعة ؟ إذن من أنا ؟ ( عفريت .. ) أشار لي الموظف بالتوجه إلى غرفة مقابلة ـ موصدة المدخل ـ ولا يعلوها أي عنوان .. إذن أنا بدون عنوان .. أنا من حيث لا مكان .. أنا الدائم الترحال ..

جلسنا جميعا تحت مظلة الانتظار الكبيرة .. مجموعتي كبرت ، بعد أن كنت أنا ووالدتي أصبحنا عشرة أم مروان وصاحبي وزوجته وأمه والعجوري وزوجته وأبو العبد ووالدته . كنت الأصغر سنا والأكثر تجوالا وسفرا ، أخذت أبحث عن مكان نأوي إليه يكون أكثر راحة من مظلة الانتظار القذرة .. قادتني خطواتي إلى استعلامات الرابية بدون تخطيط ، رحب بي الموظف، وقال : إن الغرف مكتظة بالحجاج ، ويوجد من بينهم ينتظرون منذ الأمس . إلا أنه أبدى استعداده أن يشاطرني البحث عن غرفة شاغرة ؛ بينما نحن نسير بين الغرف شعرت بأننا في معسكر للجيش .. أخذني إلى غرفة بعيدة . الغرفة كبيرة بعض الشيء تحتوي على ثمانية أسرة قديمة ، قال لي : بإمكان مجموعتك الاستراحة هنا .! ولا تقلقوا كثيرا ، الكل سيسافر اليوم.. عدت لمجموعتي ووجهتها للحاق بي .. بينما نحن سائرون ، ميكرفون الرابية ينادي :
ـ في الثانية ظهرا ، ستقدم الرابية وجبة غداء ساخنة للحجاج الفلسطينيين . وقال : مقابل الساعة الثالثة عندكم ..
صديقي الذي استلقى على السرير لحظة وصوله الغرفة ، تساءل :
ـ معنى هذا أننا سنمكث وقتا طويلا هنا .. وربما نبيت هذه الليلة في هذا المكان ..
اقتربت الساعة من الثالثة ، صالة الغداء مكتظة بالحجاج ، منهم من وصل اليوم معنا ، ومنهم من وصل بالأمس .. الجميع ينتظر وجبة الغداء ، تصاعدت غوغائية شديدة .. لم نجد مقعدا خاليا ، افترشنا بطانية في إحدى الأركان وجلسنا نحن العشرة . قدم لكل منا صحن من الأرز ، وآخر من العصيدة به قطعة لحم ، ورغيف من الخبز ..
توضأت وصليت الظهر مع العصر واستلقيت تحت شجيرة أمام الغرفة ، تثاءبت وثقلت جفوني استدعاء للنوم . بعد قليل استيقظت وشعرت أنني بحاجة شديدة إلى فنجان من القهوة أو الشاي ، ليعمل على استرخاء ضلوعي المتشنجة ، لكنني لم أستطع الحصول عليه .. ما إن بدأ الليل يرخي سدوله وصلت حافلاتنا التي تركناها على شاطئ نويبع واصطفت في الساحة المخصصة لذلك في الرابية .. نادى مكبر الصوت :
ـ على جميع الحجاج التوجه إلى باصاتهم التي وصلت للتو من الميناء ..

صعدنا إلى حافلتنا رقم 36 ، كان كثير من المسنين الذين لا يجيدون القراءة يحومون حول الحافلات بحثا عن أصحابهم الذين يشاركونهم الركب ، عوضا عن عدم قراءتهم رقم الحافلة التي تخصهم .. تفقد الإداري جميع رعيته ؛ فافتقد أحدهم يدعى النجار ، وكان هذا طاعنا في السن لكن صحته جيدة وفي كل محطة واستراحة كنا نبحث عنه ، فلا نستطيع السفر بدونه . نزلت مع البعض للبحث عنه فعثرنا عليه بعد جهد كبير .. هذه المعضلة كانت تواجهنا كل يوم تقريبا .. مرة أخرى تأكد الإداري بأن الجميع جالسين في مقاعدهم ، وأشار إلى السائق بالتحرك .. أحد الحجاج سأل عن الطبيب وزوجته وأدويته ، رد الإداري : لا أعلم أين ذهب ولست مسئولا عنه .. لكن من المسئول إذا أصيب أحد بوعكة صحية ؟

في الليل الدامس انطلقت الحافلة تلتهم الصحراء الأردنية ، جلست بجانب السائق أكلمه ، كي أساعده على النشاط وأبعد النعاس من عيونه .. بين لحظة وأخرى كان يسرق بصري الإشعاعات المنعكسة من الأرقام والكلمات المكتوبة على لوحات الإرشاد المغروسة على جانبي الطريق .



الضابط والقهوة



أربعون دقيقة بعد منتصف الليل . وصلنا بلدة ( المدورة ) الأردنية التي تقع بالقرب من الحدود السعودية .. توقفت الحافلة في مكان يقبع وسط البلدة الصغيرة . المكان مخصص لذلك حيث كانت باصات عديدة تصطف في الساحة مثلنا .. في إحدى الأركان غرف تستخدم كمكاتب رسمية لفحص وختم جوازات السفر ، حمل الإداري جوازات سفرنا ، وطلب من الجميع بألا يبتعدوا كثيرا .. نزل الحجاج من حافلاتهم ، منهم من ذهب إلى دورات المياه ، ومنهم من أخذ يتجول في الساحة التي امتلأت بسطات لبيع الحاجيات المختلفة . قررت النزول والتجول بين هذه الباسطات .. ملابس متنوعة ، سجائر أجنبية ومحلية ، بشاكير الإحرام ، أدوات للحلاقة ، حاجيات مختلفة للمسافرين الحجاج بشكل خاص ..
جذب انتباهي من بين الحاجيات أسطوانة صغيرة لغاز الطبخ مع موقدها ، وكنت قد أحضرت معي أسطوانة مماثلة ؛ إنها وقود المسافر لتجهيز بعض الطعام .. وأكثر أهمية لصنع الشاي أو القهوة .
عند دخولنا الأرضي المصرية ، موظفو الحدود المصريون أفرغوا منها الغاز .. وأصبحت الاسطوانة حديدا مهملا لا يمكن استخدامها ، بل صارت لي عبئا إضافيا .. حينما مكثنا في الرابية حاولت ملؤها ، فلم أستطع كوننا في منطقة نائية ، وهنا في المدورة سألت إن كان بإمكاني شراء الغاز .. فأجابوني : في الصباح لأننا في منتصف الليل والمحلات مغلقة .. قررت شراء الأسطوانة الجديدة سيما أن ثمنها زهيدا وملأى بالغاز ، فرحت كثيرا لأنني سأرتشف القهوة بعد قليل .. حملتها وصعدت إلى الحافلة . أخبرت أمي بشرائها .. لحظات وحضر الإداري حاملا جوازات السفر بعد ختمها إذنا بالخروج من الأراضي الأردنية ، تفقد الإداري رعيته ، ومرة أخرى كان النجار مفقودا .. نزلت للبحث عنه . المكان ليس فسيحا وسأعثر عليه بسرعة ..
جذبته إلى الحافلة وبدأت بالتحرك نحو الحدود .. باشر الإداري تسليم الحجاج جوازات سفرهم ، ووجه عنايتهم بإظهار الصفحة التي ختمت بالخروج من ( المدورة ـ الأردن ) لأن ضابط الحدود يعنيه ختم الخروج فقط ! بمعنى أنه لا يتفحص صفحة إثبات الشخصية ..

إحدى الحاجات وهي أم صديقي محمد تفاجأت بأن جواز سفرها استبدل مع جواز امرأة أخرى من الحافلة التي سبقتنا ، والتي دخلت الأراضي السعودية .. اكتشفت ذلك من خلال صورتها الملصقة في الصفحة الأولى . عرف ابنها الحقيقة ، فقال الإداري :
ـ لا أهمية لذلك ، وكل ما هو مطلوب أن لا تظهر صفحة إثبات الشخصية ، وتبقي على إبراز ختم الخروج وعندما نلحق بالأوتوبيس الذي سبقنا سنستبدل جواز السفر .
صديقي محمد لم تعجبه اللعبة والاحتيال على ضابط الحدود فرفض ذلك وأصر على إبلاغ الضابط بنفسه عن استبدال الجواز .

الفلسطينيون ترسخت لديهم عقدة الهوية التي يناضلون من أجلها سنين طويلة ، وما برحوا يقدمون التضحيات الغالية ؛ وهكذا تشكل لديهم هاجس الخوف .. ليس من اليهود الذين اغتصبوا أرضهم ، بل يسقطون ذلك على كل جندي مهما كان حتى لو كان ذلك من إخوانهم العرب .!

كنت مسافرا مرة إلى الشقيقة ليبيا ، بعد ختم جوازاتنا بالخروج من الحدود المصرية ، ركبنا الحافلة واتجهنا إلى الحدود الليبية .. الحافلة كانت تقل مسافرين عرب ، ليبيين ومصرين وتونسيين ومغاربة ، وثلاثة عشر فلسطينيا .. قبل وصولنا ضابط الحدود الليبية ، كان السائق المصري قد جمع جوازات سفر الفلسطينيين فقط . لأن ليبيا لا تختم دخول وإقامة للعرب .. فقط يفعلون ذلك مع الفلسطينيين ..؟ حال صعود الضابط الليبي إلى الحافلة سلمه السائق جوازات سفر الفلسطينيين التي جمعها منهم . الضابط الليبي لم يعجبه ذلك التصرف ! فطلب من السائق إعادة جوازات السفر لأصحابها ، ونزل من الحافلة .. بعد دقائق صعد الضابط مرة أخرى وجمع جوازات السفر من جميع المسافرين بنفسه ، أخذها جميعها إلى المكتب .. ختم دخولا للفلسطينيين وأعاد جميع الجوازات .. لم يلاحظ أحد التمييز بين الأخوة العرب لولا تصرف السائق المصري ؟!

توقفت الحافلة أمام ضابط الحدود الأردني ، نزل محمد لإبلاغ الضابط بمشكلة استبدال جواز سفر أمه .. صعد الضابط إلى الحافلة ، وبدأ بتفحص وثائق الحجاج بدقة ؛ بدلا من المرور بسرعة على ختم الخروج .. حالما انتهى من فحص جوازات سفر الحجاج قرر إيقاف الحاجة أم محمد إلى حين استبدال جواز سفرها الحقيقي ، وأشار بإمكانية مغادرة الآخرين ..
عرف الحجاج ما جرى فأبى الجميع أن تتحرك الحافلة إلا بمصاحبة الحاجة أم محمد .. تجهم وجه الضابط ، وقال :
ـ لماذا أنتم يا فلسطينيين دائما مشدودو الأعصاب وتغضبون لأي فعل ؟ وتحنقون بسرعة ؟ وتتخذون قرارات متسرعة ؟
رد أحد الحجاج :
ـ أنتم لا تعرفوننا .. أنتم تعرفون الأمريكي والأوروبي ، وتكرهون الأفريقي ، وتحبون الفلبيني والسيرلانكي ، وتعادون الروسي .. إنهم يجذبونكم .. عندهم الكثير من الإغراء ..!
وقال آخر :
ـ هدم سور برلين الشهير ، وانتهت الحرب الباردة ، واختفت الحدود بين الدول الأوربية المتعددة القوميات واللغات وانصهرت هذه الدول في بلد واحد .. أما أنتم ما زلتم تبنون أسيجة فوق أسوار حدودكم ، وتدفعون لتشطير الدولة إلى دول ..
وقال ثالث :
ـ لا نريد حدودا بين أوردتنا .. إن الله خلق هذه البلاد الواسعة للجميع ، هؤلاء السعوديون والعراقيون والأردنيون والسوريون و… من الذي قسم حدودهم ؟ هل هناك صكوك من الله بتحديد هذه المساحات وتمليكهم أكبر ثروة في العالم ..؟

لم يحتمل الضابط ذلك الحديث الساخن ، فانصرف إلى غرفته الخشبية .. ركب الإداري أول سيارة دخلت الحدود لإحضار دفتر الحاجة الذي سيدخلنا بلاد الأولين .
إذن انتظارنا سيطول .. فرصة لارتشاف القهوة التي افتقدتها أكثر من يومين . المكان فسيح وجميل على خلاف أماكن حدودية أخرى من الوطن الكبير .. أشجار الكينياء تغطي الرؤية على جانبي الطريق ، وجندي الحدود يبتعد قليلا من هنا .. رصيف واسع يتوسط الطريق .. قبل سفري كنت قد أعددت حقيبة صغيرة بها ما يلزم لإعداد القهوة والشاي ، بالإضافة إلى قربة ملأتها من بيتي بالماء العذب الذي يحسدنا عليه كل سكان قطاع غزة لشدة عذوبته ، جلبت تلك المواد من الحافلة .. افترشت الرصيف ثم تربعت في جلستي كما يجلس العرب الأقدمون .. باشرت في صنع القهوة .. التف حولي بعض الحجاج حبا في مجالستي ، أو حبا في شرب القهوة .. لكنهم لا يحبونها مثلي ؛ لأنني تعودت أن أرتشفها قبل غسل وجهي صباحا ، وقبل بدء العمل وتباعا على امتداد النهار ، وجزء كبير من الليل ، وعندما يزورني أي شخص .. تذكرت شاعرنا العظيم ـ محمود درويش ـ وقهوة أمه .. ورده على أطباء القلب مازحا : " الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب ..! " . أبو العبد الذي يدخن التمباك البلدي شاهد جلستنا فطار جنونه .. إنه يعشق التراث ويصفونه بالمختار وفاتح بيته ملتقى للوجهاء وأهل الخير لإصلاح ذات البين .. هجم أبو العبد على جلستنا حاملا في يد ( نارجيلته ) الصغيرة وفي اليد الأخرى كيس التمباك وقطعا من الفحم ، وصاح فينا :
ـ كيف عثرتم على هذه الطريقة في الجلوس ؟ لا بد أن هذا الحاج الصغير هو الذي جذبكم إليها ، فأنا عرفته بالأمس عندما ساعدني في إشعال الفحم .
ـ أهلا بك يا أبا العبد ، تفضل استرح ، أنت بحاجة لإشعال الفحم مرة أخرى ، لا يوجد مشكلة فموقد الغاز سيسهل ذلك ..

بدأت رائحة القهوة من الانتشار في المكان الصحراوي الهادئ ، خاصة في الليل بعيدا عن ضجيج المدينة فالجلسة المريحة أطاحت من تعبنا كثيرا ، واختلست منا لحظات من التفكير في أننا على سفر طويل ، ولا أحد منا يمكنه التنبؤ بمفاجآته أو نهاياته ؟
الإناء الذي صنعت به القهوة لا يكفي لأكثر من أربعة أشخاص .. أخذ كل منا يرتشف القهوة بتلذذ كبير يفوق النشوة .. حضر ضابط الحدود وفي وجهه تودد وعلامات من الألفة .. يبدو أنه أحس بعنائنا ، وطلب منا أن نمنحه رشفة من القهوة .. ارتشفها ، وقال :
إنها قهوة عربية مفعمة بالهال .. هذا يدل على الكرم الفلسطيني ، بدأ يفسر لنا عدم استطاعته الإغفال عن أم محمد والسماح لها بالمرور حسب الأنظمة والقوانين ، وقد يتعرض هو للمساءلة والسجن إن أغفل ذلك ..
ـ لا يا أخي ، هذا واجبك لكننا نطمع بالتغاضي عن ذلك خاصة أننا نتعرض يوميا لعذابات كبيرة ..
ـ لا تقلقون ! ها نحن قد تشرفنا بكم وشربنا معكم القهوة ، بعد ساعتين ستغادروننا إلى بلاد الأولين .. ادعوا لنا في صلاتكم وحجكم !.

لا أحد يعرف بعد كم من الوقت سنغادر ؟ وجدتها فرصة للنوم .. سحبت كيس النوم خاصتي وأدخلت به جسدي المنهك ؛ فإذا بي أغط في نوم عميق ..

لظى الشمس



بدأت أشعة الشمس تنسكب على كيس النوم الذي أرقد فيه ، أخذت تلسع وجهي المُعرى ، كمن يطرق بابك لتصحو من النوم .. جلبة في المكان .. الإداري قادم من الحدود السعودية وينادي الحجاج بالصعود إلى الحافلة .. لملمت أمتعتي وهرولت ..
النجار واقف على الرصيف وينفث من فمه وخياشيمه دخانا أزرق كان يسحبه من سيجارة ( الهيشة ) ، هذه المرة لم يبتعد كثيرا عن المكان ؛ ربما لأننا على الحدود ، ولا يوجد أماكن تجذبه إليها .! . الإداري أعطى أم محمد جواز سفرها الحقيقي وبدأت الحافلة بالتحرك ببطء لأننا على مقربة من آخر نقطة أرض تمتلكها الأردن ؛ لم يعترضنا ضابط الحدود ولم يسأل إن كانت كل الأوراق صحيحة ؟ لم يتحرك عن كرسيه الذي يجلس عليه في الكوخ الخشبي .. مرت عربتنا عن الحدود وبدأ السائق زيادة الضغط على دعسة الوقود فاندفعت العربة بقوة كبيرة تلتهم الأرض اليباب .. هذه الأرض الفاصلة بين الدولتين ، حسبتها قصيرة ومحدودة ؛ إلا أن المدة التي استغرقتها العربة في السير كانت كبيرة نسبيا حتى بدأت تشرف على مبنى الحدود السعودية .. مع أن الحجاج أرهقهم السفر الطويل إلا أنهم كانوا يقظين ومتلهفين لدخول الأراضي الحجازية ، ويتضح ذلك من خلال النظر إلى عيونهم المشغولة بالنظر في كل اتجاه ..

دخلت الحافلة إلى مكان فسيح ، وبه أبنية متعددة ، ثم رست على أحد الأرصفة الشاغرة .. صعد إلى الحافلة رجل في متوسط العمر وسيم ذو لحية تخللها بعض شعرات من الشيب ، كان يلبس ثوبا أبيضا طويلا يعتلي رأسه كوفية بيضاء وعقالا بارق السواد .. رد التحية ورحب بنا بشكل جد حار ، ثم طلب من الجميع النزول من الحافلة بحيث يقف كل واحد أمام حاجياته وحقائبه بعد فتحها للتفتيش .. ثم غادر الحافلة وانتظر بعيدا ..
نزل الجميع من الحافلة وهم يجرون أرجلهم بتثاقل شديد كأن أرجلهم كانت موصدة لفترة طويلة .. تذكرت حالتي عندما أقعدني المرض أسبوعين متواصلين بعدها غادرت السرير ، وتدرجت آنذاك شيئا فشيئا بمساعدة والدتي .. هاهي الصورة تنعكس ؛ فساعدت والدتي حتى استطاعت المشي بدوني ..

بعد ساعة كانت كل حاجيات الحجاج ملقاة بجانب الحافلة على الرصيف ، فتحت الحقائب والرزم المختلفة .. انبثقت منها روائح الطعام الفاسد ، وملابس متسخة اختلطت بأواني للطبخ وغيرها .. هاجمنا الذباب متوحشا ، يا الله ! كيف يتمكن ضابط التفتيش القيام بعمله عندما يرى ويشم كل ذلك ؟ وكيف يمكن أن يدس يديه ليكتشف ما هو غير مرغوب فيه ؟؟ لا بأس ، لعل ذلك سوف يقرفه ويدفعنا إلى الانصراف بسرعة !
لم أكن أملك أنا وأمي أشياء كثيرة سوى حقيبة صغيرة بها بعض الملابس لي ولوالدتي ، وقربة الماء ، وموقد الغاز وما يلزم لصنع الشاي والقهوة ..

حضر اثنان من موظفي الحدود .. حدقّا في الأشياء الملقاة على الأرض .. لم يعجبهما المنظر ، والروائح المنبثقة .. تداولا الحديث جانبا ، قال أحدهما : ممنوع دخول البضائع والفلوس الإسرائيلية ؛ فمن لديه أي شيء إسرائيلي فليخرجه ، كل من لديه فلوس إسرائيلية ، أو غيره فليودعها في الأمانات ، وسيستردها عند عودته ، من لديه دولارات أمريكية عليه أن يحضرها للفحص من التزوير .. التعليمات واضحة للجميع ..
كان بجيبي بعض الأوراق النقدية من العملة المذكورة ، وسألت والدتي إن كان بحوزتها شيء ، فردت : ورقة واحدة . أعطيت أمي ما بجيبي وطلبت منها أن تدسهما ، وألا تنصاع لتعليمات الضابط .. أحد الحجاج قال :
ـ ما دامت من عند اليهود فهي مدنسة ولا يجوز أن ندنس بها الأراضي المقدسة .!
قلت له :
ـ إن ذلك هراء .. بل يتعلق الأمر بتمويه الحقيقة .. فلو كنا هنود أو غيرهم .. فهل يطلبون منهم ذلك ؟
بدأ أحدهم التفتيش ، وبدأ الحجاج بالامتثال للتعليمات ذاهبين إلى غرفة صغيرة أعدت لأخذ الأمانات وفحص العملة .. اكتشف المفتش بأن مهمته ستكون صعبة ، نظر إلينا فوجدني أصغرهم .. طلب مني مساعدته على فتح الحقائب وإعادة رزمها ، ومن ثم إعادتها إلى الحافلة . وافقت على المهمة .. لا بأس ! فإن ذلك سيسرع من مغادرتنا لهذه الحدود ..
على الرغم من التعب المنهك الذي سيواجهني في تنفيذ المهمة ، بالإضافة إلى قبول الحجاج لذلك خاصة أنهم يعرفون بأنني سأعتني بحاجياتهم .. طلبت من والدتي الاستراحة في إحدى الأماكن القريبة ، وبدأت مساعدة المفتش بمهمته في حين توجه الحجاج لتسليم الأمانات وفحص ما لديهم من أموال ..

انتهت مهمتي بسرعة ، وشكرني الضابط الذي ساعدته ، أخذت أمي إلى غرفة الأمانات .. سلمنا جوازات السفر وفحص المختص بعض الدولارات التي بحوزتنا ، وسألنا إن كنا نملك نقودا إسرائيلية .. فنفينا . عدنا إلى الحافلة ، كنا آخر اثنين .. تحركت الحافلة إلى الجهة الخلفية من مبنى الحدود ..

ميدان كبير نصب فيه عدد كبير من الخيام ، دورات مياه ، محلات تجارية ، مبنى الجوازات الضخم .. أناس كثر يجلسون تحت الخيام .. قال الإداري : علينا النزول والانتظار حتى تنتهي مهمة ختم الجوازات .. حينئذ سأنادي عليكم لنبدأ السفر في الأراضي الحجازية .. يفضل الجلوس في خيمة واحدة ، كونوا قريبين من بعضكم البعض ، ممنوع الابتعاد من هنا .. أحد منا لم يسأل كم من الوقت يحتاج ذلك ؟ لا بد أن انتظارنا سيطول ..!
صديقي محمد وزوجته وأمه ، العجوري وزوجته ، والدتي وأم مروان جميعهم جلسوا تحت خيمة واحدة ، علامات التعجب والإرهاق تبدو ظاهرة على وجوههم ، منهم من استلقى على القليل من حاجياته ، ومنهم من ظل واقفا حيث لم يسعفه تفكيره بأن يفعل شيئا ، أما أنا فقررت التجوال بين الخيام واكتشاف كم من الزمن سنمكث هنا ..
الشمس الملتهبة والحرارة الشديدة تشلان الحركة في المكان .. يا الله ! كيف يعيش الناس هنا .. ؟ بدأت التجول وحيدا بين الخيام التي تكتظ بالحجيج من كل بقاع الأرض ، الكل ينتظر الفرج .. قادتني خطواتي إلى مبنى الجوازات ؟ صالة كبيرة تزدحم بأناس أتعبهم عناء السفر الطويل ، فوجدوا في الصالة المكيفة مكانا أكثر برودة من ظل الخيام ، وهروبا من لظى الشمس ..

الوجوه يمكن أن تكون عناوين لجنسيات البشر المختلفة .. دول القرم وسوريا والأردن ودول المغرب العربي ومصر و.. حاولت معرفة ما يدور ..؟ ولماذا كل هذا الانتظار والتشظي ؟ شبابيك كثيرة يجلس خلفها موظفون عديدون ، وجميعهم مشغول بأوراق كثيرة .. اقتربت أكثر من أحد الشبابيك .. موظف منهمك بعمل شاق .. أمامه كومة كبيرة من جوازات السفر ، إنه يقوم بنزع شيك ملصق بالجواز ، ثم يختمه ويلقيه جانبا ..
الختم مستدير وكبير يحفه من الجوانب زخرفة جميلة ،
كتب بداخله وخارجه طلاسم لم أفهمها ..
يا الله !
إنه ختم سليمان الذي سينقلنا حيث نشاء في بلاد الأولين ..
سألت أحدهم : لماذا ننتظر ؟ رد بابتسامة فيها تعجب ما :
الفلوس !
ـ أي فلوس تقصد ؟
ـ فلوسنا التي يجمعها السعوديون ..
كل حاج لا يمكنه دخول الأراضي السعودية إلا بدفع مبلغ قدره : أربعمائة وأربعون ريالا ..
أدركت حينها أن الموظف يقوم بنزع الشيكات الملصقة بجوازات سفرنا وفحصها وترتيبها كي يتم تحويلها إلى البنك ..
ـ إذن سيطول انتظارنا هنا ..
ـ أجل ، قد يستغرق ذلك طيلة النهار ..
غادرت الصالة محوقلا .. عسى أن أجد شيئا أشغل به نفسي فأنا لا أحب الانتظار .. درت بين الخيام مقلبا وجوه الحجاج وألوانهم ، قابلني اثنان تبدو ملامحهم ( بلقانية ) رددت عليهم التحية؛ فردوا بلكنة عربية ثقيلة ، أحسست برغبتهم في محاورتي ، سألت عن جنسياتهم ؟ فأجابوا :
ـ من البوسنة ‍‍!
ـ يعني أنكم قطعتم كل هذه الطريق برا ..؟
ـ نعم ، عبر تركيا وسوريا والأردن ، نحن مجموعة من ثلاثين حاجا ..
ـ كيف أحوالكم في البوسنة ؟
ـ بدأت الأمور تستقر بعض الشيء ..

اندفع إلى ذاكرتي شريط لصور الحرب والمجازر التي ارتكبها الصرب بمسلمي البوسنة ، الجثث المحروقة ، والمنازل المدمرة ، والسيارات التي أعطبتها القذائف .. ها هو طفل يفتش عن ثدي أمه بين الجثث ، وهذا العجوز نجا من المجزرة لوحده ، ولا بد أن يخرج من القبور الجماعية معجزات تشهد على حجم المجزرة … مثل مجزرة صبرا وشاتيلا .. المجازر تتشابه أينما كانت ضد الإنسان .. والحرب تحول الجنود إلى وحوش لا تعرف الرحمة والرأفة ..

رحبت بهم ، ودعوت أن يبر الله حجهم ويشكر لهم سعيهم.. واصلت التسكع إلى أن وصلت محلا تجاريا ، لم يكن لي رغبة في ابتياع شيء . سوق كبير يحوي أي شيء يمكن أن يجول في خاطرك ، الأسعار مرتفعة قليلا . اشتريت بعض السجائر خوفا أن لا أجدها في الطريق ، أنهكني التعب فعدت إلى الخيمة .. وجدت كل صحبتي غافلين ، والدتي غالبا ما يصعب عليها النوم في هذه الظروف ، إلا أنني وجدتها غافلة أيضا فارتحت لذلك ..
متى سنرحل من هنا ..؟ أشعر بأن جسمي يأكله الحر ، أنا بحاجة إلى الاغتسال في هذا الطقس الملتظي ، خرجت من الخيمة أبحث عن الماء .. لا بد أن أجده . في إحدى أركان المخيم اصطفت الغرف صغيرة كحمامات للاغتسال .. كانت المياه تنزل بقوة على جسمي ، ومع أن حرارتها كانت عادية إلا أن الجسد الساخن صنع منها بخارا حاميا .. آه لو أمكث تحت الماء ساعة ! ساعتين ، طيلة اليوم .. لكنني غادرت الحمام ، وغافلني في الخيمة النوم .
استيقظت على هرج ومرج الحجاج ، إنهم يستعدون للرحيل . قدم الإداري حاملا جوازات السفر ، ودعا الحجاج للصعود إلى الباص . نظرت إلى أمي كأني لم أرها من قبل بهذه العافية .. أمي :
ـ ها يا حاج . نمت طويلا ، هل أنت مستعد للرحيل ؟
ـ نعم ، أماه ! لكني أشعر بجوع شديد وأنت ، ألا تشعرين بالجوع. إن معدتك خاوية ولم يدخلها الطعام لأكثر من يوم .
ابتعت شيئا من اللبن والخبز ومشروبا باردا .. الجميع كان بانتظاري ، الحافلة تهدر استعدادا لالتهام الصحراء ..
تجاوزنا الحدود قليلا ثم أشرفنا على بلدة صغيرة تسمى ( عمار ) لا تتجاوز بيوتها العشرين .. يبدو أن أصحابها يعتاشون من الخدمات التي يقدمونها في نقطة العبور من كراجات ومحطة لتزويد الوقود وخدمات للمسافرين ..

بدأت القرية تتباعد عن الأعين .. يا الله ! من أين لسائقنا الشاب هذه الجرأة في التهام الصحراء بعربته الجديدة ، كأنه الفارس الواثق من النصر ؟ ها هو يقتحم بلاد الأولين .. الأسفلت الأسمر الطويل كلما أكلت العربة نهايته ، ظهرت لنا نهاية جديدة ، وهكذا استمرت العربة تأكل الطريق قرابة الساعتين إلى أن بدأت تطل علينا وسط الصحراء مشارف مدينة كبيرة .. بدأ الغسق يعطيها رونقا خاصا في الصحراء المترامية الأطراف ، وبدأت بيوتها الأرجوانية قناديل للعاشقين …
ها نحن على أبواب مدينة ( تبوك ) أقصى مدينة في الجنوب الشرقي لبلاد الشام ، وأقصى الشمال الغربي لبلاد الحجاز .. هذه المدينة التي غزاها الرسول  قبل تسعة أعوام من حجة الوداع ، المدينة التي تجمع فيها الروم ونصارى العرب .. لم يتسن لنا رؤية أطلالها في الظلام الذي هجم عليها للتو .. مرت الحافلة من شوارعها بسرعة ، وبدأت تغوص في الصحراء وتأكل الطريق السمراء التي ينعكس من يمينها أشعة الخط الفسفوري كي يتلاشى السائق التهور إلى اليمين في دجى الليل ..

في عمق الصحراء القاحلة ، هذه مدينة ( التيماء ) الصغيرة ، يا الله ! كيف لمدينة صغيرة أن تتيم بعشقها للفيافي وحاول أصحابها أن يجعلوا منها واحة جميلة .. حقا ! إنها عبدة في عشقها للصحراء . توقفت حافلتنا أمام مضافة بديعة ، انتصبت نراجيل كبيرة وسط حديقة يلفها مقاعد مريحة . إنها مدخل رائع لصالة الجلوس الضخمة ، كان الطقس باردا بعض الشيء . هذه المضافة محطة لالتقاء المسافرين في الحافلات الأخرى ، فالتقينا بحجاج نعرفهم .. كانوا سبقونا وأخذوا من المكان استراحة قصيرة من عناء السفر مثلنا ..

يا لهول المفاجأة .. والصدمة الكبيرة ! إن الانفجارات التي وقعت يوم سفرنا عند مستوطنة ( كفار دروم ) نفذها شابان من مخيم جباليا ـ الشبراوي والمدهون .. أخبرنا أحد الحجاج من حافلة أخرى كان يحمل في يده صحيفة ..
زوجة صديقي محمد لم تتمالك نفسها ؛ فانهارت فور سماعها الخبر .. الاستشهادي المدهون يعتبر شقيقها ..
بعد أن أفاقت من الصدمة ، حاولنا التخفيف عنها ومواساتها .. وكذبنا لها الخبر حيث الأسماء تتشابه ، وعليها بالصبر والصمود لأننا جميعا في حالة جهاد ورحلة شاقة ، ليس لها إلا التحلي بالصبر ورباطة الجأش ، وما يشغلها في هذه الحالة هو العبادة وأداء مناسك الحج فقط ! وتضرعنا إلى الله أن يخفف عنها وينسيها بلواها .. لحظات قليلة كان الجميع ماثلين في مقاعدهم بالحافلة يرتابهم الصمت المطبق ..

صعد السائق المصري إلى مقوده ، نظر في عيون رعيته.. تفقدهم واحدا واحدا عسى أن يجد في عيونهم ما يجيب على سؤال كان يدور في رأسه من هول المفاجأة ! أخيرا سألني ماذا حدث ؟
التزمت الصمت ، فزاد ذلك من حنقه .. أدار المحرك قليلا ثم اندفعت الحافلة تأكل الطريق في عتمة الليل الدامس دون أن يهمس أحد لقرينه بحرف .. لم أسمع سوى هدير المحرك ..
لم يجد السائق ما يشغله سوى انتباهه للقيادة .. لعله استغل فرصة الصمت ليثبت جرأته وثقته بنفسه العالية في أن يقطع قدرا أكبر من الصحراء ، أو أن يصل المدينة المنورة في أسرع وقت ممكن ، كأنه أراد أن يوقف الزمن حتى يصل . لم أتمكن من رؤية شيء لسرعة الحافلة التي كانت تخترق الريح كالسهم .. ولم يسعفني عقلي بأن أجد شيئا أكلم به السائق ؛ فسرقني النوم في مقعدي ..

لم أعرف كم أكلت الحافلة من الصحراء الكبيرة سوى أنها توقفت في مكان فسيح أمام مقهى قديم لا يشير إلى أنه مكان سياحي فالبناء والأثاث يدلان على فقر شديد لأصحابه والنازلين فيه .. انتابني شعور بأننا تهنا في هذه الأرض المترامية الأطراف ، بحثت عن السائق لأسأله : أين نحن ؟ فلم أجده ، ولم أجد من يرشدني عن المكان الذي نحن به ؟
يا الله ! لا بد أن هذا المقهى للصعاليك ..
لا بد أن يكون هذا المكان للمسحوقين ،
أو السحرة ..
هل يصير هذا المكان في النهار واحة الصحراء ؟
نظرت في جميع الاتجاهات ، لم أر سوى أشباحٍ ؛ وكلما حاولت أن أبتعد قليلا عن المكان علني أجد بصيص أمل يدلني على شيء ما ؛ كلما تملكني الخوف أكثر من التيه .. فأعود إلى صحبي .
عندما ابتعدت عن موقع الحافلة في دياجي الليل لم أجد شيئا، ولم أسمع سوى صوت السيارات القادم من بعيد ، وصوت الليل .. سألت نفسي :
لماذا نحن هنا ؟
وماذا ننتظر ؟ صرخت بأعلى صوتي ، ناديت :
يا عروة ! يا ابن الورد
تعال إليّ وخذني
صعلوكا في مجموعتك
تعال وأخبرني :
أين نحن في هذه الفيافي ؟
يا عروة !
من تقاتلون في هذه الصحراء الكبيرة ؟
هل بها قصور ؟
تداهمونها بين الفينة والأخرى ..
لماذا لا تستحوذون هذي الصحاري والجبال ؟
لماذا لا تجنون تمر النخيل ؟
هذا النخيل الذي يعرف اسمي ..
أعطني نخلة ، أو عشبة
تسحرني
وتمنحني هذا الشموخ ..
يا ابن الورد
ما زال الأسياد باقين
يستحوذون الأبناء
وهم مستحوذون ..
فمن يكن سيدا .. لا يمكنه أن يكون حرا
يا ابن الورد
هذي الأرض كما هي ..
وهذا القوم كما كان ..
لم يتغير شيء
سوى الأسماء ودورات الفصول ،
ولم يأت بعد
الطوفان


المدينة المنورة



هذه الجوزاء .. أخذت تنحدر وتخفت لألأتها وتختفي .. وأضواء المدينة بدأت بالذوبان تحت أشعة الشمس التي أكلت معها فبس الفجر .. بدأت ملامحها تلوح لنا من بعيد .. أشجار النخيل العالية تتناثر في أنحاء المدينة ، المباني كأنها قصور تتوزع في الخميلة .. مآذن المسجد النبوي تنتصب عالية في السماء منارات شامخة توجه القادم إليها من بعيد .. بيارق مرتفعة تقول للزائر :
هنا يرقد الرسول 
هنا أبو بكر 
هنا عمر ابن الخطاب 
هنا الصحابة جميعا ، هنا تاريخ العرب وحضارتهم ..
هنا سجلت الانتصارات ،
من هنا انطلقت الحضارة ..
إن مشيت هنا فخفف الوطء ،
أو سر في الهواء احتراما للتراب والحجر لما يخفيان من أسرار وكنوز للغة هذه الأمة وآدابها ..
هنا يثرب العتيقة
هنا جرت حروب الأوس والخزرج
هنا حرب سمير ، وحرب كعب ، وحرب حاطب ، وحرب بعاث…

كانت الحافلة تمر بين جبال خضراء باسقة .. على اليمين شلال يسقط من قمة الجبل ، مياهه تومض وتتوهج كالماس المصقول ، مدخل المدينة يشير إلى بهائها الخلاب ، ورونقها الباهر سرق نظرات جميع من في الحافلة الذين استيقظوا للتو من عنائهم الطويل ، وبدوا كأنهم يريدون القفز من الحافلة بوثبة واحدة ليكونوا بجانب الرسول  ، كيف لا ؟ وهم الذين تحملوا ذلك العناء والمشقة للوصول إلى هذا الهدف .. هاهم وصلوا . ترى هل سيتركون أمتعتهم ويقفزون لملاقاة الرسول وصحبه ـ رضوان الله عليهم ـ أو أن التعب الذي تحملوه طيلة الرحلة سوف يرميهم في الفراش ..؟

عند مشارف المدينة دخلت الحافلة إلى مكان حكومي يشبه مدرسة كبيرة . توقفت ونزل الإداري والسائق يحملان جوازات السفر ثم دخلا إلى إحدى المكاتب القريبة .. مر أكثر من ساعة ، رجعا بعدها يحملان بطاقات للحجاج بدلا من جوازات سفرهم ، وأدلى الإداري بالتعليمات التي تلقاها من المسئولين السعوديين : هذه البطاقة بمثابة هوية ، فيها عنوان السكن الذي ستنزلون فيه ، الحافلة ستقلكم إلى هناك .. بعدها ستحجز حتى نغادر المدينة المنورة ، بعد أسبوع أو ثمانية أيام .. سنبلغكم بذلك قبل يوم ..
دخلت الحافلة وسط ازدحام المدينة التي تعج بالناس . لا أعرف إن كان هؤلاء هم السكان المحليين أم حجاج مثلنا ؟ والأغلب أنهم كذلك ..
مرت الحافلة في زقاق يمتلئ بالعمارات العالية من اليسار، وعلى اليمين بعض البنايات ومسجد صغير ، ثم يمتد جسر لم نر
آخره .. من تحت الجسر كانت تظهر لنا ساحة كبيرة وبعض الشوارع المزدحمة بالمارة والسيارات ، ومن ثم تلوح لنا باحات المسجد النبوي الشريف ..
توقفت الحافلة قرب عمارة في ( الكاتبية ) الحي الذي سننزل به ، نزل الإداري ودخل العمارة ثم عاد يدلي بتعليماته :
ـ ها هي العمارة التي سننزل فيها ، يمكنكم النزول وإنزال أمتعتكم، لا تتركوا شيئا في الحافلة لأنها ستحجز حتى نغادر هذه المدينة ..
العجوري وأبو العبد انتصبا .. وناديا الجميع بأن لا ينزل منهم أحد حتى يتفحصا المكان إن كان ملائما لسكننا ؟ . اصطحباني معهما ورحنا نتفقد المكان .. في مدخل العمارة استقبلنا شابان كأنهما استيقظا من نومهما للتو ! أو لم يناما بعد .. رددنا التحية وتوجه إليهما أبو العبد قائلا :
ـ حافلتنا من الفوج الثاني وتحمل الرقم ستة وثلاثين ، وهي ترسو في مدخل العمارة .. وتقل ثلاثاً وعشرين حاجة ، وسبعة عشر حاجاً .. أين أماكننا التي سنستريح وننام فيها ؟
رد أحدهم :
ـ ها هي العمارة بعدد طوابقها الثمانية ، والأربعة وثلاثين شقة ، يمكنكم احتلال الأمكنة الفارغة ..
لا أحد منا فهم ذلك .. فقررنا الصعود إلى الشقق ومعرفة ما قصده صاحبنا ..
الطوابق الأولى تكتظ بالحجاج ، وفي العليا وجدنا كل الشقق محتلة ما عدا القليل من الشواغر في بعض الغرف .. قررنا نحن الثلاثة بأن لا ينزل أي حاج من الحافلة قبل ترتيب أماكن ملائمة لجميع رعيتنا ، أبلغنا طلبنا هذا إلى الشابين الذين استقبلانا في البداية ، وأتضح لنا أنهما مسئولين من بعثة الحج ، أحدهم إداري والآخر من الأوقاف .. طلبنا منهما أن يوفرا شققا فارغة وقريبة من بعضها لجميع رعيتنا ..
نظرا الشابان إلينا بحنق ، صمتا قليلا ، ثم قال أحدهم :
ـ يوجد أماكن للجميع .. هذا هو الموجود ، إذا أعجبكم فأهلا وسهلا ، وإن لم يعجبكم اذهبوا حيثما شئتم ؟
( يتحدث وكأنه في موقع السلطة ، غير مبال بأننا دفعنا ثمنا باهظا، ومن حقنا في سكن ملائم .. كنا نعتقد أننا سننزل في فندق محترم )

قفز إلى مخيلتي ، آذن المدرسة الذي كان يتصرف وكأنه المدير .. بل كان المدير يخاف منه أحيانا .. ذلك الآذن كان يدور في كل جوانب المدرسة ، يريد معرفة كل شيء حتى أنه كان يندس بين المعلمين وينسط إلى ما يقولون .. إنه لم يعمل آذنا .. كان يقدم تقارير كاملة عما يدور في المدرسة .؟.

رد عليه العجوري :
ـ لن ننزل من الحافلة ، نفضل النوم في الشوارع ولا نقيم في هذه العمارة إلا إذا وفرتم لنا شققا فارغة في طابق واحد أو اثنين متتاليين .. أما أبو العبد فقال :
ـ سنبقى في الحافلة ونستدعي السفير والمسئول عن بعثة الحج كي يشاهدا معاناتنا ..
عدنا إلى الحافلة ، وجدناها قد سدت الشارع وعرقلت حركة السير من المركبات والمارة ، لم أر من قبل زحمة أكبر من هذه .. الكل يجري ويتحرك في كل الاتجاهات ، أدركت بأن الجميع يستعد لصلاة الجمعة التي بدأت المآذن تنادي لها ..
أعتقد أننا لا نستطيع الصلاة قبل حل المشكلة . قليل من مجموعتي استدرك أن الأمر سيطول ففضل اللحاق بالصلاة .. في غمرة هذه الزحمة حضر اثنان من رجال الشرطة السعودية ، استطاعا تحريك السير الذي كان متوقفا كليا ، سأل أحدهما :
ـ ما المشكلة ؟
أجابه العجوري :
ـ لم نجد أماكننا التي ستقيم فيها ، وصلنا للتو من فلسطين .
رافقنا الشرطي إلى العمارة وطلب من المسئول بعض الأوراق . فرد المسئول :
ـ إنه اتصل بالبطة ! ( كنية المقاول الذي استأجر العمارة ) وهو في الطريق إلى هنا .. قليل من الوقت فإذ بالبطة يدخل العمارة ، الشخص فيه كثير من كنيته ، جسمه ولونه العجيب ! استقبله الموظف المسئول وأخبره بالأمر .. تدخل الشرطي ولم أسمع ما دار بينهما ، كنت أراقب أفعالهما من بعيد ، أدركت أن الشرطي كان يريد فحص عدد النزلاء بالعمارة وإن كان يطابق العدد المرخص لها ..

بدأ الحجاج يعودون من صلاة الجمعة .. استدعاني الشرطي وطلب مني أن أصعد مع البطة لفحص الأماكن الأربعين التي سننزل بها . كان قد أخلى الشقق التي في الطابق العلوي ، ووزع من كان بها في أماكن أخرى شاغرة في العمارة .. صعدت معه إلى الطابق الثامن ، سلمني أربعة شقق خالية ، بالإضافة إلى غرفة جانبية ، حسبتها فإذ بها تكفي مجموعتي وتزيد .. أطلعت العجوري وأبو العبد بقبولي ذلك فوافقاني ..
بدأ الحجاج بإنزال أمتعتهم ، الحاجات العشرين والثلاثة سيقمن في شقتين ، والحجاج سيقيمون في الشقتين المقابلتين ، والغرفة المنفردة ستبقى احتياطا لمن يحتاج أن ينفرد بها .؟
والدتي وصديقتها أم مروان ووالدة صديقي محمد وزوجته كن قد رتبن أماكن نومهن وأمتعتهن بشكل لائق . أخذت من والدتي موقد الغاز وأدوات صنع الشاي والقهوة ، عدت بها إلى صحبتي أبو العبد والعجوري وصديقي محمد حيث أقمنا في غرفة واحدة .. بدأت في صنع القهوة حينئذ كان رفاقي الثلاثة قد غطوا في النوم .
شربت قهوتي السمراء ونفثت دخانا من سيجارتين ، ثم اغتسلت جيدا من كدر السفر الطويل .. شعرت بنشاط غريب قررت حينها الذهاب للمسجد النبوي لأكتشف الطريق والمكان قبل اصطحاب والدتي . نزلت إلى الشارع ، توقفت أمام العمارة ونظرت بجميع الاتجاهات .. المسجد النبوي ليس بعيدا من هنا فيمكنك رؤية أحد جوانبه ، ولا يمكنك أن تضل الطريق إلا إذا ابتعدت كثيرا من هنا .. صوبت مساري تجاه المسجد وبدأت التحرك وسط الزحام .. ناس كثر يجوبون الشوارع والساحات والمحلات .. أينما تحركت تجد نفسك في سوق كبير ، لم يبق متر من الأرض إلا وفيه بائع ومشترون .. الباحات خارج سور المسجد امتلأت بالبسطات وعربات الباعة .. يا الله ! كيف يمكن لوالدتي أن تصل هنا لوحدها ؟ كيف يمكن لكبار السن التحرك وسط هذا الزحام الشديد ؟ .
ها أنا في باحات المسجد النبوي الخارجية .. كل شيء هنا جديد ويخطف الأبصار . كل شيء هنا يبرق ويومض .. يا الله ! ما هذه الأنوار البهيجة ؟ الأرضيات من المرمر والجرانيت ، مع أن حرارة الشمس لاهبة ، إلا أنك عندما تسير على البلاط تشعر ببرودة الأرض كأن تلك الصخور تحتفظ ببرودتها كما كانت في عمق الجبل ، لم تفقد رطوبتها بعد .. القناديل التي نصبت في مختلف الاتجاهات بشكل فني تحير العقول .. أبواب المسجد الداخلية ضخمة وصنعت بشكل مبهر ، جمعت بين التراث والتكنولوجيا .. إنها من الخشب ورصعت برسوم وزخارف ذهبية فائقة الجمال . دخلت المسجد .. وقفت أكثر من ساعة وأنا أتأمل كل شيء من الداخل ، لا يمكن وصف كل شيء هنا ولا يمكنك التجول في الداخل بسهولة ولا يمكنك الوصول إلى كل الأمكنة لكثرة المصلين .. لا أعرف متى يخف هذا العدد الضخم .. بالتأكيد لن يقل في موسم الحج ؟

أخذت لي مكانا أستطيع الصلاة فيه .. لم أحسب عدد الركعات التي ركعتها هنا ؟ إلا أنني توقفت لحظة ، وطلبت ممن كان بجانبي بان يدلني على قبر الرسول  فأشار لي بان أخرج من هذا الجزء الجديد والدخول من اتجاه آخر يدخلني إلى المسجد القديم .. نفذت تعليمات الرجل ..
الحجاج يدخلون بشكل منتظم في الجزء الأمامي من المسجد النبوي .. لا يوجد فرق كبير بين القديم والجديد ، ربما تكون إضافة الأجزاء الجديدة وحرصوا أن تكون من نفس الطراز الأول .. دخلت مع الحجاج بصعوبة . عدة خطوات وكنت أمام قبر الرسول  .. رددت التحية ، ودعيت الله أن يجزيه عن أمته خيرا .. حاول البعض تقبيل البناء الذي يرقد فيه ، إلا أن رجال الشرطة كانوا يمنعوهم من ذلك .. لا يمكنك الوقوف كثيرا أمام القبر ، ولا يمكنك العودة إلى الخلف لشدة الازدحام ؛ فأنت مضطر للسير بنفس الاتجاه .. لا بأس ! أربع خطوات وستكون أمام صاحب الرسول الأول أبي بكر الصديق  رددت التحية إليه ودعيت له أن يجزيه الله خيرا .. خطوات أخرى ثم وقفت أمام قبر عمر بن الخطاب  …
رجال الشرطة كانوا يمنعونك من الوقوف ، عليك أن ترد التحية وأنت ماشيا .. كل من كان يقف كان يلقى ما لا يرضيه .. يبدو اندفاع الناس هنا لوجود ممرا يؤدي إلى الروضة الشريفة فيحاول الجميع الدخول إليها ..
وجدت نفسي في باحات المسجد الخارجية . أين الروضة ؟ كيف سنصلي بها ؟ كيف لأمي المسكينة أن تخوض هذه التجربة ؟ علي أن أفكر كيف ومتى تتم هذه المهمة الصعبة ؟ لا بأس سأقوم بالبحث واكتشاف المكان بشكل أكبر .. عل ذلك يسعفني في الحل ووضع الخطة المناسبة لإتمام هذه المهمة بشكل مريح بدون إيذاء الآخرين وسط الزحام .. أحب تأدية المناسك بهدوء دون إزعاج لأحد .. درت في كل مكان بالمسجد الكبير ، وشاهدت ازدحاما كبيرا في الروضة الشريفة .. عدد ضخم من الناس يزاحمون وينتظرون إخلاء أي فراغ يصلون به ، ومن يمسك مكانا يعصى أن يتركه ويود لو يموت فيه .. كنت أراقب هذا المشهد العظيم ..
قررت أن أحضر في وقت لم تكن به الزحمة على هذه الصورة ، لعل ذلك يتم في منتصف الليل أو آخره .. سأحاول عمل ذلك في هذه الليلة ومصطحبا أمي المسكينة .. صعدت للطابق العلوي للمسجد .. الزحمة هنا ليست كبيرة .. وجهت وجهي شطر القبلة وبدأت بالصلاة .. ركعت كثيرا وتضرعت إلى الله طالبا رحمته وعفوه ومساعدته بمنحي القوة والإرادة أمام هذا الامتحان..
يا الله ! ما هذه القباب الذهبية العالية والكبيرة ! مشهد أخاذ ويخطف الأبصار .. أخذت أتأمل تلك القباب المتحركة ؛ فهي تتحرك بالتناوب واحدة تأخذ مكان الأخرى لتدخل السماء والهواء إلى المسجد الكبير .. إنها تعمل كمروحة كبيرة تجدد الهواء في المكان فمرة تغلق ومرة تفتح كما تكون في الهواء الطلق والسماء غائمة فلحظات تغطى الشمس بالغيوم وأخرى تتكشف عنها ، وهكذا .. أي عقل هذا الذي فكر بذلك ؟ وأي إلهام وهب له ؟ كي يفرج عن جموع المصلين الذين قدموا من كل فج عميق …

كنت زرت المسجد الأقصى مرات عدة . في كل مرة كنت أشعر برهبة المكان .. كل حجر في القدس العتيقة كان يوقفني طويلا .. وأجهش عنده بالبكاء ، أشعر أنني أعيش في الماضي السحيق .. حجارة القدس تنطق وتحدثك بأساطيرها .. إذا ما وقفت أمام محراب أو تحت قبة الصخرة أو المتحف أو حائط البراق أو تدخل في نفق أو تسير في أزقة المدينة ؛ فإنك ستحظى بذكرى أنبياء الله ورسله جميعا ، وقد تتلمس أشياءهم .. هذي الأرض التي جمعت الأنبياء والرسل ..
هنا المسجد الأقصى
هنا أولى القبلتين
من هنا عرج الرسول  إلى السماوات السبع ..
هنا حائط البراق ..
هنا كنيسة القيامة
هنا مسجد عمر ..
هنا مهد المسيح 
هذه القدس العتيقة بدكاكينها ..
هنا كان زكريا ويحي وداو ود وسليمان ..
هنا صلب المسيح .. وهنا اختبأ
هنا عالج الأبرص والأبكم ..
من هنا بدأت البشرى
هنا تتملكك الرهبة ..
هنا يرتابك الصمت والخشوع الدائم
إلى أن تغادر زهرة المدائن ..

عدت إلى عمارة الكاتبية خوفا من أن تكون أمي قد افتقدتني بعد هذا الغياب .. أو تحتاجني في شيء ما .. وجدتها في انتظاري ، بل كانت كل المجموعة في حيرة وقلق من غيابي عنهم تلك الفترة ..
طمأنتهم وأخبرتهم بما صنعت ، وطلبت منهم أن يعدوا أنفسهم بعد المغرب .. سنحاول قضاء الليلة في المسجد النبوي لسببين ، أولهما : أن الطقس يكون ألطف ، والثاني : ربما يكون المسجد أقل ازدحاما خاصة أن الحجاج قضوا طيلة اليوم الجمعة في الصلاة بالمسجد .. وافق الجميع على اقتراحي ونفذنا ذلك على أكمل وجه كما خططت له .. مرة أخرى صليت مع مجموعتي، أينما كنا نجد متسعا كنا نصلي فيه .. سلمنا على الرسول وصحبه ، كل منا كان منبهرا بالمكان وعظمته .. بعد ساعات طويلة من صلاة العشاء اهتدينا إلى الروضة ( المكان الذي اعتاد الرسول  الصلاة فيه ) فيحرص جميع الزائرين الصلاة فيه قدر الإمكان .. لذلك من الصعوبة أن تجد لك زمانا ومكانا لتحظى بهذا الفوز العظيم .. هنا في ساعة قبل السحر تحقق الفوز .. صلينا جميعنا في الروضة الشريفة ، ابتهلنا كثيرا .. صلينا الفجر والصبح، ومع شروق الشمس عدنا جميعا إلى عمارة الكاتبية ..

صباح اليوم الثالث من مكوثنا في مدينة الرسول ركبنا جميعا سيارة وتوجهنا إلى موقعة أحد .. وهي تقع على مشارف المدينة من الاتجاه الشمالي الغربي . عشرون دقيقة وسنكون هناك في ( أحد ) الغزوة الشهيرة في تاريخ المسلمين . بعد خروجنا من زحمة المدينة مرت السيارة عبر أرض منبسطة تمتليء بأشجار النخيل العالية .. في نهاية السهل توقفت السيارة أمام سلسلة جبال أحد . هذه الجبال تشرف على السهل الممتد الذي يتخلله بعض النتوءات المرتفعة .. في ذيل الجبل بني معسكر المسلمين وهو محاط بسور مغلق لم يسمح لك بالدخول .. عليك أن ترى ما بالداخل فقط من بين قضبان الباب الحديدي أو من بين الفتحات المعدة في حائط السور .. لم أر شيء سوى أكوام متناثرة من الحجارة ، لا شجرة ولا شجيرة .. قفر لا ينبت به شيء إلا ذكرى هؤلاء الأبطال الذين قاتلوا جيش أبي سفيان .. لم أتصور كيف دار القتال مكشوفا على هذه الأرض ؟ حاولت تلمس الأشياء في سور المعسكر عسى أن أتعرف على المكان ومدلولاته الأثرية أو الثقافية .. لم أجد لوحة تعريف مثلا ، كل ما نعرفه أن الكثير من الصحابة والشهداء دفنوا في هذا المكان ..
أمام المعسكر من الجنوب الشرقي وسط الأرض المنبسطة ارتفع جبل صغير سمي بجبل الرماة ، رماة المسلمين الذين أبلوا بلاء حسنا في المعركة .. واستطاع خالد بن الوليد حينما كان يقود جيش أبي سفيان السيطرة عليهم عندما راحوا يجمعون الغنائم ..
ترحمت على أرواح الشهداء وعدت إلى السيارة التي اندفعت بنا حيث لا أعرف مقصدها .. بعد برهة قال السائق :
ـ سأنقلكم إلى مسجد ذي القبلتين .. إنه أقدم مسجد هنا بناه الرسول  عندما كان الأقصى قبلة المسلمين الأولى .. ثم حولت فيما بعد شطر مكة المكرمة بأمر من الله  ..
بعد طول سفر وصلنا إلى خميلة بديعة الجمال .. مسجد كبير يتوسط أشجار التمر ، لم نشعر بحرارة الطقس المرتفعة .. لعل أشجار التمر العالية خففت من حرارة الشمس اللاهبة ، أو أن الشمس ابتعدت قليلا من منتصف السماء .. بحثت عن مكان الوضوء وبدلا من أن أتوضأ بقليل من الماء .. اغتسلت .. مررت بالماء على كل بدني .. نزل الماء السلسبيل باردا فشعرت بانتعاش كبير ، دخلت المسجد . صليت التحية ، ثم وجهت وجهي شطر مكة وصليت أربعة ركعات بعدها توجهت شطر المسجد الأقصى وصليت أربعة أخرى .. أخذت أدور في المسجد العتيق أتحسس أركانه وأعمدته الشامخة لأستنشق عبق التاريخ ، وأشم رائحة الأولين .. أناس نازلون وآخرون يغادرون بهدوء ، لا يزعجك الازدحام أو الضجيج ، تمنيت لو أبقى هنا طويلا .. أو أن أتم كل المناسك هنا ..
بعد قليل بدأ أفراد مجموعتي بالخروج من المسجد كأنهم يعلنون انتهاء الزيارة ، شعرت بجوع شديد ، فطلبت منهم أن نتناول بعض الطعام ونرتاح قليلا فوافقوني .. جلسنا تحت النخيل وتناولنا ما لدينا من طعام ، ثم انتابتني سكينة النوم ..

صباح اليوم التالي وقبل أن يخرج أحد من الكاتبية ، نادى أحد المسئولين : اليوم في الساعة الرابعة بعد الظهر سنرحل إلى مكة المكرمة .. على الجميع حزم أمتعته ويكون جاهزا للرحيل في الساعة المذكورة ..
جميع الحجاج راضون من الرحيل أربعة أيام تكفي للمدينة، لأن الهدف الرئيسي من الحج لم يبدأ بعد فالجميع يستعد لأداء مناسك الحج ويبغون الانتهاء بالسرعة القصوى ؛ ليس لأنهم يتخلصون من تعب مضني ينتظرهم ، بل لأنه لا أحد يعرف بأي وقت وأرض يموت فيفضلون الاغتسال من ذنوبهم .. هم هنا ينسون كل شيء ، يعيشون مع اللحظة .. مع الله ومن أجله بعيدا عن الرغبات والشهوات الدنيوية ويسعون لاكتسابها في العالم الآخر..

بعد الظهر ، بدأت الحقائب وأمتعة الحجاج تتراكم على الرصيف .. حقائب جديدة تكاد تنفجر مما اتسعت لأشياء وحاجيات مختلفة .. الحقائب الفارغة التي قدمت معنا امتلأت هي الأخرى .. رزم وبطانيات ملونة .. شعرت أن الحجاج لم يتركوا شيئا في أسواق المدينة إلا واشتروا منه .. أو أنه كما أشيع هنا أن الأسعار أرخص منها في مكة .. أو أن الحجاج يريدون الانتهاء من شراء حاجياتهم والتفرغ لأداء مناسك الحج .. لا أعرف كيف تتسع الحافلة لكل ذلك ، وهل سيقبل السائق بذلك أم لا ..؟
وصلت الحافلة واصطفت بجانب الرصيف الذي تكومت فوقه تلك الحاجيات .. نزل السائق وشرّع جميع الأبواب التحتية الخاصة بالحقائب .. بدأ الحجاج يتدافعون في تحميل حاجياتهم ، كل منهم يريد أن يضمن لحاجته مكانا ويستريح .. لعدم الترتيب في البداية لم تتسع الأمكنة لنصف الحاجيات .. فصرخ الذين لم يستطيعون تحميل حاجياتهم .. السائق لم يبال بما يجري .. أما الإداري الذي لم نره طيلة مكوثنا في المدينة بدأ يصرخ ويتصارع مع الحجاج للوصول إلى حل للمشكلة القائمة .. استمر ذلك طويلا دون حل وبقيت كثير من الحاجيات ملقاة على الرصيف ..

في أثناء عودتي من بنغازي إلى رفح على متن باص تابع لشركة الاتحاد العربي للنقل البري حدثت نفس المشكلة .. لكن أحد الليبيين كان له خبرة في ذلك فاستطاع ترتيب العفش الكثير وترك متسعا آخر ..

بعد أن عجز الحجاج والإداري عن إمكانية تحميل الأشياء المتبقية .. أخذت على عاتقي مسؤولية ذلك بشرط تفريغ كل ما تم تحميله ، والابتعاد قليلا كي لا يتدخل أحد فيما أصنع ، ويعرقل إتمام مهمتي الشاقة التي اخترتها .. اضطر الإداري والجميع تنفيذ ما طلبته منهم ، ووقفوا يراقبونني من بعيد ..
بدأت بترتيب الحقائب الكبيرة أولا ، لم أترك فراغا صغيراً ولا كبيراً إلا وحشرته بالأمتعة .. كنت أستريح قليلا بين الفينة والأخرى عندما أتفقد الرزم الملقاة على الرصيف عسى أن أجد ما يملأ فراغا ما حتى انتهيت من تحميل كل الأشياء وبقي متسعا آخر ..
أعجب الجميع لما قمت به ؛ فقدموا لي شكرهم وتقديرهم ، الأكثر إعجابا كان السائق الذي ارتاح كثيرا لما قمت به ، أما الإداري الذي عجز عن حل المعضلة أومأ لي برأسه وصعد إلى الحافلة دون أن بنبس بنبت شفة ..
جهد كبير ، ووقت كثير حتى بدأت الحافلة التحرك ، كان الليل قد أرخى سدوله ، لكن أضواء المدينة ابتلعت كل الدجى ..



سيمفونية الحج



غادرت حافلتنا المدينة وأضواءها ، وبدأت تشق الصحراء التي أضفى الظلام عليها سحر عجيب ! الحجاج داخل الحافلة انتابهم الصمت .. لعل ذلك سببه قلق السفر والترقب الشديد للمحطة القادمة ، أو التفكير بما يجب عمله والقيام به في مناسك الحج ؟ المرشد الديني تحدث إلى الحجاج ، قائلا :
" نحن متوجهون إلى الميقات ، وميقات أهل الشام أو الشمال هو آبار علي . عندما نصل عل الجميع النزول والاغتسال بشكل كامل وتنظيف زوائد الشعر والأظافر والتطيب وينوي لعمرة متمتعا بها إلى الحج ، ثم يصلي ركعتين في المسجد ويخرج ملبيا نداء الله : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك .. لبيك .. "

وصلت الحافلة إلى آبار علي دون أن ينهي المرشد خطابه .. لم يكن المكان مزدحما .. نزلنا إلى غرف الحمامات الكثيرة العدد والتي خصصت لذلك .. كل منا دخل غرفة وأغلق الباب خلفه ..
لمَ السرعة في الاغتسال ؟ قمت بالاستحمام جيدا ، استخدمت الليفة والشامبو ، مررت على أعضائي جميعها ، ثم أزلت الرغوة بالماء .. قمت بحلاقة الشعر تحت الإبط وفوق العانة وقلمت أظافري القصيرة ، عدت مرة أخرى بالليفة والشامبو .. نزل الماء من الرشاش قويا وباردا ، كمن يغتسل يوم زفافه .. دهنت جسمي بالطيب .. تملكتني رغبة جامحة لممارسة الحب ..
كم أشتهيك ؟
لماذا تأتيني الآن .. ؟
لماذا تأتيني وأنا محرم ،
عشرة أيام تفصلني عنك ،
وأربعة آلاف ميل تبعدني عنك ..
لماذا تأتيني ؟
لماذا يأتيني كل هذا الحب ؟
وفي هذا الليل !
تعالي بحلم أو لا تأتيني ؟

ارتديت ملابس الإحرام ونويت لعمرة متمتعا .. دخلت المسجد وصليت ركعتين .. رأيت مجموعة من الحجاج تدور في أروقة المسجد ملبية . اندمجت معهم وباشرت في التلبية .. درت دورتين وخرجت من المسجد عائدا إلى الحافلة ملبيا .. كنت الأول الذي عاد ، حتى السائق لم يأت بعد .. وقفت أنتظر .. جلت في الساحات المرصوفة .. في إحدى الجهات التي ارتصت العديد من بسطات الباعة ، كان بعضها مغطى إشارة إلى عدم وجود صاحبها، وبعضهم كان نائما خلف بسطته ، وآخر يجلس خلفها متخاذلا ، إذا سألته عن شيء يجيبك بصعوبة .. لعل نهار اليوم كان رائجا في هذا السوق الصغير مما ترك ثقله على البائعين فدفعهم للنوم والتخاذل ..
تذكرت أني محرم ، لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك ، لبيك .. عدت أدراجي إلى الحافلة ملبيا ، كان السائق يمتثل خلف مقود الحافلة محرما وملبيا . باركت له مسعاه ودعيت أن يحفظه الله ، بعد برهة كان جميع الحجاج يمتثلون في مقاعدهم .. تفقدهم السائق وبدأت الحافلة تسير .. كان هديرها يخفي صمت الصحراء الجميل ، والضوء المنبعث منها يكسر العتمة الساقطة على الأسفلت..
ما هذه الهالة التي تسير في الفيافي ؟!
ما هذا الدعاء الذي يصدر من الحجاج بشكل جماعي ؟!
كان صوت النساء أعلى من صوت الرجال ..
سرب من النوارس البيضاء تطير مغردة .. تعلو بحر ديجور الصحراء الرهيب !
الفرح كان يعلو جباههم .. يكاد ينبلج من صدورهم لكنه كان يخرج من شفاههم بتراتيل جميلة ..

توقفت الحافلة أمام مدخل صغير يؤدي إلى أبواب عمارة شاهقة ، ها هو السكن الذي ستقيمون فيه بمكة المكرمة ، الحرم يبعد من هنا كيلومترين ، يمكنكم الوصول إليه مشيا أو ركوبا ، حج مبرور وسعي مشكور ..
تركنا أمتعتنا في الشقق المخصصة لنا ثم ذهبنا جماعة إلى الحرم لأداء مناسك العمرة ..
تجمع حولي أصدقائي وتبعهم آخرين .. طلبوا مني أن أقودهم في السعي والطواف .. قلت لهم بأن يتبعوني في كل خطوة، وسأرفع صوتي قليلا كي يرددوا من خلفي الدعاء ..

وصلنا الشارع المؤدي إلى البيت الحرام .. وجهت عناية صحبي بأن يتوقفوا ويتوجهوا شطر الكعبة ويرددوا بعدي :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
اللهم أنت السلام ومنك السلام فحيينا ربنا بالسلام
وأدخلنا بفضلك دار السلام
تباركت ربنا وتعاليت
يا ذا الجلال والإكرام
اللهم زد بيتك هذا تعظيما وتشريفا
وإيمانا

اقتربنا من دخول البيت .. دخلنا بأرجلنا اليمنى ورددت ثم رددوا ورائي :
باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اللهم افتح لي أبواب رحمتك
اللهم اجعل لي بها قرارا و أرزقني فيها حلالا
اللهم .. إن هذا الحرم حرمك والبلد بلدك والأمن أمنك والعبد عبدك
جئتك من بلاد بعيدة بذنوب كثيرة وأعمال سيئة .. أسألك مسألة المضطرين إليك والشفقين من عذابك أن تستقبلني بمحض عفوك وأن تدخلني في فسيح جنتك ، جنة النعيم .. اللهم إن هذا الحرم حرمك وحرم رسولك فحرم لحمي ودمي على النار .. اللهم آمني من عذابك يوم تبعث عبادك .. أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم أن تصلي وتسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وأبدا ...

كنت أتوقف عند كل جملة ، حتى يستطيع الجميع ترديد الدعاء .. انضم إلينا كثيرون لم نعرفهم ، أصبحت المجموعة كبيرة لم أستطع عدها .. عند دخولنا باحة الكعبة الشريفة وخطفت أبصارنا صحت قائلا :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله وحده لا شريك له
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
أعوذ برب البيت من الكفر والفقر ومن عذاب القبر
وضيق الصدر
وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة ورفعة وبرا ..

كنت أسمع ترانيم مجموعتي عند كل وقفة أنتظر فيها انتهاءهم من الترديد .. كان صوت النساء يعلو قليلا عن صوت الرجال .. وصوت إحداهن أعلى بعض الشيء ( سوبرانو ) كمن تؤدي دورها بجد .. كنت أقود سيمفونية .. إنها سيمفونية الحج !..
سرنا ببطء باتجاه الحجر السود ولم يكن متسعا للاقتراب منه .. جعلت الكعبة عن يساري وأخذت اكبر وأهلل .. ثم بدأت بالشوط الأول .. كنت حفظت سبعة أدعية مختلفة ، دعاء لكل شوط كي لا أخطئ في عد الأشواط السبعة وقدرت بأن ينتهي كل دعاء عند انتهاء الشوط ..
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والسلام على رسول الله  .
الله إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك وحبيبك محمد  اللهم أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار ...
وصلت الركن اليماني ، أشرت بيدي وصحت :
بسم الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار ..

انتهى الشوط الأول حيث والدتي تمسك بي والمجموعة من حولي وخلفي ، أشرت بيدي إلى الحجر الأسود . بسملت وكبرت من جديد وبدأت دعاء الشوط الثاني :

اللهم إن هذا البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك والعبد عبدك وأنا عبدك وابن عبدك ، وهذا مقام العائذ بك من النار فحرم يا الله لحومنا وبشرتنا على النار .. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.. اللهم قنا عذاب النار يوم تبعث عبادك .. اللهم أرزقنا الجنة بغير حساب .. انتهى الشوط الثاني .

بسم الله . الله أكبر والحمد لله . اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وسوء المنتظر والمنقلب في المال والأهل والولد .. اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ..
كنت أحرص في كل شوط وكل لحظة أن مجموعتي من حولي ويقومون بالأداء على أكمل وجه ..
الشوط الرابع : اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعملا مقبولا وتجارة لن تبور .. يا عالما ما في الصدور ، يا نور النور أخرجني من الظلمات إلى النور .. اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلام من كل إثم ، والغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة والنجاة من النار .. ربّ أقنعني بما رزقتني وبارك لي فيما أعطيتني وأخلف على كل غائبة منك بخير ..
الشوط الخامس : اللهم أظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك ، وأسقني يا الله من حوض نبيك سيدنا محمد  شربة هنيئة مريئة لا أظمأ بعدها أبدا ، اللهم إني أسألك من خير سألك به نبيك  وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه سيدنا محمد  . اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وما يقربني إليها من قول أو فعل أو عمل ..
الشوط السادس : اللهم إن لك علي حقوقا كثيرة فيما بيني وبينك ، وحقوقا كثيرة فيما بيني وبين خلقك . الله ما لك منها فاغفره لي ، وما كان لخلقك فتحمله عني ، وأغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا واسع المغفرة .. اللهم إن نبيك عظيم ووجهك كريم وأنت يا الله حليم عظيم تحب العفو فاعف عني ..
الشوط الأخير : اللهم إني أسألك إيمانا كاملا ويقينا صادقا وقلبا خاشعا ولسانا ذاكرا وحلالا طيبا وتوبة نصوحا وتوبة قبل الموت والعفو عند الحساب والفوز بالجنة والنجاة من النار برحمتك يا عزيز يا غفار . ربّ زدني علما وألحقني بالصالحين ..

هكذا انتهينا من الطواف حول الكعبة الشريفة وذهبنا إلى أحد الأفنية فصلينا ركعتين ثم استرحنا قليلا ، قمنا بعدها بالنزول إلى بئر زمزم حيث شربنا واستحممنا بالماء البارد الخفيف الذي أزال عنا تعب الطواف .. اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء وسقم برحمتك يا ارحم الرحمين ..

انتقلنا للسعي بين الصفا والمروة .. " إن الصفا والمروة من شعائر الحج فمن حج أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم " 
هذا جبل الصفا . هنا بدأت هاجر أم إسماعيل ـ عليهما السلام ـ بدأت تجري وراء السراب .. سبعة أشواط وهي تهرول ، ثم عادت منهكة القوى .. عادت إلى طفلها فإذا بالماء الذي تبحث عنه ينبع عند قدمي الطفل ..
كرامات الله كثيرة ،
ورحمته عالية ،
هنا الفرح الكبير ،
والفوز العالي ..
هنا انفجرت الطبيعة لصالح الإنسان
هنا عمرت الأرض
وبدأت الحضارة ..
.........
إلى هنا ينتمي الإنسان ،
والوجود .
هنا تشاهد كل الوجوه ،
وكل الأجناس ..
ومن كل الاتجاهات
هنا .. على خطى هاجر
نهرول ،
نبحث عن الماء ،
ولن نرى السراب ؟
ستضيع الظاهرة بين الأرجل
لم نر السراب !
رأينا الفرح والسعادة ..

مع حجم التعب الكبير ، إلا أننا كنا نشعر بسعادة كبيرة خاصة عندما كنا ننتهي من أداء مرحلة من المراحل .. ها نحن قد أنهينا السعي بين الصفا والمروة وكان ينتظرنا أناس كثيرون .. ليستقبلونا بالتهاني والفرح والابتسامات تعلو وجوههم .. منهم من كان يحمل مقصا كي يقص لك شعرة أو شعرتين إعلانا بالتحلل من الإحرام .. ومنهم من كان يوزع الماء لمن يريد أن يشرب .. ومنهم من كان يوزع الحلوى تعبيرا عن الفرح والسعادة على إتمام العمرة بسلام ؛ كمن يدخل الامتحان ، لكن النتيجة مباشرة .. لن تنتظر من يصحح ورقة الإجابة ...

هنا أم القرى ..
هنا مكة المكرمة ،
هنا البلد الذي يزوره أكثر الناس على مدى السنين والأيام الماضية والآتية ،
يا الله ! كم هذه المدينة مدهشة ؟! فيها تناقض غريب ، عبق التاريخ وتقنية الحاضر ، القديم الأصيل والجديد الباهر ، سمات وجهها ليس أبيض ولا أسود ، إنها مدينة تتحول إلى امرأة فاتنة يعشقها الجميع ، تحمل داخلها أسرار كل أنثى ..
ألقوا بنا في شارع يؤدي إلى الحرم ، ومن الطبيعي أن يكون هذا الشارع تجاريا ، إذ يمتلئ بالمحلات في الاتجاهين .. بضائع تغطي أبواب المحلات ، ويعج بالناس الذين يتحوجون بالأشياء والهدايا ، هؤلاء الناس جميعهم غرباء .. حتى أن غالبية التجار ومن يعمل معهم ليسوا من أهل مكة ..
يا الله ! كيف لي أن أدور في حارات هذه المدينة وأعيش مع ناسها ؟ أجالسهم .. أشعر بأحاسيسهم وعواطفهم .. أعيش تقاليدهم ومعاناتهم .. لا شك أنني سأحتاج زمنا أكبر لتحقيق ذلك ..
الكل هنا غريب .. أين أصحاب هذه المدينة ؟ أين قريشا ؟ وأين أبي سفيان ..؟ وابن الوليد ؟ أين علي ؟ أين دار الندوة ...
هل ترك هؤلاء شيئا وراءهم ؟ وإن كان .. هل حفظ في متحف ؟ أم أن ذلك لا يجوز ؟ وإن وجد .. من سيرشدني إلى ذلك ؟... في هذا الوقت لا أحد يعير ذلك أدنى اهتمام ...

كان يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة .. علينا الذهاب إلى المسجد الحرام مبكرا لاحتلال مكانا داخل المسجد قبل الازدحام .. اصطحبت أمي مبكرا وذهبنا إلى المسجد .. اصطفت أمي مع النساء .. حاولت أن أكون قريبا منها .. كانت دائما أمام ناظري .. في البداية لم يكن أحد من الرجال بجانبي .. قليل من الوقت امتلأ المكان بصفوف من الرجال .. كنت بين الفينة والأخرى أقوم للصلاة والدعاء .. على يميني كان أحد المصلين يتبعني ويقوم بعمل ما أقوم به .. تملكتني رغبة في الحديث معه .. ملامحه تشير إلى أنه من المغرب العربي .. سألته عن جنسيته فرد :
ـ من المغرب . وأنت :
ـ من فلسطين .
ـ يا الله ! أنت من فلسطين الحبيبة ؟
ـ نعم !
ـ فلسطين في القلب يا وليدي ..
قام الرجل يقبلني ويبكي .. لعلك قريب من المسجد الأقصى ؟ لعلك زرت المسجد الأقصى ؟ .. يا الله ! من أين لي هذه البركة ؟ إنني أشم رائحة القدس فيك .. وزاد في تقبيلي من جديد .. قلت له :
ـ أنا من غزة يا والدي .. لكني زرت القدس مرات عديدة ، وأعرف كل حجر فيها لعلني حملت منها شيئا لك ..
ـ أنت من بلد الانتفاضة الشامخة ؟ أنت من أرض الرباط .. وأنا من مدينة الرباط ..
سؤال كان يحيرني دائما .. ما هو الرابط بين الرباط وأرض الرباط ؟؟ كل من التقيت بهم من الأشقاء العرب كان الأكثر انجذابا وحبا لنا هم الأخوة المغاربة .. خصوصا من المغرب العربي ..
ـ أتعرف أن للقدس باب اسمه " باب المغاربة " كذلك حارة بأكملها تسمى حارة المغاربة ؟
ـ أتعرف أن بغزة عائلات كبيرة من أصل مغربي ، لا بد وأنه : كان ارتباط وثيق بين فلسطين والمغرب ..
ـ يا وليدي كانت البلاد قديما بلدا واحدا .. الاستعمار والحكام كانوا دائما يعزلوننا عن بعض البعض إما بسبب تعزيز الحكم للحاكم ، وإما بسبب الأطماع الاستعمارية ..
ـ أه يا حاج ! لو لم تكن حدود بيننا .. لكنت رحلت إلى القدس بعد الحج .. وهؤلاء الملايين يمكنهم فعل ذلك .. ولديهم الرغبة القوية لزيارة القدس .. أيوجد أجمل وأسمى من أن يزور الحاج الحرم الثلاث ؟ وفلسطين هذه الفقيرة يمكنها أن تعيش برغد من ذلك ! ها هي الحقيقة فالاستعمار يدركها جيدا .. يقطع أوصالنا حتى يتسنى له السيطرة علينا ومن ثم نهب خيراتنا .. ووجد له معينا من عروش تدرك ذلك أيضا .. تفهم وتمارس الكذب والرياء على شعوبها ..
ـ بفرجها الله يا وليدي ، هذا الحال لا يمكن أن يدوم ؟ أرأيت شعبا وأرضا بقيت على حالها منذ بدء الخليقة ..؟

صعد الإمام على المنبر وأخذ يحمد الله على ما نحن فيه ورحب بملايين الحجاج من شتى الأنحاء .. وعدد مناقب الحج وفوائده ، ثم تطرق إلى القدس المغتصبة والأسيرة ودعا إلى الوحدة ورص الصفوف لتحريرها واستطرد في حديثه عن القدس ومكانتها في الإسلام وفي نفوس المسلمين .. نظرت إلى رفيقي المغربي وإذ بعينيه تنهمر بالدموع ..

في أثناء عودتي من الحرم إلى مكان إقامتي ركبت سيارة أجرة .. يبدو أن السائق أخطأ الطريق ، وأن هناك طرقا عديدة متشابهة .. وأنني ارتبكت في تحديد مكان الإقامة فنزلت في مكان مشابه .. درت كثيرا ولم أهتد إلى العمارة التي أنزل فيها .. حرت كيف أصل بسرعة دون أن أغوص في التيه ..؟ ولم أرجع إلاّ بواسطة الشرطة .. استرحت قليلا أفكر في الأمر .. شعرت بأنني لست بعيدا عن المكان بحساب طول المسافة والاتجاه الذي خرجت منهما من المسجد الحرام .. وجدت نفسي أبعد عن العمارة كيلو متر باتجاه الشرق على الأغلب .. إذن علي أن أسير باتجاه الغرب كي أصل المكان .. هل علي أن أسأل عن عنوان إقامتي ؟؟

عند سفري إلى بيروت عبر الأراضي السورية وفي درعا ( نقطة العبور من الأراضي الأردنية ) أعطوني ( تكليفا ) لزيارة المخابرات السورية في دمشق .. ولا يجوز لي مغادرة سوريا قبل أن يسمحوا لي بالمغادرة .. نزلت من الفندق أبحث عن موقع دائرة الجوازات والهجرة ( المخابرات .. ) كما أفهمونيها في حدود درعا .. هذه دمشق الفيحاء لم يكن لي وقت كبير للتعرف إليها ، وعقلي لم يكن يستقبل شيء قبل الانتهاء من تلك المهمة الصعبة .. أكثر من ساعتين وأنا أدور في شوارعها عسى أن أجد أحداً يدلني على الهدف بدون جدوى .. الغريب هنا أنك لن تجد أحد يمكن أن يدلك على المكان .. وإن سألت أحد المارة كي يرشدك ويختصر عليك الطريق ، ويخفف عنك حجم التعب الذي أجهدك .. فلن تعثر على ذلك .. الكل يقول لك لا أعرف .. أو يشير لك من هذا الاتجاه .. ويكون المكان باتجاه آخر .. بعد ساعتين من البحث قابلني شخص ويبدو أنه فهمني وعرف أنني من الأراضي المحتلة فامتلك الجرأة والشهامة فأخذني إلى المكان المقصود .. وإذ به يبعد قليلا عن الفندق الذي نزلت به ..

بعد أن حددت الاتجاه الذي سيوصلني إلى مكان إقامتي .. عليّ قطع المسافة من خلال مروري داخل إحدى حارات مكة .. مغامرة مجهولة الأهداف .. ليس لي مفر من ذلك .. الشوارع هنا ضيقة كان يتخللها أحيان ساحة كبيرة بعض الشيء وفي أطرافها دكان أو اثنين تغطي حاجة السكان من المواد الاستهلاكية .. وعلى جانب الدكان كان يجلس بعض من أهل الحي .. نساء ورجال ، صبية ، وأطفال .. كان يطغى عليهم اللون الأسود قريبون من الزنوج .. لم أر علامات التحفظ والحشمة على نسائهم الجميلات .. على نقيض ما هو مفهوم لدينا خاصة أنهم يعيشون في مدينة مقدسة ..! عبرت تلك الحارة بسرعة وإذ بي أطل على شارع فيه العمارة التي أقيم فيها .
ثلاث ليال قبل بدء مناسك الحج ، كان يزورنا أناس كثر .. شاب في مقتبل العمر ، كان يبتغي أن يبيعنا أضاحي العيد .. السائد هنا أنك تدفع ثمن الأضحية لإحدى الشركات التي تعمل في هذا المجال والحاج بعد دفعه المبلغ لا يعرف شيئا بعد ذلك .. سوى ما هو رائج بأن هذه الشركات تقوم بذبح الأضاحي وتوزيعها بطريقتها ..؟ مما دفع بحجاجنا سؤال المفتي الذي كان يرافقنا ، وكانت إجابته : الأفضل من الحاج أن يشتري ذبيحته بنفسه وأن يذبحها هو ، ويأكل منها إن تمكن من ذلك .. هذا ما شجع الحجاج من شراء الأضاحي من ذلك الشاب .. لكنهم فوضوني بذلك نيابة عنهم وكان عددهم خمسة وأربعين حاجا .. علي أن أتفق مع الشاب لشراء خمسة وأربعين هديا ، وأقوم بذبحها وإحضار ما هو ممكن لإطعامهم منها .. مهمة ليس من السهل تحقيقها .. لكنني استطعت تحقيق ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق ..
عصر اليوم الثامن من ذي الحجة وردت أنباء عن نشوب حريق كبير في خيام الحجاج بمنى .. الحجاج لم يدركوا المتاعب التي تنتظرهم جراء ذلك وكانوا مأسورين بقرارات بعثة الحج .. بدأ ليل التاسع من ذي الحجة بإحرام الحجاج استعدادا للوقوف بعرفة .. بعد صلاة العشاء توجهنا بالحافلة إلى جبل عرفات .. كان الشارع الضخم الذي سيوصلنا إلى هناك يكتظ بسيارات الحجاج .. الكل يسير بهدوء وببطء شديدين .. مشهد غير مألوف ولا يمكن أن يحدث في مكان آخر على الأرض .. ولا يمكن أن يتكرر هنا في يوم آخر من أيام السنة .. ثلاثة ملايين حاج يستقلون السيارات في منتصف الليل استعدادا للوقوف بعرفة في الصباح المقبل .. لا أعرف كيف وصلنا المكان المخصص لنا بعرفات ؛ لأن الحافلة كانت شبه متوقفة .. كانت تسير كالنمل .. أو أن حجم السيارات الضخم لا يمكّنك من الإحساس بأنها تتحرك .. كانت تنتقل من مكان لأخر دفعة واحدة كالغيمة الكبيرة التي تملأ السماء ..
تراتيل القرآن والدعاء تصدح في كل صوب .. سيمفونية إلهية .. صورة جميلة .. في غاية الجمال والإتقان ، لم يكتشفها عباقرة الموسيقى .. كيف اشترك كل هؤلاء في هذه السيمفونية الرائعة ..؟؟ بدون مايسترو يقودهم .. بدون نوتة ، ولا سلم موسيقي يوحدهم ، هدف واحد لا غيره .. كان يوحدهم .. وقدموا جميعا من شتى البلدان من أجله ..
الشمس الحارقة بدأت تقذف لظاها في كل مكان .. استلقى الحجاج تحت الخيام التي بالكاد كانت تحميهم من الأشعة الحارقة .. في الممر الممتد بين سطر خيامنا والصف الآخر كانت بعض الشجيرات تبعث في النفس سريرة جميلة .. إنها تتحدى الطقس الحامي وشحّ الماء .. كان ينتصب صهريجا للماء على بعد قليل من خيمتنا .. بدأت أنقل الماء بدلو لري الشجيرات .. لا بد أن تكبر وتصبح أشجارا شامخة عسى أن توفر الحماية للحجاج في سنوات قادمة .. ويكون لي في ذلك أجرا ! .
قبل غياب الشمس .. استعد الجميع للنفير إلى المزدلفة .. كان صمت رهيب .. لا أعرف من الذي أعطى الإشارة بالنفير .. سارت القافلات بهدوء .. عدد كبير من الحجاج نفروا سيرا على الأقدام .. لعل في ذلك ثواب أكثر .. أو اقتداء بالأولين .. أو أن السير على الأقدام أسرع من السيارة لشدة الازدحام .. بعد العشاء بقليل وصلنا المزدلفة ، وهي موضع بين منى وعرفة ، وهي فضاء فسيح لا بناء فيه سوى مسجد عظيم .. صلينا المغرب والعشاء جمعا وقصرا .. بعدها تناولنا بعضا من الطعام ثم امتثلنا لنوم عميق .. أفقت من النوم على أذان الفجر .. توضأت وصلينا الفجر ونفرنا إلى منى من مزدلفة لرمي جمرة العقبة الكبرى ...
فيض هادر من الحجيج يندفع كالسيل نحو إبليس الكبير .. سوف يرجم بسبع حصاة من كل حاج ! سيرجم بإحدى وعشرين مليون حجر في أقل من ساعتين .. قبل طلوع الشمس .. من يخرج معافى من هذا الطقس الخطير ..؟؟
من ينجح في رمي الحجارة بموضعها ؟
وسط الزحام الشديد ،
من يستطيع أن يرفع يده ليصوب بحجره الهدف ؟
لا يجيد ذلك إلا لاعب الكرة ! أو من مارس رمي الحجارة في الانتفاضة المقدسة ..

عدنا إلى خيامنا في منى .. تغمرنا السعادة والفرح .. بعد الانتهاء من رمي جمرة العقبة الكبرى وكأننا تخلصنا من معضلة كبيرة .. حقا نحن على حافة تحقيق الهدف المنشود .. زال التعب الكبير الذي ألم بنا .. استلقينا تحت الخيام .. رائحة الحريق مازالت تسكن في زوايا المخيم .. بل كان الدخان يخرج أحيانا من بقايا أنسجة لم تنطفىء كانت تنطلق هنا وهناك .. في طريق عودتنا إلى المخيم الذي يبعد حوالي سبعة كيلو مترات من إبليس .. الطريق يعج بالحجاج وكانت علامات الفرح تملأ عيونهم .. في أماكن قص الشعر الكثيرة على طول الطريق يصطف الحجاج طوابيرا .. الحلق بالموس بعشرين ريالا ، وبالماكينة بخمسة عشر ، وبالمقص بعشرة .. هذا وقت التحلل من الإحرام ..
كيف لنا أن نتم طواف الإفاضة ؟ وعلينا أن نبيت هنا على الأقل نصف من الليل كل ليلة من أيام التشريق .. السفر إلى مكة صعب ومكلف ، لا بد لي من حيلة تخفف هذا الجهد ، وهذه التكلفة .. تشاورت مع مجموعتي وقرّرنا أن نبيت في منى حتى بعد نصف الليلة الأخيرة ، ثم نسافر مع النساء لمكة لطواف الإفاضة وترك النساء في الإقامة هناك .. والعودة في اليوم التالي للانتهاء من رمي الجمرات ..

وصلنا الكعبة بعد الثانية صباحا .. قمنا بالطواف .. في الشوط الخامس بدأ المؤذن ينادي لصلاة الفجر .. الكثير هنا لا يدرك ماذا عليه أن يفعل ..؟ أما أنا وربما غيري نعرف أن علينا التوقف حيث وصلنا في الشوط استعدادا لصلاة الفجر مع الجماعة، ومن ثم إكمال الطواف .. لكن العاصفة غيرت كل الاتجاهات .. استمر الكثير من الحجاج في الدوران ..
كالأمواج الهادرة أخذت تتلاطم في كل جانب ،
منهم من خرّ ساقطا في قاع الموج ، ومنهم من دفعه الموج إلى موقع بعيد .. لم يقصد الوصول إليه ..
لم أحسب المدة الزمنية التي استمرت عليها العاصفة ؟
لكنه وجدت نفسي أمسك بأمي وجالسا في حجر إسماعيل عليه السلام .. ماذا لو حدث أن خرّت الوالدة تحت الموج الهادر ؟؟ هل هذا درس من الله كي يتعلم الجميع ؟؟ أم هو درس لكبار السن وغير القادرين على أداء المناسك بأن يفوضوا غيرهم بالحج ؟؟ لماذا يصرّ الإنسان في أخر عمره على أداء هذه الفريضة ..؟ ألا يحسب بأنه قد لا يستطيع القيام بها .. فكم من المسنين أقعدتهم الشيخوخة عن الحركة .؟
وصلنا منى بعد الزوال بساعة .. إنها آخر مرحلة من مناسك الحج .. رمي آخر الجمرات .. بدا المكان كأنه بعد الزلزال .. الناس متفرقة ، وكل منصهر مع ذاته .. عند صعودنا الجسر الذي سنرمى منه الجمرات ، كانت أرض الجسر مفروشة بالأحذية وأشياء عديدة تركها أصحابها هنا .. بدون قصد ..! كان يدور الحديث بين الناس عن مقتل ثلاثة عشر حاجا ، ونقل أكثر من مئة إلى المستشفى على أثر تدافع الناس للرمي عند بدء الزوال ..

في الصباح ذهبت إلى المسلخ بصحبة الشاب الذي ابتعنا منه الهدايا لذبحها .. إسطبل المواشي كبير بجانب المسلخ الذي أعد خصيصا .. دفع الشاب ثمن الهدايا الخمسة والأربعين هديا .. فساقها أحد العاملين البنغالين عبر سرداب ضيق يؤدي بها إلى المسلخ .. طلب لي الشاب سكينا للذبح ، فقمت بنحر عشرة .. حينها كانت كل الهدايا قد نحرت .. يا الله ! في دقائق معدودة كانت الهدايا معلقة ونظيفة .. أخذت منها تسعاً بحساب أضحية لكل خمسة أفراد من المجموعة ..
مجموعتي العجوري وأبو العبد وصديقي محمد فرحوا للهدي ، لكن الحيرة ارتسمت على محياهم .. كيف لنا طبخ الهدي ونحن لا نمتلك من أدوات الطهي أي شيء ، ولا يوجد موقد لذلك .. أحدهم اقترح بأن نجهزها في أحد المطاعم ، لكن ذلك سيكلفنا كثيرا .. طلبت منهم أن يوكلوا المهمة لي ، وأنا سأتدبر الأمر .. يبدوا أنهم شعروا بأنني متعب ويكفي ما قمت به ، فأرادوا لي الراحة .. لا بأس بأن يقوم صديقي محمد بمساعدتي .. فكرت بأن نشتري الفحم ونجد لنا مكانا على سطح العمارة .. ذلك سيكون مناسبا لحفلة شواء مع الانتهاء من مناسك الحج ، خاصة أننا لم نأكل اللحم طيلة الرحلة .. صعدت إلى السطح .. في الغرفة المهجورة والملاصقة لغرفة المصعد الكهربائي كان في انتظاري كنز عظيم سيوفر علينا جهد كبير .. صحت ، يا صديقي محمد : انظر على ماذا عثرت ؟ إنه ما نبحث عنه .. يا الله ! إنه كنزنا المفقود .. إنه منقل للشواء ومملوء بالفحم ، وعليه شبك حديدي خصيصا للشواء .. صاح محمد :
ـ إن الله معنا .. ولا بد أننا مخلصون لمرضاته ، فلماذا لا يرضينا بما نبحث عنه ..
ـ شكرا لله على كل شيء .
حملنا المنقل وأنزلناه إلى شقتنا ، أشعلنا الفحم وبدأنا بالشواء .. وأكل الجميع بهناء .. ثم خلدت لنوم عميق ..

الجميع هنا يستعد للرحيل .. لا ، بل العديد منهم قد غادر المدينة .. إذا طفت للوداع فعليك الرحيل قبل هجوم الليل .. وإلاّ عليك الطواف مرة أخرى .. هكذا هي النهايات .. تولد لي شعور غير الذي عند الجميع .. أرغب بالبقاء هنا مدة أكبر .. لعلي أودّ التعرف أكثر إلى المدينة ، لأنني لم أشبع بعد .. من معرفة كل أسرارها .. فالوقت لم يكن كاف لذلك ..
في الليل أبلغونا أن حافلتنا ستغادر المدينة في الصباح .. لا أذكر كيف مر الليل .. أفقت على صوت ضجيج الحجاج وهم ينقلون حاجياتهم إلى الحافلة .. علي أن أستعد للرحيل ، بسرعة لبست قميصي وسروال الجينز ، وأنزلت أمتعتي وأركنتها على الرصيف .. جلمة هناك ، حجاج جنب الحافلة .. يبدو أن كثرة البضائع التي تضاعفت عما كانت عليها في المدينة هي سبب المشكلة .. بل زاد عليها أن الشركة الناقلة أرادت استغلال ذلك ؛ فطلبت من الحجاج أن لا يزيد عن حقيبة واحدة لكل حاج التي يسمح بتحميلها في الحافلة ، وما زاد عن ذلك ستنقل بالشاحنة وسيدفع كل شاحن عشر ريالات عن كل كيلو جرام واحد يريد شحنه .. إنها معضلة لها رموز ، ومن يستطيع حلها .. ومن هذه الرموز أن أحد المسئولين قد خطف جوازات الحجاج وغادر المكان إلى جهة مجهولة ..
العجوري ، وأبو العبد طلبا مني التدخل والمساهمة في حل المشكلة مرة أخرى ..
يا الله ! كيف لي قدرة على ذلك ..؟ بدأ السفر وبدأت متاعبه ..
يا الله ! ساعدني على الحل ..
المشكلة كبيرة وتضخمت عن السابق .. وتدافع المستغلين لجلب المال ..؟
سألت السائق إذا كان موافقا على تحميل جزء من الحاجيات على الكراسي في مؤخرة الحافلة ؟؟ وأن الحجاج سيدفعون له مقابل ذلك .. هذا بعدما تمتلىء كل الأماكن المخصصة لذلك في الشاحنة .. فرصة كبيرة للسائق .. إنه سيجبي ما يقارب الألف جنيه .. إنه مبلغ ضخم بالنسبة لإنسان يعيش في مصر .. وافق السائق بدون تردد ..
طلبت من الحجاج بان يذهبوا لأداء طواف الوداع ، وسيعودون ليجدوا كل شيء على ما يرام .. أنا وصديقي محمد والسائق بدأنا بترتيب الحاجيات في أماكنها .. بعد ساعة تقريبا انتهينا من تحميل كل الأمتعة .. أكوام الحقائب ، والبطانيات ، وكل الأشياء التي كانت تملأ الرصيف ، لا أحد شاهدها يمكنه أن يصدق أن تلك الأشياء استوعبتها الحافلة .. الكراسي الخلفية من الحافلة امتلأت حتى السقف .. ذهبنا بعدها لطواف الوداع .. كان أول حاج منهم قد أنهى الطواف وأخذ مكانه في الحافلة استعدادا للرحيل ..

جميع الحجاج امتثلوا في مقاعدهم .. بالضبط كما بدأنا الرحلة فبل اثنين وعشرين يوما .. الإداري الذي اختفى عنا كل الوقت في مكة الشريفة عاد اليوم لنراه في العودة .. يبدو أن مسئوليته الإدارية فقط في أثناء السفر ..؟ الإداري يقف بجانب السائق ويصيح :
ـ لا يمكن لنا أن نتحرك خطوة واحدة .. بدون جوازات السفر .. ولا يمكن أن يعيدوها لنا قبل إنزال هذا الحمل ( يشير إلى الأمتعة المرتبة خلف الحافلة ) ..
لم يرد عليه أحد .. انتاب الحافلة صمت مطبق .. العجوري وأبو العبد كانا يفهمان بعضهما بالنظرات .. لمحت في عيونهما إشارات التعجب والاستهزاء بما يقوله الإداري ..! لعلهما استقويا بسياسة الأمر الواقع .. سألت الإداري :
ـ من هو مسئول البعثة ؟ وأين يتواجد ؟
ـ إنه الشيخ همام ، ذهب للنوم قبل لحظات في شقته بعمارة ( ...)
اصطحبت معي العجوري وأبو العبد إلى الشيخ همام .. وجدناه يغط في نوم عميق .. كان شخيره يملأ الشقة ضجيجا .. بعد محاولات عديدة استطعنا إيقاظه من النوم .. فزّ من نومه صائحا .. مرتبكا .. لم يفهم شيئا مما قلناه له .. وكلما حاولنا إفهامه مشكلتنا يعود للنوم مرة أخرى .. أخيرا أحضر أبو العبد قليلاً من الماء ورشه على وجهه .. عندما فهم مشكلتنا ، دلنا على عنوان رجل في طريقنا إلى جدة ، وأكد أن جوازات سفرنا سنجدها عنده .. عدنا إلى الحافلة ، وأملنا ضعيف أن نفوز بالجوازات ..

وصلنا العنوان ، وصعدنا نحن الثلاثة إلى شقة الرجل .. طرقنا الباب كثيرا ، ولا أحد يستجيب .. لم يكن أمامنا بديل آخر ، سوى أن نتأكد أن الشقة خالية من الإنس حتى نبرح ذلك المكان .. استمر الطرق بشدة على الباب حتى فتح ، وخرج منه رجل لم يظهر غضبه .. وكأنه كان يحيك مؤامرة ، ولم يسعفه الوقت لتدبيرها جيدا .. قلت له :
ـ نريد جوازاتنا ، وإلاّ سوف يصعد إليك كافة أصحابها ، ولن يبرحوا هذا المكان بدونها ، ولا أحد يتحمل عواقب ما سيجري غيرك ..
حاول أن ينفي بأن يكون لديه علم بها ، وطلب منا فرصة عشرة دقائق لحل المشكلة .. لم نغادر باب الشقة خوفا من هروب أحد منها .. بعد خمس دقائق خرج رجل آخر حامل الجوازات في يده وألقى بها في حجر أبو العبد .. طلبت من أبو العبد بأن يذهب إلى الحافلة وتوزيعها على أصحابها ، وبقيت أنا والعجوري على باب الشقة .. حتى نتأكد من أن الجميع استلموا جوازات سفرهم .. ما إن انتهى أبو العبد من توزيعها ؛ فنادى علينا كي نغادر ..
أكثرهم كان سعادة وفرحا هو السائق الذي أظهر إعجابا شديدا بانتصارنا .. أدار المحرك ، وبدأنا رحلة العودة ...

العودة


في أصيل نفس اليوم الذي غادرنا به مكة .. وصلنا إلى عنق الخليج .. خليج العقبة من الجنوب الشرقي .. إننا على مقربة من ميناء ضباء السعودي .. كانت خيوط الشمس الذهبية تنسكب على سطح البحر مولدة بيارق فضية تتلألأ مع تعاريج الماء .. مشهد أخاذ على طرف الصحراء المترامية الأطراف .. هناك بنيت استراحة وسط خميلة من أشجار النخيل لخدمة المسافرين .. المكان غير مأهول بالسكان مما أضاف له سحرا فريدا لا يمكن أن يتكرر في أي مكان آخر من الأرض ..
آه ..!
لو أمكث هنا فترة أطول ..!
الوحشة تقتلني .. وتشدني للعودة ..
تمنيت أن أكون وحيدا كي لا يوحشني شيء !
هل يمكن أن يحاسبني الله ..؟ لو تركت رعيتي وتخليت عنهم ..؟
أليس رزقهم على الله ..؟ هو ربّ العالمين .
لماذا نكدّ في هذه الحياة الفانية ؟ ونفتك بعضنا بعضا ..
آه .! لو يعيدنا الله إلى الحياة الأولى ..!

الوقتُ
اختبأ ...
لا ليلَ ولا نهـــار !

في البدء
وقفنا وحيدين ،
كما آدم وحواء
لم نأخذ من ورق التين ،
ولم نأكل من الشجرة !
لماذا تبتعدين ؟
وجسدي يتململ
يتحسس أعضائي ،
استنساخ فريدْ
يعيد لنا التكوين
ويعيد لنا ما ضــــاع ..
وكل شيء يبدأ من جديد ..

الشمسُ
انفطرت ...
نصف لك ، ونصف للبحر !

في المهد
تجمعت ذرّات الروح،
وهزني الشبق المخزون ..
وتصارعت ذرات جسدي
المكســور !
وانفتقت عينايْ من ضوء
شمسك ...
وصوتك الساحر يدوي
في المكان
ينادي ، ولا أحد غيري
يلبي النداء ..
نتجاذب ونلتصق
كشطري مغناطيس
وكل شيء يبدأ من جديد ...

صليت الظهر ، والعصر جمعا وقصرا .. وبقينا هناك على البحر حتى بعد الغروب .. تجمعنا في الحافلة التي بدأت تلتهم الصحراء وسط ظلمة الليل الحالكة .. منتصف الليل أيقظني السائق بعدما توقف على الجانب السعودي من الحدود السعودية الأردنية .. كان الإداري يحمل جوازات السفر بعد ختمها بمغادرة الأراضي السعودية .. اندفعت الحافلة لتقفز مسافة الأرض الحرام ( الحدود ) لتحط بنا في الجانب الأردني .. اصطفت هناك أكثر من عشرين حافلة تنتظر ختم الدخول .. استدرك السائق بأننا سننتظر طويلا حتى نحوز على الختم .. أخذ رزمة الجوازات ، وطلب مني علبتين من السجائر ومصاحبته إلى موظف الحدود .. الصالة تغص بالمسافرين .. وشبابيك المراجعة مكتظة .. صوت الأختام كان يعلو على حديث الجميع .. أخذ السائق مني علبتي السجائر وضعها أسفل رزمة جوازاتنا وناولها للضابط خلف إحدى الشبابيك .. نظر الضابط إلينا وتبسم .. ترك كل ما في يديه وأخذ يضرب بختمه جوازات سفرنا .. لحظات ثم سلمنا إياها مختومة ، ودعا لنا بالسلامة .. لم أكن أصدق ما جرى .. كنت أعتقد أن الأردن صارمة في هذه الإجراءات ..
الساعة تشير إلى السابعة من صباح اليوم التالي .. نحن أمام بوابة الرابية مرة أخرى .. مرة أخرى سننتظر طويلا .. تجهمت وجوه الحجاج ، الكل يريد أن يغمض عينيه ويفتحها ليجد نفسه في بيته وبين أهله .. ألا يكفي تحملهم مشقة السفر ؟ لماذا كل هذه الإجراءات العقيمة ..؟ ألم نعش على عتبة القرن الحادي والعشرين ؟ يمكن للمواطن الأوروبي أن يسافر حيث يشاء بدون توقف .. أمّا هنا .. فيمكنك أن تتوقف يومين ، أو أكثر على الحدود .. هل السبب هو الإجراءات العقيمة ؟ أم سوء الإدارة ؟ أم عدم الاهتمام بالإنسان ..؟ أم هي إجراءات مقصودة ؟؛ لإذلال الإنسان العربي ليكون مطيعا خائفا .. لا يمكنه ممارسة التغيير .. ولا ممارسة الديمقراطية .. أو أنهم يسرقون مقدرات الأوطان ولا يهون عليهم توفير وسائل مريحة لشعوبهم ..
عدد من الحجاج التفوا حول الإداري يتحاسبون على الفلوس ( العملة الإسرائيلية ) التي جمعوها عند دخولهم السعودية وأودعوها جميعها في كيس واحد في الأمانات .. وعند المغادرة يبدوا أن الإداري قد استردها من الأمانات ، ويعيد توزيعها لأصحابها .. كان هناك خلاف على توزيعها .. يبدو أن أحدهم نسي قيمة فلوسه التي أودعها وعند الاستلام ادعى أنها أكثر من ذلك .. هذا أدى إلى خصام مع الإداري ، لم يحل إلا بتدخل العجوري وأبو العبد ..
لم يقدم لنا وجبة غداء مثلما كان في المرة الأولى .. التهم الحجاج ما هو متوفر معهم من طعام ، حيث لا يوجد في الرابية سوى أكشاك لبيع أغذية خفيفة مثل المرطبات والبسكويت وما شابهه .. توجهنا إلى رصيف ميناء العقبة بعد الرابعة عصرا .. كانت سفينة كبيرة راسية في الميناء ، وتقل الحجاج الذين وصلوا قبلنا .. لا بد أنهم سيلحقوننا بها .. لكننا لم نقدم على متنها في الذهاب .. فكيف سنعود بها في الإياب ؟
افترشنا الرصيف مع بعض حاجياتنا الصغيرة ، وغادرتنا الحافلة إلى جهة مجهولة .. انتظرنا طويلا ، وإذ بالإداري قادم إلينا ليعلن خبره المشئوم بأننا لن نلحق بهذه السفينة .. وربما سننتظر قدوم اللنش الذي أقلنا في الذهاب .. بدأ الليل يرخي سدوله الجميل، نسمات البحر كانت تهب أحيانا لتبعث في نفوسنا الراحة .. المسافرون المغادرون كان عددهم يتزايد في كل لحظة .. مما يزيد من الضجيج الذي بدأ يزعجنا في كل مرة يتزايد فيها العدد ، والكل يتساءل متى سنغادر ؟ لا إجابة من أحد ، ولا يوجد أي وسيلة راسية في رصيف الميناء لتعطينا الأمل بأن دورنا سيأتي ..
آه ..! فنجان قهوة في السَحر سيعدل من مزاجي كثيرا .. لا بأس سأصنع القهوة .. وأرتشفها مع أنفاس سجائري بهدوء ؛علني أقطع جل الوقت ..

بقيت يقظا تلك الليلة ، عسى أن ينادوا علينا للمغادرة .. أراقب البحر .. عسى أن تشع أنوار اللنش أو السفينة التي ستأخذنا لبر سيناء الساحر ..
الشاطىء الآخر من البحر بعيد،
أنوار خافتة تتناثر متباعدة هناك ..
لا بد أنها منتجعات للسائحين ..
وشواطىء للعراة ،
صنعوا من شواطئنا ملاهي لهم ..
ولم ينسحبوا ..

بدأت أنوار الفجر تكشف عتمة البحر ، وبدأت الشواطىء الأرجوانية بالظهور .. وجزيرة فرعون الصغيرة لاحت قلاعها العالية من بعيد .. وبقيت أنا أنتظر ركوب البحر كي أبرح هذا المكان العجيب .. انتصف النهار ، والبحر لم يسعفنا من القيظ .. تضاعف عدد المغادرين هنا ، ولا يلوح في الأفق مخرج للانتظار، الكل هنا يدورون ، عسى أن يجدوا إجابة لسؤال الانتظار الذي يحيرهم، أو يلهون بالدوران مضيعة للوقت .. وضباط الميناء لا يجيبوك عن أي استفسار قد تطرحه عليهم .. كيف سيجيبون على ستة آلاف مسافر على أرض الميناء ؟
أكوام من القمامة تراكمت هنا .. وهناك ؟
النظافة من الإيمان ..
إذن من هؤلاء .. ؟
حجاج مؤمنون .. بالله ، وليس بالنظافة ..!؟
تناقض غريب .. وقواعد لم تغير من سلوك البشر ؟

أخيرا رست سفينة ضخمة على الرصيف الطويل .. بدأت طوابير المسافرين تصطف للركوب بها .. ولكن سبقتها السيارات والحافلات المغادرة .. بعد مرور ساعتين ، قدم الإداري ليعلن لنا الاستعداد لركوب السفينة ، وليس اللنش .. لا بأس ! مادام ستقلنا إلى الجانب الآخر وتخرجنا من هذا المكان الذي أصبح لا يطاق .. ركبنا السفينة آخر فوج ، ثم بدأت بالتحرك في ظلمة الليل ..

بعد منتصف الليل وصلنا رصيف نويبع . نصف ساعة وبدأت الحافلة تقهر بأنوارها ظلام سيناء .. ما إن شعت خيوط الشمس الأولى كانت الحافلة تقف في معبر رفح من الجهة المصرية .. قليل من الوقت وسنكون في بيوتنا .. نزل الحجاج ودّعوا السائق وشكروه ، ثم ختمت جوازات سفرنا بالخروج من مصر ، وحملونا على الحافلات التي ستنقلنا إلى الجانب الإسرائيلي من المعبر .. اصطفت أكثر من عشر حافلات مكتظة بالحجاج والمسافرين تنتظر من اليهود السماح لهم بالدخول .. كانت حافلتنا العاشرة في الدور .. انتصف النهار ولم يسمحوا لواحدة بالدخول .. ماذا يجري ؟ لا أحد يعلم .. ضابط الاتصال المصري حاول مرارا معرفة ما يجري ، ولكن دون جدوى فقط بوابة الحديد الكهربائية مغلقة .. وفتحها يتم من عندهم ..؟

إذا كان الانتظار سيطول .. لماذا نبقى جالسين على مقاعد الحافلة الخانقة ؟ لماذا لا ننزل ونفترش الأرض ؟ لا بد أنهم لا يسمحون بذلك .. إذن لماذا ضغطونا في الحافلات كالسردين .. لا بد من طريقة للخروج بها من الحافلة .. طلبت من السائق أن يفتح الباب ، فرفض . عاودت الطلب مع جميع من في الحافلة ، عندها لم يجد مفرا من فتح الباب .. خرجنا من علبة السردين والعرق يتصبب من أجسادنا كأنه كنا نطهى بماء يغلي .. لحظات وإذ بجميع من في الحافلات نزلوا إلى الأرض ما عدا الحافلة الأولى خوفا من أن تفتح البوابة فجأة ..

اصطف عدد من الجنود المصريون حرصا على أن لا أحد يعود منا إلى الجانب المصري .. راح بعضنا يستظل من القيظ تحت شجيرة أو حائط أو ظل الحافلات المتوقفة .. طال الانتظار والجميع انشغل بتدبير بعض الأكل وقليل من الماء ليسد رمقه ، أو يبل بلعومه من الظمأ ..

إحداهن بدوية .. حاجة في مجموعتنا ، كانت طيلة الوقت تجمع ما تبقى من اللبن ، تعبئه في قارورات .. تضيف إليه الملح وتقوم بتخزينه . كان يساعدها في ذالك ابنها الشاب . لم أجد تفسيرا لذلك حينها .. لكثرة توفر الطعام في مكة وكل الأماكن السعودية التي زرناها وأدينا المناسك فيها .. ها هي تفترش الأرض . هي وابنها يتناولان اللبن وفتات الخبز الذي كانت تحتفظ به ، بينما الجميع يطلب من الضابط السماح للباعة بإحضار الطعام والماء ، كان الضابط بين الفينة والأخرى يسمح لأحدهم بيع شطائر من الخبز محشوة بقطعة صغيرة من الجبن الأبيض . كان ثمن الفطيرة يفوق وجبة غداء بأرقى مطعم في القاهرة .. وثمن قارورة للتر ونصف من الماء يساوي عشرين لترا من الوقود ..! وغالبيتنا قد أنفق ما لديه من النقود .. لأننا أصبحنا على أبواب الوطن .. وعلى وشك الولوج إلى بيوتنا ..

اندحر الوقت .. دون أن يدخل الحدود سوى ثماني حافلات وأغلق بعدها المعبر ليعاد فتحه صبيحة اليوم التالي .. لا جدوى من أية محاولة للدخول . أصبحت حافلتنا رقم اثنين في الدور ، وعلينا المبيت فيها للصباح .. المسافة التي تصطف فيها الحافلات استعدادا للدخول لا تزيد عن مئة متر من البوابة وحتى وقوف الجنود المصريين الذين يمنعون أي أحد منا الرجوع إلى صالة العبور ..

حاجٌّ في العقد الستين من العمر ، قوي البنية طويل القامة، كان الغضب يتطاير شررا من عينيه .. ماذا فعلنا كي ينتقموا منا بهذا الشكل ؟ ألم نوقع معهم اتفاق سلام ..؟ ألم يحترموا الدولة الأولى التي وقعت معهم سلاما ؟ وهؤلاء ـ يشير إلى الجانب المصري ـ لماذا يساعدوهم في إذلالنا ؟ لماذا يجري هذا على أرضهم ؟ وهال كومة من الشتائم .. قد تكون نالت من حجته التي تحمل عذابا شديدا من أجلها ..

ها هو الوطن ،
أوطان غريبة ، ليست لنا ؟
وللعربي أن ينسحب
من لغته ، ومن دمه أيضا ..
ويبحث عن مشاعٍ فضائيٍ
يمارس عليه طقوسه
ويرنم بحرية
سيمفونية الحج ..

قبيل ظهر اليوم التالي وصلت بيتي منهكا أبحث عن نوم طويل .



#عبد_الكريم_عليان (هاشتاغ)       Abdelkarim_Elyan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلة حلم في فضائية ( LBC )
- من عرفات وغزة ..!
- يا شعبي في غزة ..!
- يا حماس ويا فتح ويا كل التنظيمات : ابتعدوا عن أطفالنا ..!
- المهاجرون المصريون والعرب إلى إسرائيل ؟!
- بين فلسفة المقاومة وصراع التنظيمات الفلسطينية المسلحة ؟! ( 2 ...
- بين فلسفة المقاومة وصراع التنظيمات الفلسطينية المسلحة ؟!
- خطاب السيد هنية سرد صحفي وديماغوجي وتغييب لوعي الجماهير
- عندما يفلت المجرمون من العقاب يصبح كل الوطن مستباحا ؟؟
- للنساء فقط ..!
- إسرائيل ونظرية الزمن ؟؟
- العيد وغزة المسلوبة من فلسطينيتها وعروبتها !؟
- يا فتح أكشفي عن وجهك ..! إما تكوني علمانية أو تكوني أصولية . ...
- احذروا .. غزة في مهب الريح !
- مرثية إلى أبي خالد عبد الشافي
- الصحافة ومفهوم السلطة الرابعة ..؟
- الطحين الفاسد وتورط جامعة مرموقة في غزة ..؟
- المنبوذون ..؟
- صورة العربي في أدب الطفل اليهودي .. رسالة إلى اللاهثين وراء ...
- أسئلة خطيرة على بوابة السنة الدراسية الجديدة ..؟؟


المزيد.....




- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الكريم عليان - سيمفونية الحج رواية