أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين أبو السباع - جزء من رواية (يحدث في السعودية) قبل الطبع















المزيد.....



جزء من رواية (يحدث في السعودية) قبل الطبع


حسين أبو السباع

الحوار المتمدن-العدد: 2143 - 2007 / 12 / 28 - 09:59
المحور: الادب والفن
    


(ليس كل ما نفكر فيه يمكن تحقيقه)
ربما لن يسمح المجتمع بأن تكوني حبيبتي..
لكنني سأجعلك حبيبة لكل أبطال رواياتي، وأخلد اسمك فوق دفاتري وأوراقي.
سأجعل منك ليلة أخرى، وكل أبطالي هم قيس المحب العاشق لك أنت.
ربما لا تستحقين هذه الكلمات.
وربما تستحقينها.
وربما تكون كلماتي هذه تمثل خطورة عليك لمن يعرفك جيداً، سيعرفون من أقصد بالتحديد.
رغم حرصي الذي أنوي عليه بعدم البوح باسمك الحقيقي ولا بعملك الحقيقي ولا حتى باسم عائلتك الحقيقي، ولا بأية كلمة دارت بيننا، لكن شكي يصل إلى حد اليقين بأن كل من يعرفونكِ ويعرفونني سيكتشفونك على الفور، ويهمسون حولنا بكلماتهم الخبيثة التي قد يتعمد الفضوليون أن يلقونها على مسامعنا وكأنهم لا يقصدون، ستحمر وجنتاك، سأرتبك ساعتها وأقرر الانصراف من المكان الذي توجدين فيه، وربما انصرافي هذا يفسر ضدي وضدك، ويفسر هروباً من مواجهة الحقيقة، حقيقة ما نحياه في مجتمعنا الشرقي العربي.
ستهمس لك إحدى زميلاتك بخبر هذه الرواية الجديدة التي تسطرها أناملي فوق أزرار الكمبيوتر، وستأخذك إلى مكان تدعي فيه أن أحداً لا يسمعكما، وكثيرات مختبئات خلف الجدار يتنصتن على الكلام، وتحاول استدراجك حتى تعترفي لها بأنك أنت من أقصد في رواياتي، ستتهربين كعادتك، وتتلعثمين، وتفركين خاتمك الذي يدور أبداً في سبابتك، لم أره أبداً متوقفاً عن الدوران.
سيعرفونك لا محالة.
سأقلب المواقف التي جمعتنا وآخرين.
سأفتح الأبواب التي حضرها الآخرون ووجدوها مغلقة.
وسأغير أرقام لوحة سيارتي، وأغير اسمي في الرواية، وأغير العمل بأكمله، سأغير كل شيء...
لكنهم سيعرفونك، أنا متأكد، لأنه لا يوجد شخصان يشبهاننا أبداً.
سألعب أنا في الرواية دور الراوي، وأنت المحبوبة، وسأخلق بطلاً من عالمي الخاص ليكون معك دائماً على الورق، وسأجعله يدور حولك من بعيد، إلى أن يقترب منك، ولن يشغلني الصراع كثيرا خلال كتابتي، لن أعتمده كعنصر من عناصر الرواية الحديثة، سأجعل بطلي يعيش معاناتي، سيفكر مثلي، سينطق مثلي، سيطلب رقم هاتفك يومياً بأسماء مستعارة، ومن كبائن تليفون مختلفة، ومن مناطق مختلفة، سأجعل بطلي يطلب أرقام هاتفك كلما سنحت له الفرصة ليسمع منك كلمة (آلو) أو (هلا)..
ألم أقل لك إنهم من المؤكد أنهم سيعرفونك..
طريقتك في تعاطي الحوار عبر الهاتف، نغمة صوتك.. ردك الأول (آلو) أو (هلا). لم أسمعها أبداً إلا منك، ورغم ذلك سأجعل بطلي يكلمك من هاتفه الخاص، ليقطع تفكيرك في المتصل، ويبعد عنه شبهة معاكستك، فلن أسمح له أن يعاكسك، ولو على الورق، بطلي الورقي لن أجعله يجرؤ على التفوه باسمك حتى بينه وبين نفسه، ربما يسمعه أحد أبطالي الورقيين فيشي بي عند من يعرفوننا، وينبئهم بأسمائهم، وينبئهم باسمك، ربما يتنقل بين صفحات الرواية فيعرف تفاصيلها وينقلها إلى باقي الشخوص قبل أن تحدث، بطلي دائما سيكتفي بأن يسمع صوتك، لكن بمجرد أن يسمعك تنطقين، سأختلس منه السماعة واستمع إلى حروف كلمتيكِ المعتادتين (آلو) أو (هلا)، ثم أجعله ينتظر حتى تغلقي السماعة فوراً، سأجعله يفكر فيك، ويحلم بك كلما أغمضتُ عينيه.
سأنتقم منه لو فكر فيكِ أي فكرة غير التي أنبئه بها، بطلي سيكون حارسك المؤقت إلى أن يحين وقت دخولي الحقيقي في حياتك، من دون عوالم افتراضية أخرى نحياها الآن، ولو على الورق..
سأجعلك تلتفتين إليه رغماً عنك، ستحبينه، مؤقتاً، ستفكرين فيه، مؤقتا، ستحلمين به، مؤقتاً، ستنظرين إلى وسادتك في المساء وتحتضنينها وأنت تتصورين بطلي هو الوسادة، ولو مؤقتاً...
كل ما أتمناه معك، سأجعل بطل روايتي يحياه معكِ على الورق، وهو أسيري، وقبل أن أطلق سراحه سأحل أنا مكانه في كل تصرفاته معك، لكني قلق أيضا من اكتشافك الفرق بيننا، أنا الحقيقي، وهو الورقي... ستنتابك حالات كثيرة من (اللخبطة)، ستنظرين إلىَّ وتتذكرينه، لا يهم، ستقبلينني وتتذوقين شفتيه بين شفتيكِ، سأخبرك بأني أنا الحقيقي وهو الورق، لكنك لن تقتنعي، فأنا سأجعله يلعب دوره بعناية فائقة، لن تتصوري أنه ورق، لن تتصوري أنه من اختراعي... كل تصرفاتك وقتها ستجعل كل الذين يقرءون روايتي يعرفونك، فاحذري من الآن...
لكن ماذا ستفعلين في الحقيقة والورق؟
****
أشارت عقارب الساعة إلى السابعة صباحاً، موعد سامي المعتاد للذهاب إلى عمله يومياً، يجلس وحده في غرفته الصغيرة التي قام باستئجارها وحده لأنه كما يسمونه في السعودية (عزوبي)، العزَّاب لا يقيمون بين سكن العائلات، في الأشهر الأولى له في الرياض سكن مع مجموعة من زملاء العمل، لكنه لم يسترح، فآثر أن يسكن وحده في غرفة صغيرة، هو وحده لا يرى في العمارة بأكملها إلا ذكوراً يعملون في مواعيد متفاوتة، لا أحد يلتفت للآخر، لا أحد يعرف الآخر، حتى الوجوه نادراً ما يحفظ الشخص وجه جاره، لأنهم من جنسيات مختلفة ويحملون جوازات سفر مختلفة، وثقافات وتعليم مختلف، الرابط الوحيد بينهم هو الغربة عن الوطن الذي يحتفظون باسمه في جوازات سفرهم، من جميع دول العالم يتجاورون لكن من دون تلاقح ثقافي...!
الغربة ولَّدت دواخلهم مشاعر العزلة والاغتراب معاً عن الآخرين.
ترن نغمات الجوال المصاحب دائما لسامي ليستيقظ، يفيق من نومه العميق، يغلق هاتفه الجوال، يقوم يتلفت حوله وكأنه استيقظ في عالم آخر، يبتسم ابتسامة خفيفة بينه وبين نفسه، لأنه كان يحلم بالقاهرة، حلم يأتيه يومياً، يتسحب عبر وسادته ليدخل بين رموش عينيه ليرى أمه العجوز، وأخواته البنات اللائي ينتظرن راتبه كل شهر بترقب تام، لقضاء حاجاتهم المختلفة، فهو الأخ الأكبر وبعد وفاة أبيه، قرر السفر ليحمل فوق ظهره آلام مسؤولية أسرة بأكملها، بالإضافة إلى أحلامه المؤجلة دائماً، والأم تحمل مسؤولية البنات وحدها في مصر، هي الأب والأم معاً بالنسبة لهن، يد بها الحنان، والأخرى بها العصا، خوفاً عليهن من مجتمع مزدحم بالأفكار والتيارات ازدحاماً جاوز حد الصخب.
زارته أمه الليلة في منامه، قبَّلت جبينه، زاره أبوه أيضاً، ربت على كتفه بعلامات الرضا، فرك أذنيه بحنانه الذي افتقده منذ عشر سنوات مضت، بعد وفاة الأب مباشرة، لم يلمس أحد رأس سامي ولا كتفيه يربت عليهما بحنان، استشعر أنه قام بكامل مهامه إلى الآن، ولا تزال ابتسامته تعلو ثغره الباسم، رغم ظروفه المعيشية الصعبة، فالغرباء المسافرون لتحسين أوضاعهم المادية مهما تنعموا لا يرون الحياة إلا بمقاييس الغربة وقسوتها النفسية حتى وإن مكثوا بمهجرهم سنوات طويلة يظل حلم العودة يراودهم إلى أن يعودوا إلى أوطانهم مرة أخرى إما سالمين، وإما أن تسرق الغربة أعمارهم، فلا يعودون إلا جثثاً هامدة مشحونة نعوشاً في بطون الطائرات.
دارت الدنيا سريعاً أمام عيني سامي، وفي خمس دقائق كان ممسكا بمفتاح غرفته، خارجاً منها متوجهاً إلى عمله مرتديا زيه المعتاد بربطة عنق لابد من ارتدائها في الشتاء أو الصيف، وتكاد تميته صيفاً وليس هناك مفر من وجودها.
مندوب مبيعات.. يعمل مندوباً للأدوات الطبية، يدور بسيارة الشركة طوال يومه وعلى اتصال دائم بمديره عبر الهاتف الجوال، كل نصف ساعة يرن هاتفه، يسأله مشرف المجموعة التي يعمل فيها والمكونة من عشرة أشخاص عن مكانه بالتحديد ومع أي عميل من عملاء الشركة، يتصل على كل واحد من المجموعة ليكرر أسئلته المعتادة نفسها، والمملة والثقيلة على أنفسهم لكنهم يعتبرونها من يوميات الحياة في الغربة. ثم يعود يتصل بالعميل ليتأكد أن موظفه عند هذا العميل بالتحديد ولا يكذب عليه.
ذلك المشرف (هندي) ينطق العربية بالكاد، وإنجليزيته الهندية أكثر ركاكة، لكنهم جميعاً يفهمون لغة بعضهم وتمر الأيام، وتتبعها الأشهر، وهو على روتينه اليومي، ليذهب في نهاية (دوامه) انتهاء ساعات عمله منهك القوى، وحين ينام يشعر أن فراشه يتحرك به مسرعاً كالسيارة التي لا يفارقها طوال يومه، مرات عديدة قام منتفضاً من نومه خائفاً من حركة الفراش التي يستشعرها، وحين يغالبه النعاس ينطوي على بعضه ويتكور، ركبتاه تكاد تلتصقان بصدره.
سامي يعمل طوال اليوم «فترتين»، من الثامنة صباحاً إلى الواحدة، ثم يعود مرة أخرى ليعود إلى عمله من الرابعة حتى الثامنة، وينتهي من الإرهاق، مع انتهاء يومه..
****
هالة، اسمها هالة، بطلتي التي سأجعل كل أبطالي يحبونها، سأجعل سامي هو أول من يقع في حبها وهو مغترب، يقضي يومه بالكاد، لكن كيف يلتقيان في مجتمع محافظ مثل السعودية؟
مجرد التفكير في هذا اللقاء يعد ضرباً من الجنون... مخاطرة الوقوع بين يدي رجال الهيئة (الحسبة) سيسألون فوراً من تكون هذه المرأة التي يصطحبها؟ ولا يكتفون بالأوراق التي تثبت أنها زوجته حتى و إن قدمها لهم، (لو كانت زوجته) سيأخذونه بعيداً ويسألونه أسئلة عدة، كالاستفسار عن لون غرفة النوم مثلاً، أو عن نوع معجون الأسنان، ويعودون ويسألونها منفردة، فإن اتفقت الإجابات اقتنعوا بصحة الأوراق وإن اختلفت فتلك هي الطامة الكبرى التي تعرضهما لتهمة الخلوة غير الشرعية.
رجال الهيئة «الحسبة» يجوبون الأسواق في السعودية يستحثون الناس على الصلاة، ومن يقبض عليه متلبسا بمغازلة أنثى، يتعرض المقبوض عليه للجلد على مرأى من الناس في مكان الواقعة!
لكنه سيقابلها، حتماً لابد أن يقابلها، وإلا كيف سأجعله يقترب منها، سامي هو بطلي الذي سيحبها .. كيف أجعله يدور في فلكها... ترى كيف من دون الوقوع في مثل هذه المحاذير؟!
****
للعمل الصحفي مشاقه التي لا يعرفها جيداًَ غير الممتهنين هذه المهنة (البحث عن المتاعب)، في كل مكان وزمان هي بحث عن المتاعب، هالة تعمل صحافية، ترأس قسم المرأة بإحدى الصحف السعودية التي تحتفظ بقسم نسائي معزول عن بقية الأقسام، ترتدي المرأة في السعودية عباءة سوداء، وقد تغطي وجهها باللون ذاته، الصحافيات عادة لا يغطين، ومن تغطي وجهها تكشفه بمجرد دخولها بوابة العمل، وتخلع عباءتها بمجرد دخولها القسم النسائي.
هالة لا تهتم بهذه الموضوعات كثيراً، هي سعودية، لها سيارتها وسائقها الخاص، تركب سياراتها من داخل (الفيلا) التي تسكنها هي وأبوها وأمها، بعد أن طُلقت عادت إلى بيت أبيها مرة أخرى لتعيش فيه هي وابنها الصغير (حمود).
هالة تثق في سائقها، تركب السيارة، وتقوم بعمل عدة مكالمات، تتحدث وكأنها وحدها تماماً، والسائق السوداني الطويل ذو البشرة السوداء اللامعة صامت طوال الرحلة من البيت إلى العمل، يختلس منها النظرات عبر المرآة الوسطى في السيارة، وكأنه ينظر إلى ما خلف السيارة، أحياناً كان يقوم بإنزال المرآة الوسطى قليلاً لتبين منطقة الصدر عند هالة التي كانت تفك أزرارها قليلاًِ لشعورها بالضيق بسبب الحر، هي تتصرف بعفوية كأنها وحيدة في سيارتها، وكان سائقها يتعمد اختلاس النظرات خلال ركوبه معها.
هالة بيضاء البشرة، أمها سورية تمتلك كل مقومات الجمال السوري، تركتها الأم وماتت منذ سنوات، ورثت هالة عنها ملامحها الجميلة، لكن لها طبع حاد نسبياً، متقلب أحياناً، «مزاجية» تنزعج كثيراً لو شعرت بما لا يريحها، لو أني مثلاً الآن أخبرتها بأن سائقها السوداني يختلس منها النظرات الخبيثة وهي لا تدري، قد تطرده فوراً..!
هالة، مديرة "شاطرة" جداً، تستطيع معرفة معادن الأشخاص بسرعة، تهتم بالموضة، والأزياء الحديثة، وأحدث مستحضرات التجميل ذات الماركات العالمية، وتواظب على الذهاب إلى النادي الصحي لتمارس بعض الرياضة التي تعطيها هدوءاً نسبياً، لكنها قلقلة دائماً، أوقات قليلة جداً قضتها وهي تشعر براحة بال واطمئنان.
تمضي يومها في الجريدة لتمارس تجميع الصفحات الموكلة إليها يومياً والخاصة بهذه الاهتمامات، قد تكلف مصور الجريدة بالتقاط عدد من الصور الخاصة بعملها، قد تذهب معه، تصطحبه في سيارتها مع سائقها، يذهبان سوياً، وقد يذهب كل واحد منهم وحده... لا تعنيها هذه التفرقة التي عايشتها خلال سنوات دراستها..
تقول عن نفسها دائما إنها (ليبرالية) تؤمن بالحرية المطلقة، وأولى خطوات الحرية المطلقة هي الإيمان بالحرية الشخصية، والتمرد على أي قيود.
دائما تتساءل في معظم كتاباتها: لماذا يخاف الرجل العربي من المرأة القوية؟، ولم تفلح في الإجابة أو حتى الوصول إلى إجابة مرضية من خلال الردود التي كانت ترد إليها عبر البريد الإلكتروني «الإيميل».
أبوها هو المرجعية الأخلاقية، وترجع إليه في أمور كثيرة حتى لا تخرج عن التقاليد التي ورثها الأب عن قبيلته وأجداده، موروثات قبلية لا بد من الحفاظ عليها واحترامها في الآن.
كثيراً ما تصادم الأب مع ابنته هالة حول تصرفاتها التي تبدو للأب خروجاً على التقاليد، لكنها تستطيع الإفلات منه بالمناقشة السريعة التي دوماً تكرر إننا في القرن الواحد والعشرين.
****
سأحاول أن أحذرها من الركوب وحدها فيما بعد مع هذا السائق اللعين، إني أراه الآن ينوي التحرش بابنها الصغير.
حاول مرة أن يقبله، أن يضمه إلى صدره، يتلمس نعومة خده، لم يفهم الصغير نية هذا الخبيث، اقترب أكثر من الولد، فرك أذنه بنعومة، شعر بقشعريرة، اشترى له الحلوى، أدخلها له في فمه بطريقة تبدو مثيرة، لكن الولد لم يفهم، وما كان منه إلا أن استشعر حالة من عدم الارتياح لهذا السائق، فجرى مسرعاً إلى أمه، أخبرها بما فعل السائق السوداني ذو البشرة السوداء اللامعة معه.
صدمت هالة بما فعل هذا الرجل، لم يكن على كفالتها لتسفره خارج البلاد، لتقي الناس من شره، كل ما فعلته هو الاتصال بكفيله الأول أخبرته بما حدث، وقذفت به خارج المنزل طردته شر طرده ككلب ضال، بصقت عليه وأغلقت باب الفيلا الحديدي بقوة، وأغلقت القفل جيداً، وكأنها تخاف أن يعود مرة أخرى ليتحرش بالصغير، أو ربما بها.
لم يرجع السائق إلى كفيله الأول، هرب من الكفالة، ولم يعرف أحد عنه أي أخبار، رغم نشر كفيله الأول صورته في الصحف وإبلاغ الشرطة عن هروبه، إلا أنه اختفى إلى الأبد!
ظلت هالة تعاني حالة نفسية سيئة لأن طليقها هو الذي كان من الممكن أن يتخذ إجراءات تبدو لها مرضية تجاه تصرفات السائق الشاذ... لم يكن داخل إطار المشهد وقتها، كان مسافراً كعادته خارج المملكة، وبسبب كثرة أسفاره شعرت هالة مللاً وفراغاً، ومع كثرة الشكوى، وقع الطلاق، وعاش كل واحد منهما يكن للآخر ماضياً يبدو من وجهة نظره فظيعاً لا تحتمل ذكراه... فمن يسمع معاناتها معه يحسبها امرأة فرعون التي قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة...
لم تجرؤ أن تخبر أحداً من ذويها بتفاصيل ما وقع ولا سبب نفورها من عبدالرحمن، ... احتفظت لنفسها بالأمر كله... وطوت صفحته.
بقيت مشكلة أخرى، هي السائق... لن تستطيع أن تستخدم (الليموزين) كثيراً، فمشاكله لا تحتمل، كما أن نفقاته خلال شهر واحد أكثر بكثير من راتب سائق من أي جنسية كانت... لكن كانت هذه المرة مشكلة الاختيار لها النصيب الأكبر أمامها لتدقق أكثر في عملية الاختيار مهما كلفها ذلك من مشقة اللجوء إلى (الليموزين) ورائحته الكريهة من اختلاف جنسيات مرتاديه وأعمالهم، تكره رائحة المقعد خصوصاً وقت حر أغسطس أو كما يسمونه في الرياض (طبَّاخ التمر).
****
- آلو يا ماما.. ازيك.. صحتك أخبارها إيه؟ والبنات.. وفاء عاملة إيه في الجامعة، وأنتِ بتاخدي دوا السكر في مواعيده ولا لأ؟ طمنيني عليكِ يا أمي؟
- إحنا كلنا هنا الحمد لله كويسين، المهم انت خد بالك من نفسك، اتغطى كويس بالليل هنا برد.
- وهنا حر جداً يا ماما.
- سبحان الله، المهم خد بالك من نفسك وخلاص، واطمن علينا إحنا كلنا بندعي لك، أنا بدعيلك في كل صلاة يا بني.
تنتهي المكالمة بين سامي وأمه بعد سماع صوت رنين.
****
ازدادت حدة المشرف الهندي على سامي بالقدر الذي فاق حدود التصور بالنسبة لشخصية مثل سامي يتحمل كل مشقات العمل، لكنه لا يتحمل الإهانة أو التشكيك في أمانته أو سلوكه.
المشرف الهندي بإنجليزيته الركيكة كان دائما يستفزه بكلمات توحي كلها بهاتين الإهانتين يومياً، وجهاً لوجه أو عبر الهاتف، على الرغم من أنه كان أقوي مندوب مبيعات في المجموعة، فهو خريج كلية صيدلة جامعة القاهرة، وكان متفوقاً طوال سنوات دراسته التي مرت بصعوبة شديدة نظرا لارتفاع سعر الكتب والأدوات التي كان يستعملها عند تحضير الأدوية في الكلية، فكان يعمل ويدرس في الوقت نفسه، ولمَّا سافر ظل على تفوقه ليحافظ على عمله أطول فترة زمنية ممكنة.
لاذ بالصمت، وحالته النفسية تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، وما كان منه إلا شكواه البادية على وجهه دائما، واختفت ابتسامته التي كانت تعلو ثغره.
****
سأحاول أن أكتب مشهداً أو مشهدين يخرجان سامي من حالته هذه، ربما أستطيع أن أهيئ له مقابلة هالة في أقرب وقت بحيث يحدث قبول بينهما، فهالة كالشمس وقت الشروق تبعث الأمل في نفس من يراها، شخصية مرحة تحترم مشاعر الآخر، لكنها لا تحب العبوس، تحب البسمة المرسومة فوق الشفاه دائما.
****
يتجول سامي بسيارته يومياً، ويمر على عملائه باستمرار، ليوزع منتجات الشركة الطبية، وتعرف خلال رحلاته اليومية على عدد من الأطباء والطبيبات، صيدليين وصيدليات، المسافات شاسعة في طرق الرياض السريعة، فكل جولة له رحلة سفر لطول المسافات.
اليوم الأحد، سيمر على الدكتورة سهير في المركز الطبي الشهير المتخصص في طب الأسنان، ويعالج تخصصات أخرى أيضاً، مصرية مثله، تحب عملها جداً، وزوجها الدكتور عادل استشاري جراحة المخ والأعصاب، يعمل في مستشفي خمس نجوم في الرياض أيضاً، يعرف سامي منذ فترة طويلة ، فهو الطبيب الذي عالج أباه قبل أن يموت، ويعرف عن سامي كفاحه ويحترمه، كان سامي يمر عليهما في عملهما، يوزع أدواته الطبية ويتحادثا سوياً ببعض العبارات المختصرة، عارضاً خدماته عليهما لأنه كان يحترمهما لعطفهما عليه وتعاملهما معه بروح الأسرة التي يفتقر إليها سامي، التقي مصادفة بالدكتور عادل عند الدكتورة سهير في المركز، كانا يستعدان للخروج بعد انتهاء فترة العمل الصباحية، فحين سأله الدكتور عادل عن سبب عبوسه الاستثنائي اليوم، فما كان منه إلا أن شكا له ما يعانيه من معاملة المشرف على المجموعة التي يعمل بها من فظاظته التي لا تطاق... تعاطف معه الدكتور عادل، ووعده بأن يحاول أن يبحث له عن عمل آخر.
****
تركب هالة (الليموزين) من أمام الفيلا التي تسكنها، إلى عملها، وبينما هي تخرج من بابه، فتنكفئ على وجهها لتصاب بنزيف في لثتها، تذهب من فورها إلى مركز الأسنان الشهير الذي تعمل فيه الدكتورة سهير... تقوم بالكشف عليها فترى أن هالة تحتاج لإجراء جراحة عاجلة، تحاول هالة معها بأن تستبدل الجراحة بأي دواء آخر، فلا يكون الحل إلا البقاء في المركز حتى موعد إجراء الجراحة.
تغلق هالة فمها لمدة أسبوع كامل لا تنطق بأي كلمة من تأثير المخدر والجراحة التي عالجت مكان النزف وعدلت الأسنان، تمر الدكتورة سهير على هالة يومياً لتتابع حالتها، إلى أن تنشأ بينهما صداقة نسائية لتحكي كل واحدة منهما معاناتها اليومية من العمل، والغربة، ومتطلبات الأولاد، وعن الطلاق الذي زادت نسبته في مصر والسعودية بشكل خطير، يتمازحان، يتذكران سوياً هيفاء وهبي ونانسي عجرم وكيف عيون الرجال تخرج من رؤوسهن عند ظهورهن على الشاشة... فتقول الدكتورة سهير: «جتنا نيلة في حظنا الهباب»...
مر أسبوعان، وانتهت كل تفصيلات الجراحة تماماً بالنسبة إلى هالة، وكل ما تبقى آثار لبقايا آلام في اللثة والأهم صداقة نشأت بين الدكتورة سهير وهالة... فصار لا يمر يوم إلا ويتحادثان عبر الهاتف الثابت مرة، ومرات عبر الجوال.
****
يتصل طليق هالة بها، وعندما رأت أرقام هاتفه ظاهرة أمامها حسبته يطمئن عليها، تعجبت، تساءلت فيما بينها ترى من أخبره بالجراحة؟
لم تتوقع هذا الاحتمال الأول، وتفاجأت حينما اندفع بسرعة السقوط ينهرها بتسيبها وانشغالها وعملها الذي لولاه لما تعرض (حمود) لهذا التحرش الجنسي من السائق السوداني... لا تستطيع هالة الرد، فهي لا تزال تعاني من جراحتها، ولا تزال تحتفظ ببعض الضعف الذي كان يصيبها قبل الطلاق حينما كان يهم بنهرها، وأحياناً سبها، لم تكن تستطيع أن ترد عليه، فقط تكتفي بعض شفتها السفلى غيظاً، وهي نفسها لا تعرف سبباً لهذه الحالة، حتى خلال هذه المكالمة لم تملك رداً، ولم تجرؤ عليه، كل ما فعلته بعد أن انتهى أن أغلقت السماعة بهدوء، وعادت إلى فراشها، وهي تفكر في ابنها الذي نقل إلى أبيه تفاصيل محاولة التحرش، فكرت ربما لم يخبره بما فعلت أنا، قالت في نفسها: ماذا فعلت: لا شيء، هذا هو تغيير المنكر بالقلب، وهذا أضعف الإيمان... أنبت نفسها لحظات، ثم قالت: إنه ليس في الإمكان أفضل مما كان..
عادت وفكرت في سهير اتصلت بها، وجدتها مشغولة، قالت لها: حينما تفرغين من عملك اتصلي بي يا سهير، أوك باي. وأغلقت السماعة.. جلست وقد قتلتها الوحدة، وبقايا الألم من أسنانها، جلست أمام شاشة الكمبيوتر الخاص بها تراجع بعض موضوعاتها الصحفية المتأخرة لترسلها إلى جريدتها بالبريد الإلكتروني (الإيميل)، قضت حوالي ساعتين من دون أن تشعر بمرور الوقت، ثم أغلقت الجهاز ونامت بعمق شديد، فلم تفكر في شيء ولم تزعج نفسها بشيء... حتى مشكلة السائق الذي تبحث عنه بعناية لم تحلها حتى الآن باقي يومان وتعود إلى مسيرتها يومياً من وإلى العمل في طرق الرياض السريعة، لابد من وجود سائق أمين جداً هذه المرة، لابد من الاختيار الدقيق...
****
(الوسيلة)... مطبوعة إعلانية للبحث عن الوظائف، استطاع سامي أن يقتنيها، حرص عليها يومياً، توزع مجاناً، ومتوافرة في كل الأسواق، يستقطع سامي من وقته كل يوم ثلاثين دقيقة قبل أن ينام فيقرأها من أول إعلان وحتى النهاية، يبحث عن كل الوظائف المتاحة، مندوب مبيعات، صيدلي، مشرف صحي، موظف استقبال في مستوصف، أي عمل يريد به الفرار من وجه المشرف الهندي حاد النظرات الذي يسمم بدنه يومياً بألفاظه الركيكة التي تدغدغ أعصاب سامي، وتدفعه إلى البحث المستميت عن أي عمل... ولا يزال يدور ويدور بسيارته يومياً على الروتين الممل ذاته.
أصعب إحساس مرَّ به سامي هو مفهوم الراتب حسب الجنسية، وليس حسبما تقدم من عمل، فاللبناني وإن لم يقدم شيئاً يكون راتبه عشرة أضعاف نظيره من أي جنسية أخرى، وهو الأعلى راتباً، غالباً ما يكون الأعلى حتى بالنسبة للسعودي أيضاً، ويكون مديراً في موقعه، والأغلب منهم نادراً ما يقومون بعمل ذي قيمة، فيكون فقط العين الأمينة لصاحب العمل، وعادة ما يتمسح بأقدامه كالقط الشيرازي المدلل، ويفلح منهم القليل، ويستغله أصحاب الأعمال كضرورة من ضرورة المظاهر الاجتماعية، ليقول في جلسات الأصدقاء عندي مدير لبناني أعطيه كذا ألف ريال.
****
يتصل (عبدالرحمن) طليق هالة مرة أخرى بها ليوبخها من جديد، يشعر هو بالانتشاء من هذا السيل العارم من الشتائم الذي يصبه عليها، وهي صامتة، يتلذذ بهذا المشهد الصامت منها، كلما عاد من إحدى سفرياته، يتصل بها ويوبخها على أي أمر دار بينه وبين ابنهما، هي لم تتزوج بعد طلاقها من عبدالرحمن، أصابتها حالة من «القرف» من فكرة أن يلمس رجل جسدها مرة أخرى كلما تذكرت أفعاله الشاذة معها، يصيبها إحساس بالقيء...
تتذكر كيف كان يتعامل مع مكفوليه في شركته، كيف كان يتلذذ بأن يؤخر رواتبهم رغم ثرائه المادي،ويقذفهم بأقذع الألفاظ، ويتلذذ برؤيته لهم محتاجين له، مادين أيديهم إليه، معذبين نفسياً من خوفهم على مصير أموالهم التي تتراكم بالشهرين والثلاثة وأحياناً بالأربعة، وهو يقضي حياته مسافراً هنا وهناك، منفقاً مبالغ طائلة على ملذاته الشاذة، تتذكر سماعها أحدهم يدعو عليه عقب صلاته من دون أن يراها... كثيراً ما كبح جماح مشاعرها وتفكيرها بتقليله من أهمية عملها ومحاولته أن يكون سي السيد المنقرض من العقلية الجمعية للمرأة، تشعر بارتياح عند تذكرها أنها صارت طليقته، وصارت طليقة في المطلق، وعادت تسأل نفسها من جديد لماذا يخاف الرجل العربي من المرأة القوية؟ فلم تفلح في إيجاد الإجابة المناسبة!
اليوم شديد الحرارة وعبدالرحمن يجلس في مكتبه أسفل فتحة المكيف المركزي البارد، يضع إلى جوار مكتبه مرآة كبيرة بارتفاع الحائط من الأرض إلى سقف الغرفة، ينظر إليها دائما معدلاً هندامه بطريقة ضايقت الكثيرين من عملائه الذين جلسوا أمامه على المكتب لإنهاء بعض الأعمال المشتركة بينهم، يتكلم معهم وهو ينظر في المرآة كل لحظة، يبدو وسيماً ببياض وجهه وشعره الطويل الذي ينسدل على كتفيه من خلف غترته وعقاله، لكنه يحمل في ذاكرته حالة خاصة جداً من الشذوذ الإجباري الذي تعرض له خلال دارسته وهو في الخامسة عشرة من عمره، حينما تشاجر مع أحد زملائه كثيري المشاكل فتآمر هو وأربعة، واستدرجوه داخل المدرسة في مكان بعيد عن الأنظار، وتناوبوا اغتصابه، وحتى (يكسروا عينه) أمامهم، وإمعاناً في إذلاله صوروا له صوراً فوتوغرافية للمواقعة، وبدأوا يساومونه كل فترة ليذهب معهم طواعية لشقة أحدهم في ظل غياب الأهل وإلا قاموا بفضحه ونشر صوره في كل مكان، ويتناوبون الشذوذ معه، حتى أدمنه، وكان هو يتصل بهم من وقت لآخر متعجلاً وقت لقائهم، ولمَّا كبر أخذ يبحث بنفسه عن أشخاص يقوم هو باستدراجهم لممارسة الشذوذ معهم...
ولما أنهى تعليمه الثانوي كان عليه أن يتزوج تحقيقاً لرغبة أبيه، ظل يساومه ويأخذ منه أموالاً ويسافر بها خارج البلاد ليمارس شذوذه، ولمَّا بلغ الخامسة والعشرين لم يجد مفراً من الخضوع لكلام أبيه ويتزوج، وكانت هالة الفتاة التي اختارتها الأم خلال حضورها أحد أفراح ابنة جارة لها في قصر فخم من قصور الأفراح الغالية في الرياض.
كانت هالة في أولى خطواتها الصحفية بعد أن أنهت دراستها الجامعية، والتحقت فوراً بالعمل، لم ترغب في الزواج بداية، ولكن تحت ضغط من أمها وأبيها واعتبار أن عبدالرحمن باسم قبيلته الشهيرة، وماله الوفير هو وأسرته يعتبر فرصة لا تعوض لأية فتاة، كما أن كثرة الحديث عن العنوسة أخاف الأم والأب على مستقبل زواج ابنتهما الوحيدة مثلما يخيف الكثيرين الآن، فكان الضغط مستمراً من الأب والأم من أجل الحصول على موافقة هالة.
وأخيراً، رضخت هالة، ووافقت وفي حلقها غصة بعد سماع أبيها مصراً على الموافقة وعليها الاستعداد لذلك فقط، وفي الليلة الأولى للزواج اكتشفت هاله شذوذ عبدالرحمن على الفور، ليس لخبرة ودراية جنسية منها، لكن بالفطرة، وبالكلمات البسيطة التي تلقنتها من أمها قبل انتقالها إلى بيت عبدالرحمن..
ولما أحس عبدالرحمن أن هالة فهمت ما يدمنه، ما كان منه إلا الهروب منها إلي السهر في المقاهي الواقعة على طرق السفر بعيداً خارج الرياض، والإقامة ليلة أو ليلتين أو أكثر في استراحة من الاستراحات التي يرتادها أصدقاؤه، الذين هم على شاكلته، هناك يمارسون ما يمارسون من شذوذ... ويتعاطون الحبوب المخدرة التي استطاع المهربون أن يمروا بها، وساعدهم على ذلك بعض الجنسيات الآسيوية التي تسعى للكسب من أي طريق متعللة بانخفاض رواتبهم مثلاً أو معاملة البعض لهم معاملة لا ترضيهم، والنظرة الدونية التي يتلقونها من سعوديين على شاكلة عبدالرحمن، فيكون خروجهم على القانون بمثابة انتقام من وجهة نظرهم من كل سعودي تعامل معهم بفظاظة، فتصنَّع الخمور بعيدا عن الرقابة، وتُهرب أنواع من المخدرات، ويُروج لها بين الشباب الضائع.
هالة تمضي الوقت بين عملها، وبين التليفزيون والكمبيوتر، وأحاديث لا تنقطع عبر الهاتف الجوال مع صديقاتها، والفراغ والملل الذي تسرب إلى نفسها، من الأيام الأولى لزواجها، حملت في (حمود) ابنها الوحيد. واستمرت المعاناة مع عبدالرحمن سنوات إلى أن ضاقت الدنيا أمامها، ولم تجد بداًً من العودة إلى بيت أبيها، هرباً من سلوكيات عبدالرحمن وإهاناته الدائمة لها بسبب ومن دون سبب، وعلى أتفه الأسباب.
عادت هالة محملة بمشاعر سلبية تجاه حياتها بشكل عام، وهي تحمل رضيعاً بين ذراعيها، عليها أن تربيه إلى أن يكبر ويعود إلى أبيه، ولكن كيف يعود، ولمن سيعود؟
أسئلة دشدشت رأسها طويلاً... وأجلت الإجابة عنها... لم تستطع حتى التفكير بسبب موت أمها المفاجئ، سقطت بينها وبين أبيها مصابة بجلطة في المخ، وفور نقلها إلى المستشفى لفظت أنفاسها الأخيرة من دون أن تنطق، تاركة هالة وحدها تصارع وحدتها، وذكرياتها المؤلمة مع عبدالرحمن...
ومنذ وفاة الأم وأبوها قد انطوى على نفسه، فارق الدنيا وهو على ظهرها، اعتزل العالم من حوله، يذهب لأداء صلواته، وإذا زاد ضيقه خرج لقضاء بعض الوقت مع أصدقائه القدامى، وقلت المصادمات بين هالة وبين أبيها بعد وفاة أمها لعدم اكتراثه بما حوله، وللحزن الذي أضعفه، ولكبر السن الذي لم يترك له طاقة متوافرة للجدل معها.
****
اليوم شديد الحرارة، خرجت هالة من فيلا أبيها لركوب (الليموزين) لتصل إلي عملها، لكنها تعبت كثيراً في رحلتها، فكرت في الذهاب إلى الدكتورة سهير، لتطمئن على أسنانها ولثتها بعد الجراحة، للارتياح الذي شعرت به معها، وخلال الحوار ، تطرقت هالة إلى مسألة البحث عن سائق، وأن أهم شيء عندها تحتاجه فيه هو الأمانة، والأدب، وبينما هالة تتكلم مع الدكتورة سهير، يدق باب غرفة الدكتورة سهير بالمركز الطبي، يدخل سامي محملاً بأدواته الطبية، ويسلم على الدكتورة سهير، ولما وجد عندها امرأة أخرى، أدرك أنها مشغولة فتراجع بظهره خارج الغرفة معتذراً...
لمعت الفكرة في رأس سهير، تذكرت بحث سامي عن عمل بديل، ومعاناته التي تكلمت عنها مع زوجها الدكتور عادل، وكيف مدح عادل سامي لمعرفته بأسرته قبل أن يسافر أي منهم إلى السعودية.
قالت سهير لهالة: وجدتها
هالة: ماذا وجدتِ يا آينشتاين؟
سهير: السائق الذي تبحثين عنه؟
هالة: معقولة؟
سهير: ليه لأ؟
هالة: من يكون؟
سهير: شفتي الشاب اللي دخل من شوية وخرج بسرعة لما شافك؟
هالة: إي
سهير: هو ده، إيه رأيك فيه؟
هالة: يبدو لي محترم.
سهير: وهو كدة فعلاً، أكلمه في الموضوع، ولحسن حظك هو بيدور على شغل كمان، لأنه تعبان جداً في شغله دلوقتي، تعرفي إنه خريج كلية صيدلة، يعني صيدلي، لكنه ما وجد فرصة لغاية دلوقتي.
هالة: صيدلي، وللحين ما حصل فرصة عمل تليق بيه؟
سهير: أرزاق
هالة: ونعم بالله
تركتها هالة، وذهبت إلى بيتها، وهي سعيدة لأن من سيعمل عندها سائقاً هو بالأصل صيدلي، يعني ذلك لها مزيداً من المظاهر التي تتباهي بها بين صديقاتها في جلساتهن النسائية، وعلى الرغم من تعليمها، وتربيتها، إلا أن عاداتها في التباهي بمقتنياتها لا تستطيع إخفاءها، وخصوصا أمام صديقاتها، فكل من تعرفهن السائق الذي يقتنين غالباً ما يكون هندياً أو بنغالياً، لأنه الأرخص من ناحية السعر، لكنهم لا يؤمن مكرهم من وجهة نظرهن، دائما تسمع شكواهن من أولئك السائقين، وبعضهن عانين من هروب سائقيهن في أوقات حرجة فيسبب لهن مشاكل كثيرة.
****
أشعر بالانتشاء الآن، لأني استطعت أن أُدخل سامي في حياة هالة، ولو بشكل مبدئي، وعلى الرغم من أن الأحداث قد تبدو مختلقة إلى حد كبير إلا أن صيرورة الحياة تحمل بين ثناياها أيضاً أحداثاً كثيرة تبدو من وجهة نظرنا مختلقة، ولا نعترض، ربما لأني أنا الراوي العليم الذي يعرف كل الأحداث قبل وقوعها أراها من هذه الزاوية، ربما، لكن سامي الآن يستعد للدخول في حياة هالة كسائق، ترى كيف تسير به الأحداث، هل كما رسمتها أنا له منذ البداية أم أنه سيتمرد، كعادته، ويبحث عن قلم أحد غيري ليكتب له ما يرضيه؟
المهم، أني كروح، سأقترب بجسد سامي من هالة...
****
بالاتفاق بين الدكتورة سهير، والدكتور عادل، تم إقناع سامي بالعمل مع هالة كسائق براتب مثل راتبه الذي يتقاضاه من عمله كمندوب، لكن العمل الجديد، لن يجعله يدور الرياض يومياً بالسيارة، وإنما هو مرتبط بالأماكن التي تذهب إليها هالة، أو ابنها حمود، أقنعوه بأن العمل تحت كفالة امرأة أمر عادي جداً، وعليه أن يختار بين إهانات الهندي أو العمل تحت قيادة امرأة هو لا يعرفها، ولكنه يعرف ما سيحصل عليه آخر الشهر ( الراتب) الذي منه يعيش، وتعيش أسرته، ولا يزال سامي يؤجل أحلامه ولو مؤقتاً حتى يفرغ من رسالته تجاه أسرته بالكامل، البنات في حاجة له إلى أن يلتحقن بعمل، أو يتزوجن.
وافق سامي... وبالوساطة التي قامت بها هالة عن طريق أحد زملائها الصحفيين الذين يعملون معها في الصحيفة بعد أن هاتفته وأخبرته بكفيل سائقها الجديد الذي تريده أن ينقل كفالته إليها، استطاعت أن تكون كفيلته...
تم تحديد موعد أول مقابلة بين سامي وهالة لتفهمه مواعيد عملها، وطريقتها في التعامل، وأنها تحب أن يكون سائقها على خلق، لا يتلفت إلى أي شيء إلا عجلة القيادة والطريق.
قالت له بنبرة تحذيرية «ليس كل ما نفكر فيه يمكن تحقيقه»... وأنها لا تحب التحدث معها أثناء القيادة.
قالت له محاذيرها، ونصائحها لكي يستمر معها في العمل لأطول وقت ممكن، وختمت خطابها إليه بقولها: عندنا سامي مثل يقول «لا تدخل عصك في شي ما يخصك»، يعني لا تدخل نفسك في شي ما لك دخل بيه.
أسكنته في غرفة السائق الملحقة بالفيلا، كل الأمور التي لابد من ترتيبها، رتبتها هالة لسامي من أجل أن يتمكن من القيام بمهام وظيفته الجديدة، القيام في السادسة صباحاً، ليقوم بتوصيل حمود إلى مدرسته، ثم يعود، ليوصل هالة إلى عملها، ثم يعود إلى الفيلا مرة أخرى ليحضر أغراض الأسرة بأكملها...
بدأ العمل مع هالة، ركب سيارتها الفارهة، شعر بالارتياح من أول جلسة له فيها وسماعه صوت موتور السيارة الذي راق له، وراق لها، شعر بأريحية خلال القيادة، حرص في قيادته على ألا يسرع، فالسرعة قاتلة في شوارع الرياض، وبعد أن نظمت المرور حملة (يكفي)، لم تعد فرصة السرعة متاحة بالقدر الذي كانت عليه السيارات، أما الآن فالسرعة معناها الحبس لمدة أربع وعشرين ساعة بالإضافة إلى غرامة مالية يخشى سامي أن يتعرض لمثل هذه المواقف، فالتزم في عمله بما يحافظ على السيارة، ويعطي الراحة لمن معه.
حين دخل الفيلا رأى الخادمة الفلبينية بقصر قامتها ومع مرور الوقت لاحظ نظراتها المثيرة إلى تفاصيل جسده كلما رأته أمامها، لم يشعر بارتياح تجاه تصرفاتها التي تبدو غير مريحة ولا مفهومة بالنسبة له... أجل التفكير فيها، وترك أمرها للأيام التي ستكشف خباياها ونواياها منه.
****
أخيراً... ارتاحت هالة من (الليموزين)، وارتاحت من جراحتها التي ألمت بلثتها، واطمأنت لسامي، واستشعرت من نظراته أدباً وذوقاً رفيعين، وبعد أن ركب ابنها حمود معه وبدأ التعارف بينهما، ارتاح الصغير له أيضاً، ومدحه أبو هالة أيضاً، وبدأ سامي يتحرك بثقة أكبر لما لاحظه في عيون أفراد الأسرة من احترام له وعطف عليه، واكتشف أناساً جديدين عليه في الرياض، اكتشف بنفسه كذب الصورة التي كان يحملها في مخيلته عن السعوديين التي لا تزيد عما تتناقله بعض وسائل الإعلام المغرضة على سبيل التندر بأن السعودي ما هو إلا بئر بترول يتحرك على الأرض في النهار، وزير نساء في الليل، اكتشف سامي هشاشة هذه الصورة لما رآه من إيمان أبو هالة وذهابه إلى المسجد القريب من الفيلا ليصلي الصلوات الخمس، حتى أنه على الرغم من مرضه في كثير من الأيام لا يؤخر الفجر.
وجد سامي أن هذه الأسرة السعودية ليست لها علاقة بالإعلام المتداول حول السعوديين... ولا عن الصورة المنسوجة حولهم خارج السعودية، تعود سامي على الصلوات الخمس مع الشيخ الكبير، واستشعر طمأنينة نسبية خلال صحبته له، ولقاءاته بمن هم في نفس سنه، كان يستمع سامي لحديثهم فوجد أنهم أناس طيبون، يقضون وقتهم في حكايات الشباب الذي انقضى، وروايات مباهاة ومفاخرة فيما بينهم عن أيهم كان أكثر جرأة في شبابه من الآخر، وعن عدد الزوجات، والقدرة الجنسية، وكيف كان اتساع الصحراء في الرياض قبل العمران، أحاديث يومية متشابهة يقضيها من جاوز عمرا مثل أعمار هؤلاء في كل مكان من العالم... لكن سامي استشعر من بعضهم بخلاً ما، أو حرص كبار السن الفانين على بقايا الحياة، رفض التعميم الذي يقال دائما بأن الشعب المصري كذا، والسعودي كذا، والسوداني كذا... إلخ رفض هذه التعميمات لأنه وجدها كاذبة، وأن كل شعب وبه الطيب وبه الشرير، به اللص، وبه الشريف.
استشعر طمأنينة وهو في غرفته الصغيرة الملحقة بالفيلا الكبيرة بحديقتها التي أحبها سامي وأحب أشجارها الصغيرة، ووجد أيضا مساحة من الوقت ليكتب لأمه رسائل لم يكن يجده من قبل، وشاهد الفضائيات المتنوعة ليلم ببعض ما فاته خلال رحلاته كمندوب، وزاد راتبه مع هالة وأسرتها، وأحبوه جميعاً، فعادت إليه أحاسيسه بجو الأسرة الذي افتقده منذ أن سافر وترك أمه وأخواته البنات.
تغيرت شروط هالة الأولى من رفضها أن يتحدث إليها، بدأت هي في محاولة استدراجه في الحوار، لتأخذ رأيه في أمر مختلق من صنع خيالها، لترى هل سيخبر والدها أم لا، ووجدت أنه أمين في كل كلامه معها، استشعرت رجولته التي لم تكن تشعر بها مع عبدالرحمن طليقها... وكان سامي لا يرد إلا بكلمات شديدة الاختصار، خوفاً من اتهامه بالثرثرة.
تعرف هالة أنه صيدلي، فكانت تسأله أسئلة حول فاعلية بعض العقاقير الطبية، وكانت إجاباته تنطق بفهم ودراية بتخصصه الأصلي، فأشفقت عليه من عمله كسائق... وكان أيضا يقوم برعاية حمود في دراسته، يذاكر له دروسه كل يوم ساعة أو أكثر في المساء!
ويوم تلو الآخر اقتربت هالة أكثر من سامي، الحوار معه شيق، أحاديثه حول القاهرة، ونهر النيل والأحياء الشعبية القديمة والزحام ومترو الأنفاق التي يرويها لها تحت إلحاح منها، جعلها تقدر حجم ما يعانيه سامي في غربته عن مصر التي لم ترها حتى الآن إلا بعيون سامي، وكان سامي أيضاً نموذجاً بالنسبة لها يختلف عن النموذج السينمائي الذي يصور المصري (فهلوي) يلعب بالبيضة والحجر، اكتشفت مع مرور الأيام أن سامي ربما لا يكون مصرياً، فهي تعرف المصريين جيداً من خلال الأحكام التعميمية التي تدور في حلقات النقاش النسوية في جريدتها، لكن جواز سفره، ولهجته تؤكدان أنه مصري، اكتشفت أن هناك أشياء كثيرة لا تعرفها عن الناس، لا تعرفها عن الجنسيات التي تعيش حولها في الرياض، وأن الإعلام الذي هي جزء منه باعتبارها صحافية ينشر القصص الشيقة كعمل المستشرقين عن الإسلام، قصصهم شيقة من دون الولوج إلى الحقيقة الكاملة التي تخفي جوانب أكثر أهمية من التشويق.
****
اعتادت هالة رؤية سامي يومياً بملابسه المرتبة بعناية واهتمام لتبدو على الرغم من بساطتها أنيقة، واعتادت أن تفتح هي معه حواراً خلال رحلتها من الفيلا إلى العمل خمس عشرة دقيقة ذهاباً، ومثلها إياباً، كانت من وقت لآخر تريه بعض أعمالها لتأخذ رأيه بينه وبينها، استشعرت فيه تفهماً لما يبديه من آراء تبدو بالنسبة لها (ليبرالية) وبالنسبة له عادية قد تربى عليها منذ صغره.
يقول رأيه صراحة من دون مواربة، منطلقا في كلامه كالشلال الهادر، استشعر سامي عطفاً من هالة، وفي الوقت نفسه كانت هالة تتحدث معه داخل السيارة بأسلوب، ويختلف الأسلوب مائة وثمانين درجة في حال وجود ثالث معهما.
طبعت ملامح عيني هالة بنظارتها في عيني سامي، لأنها الجزء الرئيس الذي يراه خلال حديثهما معاً داخل السيارة عبر المرآة الوسطى المثبتة أمامه، هو يراها، وتراه كذلك بنفس الطريقة، فلا يجد من صورتها مفراً حين جلوسه وحده في غرفته الصغيرة، وهي على بعد خطوات منه في الطابق الثاني من الفيلا داخل غرفتها، كان يتعلل أسباباً واهية كي يتصل بها ليخرج من الفيلا ذاهباً لشراء أي غرض، فكان لابد وأن يخبرها بالاتصال بها، وهو في الحقيقة يريد أن يسمع منها كلمتي (آلو ، هلا) المميزتين منها.
وتسرح هالة ببصرها محلقة بخيالها بعيداً تفكر في اتصالات سامي الكثيرة ليقطع أحاديثها بينها وبين صديقاتها أو بينها وبين أبيها أو ابنها، استشعرت حرجاً ، فكرت في نهره، لكنها لا تملك القدرة على شخص بخلق سامي بالنسبة لها، كما أنها اعتادته يومياً، ألمحت إليه بأن يفعل ما يريد على ألا يبعد كثيراً عن الفيلا من دون أن يتصل بها وهي حينما تحتاجه ستتصل هي به...
****
قرر الأب - فجأة- أن يقوم بأداء العمرة، اعتاد الذهاب من الرياض إلى مكة جواً، لكنه هذه المرة بعد أن ارتاح مع سامي وقيادته، أراد أن يصطحبه معه خلال رحلته إلى مكة، فأخبر هالة بأنه يريد سامي معه كي يقوم على رعايته، أدهشتها المفاجأة، شعرت أنها لا تستطيع الاستغناء عنه، لابد أن تراه يومياً، شعرت حينها قشعريرة تدب في أوصالها، لم تتصور أن يغيب عنها سامي أسبوعاً ليصحبه أبوها في رحلة العمرة، وهالة حتى هذه اللحظة لا تواظب على الصلاة مثل أبيها، لكنها اختلست لحظة، بادرت أباها برغبتها في الذهاب معه في رحلته.
تفاجأ الأب، وقال لها: يلعن إبليسك، وش فيه، سلامات إن شاء الله؟
استشعرت حرجاً، قالت له: ودي أكون معك في العمرة... فرح الأب لرغبة هالة، ظن أنها تحاول أن تبدأ التعرف الصحيح على دينها، ولم يفطن للسبب الحقيقي وراء طلبها وجودها معه (سامي).
حوالي ألف كيلو متر المسافة ما بين الرياض إلى مكة، ساقها سامي، كانت هالة وأبوها وحمود يجلسون في المقعد الخلفي، وسامي يمسك بمقود السيارة في طريق مكة المليء بالاستراحات التي كان يقف عندها كل مائتي كيلو متر ليستريحوا جميعاً من عناء ركوب السيارة لمسافات طويلة، إلى أن وصلوا إلى الميقات (السيل) وأحرموا جميعاً من هناك، كان سامي سعيداً جداً بملابس الإحرام التي اشتراها له أبو هالة من البائعين عند الميقات، كذلك حمود الصغير بدا في ملابس إحرامه ملائكياً ببراءة طفولته، وتغيرت ملامحهم جميعاً إلى الراحة والهدوء، وبدأوا يلبون (لبيك الله اللهم لبيك) داخل السيارة ويكبرون، كان دخولهم مكة ليلاً، وسامي يتلفت حوله ليرى جبال مكة العالية وظلامها الدامس، ويقول بينه وبين نفسه يا لإيمان سيدنا إبراهيم لولا إيمانه لما ترك زوجته وابنه بين هذه الجبال، ويكبر الثلاثة الله أكبر، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك... لم يكن الموقف جديداً إلا على هالة وسامي اللذين يؤديان العمرة لأول مرة في حياتهما... كان حمود قد ذهب مع جده العام الفائت حين سافرا مع مجموعة من أصدقاء الجد وأسرهم بالطائرة.
وخلال الطواف حول الكعبة بملابس الإحرام، لم يكن سامي يفكر في أي شيء، كان يغالب دموعه المنهمرة من حالة إيمانية، وعلَّق عينيه بالكعبة خلال الطواف، يمسك الرجل الكبير يسنده، وهالة معلقة بيد أبيها، وحمود بيدها الثانية كلهم مرتدون ملابس الإحرام البيضاء، ولما فرغوا من العمرة، كان الزحام شديداً، تعلقت هالة بيد سامي، وأبوها باليد الأخرى، وفي الزحام الشديد اقتربت هالة من سامي حد الالتصاق، استشعرت رجولته، شعرت بفطرتها كونها امرأة احتياجها لرجل تستند إلى ذراعه في زحام الحياة...
لم يكن سامي يفكر في أي شيء إلا الدعاء لأمه ولأخواته ولنفسه، وانفرط عقد لسانه بالدعاء والتكبير والتهليل من دون أن يشعر، جال ببصره، تعلقت عيناه بعد النظر إلى الكعبة برؤيته ملامح هالة، اختلس الاثنان نظرة لعين الآخر لما رآه من نقاوتهما بعد الطواف، استشعرا شيئا خفياً لم يقدرا أن يسمياه...
كان الأب أحيانا لا يقدر على الذهاب إلى الحرم، فيجلس في الفندق مع حمود، وتذهب هالة مع سامي ليطوفا حول الكعبة، ويصليان ويشربان ماء زمزم...
مر الأسبوع، وسامي يقوم على رعايتهم إلى أن حان وقت العودة...
يبدو طريق العودة إلى الرياض لسامي أطول من طريق الذهاب، لم يعرف سبباً لهذا الشعور...
عاد الجميع إلى الرياض مرة أخرى لممارسة الروتين اليومي ذاته... كتب سامي لأمه رسالة طويلة يخبرها فيها بالعمرة التي منَّ الله عليه بها، تكلم كثيرا في الرسالة...
وفي الرياض...
الأماكن كلها مشتاقة لك
والعيون اللي أنرسم فيها خيالك
والنسيم اللي سرى بروحي وجالك
ما هو بس أنا حبيبك
الأماكن كلها مشتاقة لك
يشدو محمد عبده بأغنيته (الأماكن) عبر الكاسيت الموجود بالسيارة، ونبرة تبدو مغموسة بشجن في صوت سامي وهو يردد كلمات الأغنية مع محمد عبده، وهو وحده في السيارة.
سامي اشترى شريط الأغنية كاملة على نفقته الخاصة، بعد العودة من رحلة العمرة، بدأ يديره أثناء وجود هالة معه في السيارة، كان يصمت لتسمع هالة، لكنه لم يتمالك نفسه وبدأ يردد في نفسه كلمات الأغنية التي أثارت داخله شجناً من نوع خاص استشعرته هالة... نادته لكي يركز في الطريق، وأثنت على الأغنية، وبدأت تردد هي بلهجتها السعودية فبدت أجمل مما يرددها سامي، فصمت ليسمع محمد عبده، ويسمع معه هالة أيضاً وهي تنددن الأماكن كلها مشتاقة لك.
--------------
هذا هو جزء من رواية يحدث في السعودية قبل الطبع للأديب المصري حسين أبو السباع
[email protected]



#حسين_أبو_السباع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عين السمكة.. وسيناريو الأرجزة السياسوية!
- يحدث في السعودية) رواية سعودية بصوت مصري
- الفلسفة والسياسة... ومتغيرات الترابط والانفصال!
- حرب الأفكار... بين هجرة الأدمغة واستيراد الإرهاب!
- المهزلة تدخل عامها الخامس... والكأس فارغة!
- التحرش الجنسي واعتبار المرأة (إنسان) من الدرجة الثانية!


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين أبو السباع - جزء من رواية (يحدث في السعودية) قبل الطبع