أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح محمود - الإنسان الفسيفساء















المزيد.....


الإنسان الفسيفساء


صالح محمود

الحوار المتمدن-العدد: 2142 - 2007 / 12 / 27 - 08:55
المحور: الادب والفن
    



أيها الأصدقاء، كيف تنساقون تحت وطأة الصدمة بفعل الفناء يحيل الوجود إلى صمت فراغ، عبر الوحوش المسحوقي الذوات كأداة استحواذ وقهر، رغبة في جعل فسيفسائية الإنسان كصوت، بوارق تضيء، تومض وتلمع بين طيات السواد المتراكم المتلبد- إلى لون عاتم قاتم- للضلال بما فيه من ذهول، شخوص ورثاء- نحيب نديب وبكاء ممزوج بالأسى، اللغو، الضجيج والغوغاء.
أيها الأصدقاء، كيف تنصاعون للوحوش المتوحشة في سعيهم محاولين بسط الظلمة على الإنسان الفسيفساء والعتمة، عبر العداء والاعتداء، مستخدمين آليات الفناء من فتك، تشويه وقتل، غرائز التوحش، الوجه المقنّع للفناء. هؤلاء الوحوش يا أصدقائي لا همّ لهم سوى تأطير الإنسان، غلّه وشلّه لاستهلاكه عبر النهش والتمزيق أشلاء تتقاطر دماء حمراء، أو هكذا يعتقدون. ومتى كان الإنسان الفسيفساء أيها الأصدقاء كائنا أرضيا يؤمن بالانتماء إذا كان الوحوش يمثلون الوجود كحدود، فالأرض حقّا مجهولة في الكون متلاشية عديمة الحركة، بينما يخلق الإنسان الفسيفساء الزمن عبر الحركة. أصغوا يا أصدقائي لصدى صوته ألوانا متناقضة في الماضي كامنا فيه.
أيّها الأصدقاء، حقّا يبدو الأمر محيّرا، أو هكذا يبدو، حين انكشف الفناء عبر الصدمة كلحظة بوجهه المقنّع التوحّش، لأنّ البدائي تمكّن من الانسلاخ عن عالم الطبيعة الأجوف والانفصال، هل كان ذلك عبر الجسارة أم الإدراك، إذ الإنسان الفسيفساء يستمدّ شرعيّته من الخروج عن انساق الطبيعة، قد يبدو ذلك جليا، فالإنسان لا يفتأ يعود إلى جوهره كصوت يشق الصمت، يتتبّع صداه يرتدّ من الماضي الكامن فيه لأنه إنسانا.
أنتم يا أصدقائي وعبر الصدمة كلحظة، ينكشف فيها الفناء بوجهه المقنّع التوحّش، تلتفتون، تتساءلون، تشمئزّون، تستنكفون، تتبرّمون، تضجرون من هؤلاء الوحوش القادمين من عمق البدائية ومجاهيلها، المستحوذين بأفعال الغرائز القهرية : ضرب، نهب، سلب، تشويه، فتك، قتل. يحاولون عبثا بالجريمة طمس فسيفسائية الإنسان الفسيفساء، ببسط رداء الظلمة من خلال الصدمة، في محاولة فاشلة يائسة إلغاء الفردية جوهر الفسيفسائية ليستحيل الإنسان الفسيفساء من خلالها نسخا مشلولة مغلولة، مسلوبة الإرادة، معدومة القدرة على الخروج على انساق الطبيعة، والإنسان الفسيفساء مع ذلك يشدو النشيد والغناء، أنصتوا إليه يا أصدقائي يتصاعد صوته عبر البوارق فيضا من الأنوار المتمازجة يشقّ الصمت.
أيها الأصدقاء، يستمد الإنسان الفسيفساء هويته من الفسيفسائية بالانسلاخ عن الذاتية، بمعزل عن الحدود، كفطرة عميقة بعيدة الغور، تستعصي على السّبر، فليست الفسيفسائية سوى الخروج على أنساق الطبيعة. ومتى خضعت الإنسانية لحظة للفناء، انظروا إلى بوارقها تشعّ في كل الأنحاء، فصارت كالواحات في الصحراء، تنبع ألوانها من ذاتها. فالفسيفسائية تسري متدفقة في شرايين الإنسانية، وهو ما يبرّر عراقة اللقاء، لقاء الإنسان الفسيفساء كنفور، كاشمئزاز، كاستنكاف، كتقيّؤ من عالم الفناء، كانسجام متناقض.
أيها الأصدقاء، هؤلاء الوحوش الغرباء السّاعين لبسط المطلق تنعدم فيه الحركة، هذا اللقاء ليس إقصاء الصراع، فالتوحش صمت فراغ في خدمة الفناء ليس إلا، حتى انه الوجه المقنّع له. فعلا فهو أمر يدعو إلى السخرية، إذ في الوقت الذي يسعى فيه الإنسان الفسيفساء لتجسيد الفسيفسائية التي يستمدّها من الانفصال عن الذاتية يسخّر الوحوش أنفسهم في محاولة تدمير فسيفسائية الإنسان، راقبوهم يا أصدقائي، فرغم خوائهم وفراغهم من كل ميزة كلون كقيمة، يتمظهرون بالألوان، ورغم جبنهم يتبجّحون بالبطولة عبر الجريمة، ورغم قبحهم لفقدانهم للفسيفسائية يضعون المساحيق وبذلك لا يخرجون عن أطر الفناء بأساليبه الغريبة كالتلوّن والتخفّي والتفخيم والتضخيم والتهديم.
أيها الأصدقاء، ليست الفسيفسائية ظاهرة محتواة في عالم الطبيعة خاضعة لها، وليست رؤية تنعدم فيها القدرة على اللقاء لارتباطها بالانتماء كذاتية، بل هي فطرة وهذا ما يبرر اللقاء، إنها صوت يتدفق، يفيض، يلغي الصمت عبر الحركة، بدليل أن الإنسان البدائي قد انسلخ عن عالم التوحش، وهذا الانسلاخ لم يكن حدثا لان الإنسان خارج انساق الطبيعة بالضرورة كتكريس اللانظام عبر الاحتواء حتى أن القنص صار نشاط الإنسان البدائي المحوري ففي الوقت الذي آمن فيه الوحوش بالمطلق ، فطر الإنسان الفسيفساء على الحركة، أيها الأصدقاء، تجتاحنا الرهبة في عالم الصّحراء والروعة. أمام الواحات الطافية بين رمالها الصفراء، الوجه البائس الباهت للفناء. لأننا نتناسى أن أصلها بحرماء، كان قد غاض وغار فيما مضى بين ذرّات رمال تمور وتفور.
أنظروا يا أصدقائي الألوان تنبعث متوهّجة متفتّحة وتنبثق من بين طيّات الصحراء في ذلك الجوّ الكئيب بين ثنايا السراب المريب. فالماء في الحقيقة يسري في أعماق الصحراء في شكل شلالات، أنهار أودية وبحيرات. ينبع من العيون زخّات. فالبوارق لا تمثّل الفسيفسائية بل تجسّدها كصور غير أننا نتساءل لماذا الصحراء صحراء؟ ونتمثل صورة الفناء الجاثم بين رمالها المسيّرة الصفراء، ووحوشها الغرباء، غافلين عن الواحات، متناسين حقيقة الماء كحركة، انظروا الواحات يا أصدقائي تمعّنوا تفاصيل ألوانها البراقة، إنما الإنسانية بصدد الخلاص من التوحّش.
أيها الأصدقاء، هذا الماء يفور، يضمحلّ، يتحلّل، يتصاعد، يتدفق، ينتشر يغزو الفضاء، شأن فسيفسائية الإنسان الفسيفساء، والواحات ليست غير الصدى يطفو، صدى الماء كحركة، كصفاء، ألوانا متوهجة، متفتّحة برّاقة، تشعّ الفسيفسائية بوارقا تومض تلمع بين طيات السواد الكثيف. يطفو الماء واحات ألوان على سطح الصحراء صدى مجسّدا المدى خالقا الزمن. أنظروا يا أصدقائي قطر الندى يكسو بالجلال والوقار واحات الصحراء، شأن فسيفسائية الإنسان الفسيفساء تنبعث من خلاله كحركة، شأن الماء في الواحات، تأملوا يا أصدقائي سطح الصحراء، ورغم ذلك تنشا الواحات،لأن الماء ذلك الكائن الأزلي عكس الصحراء الخاضعة للظواهر تفتّتها، تسيّرها، تغيّرها فيلغيها الماء.
أيها الأصدقاء، ليست فسيفسائية الإنسان الفسيفساء كصدى للفسيفسائية الإنسانية- ألوان الواحات التي لا تمثل غير فسيفساء، بل تتجلى بوارقا مزيجا من كل الألوان تنبع من ذات متناقضة مشحونة بالحركة، رغم صفائها صفاء الماء الذي غزى الصحراء وتسرب بين طياتها وهو دليل صلابته كقدرة على الحركة، وهشاشة الصحراء كفراغ، كصمت، ينخدع لسرابها المزيف ، لأنها لا تستمد وجودها من ذاتها ولا ينبع توحشها من عمقها بتغييبها كذات، طالما أنها ألعوبة في يد الظواهر.
أيها الأصدقاء لا يكتفي الماء بالتحلل في أعماق الصحراء، بل هو الكائن المنتشر، المضمحلّ في الفضاء، يحمل في عمقه الألوان، صوته الذي لا ينسلخ عبره عن التوحّش بل ينفي التوحش كفناء، بينما تبقى وحوش الصحراء مهزلة مبعثا للضحك حين تلتجئ للواحات لتتفيأ ظلالها رغم جوهرها المتوحش محكومة بالغرائز. يتحرك الماء يا أصدقائي مابين طيات الصحراء والسماء عبر التحلل والاضمحلال و الانتشار عبر التصاعد، حتى أننا ننخدع لعجزنا عن رؤية الألوان التي تلون الفضاء تتجلى في قوس قزح،تلك الألوان التي تتجسد حسيا في الواحات مشكلة فسيفساء. وهذا في الحقيقة ما يوحي بمحدودية الماء كفسيفساء. ففي الوقت الذي تتجلى فيه فسيفسائية الإنسان الفسيفساء بوارقا تومض وتلمع، كماض كامن في ذات الإنسان بدليل أنه كبدائي تمكن من الانسلاخ من عالم التوحش بتمثله، إذ الفسيفسائية تتحرك في كل اتجاه بطريقة متناقضة يبدو الماء صوتا مكررا لذاته نفس الإيقاعات تتجلى كألوان، وهو ما يدل بما لا يدع مجالا للشك حدود الماء ووقوفه عند هذه الحدود، تبدو إذا ألوان الماء فسيفساء، بينما تتجلى فسيفسائية الإنسان الفسيفساء بوارقا تومض في كل الأنحاء تخترق السواد، يحمل هذا البريق في ذاته كل الألوان المتمازجة عبر اللقاء عكس ألوان الماء المتبددة لأنها مجرد فسيفساء من الألوان سريعة الذبول والنسيان. ويبقى صوت الماء مكبوتا غير منطلق لأنه محدود بالدورة متماه مع الطبيعة كتمظهر للفناء. عكس صوت الإنسان الفسيفساء المنسجم كتناقض، وهذا هو جوهر الاختلاف ففي الوقت الذي يتجلى فيه الماء فسيفساء ألوان، تومض الفسيفسائية الإنسانية منذ الإنسان البدائي كنفور، كاشمئزاز، كتقيؤ، رغم هيمنة التوحش ، غير أنه يا أصدقائي لا يمثل غير الزيف، الوهم، الفراغ، شأن الصحراء مع الماء، وما هذا الخروج سوى الحركة عبر الإدراك، فالفسيفسائية الإنسانية ليست سوى الحركة تفيض تتدفق عبر البوارق، تستمد خاصياتها من جوهرها الأصيل كخروج عن أنساق الطبيعة ،طالما أن التوحش يجسد الفناء لا غير ، ولعلنا يا أصدقائي نتساءل عن شرعية وحوش الصحراء إذا كانت الصحراء تفتقد للشرعية نفسها.
أيها الأصدقاء هاهي ذي الوحوش سارحة في الصحاري و البراري تبدو كائنات صغيرة، حقيرة، تفتك بها الظواهر لا قدرة لها على الاحتماء ودفع الأذى من العواصف الهوجاء، أو حرارة الصحراء، يفنيها القحط ويصليها الظمأ. و لعلكم تعجبون من هذه المخلوقات المسحوقة الخاضعة للفناء متناسين أنها مصاصة دماء عبر التوحش، حتى أن الصحراء و إيغالا في احتوائها والهيمنة عليها جعلت منها كائنات مطيعة راضخة لا تتمرد بل تسعى للتكيف، فصارت هذه الكائنات تمثل القسوة، الشراسة،التوحش والعدوان تعمد شأن الصحراء إلى القتل ، التمزيق أشلاء تتقاطر دماء والتي تحال بدورها كمخلوقات بائسة معدومة الذات إلى لقيمات تتبخر منها الحياة.
أيها الأصدقاء، لا تمثل الصحراء ووحوشها فزعا أمام الماء، ريبة وهلعا، أصغوا إليه يرسل عقيرته بالألوان، حتى أن هذه الوحوش أصبحت تستظل بألوانه، و لكن هل هذا عشقا للماء وافتتانا به؟ مطلقا لا لأننا نعلم جوهر هذه الوحوش كغرائز تحركها للاستحواذ والتملك عبر التوحش نهبا وسلبا، اعتداء وضربا، قمعا وترهيبا، تحطيما وتدميرا، فتكا وقتلا، نهشا وتمزيقا، ورغم ذلك فقد ألغى الماء الوحوش لأنها لا تمثل غير الخواء في جوهرها بإلغائه الصحراء،وهذا لا يثير الدهشة، إذا كان الماء الكائن الأزلي يتحرك في ذاته كألوان، غير أن المثير للدهشة هو أن الماء على محدوديته بكمونه في حدوده تمكن من تحقيق الاكتمال كحركة قائمة دائمة بتمازج البداية والنهاية بين طيات الصحراء والسماء، ظلت الفسيبفسائية بوارق تومض عبر الرؤى دشّنها الإنسان البدائي، فإذا كانت الفسيفسائية كذلك، فهل يعني ذلك – وبما هي السمة الجوهرية كقدرة على الخروج على انساق الطبيعة –خاضعة للبوارق لا تتحقّق إلا من خلالها، أم هي خاصية الإنسانية الفسيفسائية؟
أيها الأصدقاء، لماذا في الوقت الذي ألغى فيه الماء الصحراء وسطحها من خلال الواحات وألوانها تطفو الفسيفسائية بوارق تومض وتلمع، فهل قدرها أن ترتبط بالإنسان الفسيفساء –كرؤى؟ ليس من الصدفة يا أصدقائي ظهور الأنبياء في الصحراء، فهل كان ذلك صراع الفسيفسائية مع الماء كقدرة على إلغاء الصحراء؟ غير انه في الوقت الذي ظل فيه الماء يرتبط بالصحراء كواحات ألوان، بالفضاء والسّماء، حلّ الأنبياء. لم يكن للإنسان البدائي –يا أصدقائي- بدّا غير الخروج على أنساق الطبيعة، فقد كان مغمورا كلّية بالتوحّش لأنه موجود بالضرورة خارجه، فهل كانت الصحراء الفضاء الأمثل لتجسيد الفسيفسائية؟
أيها الأصدقاء، بقي الماء مرتبطا بالصحراء لتجسيم ألوانه حتى أنّه يغيب في السماء كألوان. هذا فضلا على فسيفسائيته كواحات، ففي الوقت الذي أطّر فيه كحركة دائرية الشكل، فضلا على عجزه على مغادرة الفضاء، هبط الأنبياء، هاهم يرسلون أصواتهم بنشيد الرؤى، لم تكن تلك الرؤى صورا تنكشف، تهتك الحجب، بل انفتاح، تبصّر، إذا كان التوحّش عمى صمم، فإذا كان ذلك كذلك، فإن النبوءات حركة طليقة وحرّة خارج الصحراء، لم تكن الرؤى كشفا بل اختيارا كحركة.
أيها الأصدقاء، من المؤكد أن الصحراء لا تمثّل سوى الفضاء الأمثل لهبوط الأنبياء، فهي حقّا بهيمنة السّراب الخدّاع وجه الفناء وفي غياب المحاكاة، فظهور الفسيفسائية جسّدها الأنبياء في الصحراء، إذا كان البدائي مغمورا بالتوحّش تجسّدت الفسيفسائية عبر الرّؤى كمعجزات، إذ هي ليست تماهيا مع الماء، بحكم تحرّكه في حدوده، فحتّى الأنبياء أنشئوا الرؤى خارج الصحراء، تجسّدت حقّا كمعجزات عبر الإدراك النّابع من ذواتهم –بإلغاء الصحراء.
أيها الأصدقاء ليست الفسيفسائية سوى الخروج على انساق الطبيعة أي انبثاقها كبوارق تومض وتلمع من بين طيات الفناء، والأنبياء عبر نشيد الرؤى، تتجسّد فعليا على سطح الصحراء، وهو ما يجعلها بمنأى عن الإسقاط، إذ تنبع من ذات الإنسان كقدرة على الخروج على انساق الطبيعة كحدود وقيود، تتجسّد كمعجزات.
فإذا كانت الرؤى تجسّدت عبر الأنبياء، فقد نبعت حقا من ذات النبي كإدراك كخروج عن الذاتية كانتماء، كاختيار، وهذا يرتبط بالحركة كحريّة، ومن تحصيل الحاصل أن نقول أن الرّؤى ميزة الإنسان –كنبوّة، أي خروج عن السائد والساكن، وما علاقتها بالطبيعة إلا التمرّد عليها، كمعجزات وإذا كانت خاصية الإنسانية الفسيفسائية الخروج عن أنساق الطبيعة عبر الإدراك، فإنها تشترك حقا ورؤى الأنبياء، في الانفتاح على الحركة بل الرؤى إذا كانت معجزات تتجسّد، و إذا كانت الخاصية التي يختص بها الإنسان وحكرا عليه دون غيره من الكائنات – إنما هي محتواة في الفسيفسائية. فالأنبياء حقّا بشر.
أيها الأصدقاء ليست الرّؤى مسقطة إذا كانت نابعة من ذات الإنسان كإدراك بدليل أنها كمعجزات لم يؤتها غير الإنسان، ففي الوقت الذي ظهرت فيه الفسيفسائية كقدرة على الانسلاخ عن عالم التوحّش عبر البدائي من خلال الإدراك كنفور كاشمئزاز بمعزل عن الغريزة، حقّق الأنبياء التواجد بمعزل عن الحدود والقيود، وبذلك أكد الأنبياء ميزة الإنسان كنبوة.
أيها الأصدقاء لم تكن الرّؤى محاكاة، لخلوّ الصحراء من الأشكال، الأجساد و الأحجام لأنها تتميز بالبقاء تتجسد كمعجزات تطفو من العدم، فهل الرّؤى التي تتجسّد بالنسبة للفسيفسائية الإنسانية شأنها شأن الألوان بالنسبة للماء؟ يبدو ذلك واضحا، إلا أن الفسيفسائية هي بوارق تتفتّح تومض تتجسّد، وهذا بديهي طالما أن الرّؤى ترتبط بالحركة، إذا كان عالم الطبيعة هو عالم السكون، الصمت، الفراغ، وهذا يعني أن الرّؤى وبما هي خاصّية الإنسانية، خلاصا من الذّاتية، يعني إدراك الحركة. وهذا فعلا هو القاسم المشترك بين الأنبياء، فهم يجسّدون اللقاء- رغم اختلافهم – جوهر الفسيفسائية الإنسانية، فإذا كانت المحاكاة هي الاقتصار على إعادة شكل بلا معنى، بلا روح خالقة له أساسا، وما الشكل سوى إطار المعنى، فإن الرّؤى تشكل صورة الفسيفسائية تتجسد في شكل، لأنها الحركة المتناقضة في انسجامها، كتصاعد، انتشار، انفتاح، فالرّؤى هي صور من الصور اللانهائية للفسيفسائية. و هذا ما يجعل الأنبياء لا ينطقون عن الهوى أي أن الإنسان الذي خص من بين كل الكائنات بالرّؤى.بما هي صور الفسيفسائية الإنسانية في حركتها اللانهائية، ليس مصدر انبعاث الرّؤى فحسب يل المجسد لها، وحقا هذا ما يجعل الرّؤى تتجسد كمعجزات أي كخروج عن السائد كسكون كخضوع للانفعال، فالإنسان ليس آلة تمر منها الأنغام ، بل ينبعث عبر الإدراك في الفسيفسائية، فليست تلك الرّؤى تمثل صورة الإنسان كفسيفسائية لحظة الحركة- بل تتجسد حقا كمعجزات تنبع من ذات الإنسان كاختيار أي حضور الذات كتحرر من عالم التوحش، أيها الأصدقاء نتساءل حقا، كيف تتجسد تلك الرّؤى ؟ و لكن تلك الرّؤى ليست مسقطة ، فهي لا تتجلى بهتك الحجب طالما أن الإنسان يتمثلها، فالأنبياء حقا كبشر جسدوا هذه المعجزات كخروج عن السائد ، إنما الرّؤى ليست سوى صورة الحركة الفسيفسائية كبارقة تومض وتلمع بين طيات السّواد ، وهذه الصحراء يا أصدقاء ألغيت من الماء لخضوعها للظواهر العمياء، غير أن الرّؤى تتحقق كمعجزات والتي تمثل الفسيفسائية في حركتها اللانهائية، تمتزج بالإنسان بدليل أنه يبحث عن الماضي الكامن فيه كلقاء عبر الإدراك، وهذا ما يجعل الصور قابلة للتصور، فالفسيفسائية تظهر كحركة متناقضة كانسجام، تفيض وتتدفق في البشر محققة الإنسانية كفسيفسائية باضمحلال الذاتية كانتماء، إنما رؤى الانتماء لا تنبع إلا من عمق الذاتية كتنافر، كضمور وتقلّص، لأنها ترفض في الصميم اللقاء كحركة منسجمة عبر التناقض فهل يمكن نفي انتشار الماء المتصاعد، إنما حركته هي إلغاء الصحراء ككيان يطغى كألوان عبر الدورة. ولكن أين الفسيفسائية في الإنسان ؟ فعلا فالماء يحتل الفضاء رغم غيابه كألوان في السماء. إنما الفسيفسائية كحركة متناقضة تسير في كل اتجاه، جوهر الإنسانية ورغم ذلك فهي شأنها شأن الماء في الصحراء مغيّبة عبر الذاتية كعمى، حتى أن البوارق ونحن نندهش لذلك، لا تكاد تومض وتلمع إلاّ لتمس الإنسانية في عمقها، والأنبياء جسدوا الرّؤى كمعجزات في الصحراء.فبظهور الفسيفسائية تتلاشى الإنسانية، أي تطغى الحركة، أصغوا يا أصدقائي لنشيد الرّؤى تذيب الانتماء كحدود بتحرير الحركة، أي الخروج عن السكون والهمود.
أيها الأصدقاء إذا كانت الفسيفسائية كبوارق تتجلى كرؤى تتجسد كمعجزات على الأرض لا تمتّ بصلة للصحراء لأنها في جوهرها التمرد على السكون ورفض الجمود، إنما تمثل لحظة الإنسان في المضيّ عبر الحركة كفسيفسائية إنسانية للماضي الكامن فيه كلقاء بما أن البدائي قد تمكن من الخروج عن أنساق الطبيعة، أصغوا يا أصدقائي لصوت الإنسان، لا يمتّ بصلة للكون المنبعث كصوت بركاني، نافورة خلق،لأن الإنسان ليس آلة تمر منها الأنغام إذا كانت الفسيفسائية اختيار كحركة قادرة على نفي الفناء.ولكن كيف تطفو الفسيفسائية في الإنسان؟ والإجابة بسيطة إذا علمنا أن الرّؤى كبوارق حكرا على الإنسان كإدراك للحركة، فالكائنات المسحوقة الذات أي المنعدمة كذات، لا يمكنها تمثّل الرّؤى مطلقا بينما تؤكد هذه الرّؤى جوهر الإنسانية كفسيفسائية كخروج عن السائد، الساكن، الهامد، عبر الحركة.وإذا كانت الحركة تمرد على الصمت، الفراغ، السكون، الهمود،أي الخروج عن الذاتية تصبح الفسيفسائية ليست سوى اللقاء، أي التمازج كانسجام كتناقض عبر الفردية من خلال التقارب مجسدة الهوية.
أيها الأصدقاء لايتأتى اللقاء بغير الحركة، وعبر الإدراك بالانسلاخ عن الذاتية جوهرها الغرائز، عمى وبكم، انعدام الذات كإدراك بينما اللقاء تجسيد للفسيفسائية من خلال الرّؤى عبر النشيد والغناء لأن جوهره الفردية.
ليس اللقاء آلية غريزية ينعدم فيها الإدراك كاختيار، والفردية كتناقض، إذا كانت الفسيفسائية هي الحركة مقابل السائد كسكون، همود، خضوع، خنوع في خدمة الفناء.
أيها الأصدقاء، الخروج عن الفناء والتمرد عليه لا يمثّل قوّة الإنسان الفسيفساء، لأنه مطمور في عالم التوحش خارج انساق الطبيعة بالضرورة، وما رفضه للفناء إلا استجابة لجوهره الفسيفسائية كحركة أبدية،عبر الرؤى كمعجزات تلمّسا لهذه الحركة، إنّما الإدراك ليس سوى اللقاء كحركة متناقضة تكريسا للفردية جوهر الفسيفسائية الإنسانية عبر الرؤى والتي تمثّل أبواب الخلاص من الذّاتية كانتماء.
أيها الأصدقاء لا يثير دهشتنا استجابة الإنسان الفسيفساء للحركة، لأنه موجود بالضرورة خارج انساق الطبيعة، ولكن المثير للدهشة – وهي ليست سوى عملية صدمة عبر التوحش– الوقوف في وجه الحركة ومحاولة طمسها في الإنسان الفسيفساء بتنميطه، شلّه وغلّه عبر الوحوش، أدوات التوحش مسلوبي الإرادة، مسحوقين كذوات عبر حركات قهرية استحواذية.
أيها الأصدقاء، لا يتأتي اللقاء إلا بالتحرر من الذاتية كانتماء، أليس الأنبياء قد جسّد والرؤى الغريبة عن الصحراء فصارت معجزات خلقا جديدا في ظاهرها، إلا أن الرؤى تنبع من عمق الإنسان كحركة متناقضة كفسيفسائية كامنة في الماضي. يبدو الأنبياء يا أصدقائي أول من جسّد الفسيفسائية الإنسانية عبر الرؤى كمعجزات، غير أننا نندهش إذ كيف تمكّن الإنسان البدائي من الخروج عن انساق الطبيعة؟ هاهي البوارق تومض وتلمع في جميع الأنحاء، تتجسّد من خلالها الرؤى عبر الإنسان الفسيفساء، لم يقوّض الأنبياء الصحراء لإعادة تشكيلها من جديد، بدليل أنهم طفوا من العدم إنما أنزلوا الرؤى لتجسيدها عبر المعجزات، فالصحراء ليست الوسط الذي تحقّقت فيه المعجزات، بدليل أن الماء يقوم بالتجلّي كألوان من خلال قوس قزح دائري في السماء بمنأى عن الصحراء.
أيها الأصدقاء، ليس اللقاء آلية ميكانيكية تحيل إلى الغريزة، إذا كان حقّا نابعا من الإدراك، بالانسلاخ عن التوحش بالضرورة، فاللقاء إنما هو بديهة تواجد الإنسان خارج انساق الطبيعة عبر الفردية كخلاص من الذاتية كانتماء، فالإنسان لا ينتمي في جوهره للإنسانية الشكل الخارجي المحسوس الملموس، أو قل هو قناع الفسيفسائية، لان جوهره الفردية كحركة متناقضة في انسجام، أصالة و تجذر الفسيفسائية كلقاء. وهذا ما يجعل هذه الحركة تتجسّد في أشكال، أجساد، أحجام بما هي صور الفسيفسائية تمتزج بالإنسان فتشوّه.
أيها الأصدقاء، كل الرؤى بما هي طغيان الفردية كتناقض في جوهرها منسجمة تتجسّد لتحقيق اللقاء، غير أننا نتساءل هل هي مكرّرة وهذا فعلا مجانبا للحقيقة، إذا كانت تلك الرؤّى متناقضة في جوهرها إذ هي تعود للإنسان الفسيفساء المنسلخ عن الذاتية، وهي صور الفسيفسائية ممتزجة بذاتية الإنسان، فهي ليست حقيقة الفسيفساء إلا كحركة لتحقيق اللقاء، إنما الرؤى شأنها شأن ألوان الماء، بينما الفسيفسائية في حركتها أزلية أبدية، وما مسيرة الإنسان إلا ولادة من بين طيات الفناء عبر الإدراك كلقاء، فالإدراك هو المخرج الوحيد للتحرر من دائرة التصورات الطبيعية التي تمتزج بها الرّؤى عبر الذاتية، وفعلا هذا ما يفعله الإنسان بتأمل الزمن الماضي الكامن في الفضاء، بينما تمكن الإنسان البدائي من الخلاص من التوحش بتمثله عبر المضي إلى الماضي الكامن في أعماق ذاته.
طوبى للإنسان الفسيفساء فهو لا يعرف النحيب، النديب والبكاء لأنه متحرر من الذاتية كانتماء وهذا ما تقتضيه الفردية لتحقيق اللقاء جوهر الفسيفسائية، عبر النشيد والغناء.فصوت الإنسان المتناقض لتجسيد الفردية كانسجام تحقيقا للفسيفسائية الحركة اللانهائية كلقاء بالانسلاخ عن الذاتية، إلغاء للفناء، يا أصدقاء.
ماي 2007
كاتب تونسي
[email protected]



#صالح_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقيقة النقطة والحرف في تجربة أديب كمال الدين الشعرية


المزيد.....




- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح محمود - الإنسان الفسيفساء