أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - وديع العبيدي - الفرد والعالم..















المزيد.....


الفرد والعالم..


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2139 - 2007 / 12 / 24 - 11:38
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


-في معاني الحرية والاتكالية-

المرحلة الراهنة التي يمرّ بها العالم، هي مرحلة انتقالية نوعية. والمرحلة الانتقالية عندما تتعلق ببيئة غير متجانسة ثقافية ومتفاوتة حضارياً ومدنياً، فأنها تقع أسيرة الفوضى أكثر مما يمكن تسميته بالاضطراب وعدم الاستقرار. وعدم الاستقرار -هنا- لا يقتصر على أنماط الحياة والمعيشة والفكر، وانما يتعداها إلى منظومة القواعد والقوانين والقيم التي تنظم حركتها. واصطلاح نظام عالمي جديد، أو نظام اقتصادي عالمي كما ظهر إبان السبعينيات المنصرمة، كان تعبيرا اعلاميا ضبابيا، ليس من تشيئاته الأوضاع التي تتكشف وتتجلى يوما بعد يوم كمعجزات سلبية، لا يُستكنه مآلها. وكما سبق القول، في مكان آخر، لم تضع هذه المرحلة، الشعوب وثقافاتها في مواجهة امتحان صعب، وانما وضعت الأفراد individuall] في مواجهة العالم ومواجهة أنفسهم.
*
البحث عن الذات
الضياع هو الصفة الأكثر اقترانا بالفوضى. والضياع هو الحالة الأشدّ فظاعة ورعباً في الوعي الانساني. الضياع، ليس باعتباره فقدان الهوية والخطاب، وانما، فقدان الوسائل والأساليب التي بواسطتها يستطيع تحقيق ذاته. وفي المستويات الشديدة هو فقدان الرغبة والارادة لتمثيل ذاته في المجتمع. أن تكون أو لا تكون، ذلك هو السؤال!. عندما يفقد المرء الرغبة في الكؤون، يعني انه تجاوز تساؤل (بيكون)، للوصول إلى التجرد التام من الذات، او الانسلاخ عن البشرية أولاً والانسلاخ عن الحياة وإقنومها بالنتيجة، أي الانتحار (النفسي والجسدي)، والانتقال إلى عالم آخر. بلوغ هذه النتيجة يقتضي مراحل نوعية من التفكير ووعي العالم، وبقصد أو بغيره، فليس التفكير ديدن الجميع، أفراداً أو ثقافات. وكذلك التضحية التي يتضمنها (الانتحار)، ليست دين الجميع، لأن التضحية بكلّ الأشياء، أفضل لديها من التضحية بالحياة. فمن أجلها (الحياة) يضحي المرء بكل شيء ويقبل المهانة والعبودية. فلا غرو.. أن يكون عدد المنتحرين قليلاً، مقابل المستعدين للمسايرة والتقمص.
*
ركوب الموجة أو (الموضة)
فئتان تركب الموجة العالية أو (الموضة) السائدة. الأولى، فئة انتهازية آلت على نفسها ركوب كل موجة والسعي لكل مكسب وتصدّر كلّ مشهد. وفئة أخرى، هي الناشئة أو جيل الشباب الذين يجدون أمامهم نمط حياة مختلف عن (حياة الآباء)، بكل ما يشدّهم إليه من مغرَيات ومميزات، تمنحهم مزيد من الاستقلالية عن الجيل السابق، والاندفاع للغرف من سمات عصرهم ما يتيحه لهم من مزايا وفرص.
*
موجة عالية.. وموجة دانية
ثمة مستويان للتفاعل مع الموجة العامة (المحيط). التفاعل التام والمتناهي. التفاعل الجزئي والمحدود. التفاعل التام هو ما يحدث مع الموجة العالمية، أيّان كان مصدرها أو تجاهها وقوتها، كما حصل مع موجات الشيوعية والماركسية والوجودية والنازية وتشيفارا والبيتلز والتشارلستون والهيبيز (التخنث والاسترجال) والميني والماكسي والريجيم (القاسي) والجينز أواسط القرن الماضي. ويقابلها اليوم منتجات العولمة من موضات الأطعمة (السريعة) والثياب واللكنة (الأميركانزم) والهاتف الجوال والنت وثقافة العنف. في هذه الفئة، تكون المرجعية المحلية أضعف ما يكون، بحيث يتنكر لها الشخص ويستعلي عليها، محققا ذاته ضمن نسيج أوسع وأكثر شمولية وعالمية (جغرافية).
يختلف عن هاته فئة، أكثر وعيا وانحيازاً للهوية المحلية، وفي الغالب، على خلفية موقف أو تنشئة سياسية أو دينية، تقف بالمرصاد، للموضة (العالمية)، محتمية بموضة محلية، مضفية لها كل ما يليق من كبرياء وفخر وبطولة واستماتة من أجل الحياة. شكلت الحركات الوطنية والقومية في القرن الماضي صدى هذا الاتجاه، مع ما يوافقه من انحياز للتراث والقبيلة. ومع تراجع مفاهيم الوطنية (النظام العالمي) والقومية (عولمة الثقافات)، ظهرت الهوية الاسلامية مع بدايات القرن الحادي والعشرين، المشتركة مع الحركات القومية (العربية) في ناصية (التراث والقبيلة) كسمة أو موضة بديلة للتيار الوطني والقومي محليا، ومواجهة الأمركة والعولمة على الصعيد الأوسع.
*
موضات محلية
(الموضة) مفهوم سائد في كل مكان وزمان، وليس ميزة لما يحدث اليوم إطلاقاً. والحق، ان (الناس على دين ملوكها!)، كما يذكر التراث. الناس هم الناس، ولكن أشكالهم ولغاتهم وثيابهم تتبدل وتتلوّن. ولو تهيّأ للبعض، ألبوم تاريخي مصور، لأجيال سلالاتها عبر قرون، لكانت أكثر من يضحك من نفسها ويسخر من أفعالها. ولكن للطبيعة حكمة، والنسيان نعمة. انهم يفعلون اليوم ما استنكره بعضهم قبل قرن أو أقل أو أكثر. وكلّما كانوا أكثر اندفاعاً اليوم في هذا الاتجاه، كانوا أكثر عصبية في اتجاه مقابل ونقيض لهذا. فالعصبية والاندفاع والانفعال آفة، لا تأكل غير نفسها، وتأتي على محامدها، فلا تشعر من نفسها بشيء، ولا ترتضي غير ما تراه سبيلاً.
من أسوأ الخلق اتباع الدول والحكام والأمراء في سبل المعيشة والوظيفة والحياة. فإذا انقلب الحكم وتغير الحاكم، انقلبت معيشتهم واختلفت ألسنتهم، وكانوا مثل الراقصة والزمّار.
*
الأهواء والأمراء
من مواضع الجدل الصراع القديم بين الفرد والجماعة، بين الشخصية والحكم. والتي كان من نتائجها تقنين جملة قواعد وأوامر، للنهي عن الهوى والأهواء وفضيلة اتباع أولى الأمر والأمراء. قد لا يكون التفرّد والتمرد صفة الجميع، فالذات المستكينة، أو المجبولة على الاستكانة والمسخ عاجزة عن تحقيق ذاتها، لذلك ترتجي ما تسعى في أثره وتتوخى تقليده. ولكن وجود قانون يحظر بواعث التفرد والابداع، ويسمها بالبدعة أو الصبأ أو الزندقة، هو مما يقتل سنّة التطور والتغيير في حركة الأفراد والمجتمعات. والحق، أن كثيراً من الأفكار والمظاهر، جرى استنكارها ومحاربتها في بداياتها، ثم وجدت مسراها التاريخي، واكتشف البشر محاسنها وجوانب الفائدة فيها.
*
المركزية والدمقراطية.. القانون والحاجة
في حالات معينة، تقهر السلطات شعوبها على تقليد نمط معين من الزي أو الرأي وطرائق المعيشة، فيعتذر الناس بعسف الدولة وطاعة الجور (ولو كره الكارهون). وفي أحوال أخرى، تعصى سبل المعيشة على البعض، فلا يجدون غير سبل الشرّ مفتوحة أمامهم، فيلجونها، وحجتهم فيه أن (الجوع كافر) ومقولة (لو كان الجوع رجلاً لقتلته). والصحيح أن هؤلاء المدّعين، يتملقون ملك الجوع وحكم التجويع والترغيب، حتى يطمئنوا لأسفل بطونهم.
في هذا المجال تبرز ظاهرتان، الانخراط في أجهزة العنف الأهلي كالشرطة والجيش والأمن والمخابرات وما إلى ذلك، وهم أدوات تمارس العنف بالاستعاضة تحت غطاء سلطة حامية، وتجني من عملها مكاسب، منها ما يدخل بطونها ويثخن أحشاءها. ويناظر هذه الحالة أو الفئة، ما يحدث أثناء القلاقل والفوضى مثل ظروف الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان وعراقستان. ضمن موضة الانخراط في الجماعات المسلّحة لممارسة العنف ضد البيئة والانسان لقاء الحصول على مكاسب مادية وحماية وظيفية. ان الانسان هو الاسلوب. والاسلوب هنا هو عمل يمارسه، أو فكر يجتهد فيه، فيبدع ويجود.
*
من تنازل عن كرامته.. لا يستحق إنسانيته
نتوقف هنا عند حالة الشحاذ (الكدية).
"المال مال الله، والسخي حبيب الله".
انه يقتعد موضعاً من السوق، قريباً من مطعم أو متجر، أو (بنكومات) في الوكوينزوي، يمدّ يده للمارة، مستخدما هيئة جسده والتواءات لسانه لاستدرار قروش. بعضهم، وما أكثرهم مع موسم الصيف والسياحة، يدورون مع المارّة، يدخلون بين المرء وذويه، ولهم في ذلك عليه حجة في لسانه، فانطلقت ألسنتهم تسخر اللغة القومية للاستجداء والكدية. لا تخلو مدينة أو دولة عربية أو مسلمة من (المكادي) والشحاذين والمشعوذين وتنابلة المال. أما أفظع مظاهر الكدية، فالتي في بلدان تعتاش على السياحة وتفتخر بتاريخها وحضارتها. حيث تتولى فرق من الشحاذين والمكادي استقبال السياح (الأجانب) من عتبات المطار إلى فنادقهم وأسواقهم ومراكزهم السياحية. وكم مرة أعرب (سياح) عن (امتعاضهم) أو (تعاطفهم) من كثرة المكادي في البلد الفلاني، سيما من سني الأطفال. وعلى مثل هاتيك البلاد أن ترفع شعار [الكدية (وليس السياحة) مورد من مواردنا القومية]. أما وأن الحال ضاق، والمكادي زادوا في البلاد، فقد عرف بعضهم طريق الهجرة، وساهموا بنقل مظاهر حضارتهم إلى العاصمة الانجليزية، فأضفوا على الطابع الشرقي والعروبي والاسلامي للندن، ملامح تزيد من تماهيها مع بلدان المنشأ، وتقلل من غلواء حنين الممنوعين من السفر إلى أجواء بلدانهم.
*
حدود الذات وجغرافيا الآخر
لا يوجد كائن بلا ذات، مهما بلغ صغر الكائن وضعته. وأبرز علائم الذات هي الفردية. وهي تحقق فرديتها بالشعور والانفعال، وهما صنوا الرغبة والارادة. فالكائن يشعر، وهو سيد شعوره، وشعوره ملكه المحض الذي يشكل علاقته بالآخر. الطفل المولود حديثا، لا يرتبط بهذا العالم، رافض له. ولكنه بعد حين يشعر بالجوع أو البرد، فيلتقم الثدي ويلتصق بدفء الصدر. فالشعور/ الحاجة حققت وحددت علاقته مع المحيط الجديد، وهي العلاقة التي ستستمرّ ردحاً من الزمن، حتى يتحقق التآلف التام والانتماء الجديد. من الناحية النظرية، ان الكائن، عبر قناة الحاجة، المادية أو المعنوية، فقد فرديته الخاصة وبدأ الذوبان في بوتقة العام (المحيط والبيئة). ولكن من الناحية العملية، أن درجة العلاقة، الانتماء، الذوبان، تبقى رهن فردية الشخص أو ذاته. ان مقدار حاجة الفرد للطعام (مثلاً..) أمر يقع تحت سيطرته وتحكّمه. وكذلك حاجاته الأخرى ومتطلباته الجسدية والروحية والبيئية. ان الذات (الخليقة!) هي مركب ضعفات وحاجات وقرينة اجتهاد وسعي للوصول ثانية إلى استعادة استقلاليتها (فرديتها) التامة، عبر سيرورة وصيرورة التكامل والتسامي والنمو العقلي والروحي.
*
ذات بلا جسد..
تجتهد الأفكار والفلسفات في التمييز أو الفصل بين الروح والنفس والجسد والعقل. كما تختلف في تفسير وتصنيف لواحقها وافرازاتها. من غير اليقيني هنا مدى صحة الفصل أو جدواه بالمنظور الوجودي أو الروحي، لكن المؤكد أن البذور الأولية زادت من شقاق الفكر وشقاء البشر في فوضى من المعتقدات والهلوسات التي لا يعرف خيرها من شرّها.
لا يهمنا من ذلك في هذا المجال، غير ما يتعلق بالجسد، وسيما زاوية الارتزاق به. النظر للجسد كسلعة صالحة للاتجار، البيع والشراء في الفكر البشري قديمة قدم الأديان نفسها. وبغض النظر عن تلك المفارقة الاجتماعية التي تتكشف عنها الديانات المختلفة في الحطّ من قيمة المتاجرين بها ونبذ أساليبها وآثارها.
(مومس/ بغي) هي الكلمة المسخّرة هنا لتوصيف هذه المهنة، ولا يعرّف سبب اقتصارها على الأنثى في الغالب، إزاء وجود طبقة مترفة من نساء القصور الباحثات عن اللذة السريعة خارج الخمور والقصور. البغاء، مهنة اقتصادية اجتماعية قائمة على فن دراسة علم نفس المستهلك، ومبدأ إشباع الحاجات العصية على الاشباع بالمفاهيم الشائعة. ويتحفنا التاريخ بأمثلة بارزة وخالدة في هذا المجال. لكن ما يجمع بينها، تلك الاتفاقية غير المكتوبة، -على غرار القانون الانجليزي-، في الفصل الفظيع بين النفس والجسد التي تمارسه البغي خلال العمل. فهي إذ تسلم جسدها أو جزء منه أو تسخر بعضه لتلبية حاجة الزبون، تبقى حرّة النفس، أبيّة في الانحطاط أو التبذل معه. بعبارة أخرى، أن البغي التي تتعرى بالكامل لزبونها، لا تترك له كل جسدها، إلا بتحديدات تقنية وسعرية محددة. فكل جزء وكل حركة لها أجر. والأهمّ من ذلك أنها تحتفظ بحق المبادرة والعمل، أما الزبون فعليه التلقي والاستقبال (استهلاك المتعة). وفي كل ذلك، صغر أو كبر، تسلم البغي جسدها، ولا تسلم نفسها التي تبقى ملك يدها.
*
ذات بلا عقل
ثمة حالة بغاء قريبة من هذا، ولكنها تنحصر في ذلك الجزء من الجسد المسمى بالعقل. عندما يضع البعض امكاناته العقلية والفكرية في خدمة جهة أو شخص معين، مقابل مبلغ من مال أو حصة في جاه. ان المال كغاية مقدّسة -هنا-، تبيح المحظورات. وتسخير الجسد أو الفكر ، كلاً أو جزء، لقاء المال أو المعيشة، من قبيل الاستهانة بالجزء للفوز بالكلّ، أمر، تشرعنه كثير من الأفكار والعقائد. ولكنه في حقيقة الحال، بغاء، وعهر. وقد تم النهي عن بغاء الجسد في الفكر اجتماعي والديني، وغض النظر عن الثاني، أو تم التشجيع فيه، طالما، أن المؤسسة الاجتماعية والدينية، بأشدّ حاجة، لمن يدافع عنها ويروّج لأفكارها وممارساتها. اصطلح علي الوردي على أولئك بالوعاظ، وسماهم (وعاظ السلاطين)، من حاشية القصر والقائمين على ديوان الأمارة. ووعاظ السلاطين في التاريخ العربي أكثر ازدهاراً من أيما تجارة أو صناعة غيرها، فهي تبدأ بشعراء التكسب ولا تنتهي بمنظري الأحزاب وسماسرة الفكر وصولاً إلى مرتزقة الصحافة والرأي. ولا يمكن التطرق لفترة سياسية أو تاريخية من غير ذكر أبرز مروجيها من الكتاب والصحفيين والمنظرين. انهم لسان الحاكم وفلسفة السلطة، كما الجيش والأمن أذرع الحكم وأطرافه.
وفي الحالين، تزني المومس بجسدها، ويزني المثقف بفكره، أما ذاته وروحه فتبقى نقية نزيهة.
*
طريق ضيق وجادة واسعة
من الأسئلة الجديرة بكل (ذات)، هو مدى استعدادها للعمل والمثابرة، للخلق والابداع والاجتهاد، مدى اعتمادها على ذاتها في كل ذلك. هذا الاستعداد، بمثابة الحصانة الذاتية لتحقيق الفردية المستمرة. كذلك التهاون أو الضعف، بالمقابل، هو تنازل عن (الفردية)، عبر الاعتماد على الآخر والتبعية المتدرجة له. معنى هذا، أن الأفراد، متفاوتون في انتمائهم إلى (فرديتهم) و(ذاتهم)، ليس في الوعي فحسب، وانما في استعدادهم لتحقيق (فرديتهم/ ذاتهم) والعمل المتواصل والمميز من أجلها. وكلّما كان الفرد أكثر عصامية وجدّية، أمكن له تحقيق ذاته، العكس بالعكس. فالشخصية الاتكالية الفقيرة في قدراتها وسعيها، تستسهل الاعتماد على غيرها لتأمين حاجاتها الخاصة، ولا تتورع أن تضع نفسها في خدمة مصالح الغير لقاء القليل من تأمين حاجاتها وضعفاتها. والعبودية [slavery] من حيث المنشأ، قامت على أساس وجود أشخاص، يرهنون وجودهم وحياتهم في يد (الآخر) لقاء تأمين المأكل والمبيت والملبس. لا حكمة من القول بوجود علاقة ارتجاعية بين الفئتين، ولكن نمط الفئة (الاتكالية) إذا توفرت ظروف مشابهة، وضاقت السبل والخيارات، يكون لها الاستعداد النفسي للتحول إلى نمط العبودية لتامة، أي فقدان استقلالية ذاتها الفردية.
*
الاتكالية.. السلبية.. الحمق
الشائع، نسبة درجة من الذكاء، للشخصية الاتكالية أو الانتهازية، باعتبارها، تحصل على مبتغاها بأقل الأجور والجهود، أو بالخديعة ومعسول الكلام. لكن متابعة تفاصيل العلاقة تكشف عن كثير من الاستخذاء والامتهان، لقاء (الهبات) الباهظة. يقول المتنبي.. (مَنْ يهُنْ يسهُلُ الهوانُ عليهِ!). ان مجرد قبول (الهوان/ المهانة/ الامتهان) هو (سقوط) في (فقدان الذات). وبالتالي، فما نفع المكاسب –مهما بلغت كميتها ونوعيتها- ، إزاء ذات مفقودة، أو شخصية فاقدة لنفسها وذاتها، وبالتالي فهي مسلوبة الارادة والمصداقية، مهما حاولت تفنيد وضعها ومراوغة المقابل. ولو انها بذلت نفسها لنفسها، ما تبذله من جهد (مستخذية) لأجل الغير، لكان لها سمت الابداع والعصامية. ان قيمة الحياة بذاتها، وقيمة الذات، بجدارتها بنفسها، واعتمادها على امكانياتها وقدراتها، وترفعها عن مستوى السوقة والغوغاء.
*
الأنانية والأنا العليا
إذا كان الجسد ممثلا للكيان الفردي والذات مقترنة بالنفس، فيمكن تمثيلهما بالأنانية، كحاجة ملازمة لا بدّ منها، والأنا العليا، رمزاً للضمير، على اختلاف تعريفاته وتناقضها فيما بينها. وكما أن الصراع بين الخير والشرّ، الله والشيطان، تمثل بالصراع بين حاجات الجسد الأرضي، ونزوع الروح السماوية، فالصراع بين الأنانية الفردية وتجليات الأنا الأعلى، صورة أخرى لهذا الجدل الميتافيزيقي. ومن هذا المفترق الفلسفي، اختلفت الأديان في تصور درجة العلاقة وتضادّاتها. فبينما رحّبت البوذية وحركات الزهد والرهبنة بنبذ الجسدي والتمتع بالروحي والسماوي، تعاملت الأديان عامة بتحفظ كبير مع طرَفي الموضوع. وفي العموم، كان الفصل بين الأرضي (الجسدي)، و السماوي (الروحي) عبر شاكلة (الموت)، مراوغة ذهنية، نحو يوتوبيا طوباوية، تصوّر مشاهد النشور (الحكم) في عالم ميتافيزيقي [جحيم وفردوس]. وهو أمر خارج خطاب العقل والفكر البشري، وأن لم يبتعد عن تخريجات منطق أرسطوطاليس.
*
(الكوميديا الالهية)
يوقع الفكر الديني نفسه ضحية تخبّطات عرجاء، وهو يزوغ من هنا، ويقارب من هناك، لوضع أطر خلقية محدّدة، للفكر والسلوك، دون الوقوع في الخطيّة. ففي مرة يتم التحدث عن زنا الفكر أو زنا العين، يتم التحلل وإباحة آثام مادية، بدعوى الضرورة الحياتية أو المشيئة السماوية، والتبرير بالكفارة والغفران أو التوبة. وفي الفكر الديني يتحول خطاة ومجرمون إلى رسل وقديسين وأنبياء، بينما يحكم باللعنة على بسطاء قطفوا ثمرة من بستان أو تأخروا في الصلاة للملك أو أخطأوا في التسبيح والمديح، فاتهموا بالتجيدف أو المروق.
ان المرء، رهين اثنتين، لا خيار له فيهما. فهو، المخلوق من طين وضعفات أرضية، عليه التعفف والترفع عن حاجات الجسد والأرض والانطلاق في رؤيته للسماوي والنزيه والنبيل والمقدّس. البرّ، كمفهوم ديني، هو الاخلاص التام للمشيئة العليا. والمقدّس من وضع كل كيانه في خدمة الذات المقدّسة، حتى لو انتهى بها الأمر للموت والتضحية بالحياة والجسد. ان العبودية (المطلقة) هي رسالة الدين للبشر. أما مرجعية هذه العبودية فهي تبدأ من أرباب السماء وتستمر نزولاً لأرباب الأرضين وآخر عامل في سلك العسس. وهكذا يتم الفصل بين الانسان وإنسانيته، وبين خلقه، وامتيازه عن بقية الخلق، والاستهانة بالعالمين، لسوقها قطيعاً من خرفان ذبيحة في مجزرة سماوية.
*
الابداع .. تجديد وتطوير الحياة
يقول باول أردن: " لقد دفع للمبدعين ليكونوا مبدعين. ولتأكيد استحقاقهم لأجورهم، هم بحاجة لتبيان أفكارهم الذكية.(..) ثمة كتاب ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي، لكنه ما زال حيويا لليوم. عنوانه (تقنية لانتاج الأفكار) [Technique for Producing Ideas] لمؤلفه [James Webb- Young]. انه لا يقدّم أفكاراً، ولكنه يساعد في توضيح ما تريد قوله ويساعد في الوصول إلى حل حاسم وعملي."
ان القيمة الاجتماعية للأفكار والعقائد والسياسات، هي في تحفيز مكاممن الابداع وتشجيع مظاهره، خارج الوصايا والتحديدات المخذلة. كما أن اسهام الذات الانسانية الحقيقي في الحياة والوجود، هو فيما تضفيه وتضيفه لتحسين حركة الحياة وصورة الوجود ليكون أكثر إنسانية وجدارة بالعيش والاستمتاع. وفي غير هذا القياس، فأن صور الخذلان والهزيمة، هي الشائعة اليوم، والمسؤولة، عن تغذية مظاهر التردي والرداءة العامة في مجالات الحياة المختلفة.
*
To be or not to be
رواج النزعة الاستهلاكية، مضادّ لديناميكية وتطوير الانتاجية. شيوع الاتكالية، مضادّ لمبادئ الاعتماد على الذات والتمتع بأهلية القرار والاستقلالية. ان النظم السياسية العامة، وهي تفكّ ارتباط الفرد بالعائلة عبر آلية الاقتصاد وارتفاع التكاليف، تدفع مجتمعاتها للمزيد من تبعية الالاقتصاد الاستهلاكي وعبودية دولة المؤسسات. ومنذ سني الدراسة التمهيدية، يجد الفرد نفسه، بين مخالب فلسفة سياسية عبودية اقتصادية، تستمر معه حتى اليفاعة والبلوغ، وتحديد دوره المهني والسياسي ومستواه المعيشي وصولاً إلى حافة الشيخوخة والموت الرحيم.
وهنا، تتخذ الدولة، الدور الذي سبق للدين أن احتله طيلة أزمان طويلة، أي خلافة الخالق في التحكم في تسيير شئون خلقه. (رفعت الأقلام وجفت الصحف)!.

ــــــــــــ
* Paul Arden- It’s not how Good you are, It’s how Good you want to be-, Pub. PHAIDON.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الترجمة والهوية والمسؤولية الاخلاقية
- طُرُقٌ صَحْراويّة
- أطفال المهاجرين ضحايا مزدوجة
- (سيرة يوم غائم)*
- من القاموس العربي
- علّقيني في طرف مباهجك
- (الفارزة بين القاعدة والاستثناء)
- الوجودية والعولمة
- ظاهرة الاغتراب في نصوص مؤيد سامي
- بقية العمر
- ليلة ايزابيلا الأخيرة
- مستقبل المرأة الرافدينية وقراءة الواقع
- قاع النهر قصة: الفريد بيكر
- أبي / هيلكا شوبرت
- توازن القطاعي في النظام المعرفي العراقي..!!
- صورة جانبية لأدورد سعيد
- من الشعر النمساوي المعاصر- كلاوديا بتتر
- أوهام الضربة الأميركية لايران
- النوستالجيا.. الطمأنينة والاستقرار
- الفرد والنظام الاجتماعي


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - وديع العبيدي - الفرد والعالم..