أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عدنان الظاهر - قصيدة المسيح بعد الصلب / لبدر شاكر السياب / في ذكرى رحيل الشاعر وعيد الميلاد















المزيد.....


قصيدة المسيح بعد الصلب / لبدر شاكر السياب / في ذكرى رحيل الشاعر وعيد الميلاد


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2136 - 2007 / 12 / 21 - 05:44
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(( قصائد رائعة ))
بدر شاكر السيّاب
(( 1926 – 1964 ميلادية ))

قصيدة ( المسيح بعد الصلب )/ ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1970 .
بعدما أنزلوني، سَمِعتُ الرياحْ
في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ
والخطى وهي تنأى. إذن فالجراحْ
والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ
لم تَمُتني. وأنصَّتُ : كان العويلْ
يعبرُ السهلَ بيني وبينَ المدينةْ
مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ
وهي تهوي إلى القاعِ.كان النواحْ
مثلَ خيطٍ من النورِ بين الصباحْ
والدجى، في سماءِ الشتاءِ الحزينةْ.
يمثل هذا المقطع، الذي إستغرق الصفحة الأولى من صفحات القصيدة التي تنوف على الخمس، الدائرة الأولى من بضع دوائر تتوالى متداخلةً حيناً، متباينة المساحة والمحيط لكنها تشترك في بؤرة واحدة أو مركز واحد. أو متماسةً أو متباعدةً أحياناً أُخَرَ… من حيث الموضوعات والصور والرؤى والأغراض. يبدو هذا المقطع للوهلة الأولى مقطعاً مَهيباً مفعماً بالجلال وحرارة الإحساس بمأساة السيد المسيح ودقة وصدق التعبير عن هذا الإحساس. الأمر الذي ربما يدل على قدرة السياب على تقمّص أو إستنساخ المسيح شخصاً وفكراً وموقفاً ثم مصيراً. أي أنه نجح في الدخول في جسد المسيح والإستقرار في روحه حتى إنه لم يعدْ يميّز بين ما له وما للمسيح. آية ذلك، أو إحدى تلك الآيات، أن الشاعر يتكلم بلسان المسيح ( بعدما أنزلوني )… ( والصليب الذي سمّروني عليه ).
هل مرَّ السياب بمحنة تعادل محنة المسيح مع كُهّان الهيكل وكَتَبَته في أُورشليم في فلسطين و جند القائد الروماني بيلاطس وهيرودُس؟ بالتأكيد كلاّ. هل سُجن أو عُذّب ؟ كلاّ. لقد طورد إبّان العهد الملكي في العراق فغادره للعمل في الكويت. ثم حورب وفّصل من وظيفته بعد ثورة تموز 1958 في العراق فبالغ في جنوحه نحو اليمين ونشر ما نشر في بعض صحف بغداد الصادرة يومذاك متبرئاً من ماضيه وعقيدته وإلتزامه السياسي السابق. لا شيء إذن يجمعه ومحنة المسيح، فلماذا أنطق نفسه بضمير المتكلّم نيابةً عن المسيح ؟ لم تحمل القصيدة تأريخ كتابتها. سأركّزُ على هذا المقطع لأنه البداية والواجهة ولأنه يحمل ثقل القصيدة الأكبر من بين بقية المقاطع. تحليل وتفكيك هذا المقطع يكشف عيوباً جديّةً في نسيجه وبنائه وتسلسل أفكاره بل وحتى في لغته :
1 - لامنطقية بعض الصور الشعرية وإهتزازها :
الصور الشعرية في الأسطر الثمانية الأولى في هذا المقطع صورٌ محكمة السبك وناجحة. غير أنَّ الصورة الأخيرة تخيّب ظن القاريء. الصورة التي تقول (( كان النواحْ… مثلَ خيطٍ من النورِ بين الصباحْ… والدجى في سماء الشتاءِ الحزينةْ )). حسناً، من حقنا أن نسأل الشاعر : كيف جمع النواح والنور ؟ كيف يكون النواح وهو حزن وصراخٌ وألم… كيف يكون نوراً والنورهو الأمل والضياء والتفاؤل والحياة؟
لقد ورّطت مجموعةُ صور مركّبةٍ سابقةٍ الشاعرَ فجرّته من يديه جرّاً وأسقطته في فخ الصورة الأخيرة. أعني لوحة الصور الثلاث المركّبة التي صاغها في الأسطر التي سبقت الصورة الأخيرة في الصفحة الأولى. ((كان العويلْ… يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينةْ (1)… مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ (2)… وهي تهوي إلى القاعِ (3) )). وللمقارنة السريعة سأُعيدُ كتابة بعض ما جاء في التشكيلتين من الصور:
كان العويلُ… مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ
كان النواحُ… مثلَ خيطٍ من النور…في سماءِ الشتاءِ الحزينةْ.
لست بحاجةٍ للتذكير أنَّ الحبل هو مجموعة خيوطٍ وأنَّ الخيط هو بدوره حبل أو جزء من حبل.لم يتورط الشاعر بشكلية التعبير عن الصور حسبُ :
كان العويلُ مثلَ حبلٍ …
كان النواحُ مثلَ خيط…
بل وأسلس قياده لضغط تأثير وإغراء التصويت السجعي بالقوافي ( المدينة… السفينة… الحزينة…).
إذا كان قصد السياب في هذه الصورة الأخيرة، التي تضع أمامنا أكثر من علامة إستفهام، أن يقولَ إنَّ النواح قد إستمر طوال الليل حتى الصباح. عندئذٍ سنسأله : وعلام كل هذا النواح ما دام المسيح قد أُنزلَ من صليبه وقام حيّاً يسمع كباقي البشر ويُنصت كبقية العباد؟ ثم إنه يُقرر بشكل لا لَبسَ فيه إنه لم تمته الجراح ولا الصليب الذي سمّروه عليه:

بعدما أنزلوني، سَمِعتُ الرياحْ


إذنْ فالجراحْ
والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوال الأصيلْ
لم تُمتني …
متناقضات سببها على ما يبدو الوهن وضعف قدرة الشاعر على التركيز والسيطرة على عاصفة توهج موهبته الشعرية التي تفرض عليه إتجاهاتها العشوائية ومساراتها المنفلتة وتتركه عاجزاً مشلولاً لا حولَ له ولا قوّة. أم، تُرى، هنالك قوة سحرية غامضة تمارسها سرّاً هذه الإتجاهات والمسارات على فكر وإحساس وشاعرية بدر شاكر السياب فتدمغه بطابعها وتحركه أنّى شاءت وكيف شاءت هي لا كيفما يشاء هو.
ثم لماذا إختار فصل الشتاء في البيت الأخير (( في سماء الشتاء الحزينة )) وهل له علاقة بتأريخ أو زمن الصلب ؟ سألت بعض الأصدقاء المسيحين عن اليوم والشهر الذي صُلب فيه المسيح فقالوا إنه الرابع عشر من شهر نيسان أو ربما يكون قد وقع في شهر آذار. أما إذا لم يكن الشاعر قد قصد زمناً أوفصلاً معيناً بعينه كتأريخ لصلب عيسى فسيكون حشر " الشتاء " في هذا السطر مجرد حشو فراغٍ لا أكثر. وتلك طامّة كبيرة لا يتمناها أحدٌ للشاعر.
2- الركوع أمام سلطان السجع والتقفية :
هذه ظاهرة عامة ومشتركة يتقاسم عيوبها جميع شعراء الشعرالحر، شعر التفعيلة. علماً أنَّ السياب هو الشاعرالوحيد بينهم الذي أعطى نفسه حرية التنقل في القصيدة الواحدة من بحر إلى آخر ( في القصيدة موضوعة البحث، ينتقل من فاعلن فاعلن فاعلن إلى فعْلن فعْلن فعْلن، أي من بحر المتدارك إلى بحر الخبب ).
نرصد على هذه الصفحة ( 457 ) ترادف القوافي : الرياح، الجراح، النواح، الصباح.ثم
النخيل، الأصيل، العويل. ثم المدينة، الحزينة. ثم التسجيع بالألف المقصورة : الخُطى وتنأى. ثم التسجيع بالألف الممدودة والهمزة : سماء الشتاء. جاء كل هذا الحشد الزاخر من المحسّنات البديعية في عشرة أسطر لا غير!!
مع ذلك، ورغم الإستطراد غير الموفّق الذي رأينا آنفاً، فإنَّ في المقطع تكثيفاً بالصور لافتاً للنظر. وفيه آلية حركية أضفت عليه سمة متميزة من سمات الجمالية والتفرد. في تحليل وتفكيك المقطع نرى أن الشاعر قد وظّفَ عشرة أفعالٍ جاء نصفها في الزمن الماضي
( أنزلوني، سمعتُ، سمّروني، لم تمتني، وأنصتُّ ) وجاء النصف الآخر بصيغة الزمن الحاضر
( تسفُّ، تنأى، يعبرُ، يشدُّ، تهوي ). لقد نجح الشاعر، ربما بدون وعي كامل منه، في أن يقيم معادلة التوازن ما بين عالمي الماضي والحاضر من خلال مقابلة و مزج صيغتي زمني الفعلين الماضي والمضارع. الزمن واحد من أخطر أركان بناء القصيدة. ففيه ومنه تأتي الحركة داخل دروب ومنعطفات القصيدة. ثم إنه المقياس الفيزيائي للحركة. وإنه هو الهواء الذي تتنفس والضوء الذي ينير ظلمات الشاعر فكراً وروحاً. والصور في الشعر لا تكون على أبلغ ما تكون إلاّ بالأفعال. ففي الفعل حركة وإتجاه في الفضاء ( المكان ). وفي الحركة أو نتيجة لها تتولد صورة أو مجموعة صور تتفاوت في درجة وضوحها وأصالة ألوانها وشدة تأثيرها في النفوس. ثم إنَّ الزمن الحاضر ما هو إلاّ الإمتداد الكوني الطبيعي لحركة الزمن الماضي، أي أنه إبنه ووليده. إذنْ جمع السياب الإبن والأب معاً. وذلك أمر ينسجم مع العقيدة المسيحية ( الأب والإبن وروح القدس ) ومع السياق العام للقصيدة، عنواناً ومحتوى.
هل جاء ذكر " النخيل " في هذا المقطع سهواً وعفوَ خاطرٍ ؟ كلا. الشاعر إبن البصرة، حاضنة وأم النخيل. لقد جاء ذكر النخلة ثانيةً في مقطع آخر من القصيدة. ثم لنتذكر النخلة التي وُلِد المسيح عيسى تحتها (( فآجاءها المخاضُ إلى جذعِ النخلةِ قالت يا ليتني مِتُ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسيا / سورة مريم، الآية 23 … وهُزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطَباً جنيا / سورة مريم، الآية 25 )). لذلك أطلق أبو العلاء المعري على النخيل صفة " أشرف الشجر" كما جاء في بيته الشعري :

شرِبنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ
وزُرنا أشرفَ الشجرِ النخيلا.

نقطة ضعف أخرى في هذا المقطع : جاء خلواً من أي بشر خلا المسيح نفسه بعد نزوله حيّاً من الصليب. ألغى الشاعرُ المسيحَ إذ أعطى نفسَه حقَ الكلام نيابةً عنه. لقد طغى صوتُ الشاعر وغطّى كلَّ صوتٍ عداه. ورغم الكثافة الظاهرة وسبك وبهرجة الصور التي يفتقر بعضها للمنطق وقوانين المعقول، يبدو المقطع بعد القراءة المحايدة، المتأنية والتفكير الطويل، شاحباً كأنه أرض خلاء. الإصحاح الرابع والعشرون من إنجيل لوقا يخبرنا بما قام به المسيح بعد مغادرته قبره من حوارات مع بعض الناس وحركة هنا وهناك وطلبِ طعامٍ ونصحٍ بقراءة الكتب وتتبع أخباره في الصحف الأخرى. فالمسيح الحقيقي بعد صلبه غير مسيح السياب.
في الصفحة التالية يدور الشاعر على عقبيه دورة كاملة فينأى عن كافة موضوعات وأطروحات المقطع الأول. يضعنا السياب في هذا المقطع في أجواء مدينته جيكور الريفية الغارقة بنور الشمس والماء وخضرة الحقول والتوت والبرتقال والزهور والسنابل. إنتقل نقلة فجائية من عالم الظلام والتشاؤم والألم إلى عالم البهجة والتفاؤل. فما تفسير ذلك، وما الذي أراد أن يقول ؟ إذا كان المقطع الأول يعني موت المسيح فهل يعني المقطع الثاني عودة أو قيامة المسيح ؟ جائز. مقابلة الموت ( العدم ) بالقيامة ( الإنبعاث ). نقرأ من هذا المقطع :

حينما يُزهرُ التوتُ والبرتقالْ
وتمتدُ " جَيكور "ُ حتى حدود الخيالْ

يلمسُ الدفءُ قلبي، فيجري دمي في ثَراها
قلبيَ الشمسُ إذْ تنبضُ الشمسُ نورا
قلبيَ الأرضُ تنبضُ قمحاً وزهراً وماءً نميرا
قلبيَ الماءُ، قلبي هو السنبلُ
موتُهُ البعثُ : يحيا بمن يأكلُ
في العجينِ الذي يستديرُ
ويُدحى كنهدٍ صغيرٍ، كثديِّ الحياهْ
متُّ بالنارِ: أحرقتُ ظلماءَ طيني، فظلَّ الإلهْ
كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ.

أكدَّ السيابُ في هذا المقطع على ثلاثة من شروط الحياة على الأرض الأربعة : الأرض
( التراب )، الماء، الحرارة ( الشمس والنور أو النار ) ثم الهواء الذي أهملَ السيابُ ذكره. هل أراد الشاعر أن يقول إنَّ هذه هي شروط قيامة الموتى من قبورهم وإعادة إنبعاثهم إلى الحياة التي نعرف جسداً وروحاً ؟ وبدون هذه الشروط لا سنبلة في الحقل ولا قمح ولا عجينة خبز في تنور ؟ بعد أكله يُصبح الخبز جزءاً من خلايا جسد الإنسان (( أنا هو الخبزُ الحي الذي نزل من السماء. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد / الإصحاح السادس، إنجيل يوحنا )).
وضع الشاعر شروطاً ثقيلة لكيما يلامس الدفءُ قلبه.كرر " حين " أربع مرات كشرط ينتظر جواباً له : ( يلمس الدفءُ قلبي ).كما إنه كرر " قلبي " خمسَ مراتٍ فما دلالة ذلك ؟ مرةً أخرى يضعنا الشاعر هنا أمام التناقض بين الموت والحياة. فموت السنابل يعني حياة آكلها. يذبح الإنسانُ الحيوانَ، يقتله، ينفيه لكي يحيا، يواصل الحياة . إنها المعادلة الأبدية : موت – حياة / و حياة – موت. السنبل لا يحيا إلاّ بالماء. قلب الشاعر هو خزّان الماء هذا. السنابل تصبح قمحاً أو شعيراً. القمح يُطحن ويُجبلُ بالماء فيغدو عجيناً ثم رغيف خبز مستدير. عجينة القمح المستديرة تُشوى بنار التنور، تموت بالنار. حسناً ولكن، ما علاقة الموت بالنار بإحراق ( ظلماء طيني ) و ( ظلّ الإلهْ ) ثم يختتم الشاعر هذا المقطع بقفزة أولمبية أُفقية وأخرى رأسية فيقرر أنْ ( كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ ). هل قصد بذلك التقرير أنَّ الخبز البسيط هو كل غذاء الفقراء ؟ جائز.
قال الأسنتاذ ناجي علوش في دراسته القيّمة التي قدّم بها الديوان، إنَّ السياب " مُهتز " وإنفعالي غير تأملي وينساح إنسياحاً بدل الجنوح إلى التركيز. أُضيف إلى ذلك أنَّ السياب لا يستطيع في أحيان كثيرة السيطرة على " سيلان " وتدفق موهبته الشعرية فيتركها تتحكم فيه على هواها لا حسب ما يقتضيه منطق وضرورات الموضوع الذي يعالجه. لا أجد في ذلك غرابةً، فقد كان الرجل عليلاً جسداً ونفساً وكان ضعيف الجهاز العصبي المركزي، فكيف يستطيع السيطرة على عالمه الخارجي من لا يستطيع السيطرة على نفسه وجسده ؟ تلكم هي المعضلة.
بعد عالم السنابل والقمح والطحين والخبز يأخذنا السياب مباشرة إلى المسيح رمزاً كما جاء في الإنجيل. لكنه يظل يتكلم بإسمه وعلى لسانه متماهياً معه بشكل يُذكّرني بشِعر الحلاّج الذي قال (( إننا روحان حلاّ بدَنا )) :

متُّ، كي يؤكَلَ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ
كم حياةٍ سأحيا : ففي كل حفرةْ
صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرةْ
صرتُ جيلاً من الناسِ : في كلِّ قلبٍ دمي
قطرةٌ منه أو بعضُ قطرةْ.

نقرأ في إنجيل يوحنا من العهد الجديد (( أنا هو الخبزُ الحيُّ الذي نزل من السماء. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبزٌ الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذلهُ من أجلِ حياة العالم / 51 )). ونقرأ في مكان آخر (( من يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديةٌ وأنا أُقيّمهُ في اليومِ الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرّبٌ حقٌّ. من يأكلُ جسدي ويشربُ دمي يَثبُتُ فيَّ وأنا فيهِ / 45، 55، 56 )).
السياب ويهوذا
رتّبَ السيابُ مقابلةً بين المسيح بعد قيامته ويهوذا الذي خانه. ومعلوم أنه بخيانة يهوذا تم صلب المسيح. فهو الذي قاد الأعداء إلى المكان الذي كان فيه المسيح مجتمعاً مع أنصاره وحواريه ودلّهم عليه وشخّصه لهم بتقبيله وحده دون الآخرين (( وبينما هو يتكلمُ إذا جمعٌ والذي يُدعى يهوذا أحدُ الإثني عشرَ يتقدمهم فدنا من يسوع ليُقبّلَه. فقالَ له يسوعُ يا يهوذا أَبقُبلةٍ تُسلِّمُ إبنَ الإنسان / الإصحاح الثاني والعشرون من إنجيل لوقا، 47 و 48 )).
في المقابلة والحوار الذي دار بين الضحية والخائن الغادر، حقق الشاعر نجاحاتٍ تخللتها بعض الإخفاقات. تكلم السيد المسيح، الضحية، أولاً فقال :

هكذا عُدتُ، فاصفرَّ لما رآني يهوذا
فقد كنتُ سِرَهْ
كان ظلاً، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرهَْ
جُمدِتْ فيهِ واُستُلّتْ الروحُ منها
خافَ أنْ تفضحَ الموتَ في ماء عينيهِ…
( عيناهُ صخرهَْ
راحَ فيها يُواري عن الناسِ قبرَهْ )
خافَ من دفنها، من مُحالٍ عليهِ، فخبّرَ عنها.

لا أدري لِمَ حصر الشاعر سطرين بين أقواس ؟ هل إستعارهما من شاعر أو كاتب آخر ؟
درج السياب على وضع هوامش واضحة يُثبّت فيها مصادر معلوماته وما يأخذ من معلومات أو أشعار من غيره. فلماذا ترك هذا الأمر غامضاً ؟ ثم أوقع نفسه في مطب التقريرية والوضوح المباشر في قوله عن فكرة ضرورة أن يظلَ شخص المسيح سرياً وغير معروف لغير أتباعه ومريديه (( خاف من دفنها، من محالٍ عليهِ، فخبّرَ عنها )). ضعيف الشخصية لا يستطيع إخفاء سر… هذا هو كل ما في الأمر. هل تكلم السياب عن نفسه في هذه الجملة المفرطة بعري المباشرة التي يأباها الشعر الحقيقي وينفرُ منها ؟ عريُ الكلمات المباشرة في تحديد موقف من حدث خطيرٍ ما إنما يكشف عُريَ وعراء ومِعرّة موقف قائلها من هذا الحدث. لقد إرتدَّ الرجل فإنقلبَ على عقيدته السياسية وسبَّ في الصحف علناً وشتمَ وأفشى أسماء بعض رفاقه القدامى. نعم، يكاد أن يقولَ المتهمُ خذوني!
كذلك وضع الشاعرُ كلامَ يهوذا بين أقواس، لكنها جاءت هذه المرة صغيرةً مزدوجة. وليس واضحاً سبب ذلك. ماذا قال الخائن يهوذا وهو في حضرة المسيح وجهاً لوجه ؟
لنستمع :

- " أنتَ ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا ؟
أنتَ من عالمِ الموتِ تسعى ! هو الموتُ مرّةْ.
هكذا قال آباؤنا، هكذا علّمونا فهل كان زورا ؟ "

لم يحقق السطر الأخير ما أصاب السطران الآخران من نجاح فني مرموق. إنه غاية في التسطح والبساطة إلى أقصى حدود السذاجة. قال لنا آباؤنا إنَّ الإنسانَ يموت مرة واحدة فقط !! هل في هذا الكلام شعر أو شيء من الشعر ؟ أشكُّ كثيراً في ذلك. ثم ما قيمة أن يُنكر يهوذا قيامة المسيح وبعثه بعد موته (( أنتَ من عالم الموتِ تسعى )) … إذا كان هو نفسه من خان سيده وقائده الروحي ؟
في المواجهة الكلامية بين المسيح ويهوذا نضع اليد على مفارقة طريفة أحكم الشاعر قبضته عليها فأبدع في تصويرها. الروح الخالد والذي بجسده يخلد البشر هو النقيض المباشر للخيانة ولمن يخون الأمانة. الروح الخالد يمثّلُ البياض، رمز النقاء. بينما يجد الخائن
نفسه غارقاً في السواد، في الظلمة. يقول المسيح قاصداً يهوذا :
(( كان ظلاًّ، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرَهْ ))
يهوذا هو الطبعة السوداء للمسيح. وبلغة التصوير الفوتوغرافي هو ال Negative . هو
الظل الأسود والنقيض المضاد للبياض، وفكرة ميتة لا حياةَ فيها، تمثال.
يرد يهوذا إذ فوجيء بشخوص المسيح أمامه :
(( أنتَ ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا ؟ ))
يهوذا لا يعترف بالمسيح. يصرخ مستنكراً ومُستكثراً على من يرى أن يكون هو المسيح.
فالمسيح مات والموتى لا يعودون من سفرتهم الأبدية. يهوذا هو ظل المسيح الأسود. والمسيح هو ظل يهوذا الأبيض. (( إبيضَّ وارفضَّ نورا )). لماذا تعمّدَ الشاعر هذا السجع
في (( إبيضَّ وارفضَّ )) ؟ زيادة في شدة بياض النقيض ونقائه. يتحول الظل الأسود إلى البياض أولاً ثم ينفجر النور منه. وهذا بالضبط ما يحصل في تعاقب الليل والنهار. ظُلمة الليل يعقبها السَحَرُ ثم الفجر فالصبح المُشرق ثم الضُحى فتمام الهار. تماماً كما يحدث في عالم المعادن إذ تحمى بالحرارة فتسخن أولاً ثم تحمرُّ ثم تبيضُّ قبل أنْ تتحول إلى غاز بالتبخّر.
أبدع السياب في إجرائه لهذه المقابلة بين الأضداد. وتستحضر في ذهني شخصية المسيح الدجّال في التراث المسيحي، والأعور الدجّال ( ضديد المهدي، القائم المُنتظر ) ومسيلمة الكذّاب ( نقيض النبي محمد ) في تراثنا الإسلامي. كما قد يكون إبليس الذي عصى ربّه وإستكبر ورفض السجود لآدم هو نقيض أبينا آدم. ظله أو نسخة اللوح الفوتوغرافي السوداء. (( قال ما منعكَ ألاّ تسجُدَ إذْ أمرتُكَ قالَ أنا خيرٌ منهُ خَلَقتني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ. سورة الأعراف، الآية 12 )). في النار حرارةٌ وضوء يستحيل الإمساك بهما بينما في الطين برودة وقوام معتم يمكن الإمساك به وتطويعه وتشكيله بأي شكل تقتضيه الضرورة.
كلمة أخيرة : معروف عن السياب إعجابه بالشاعر المصري علي محمود طه، صاحب قصيدة الجندول التي غنّاها محمد عبد الوهاب. وقد وجدت آثار هذا الإعجاب في بحر وتقفية هذا المقطع التي تّذكّرني بقصيدة الجندول إياها حيث قال شاعرها في بعض مقاطعها :
بين كاسٍ يتشهى الكَرمُ خمرَهْ
وحبيبٍ يتمنى الكأسُ ثغرهَْ
إلتقتْ عيني بهِ… أولَ مرّةِْ
فعَرفتُ الحبَّ من أولِ نظرَهْ .

أنتقلُ إلى المقطع الأخير في هذه القصيدة متجاوزاً بقية المقاطع، لأنه ختام ممتاز رائع الصياغة ومسربلٌ بالمعاناة الحقيقية التي نجح في تجسيّدها السيابُ بمقدرة واضحة وحرارة يحسها قاريء القصيدة :

بعدَ أنْ سمّروني وألقيتُ عينيَّ نحوَ المدينةْ
كدتُ لا أعرفُ السهلَ والسورَ والمقبرةْ
كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ،
كالغابة المزهرةْ،
كانَ، في كلِّ مرمىً، صليبٌ وأمٌّ جزينةْ
قُدِّسَ الربُّ !
هذا مخاضُ المدينةْ.

هل شاهد السيابُ فيلم ( سبارتاكوس ) قائد ثورة العبيد في روما ؟ لقد شاهدتُ في هذا الفيلم صوراً لمشاهدَ كتلك التي رسمها الشاعر في هذا المقطع. بعد فشل الثورة تم رفع سبارتاكوس مُشبّحاً على صليب في صفين لعدد لا يُحصى من الصلبان مثبّتٍ عليها الرجال الذين ثاروا معه. لقد خفض سبارتاكوس رأسه وهو معلّق على الصليب وتكلّمَ مع المرأة التي أنجبت طفلاً منه. الطفل رمز لإستمرارية الثورة. إنه يمثل جيلاً جديداً سينهض بالمسؤولية. وهذا ما قاله الشاعر بدر شاكر السياب في ختام قصيدته " المسيحُ بعد الصلب "…(( كان في كلِّ مرمىً صليبٌ وأمٌّ حزينةْ )). إنتشرت المسيحية بعد مقتل المسيح وأصبحت ديناً عالمياً… (( كان شيءٌ مدى ما ترى العينُ كالغابة المُزهرةْ )).

رغم ما إعتورها من خلل هنا أو هناك، نتيجةً لإخفاق الشاعر في السيطرة المطلقة على هندسة المنطق الفكري أو في صياغة القوالب الشعرية، فإني لأعتبر هذه القصيدة قمة هرم موهبة بدر شاكر السياب. لا أحسب أنَّ أحداً ممن نعرف من شعرائنا قادرٌ على إصابة كل هذا القدر من النجاح فيما لو حاول معالجة هذا الموضوع المتشعب والمُعقّد.
(( غادر الشاعرُ الحياة في 24 .12. 1964 )) وهو في الثامنة والثلاثين من عمره .




#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة مرحى ً غيلان / بدر شاكر السياب / في ذكرى رحيل الشاعر
- .زهدي والمتنبي والتحولات (3)
- لا ... لن يحترق القمر / ديوان شعر لسعيد الشيخ جاسم الوائلي [ ...
- زهدي والمتنبي والتحولات ( 2 )
- زهدي والمتنبي والتحولات ( 1 )
- الحلة في الذاكرة (12) / عرباين الحلة
- أين أبو بشير ... رجل الجبال ؟ مَن يدلني عليه ؟
- الحلة في الذاكرة (11) / شخصيات طريفة
- ماهان وعشتار والمتنبي ( سوريالزم !! )
- الحلة في الذاكرة (10) / شقاوات وباعة التبغ
- الحلة في الذاكرة (9) / ثانوية الحلة للبنين
- الحلة في الذاكرة (3 ) / أصدقاء وزملاء قدامى
- الحلة في الذاكرة (8) / الحلاقون والطب الشعبي
- مدينة الحلة في الذاكرة (7) / مواكب عزاء عاشوراء
- مدينة الحلة في الذاكرة (6) / حمامات ومقاهي الحلة
- مدينة الحلة في الذاكرة (5) / مهن نسائية ورجالية
- مدينة الحلة في الذاكرة (4) / الوضع الثقافي
- صارم مضى ... شموس باقية ... حازم يأتي
- المتنبي وكرد الحلة
- صارم / شموس / حازم ... إلى السيدة دينا سليم ، راهبة بريزبن


المزيد.....




- لمعالجة قضية -الصور الإباحية المزيفة-.. مجلس رقابة -ميتا- يُ ...
- رابطة مكافحة التشهير: الحوادث المعادية للسامية بأمريكا وصلت ...
- كاد يستقر في رأسه.. شاهد كيف أنقذ رجل غريب طفلًا من قرص طائر ...
- باتروشيف: التحقيق كشف أن منفذي اعتداء -كروكوس- كانوا على ارت ...
- إيران أغلقت منشآتها النووية يوم الهجوم على إسرائيل
- الجيش الروسي يعلن عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف القوات الأوكر ...
- دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي س ...
- إيران... إسرائيل تهاجم -دبلوماسياً- وواشنطن تستعد لفرض عقوبا ...
- -لا علاقة لها بتطورات المنطقة-.. تركيا تجري مناورات جوية مع ...
- رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية تمنح بوتين بطاقة -الر ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عدنان الظاهر - قصيدة المسيح بعد الصلب / لبدر شاكر السياب / في ذكرى رحيل الشاعر وعيد الميلاد