أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كشكولي - انطباعاتي عن -أجمل غريق في العالم- لماركيز















المزيد.....

انطباعاتي عن -أجمل غريق في العالم- لماركيز


حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)


الحوار المتمدن-العدد: 2133 - 2007 / 12 / 18 - 10:49
المحور: الادب والفن
    


كيف ستصبّون أساس هذا البيت؟
من سيقوم بتثبيت أبوابه؟
وهل أن سواعد العمل ندرت ؟
وإنّ مواد البناء و الحجر بلغت من الثقل إلى درجة ليس بالمستطاع نقلها من مكانها!؟
مهلا ! مهلا!
فالسواعد سوف تستمد القوة أثناء العمل و تشتدّ،
و ستزداد عديدا،
و لا تنس َ!
أن موتانا الذين لا عد ّ لهم ، سيهرعون لمساعدتنا طوال الليل.

يانيتس ريتسوس

*** *** *******
بعد قراءتي قصة " أجمل غريق في العالم" رأيتها من أجمل القصص القصيرة للكاتب الكولمبي غبرييل غارسيا ماركيز. قرأتها مترجمة إلى السويدية و الفارسية ، و منذ أيام خلال بحثي في الشبكة العنكبوتية وقعت عيني على ترجمة إلى العربية قام بها د. محمد قصيبات ، لكني بعد مقارنتها مع الترجمتين السويدية و الفارسية اكتشفت عدم الدقة في بعض المقاطع من الترجمة العربية ، وارتأيت تغييرها وفق ما رأيت متطابقا مع الترجمتين الفارسية والسويدية.
وأدناه القصة و انطباعاتي و تحليلي لها:

لما رأى الأطفال، أول مرة، ذاك الانتفاخ الداكن و المائج يقترب إلى وسط البحر، ظنوه سفينة من سفن الأعداء، ولكنهم ، حين رأوا أن لا وجود لأية صارية ، ولا لعلم ، تصوروه حوتا، ولكنهم بعد أن أزاحه الماء إلى الساحل الرملي ، و بعد أن قاموا بتنظيفه من الأعشاب و الحراشف والصداف وبقايا السمك ، تأكدوا أنه رجل غريق.
شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.
أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :
“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”
عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.
كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تأخذ الريحُ أطفالهن ، وبسبب ذلك قاموا برمي العديد من أطفالهن الموتى إلى البحر من أعلى الجرف بدل دفنهم ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار. كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..
في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.
فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروال من قماشِ الأشرعة و كذلك قميص من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..
جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..
أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول إن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال.
قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.
في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكن البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.
هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..
عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.
قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..
أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..
لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!
إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..
في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.
ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:
“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.
هناك هي قرية إستبان!”.


نقد وتحليل :

يعتبر ماركيز واحدا من أعظم الأدباء الملتزمين بقضايا الإنسانية والمحرومين في القارة اللاتينية والعالم . وقد قام بتصوير عزلة بلدان أمريكا اللاتينية ، والمظالم التي تعانيها في غاية الأستاذية و الإبداع، إلى درجة أن المتلقي لأدبه ينسى كل المسافات الجغرافية و التنوع الثقافي ، و يتصور أن ماركيز يقوم في إبداعه بتصوير مجتمع القارئ أينما كان يقيم .
هذا الشعور ينتابني حال انتهائي من مطالعة أي نتاج من نتاجاته ، وفي مقدمتها " مئة عام من العزلة " و " حب في زمن الكوليرا" و خريف البطريرك" و " عاصفة الورق" .
هذه العزلة اللاتينية يعكسها ماركيز بأبهى صور الخلق والإبداع في قصته القصيرة " أجمل غريق في العالم" ، إذ يعتقد غارسيا ماركيز أن طريق الخلاص أمام الشعوب هي طريق وعي الماضي والحاضر ، عن طريق تحليل واقعهم وإدراكه يمكنهم استشفاف آفاق المستقبل. فالجماهير باعتبارها خالقة التاريخ يمكنها بسلاح الوعي لضرورة التغيير من الانقلاب على الواقع الظالم المفروض عليها. فغارسيا ماركيز هاجسه الذي يقلقه هو عزلة الإنسان ، ويتملك على معرفة عميقة في علم النفس لتحليل نفسية البشر المحرومين.

ثمة قيم إنسانية كامنة وخفية في لا وعي المجتمع وفي أعماق النفس الإنسانية و من الضروري أن يتم النبش لاكتشافها و تفعيلها لتوظيفها إنسانيا و جماليا. و إن رسالة ماركيز في " أجمل غريق في العالم" هي أن هذه القيم تنمو بمضي الوقت في لا وعي المجتمع و ترتقي ، بحيث لن تكون للمجتمع طاقة على استيعابها في حالة مواجهته لها فجأة. و لهذا يقوم ماركيز باستخدام أسلوب الواقعية السحرية للتعبير عن هذا الواقع و سبر أغواره النفسية و الجمالية.
هذا الأسلوب الفني و هذه الأفكار الملتزمة وجدت بأشكال مختلفة عند كتاب آخرين ، لكن ماركيز يختلف عنهم بأنه ملتزم كليا بقضايا المحرومين ، و إنسان متفائل مؤمن بانتصار إرادة الإنسان في نيل الحرية و الكرامة و حقوقه الكاملة.

ف"إستبان" في هذه القصة يعتبر قيمة إنسانية منسيّة في ثقافة أمريكا اللاتينية . المرأة العجوز العرافة ، في قصص ماركيز، في الحقيقة يمثل الجيل الحارس للثقافة الإنسانية. و لا أستبعد أن يكون ماركيز قد وظف اسم ستبان القديس ، أول شهيد من شهداء المسيحية في سنواتها ظهورها الأولى ليكون بطل قصته هذه. و إن خاطرة هذا القديس لا تزال محفوظة في ذاكرة المؤمنين ، والكل يؤيدون العجوز بمعرفتهم له. وكلما مضى الوقت و قاموا بتحويل طحالب السرجس و الأصداف و الحراشف عن جسده تأكدت لهم هوية ستبان ، و ازدادوا اعتقادا بأنه ليس سوى ستبان. و اللطيف في القصة أن شابة تنادي على الجسد " لاتارو" ، وربما أنه شخصية قيمة معاصرة، من قبيل مشاهير السينما و الموسيقى ، أو الرياضة ، لكن البقية لا يلبثون يعتقدون بأنه لن يكون سوى ستبان لا غير. لقد أتاهم ستبان إلى قريتهم ، لكن القرية وأهلها لمّا ينضجوا ، ولم يبلغوا فترة الرشد بعد. وإن ستبان قد ترعرع و كبر في أعماق البحر ، وكان آتيا من هناك ، كأنه مر ّ خلال متاهات المرجان. لهذا كله فتلك القرية لم تكن مكانا لاستبان ، إذ لم يتمكن من الدخول من أي باب لضخامة جثته، ولم تكن لأية أريكة طاقة على تحمله. و لم يكن ثمة ثوب يطابق مقاساته، ما يعني أن قيم أولئك الناس و معاييرهم كانت من الحقارة و التفاهة و الصغر بحيث لم يجد ستبان الذي تجاوزهم في القيم و المعايير ، له عندهم ، في قوالبهم الحياتية الحقيرة مكانا للإقامة والعيش.

اللافت أن النساء في هذه القرية لكونهن أرق و أشد حساسية من الرجال للتقاليد و القضايا الثقافية وقعن أولا في حب ستبان وعشقه. و قد جعلن له أبا و أما وأقرباء من الدرجة الأولى أثناء مراسم دفنه ، لكي تقام له مراسم عزاء تليق بشخص تبوأ مكانا عزيزا في قلوبهن. و يمكن للقارئ أن يكتشف وجود عنصر مشترك ألف بين قلوب أهل القرية ، و خلق عندهم شعورا بالوحدة والاتحاد، وسرعان ما اكتشفوا أن ستبان ليس كبيرا إلى هذا الحد المبالغ فيه ، بل أنهم أنفسهم صغار جدا. وقد أودعوا جثته إلى البحر بشكل يمكنه العودة ثانية متى أراد، ويعيد لحياتهم الأبعاد الجمالية التي طالما افتقدوا إليها.

ربما يكون الأربعاء في قصة " أجمل غريق في العالم" رمزا لإلى أربعاء الرماد ، أول يوم في المسيحية لصيام الرهبان و خلوتهم لأربعين يوما. إنه يوم يجب على المؤمن الصائم أن يحظى بالسكينة والاستقرار و القوة. وربما أن يوم الأربعاء في بعض الأديان يحظى بحرمة وقدسية، و أن ليلة الأربعاء لا يجوز القيم فيها ببعض الأعمال، لأن الشخص سيبدأ مرحلة مهمة و جديدة في الحياة.
اكتشف أهالي قرية استبان الجسد في يوم الأربعاء، كعلامة على تدشين فترة حساسة للتحولات التي سوف تجري في القرية. ففي هذا اليوم ارتبط كل شيء بجنازة ذات مغزى عظيم و رمز كبير و معروف.
برحيل استبان قام أهالي القرية بتوسيع دورهم ونوافذها ، و إعلاء جدرانها وأبوابها. و كذلك قاموا بزراعة أزهار العشق الحمراء على الصخور المطلة على البحر. و كلما عبر أي قبطان ( هنا يرمز القبطان للتاريخ) بسفينته البخارية سيقول للركاب :" هناك حيث الشمس ساطعة، حيث ورود عباد الشمس لا يدرين إلى أية جهة عليها أن تدير وجوهها، هناك تقه قرية استبان." و منذ ذاك اليوم انشرحت صدور أهل القرية، و نمت أنفسهم، و تسامت أرواحهم.
لقد عبّر بدقة متناهية في الظرف ماركيز باستخدامه الشخص الثالث كراوية القصة عن الروح و الانفعالات و والتحولات الاجتماعية التي تجري في هذه القرية الرمزية وأهلها. وأظن أن القصة القصيرة من حيث البناء و الحبكة و التعبير عن الهدف والرسالة هي أصعب من الرواية، فكاتب القصة القصيرة عليه تكثيف عصارة رواية كبيرة وصبها في فضاء محدود وأجواء مكثفة و حبكة مختصرة. وهنا في هذه القصة القصيرة التي ينقلنا فيها ماركيز إلى فضاء حقيقي , و يعرفنا على نفسية بشر في بقعة من العالم المنعزل والمجهول، و لا يشعر القارئ بعد قراءتها بأن ثمة ما ينقصها عن رواياته المعروفة ، إنما قد كثف رواية عظيمة في قالب قصة قصيرة.
لقد أدرك أهل القرية وأيقنوا بعد لقائهم باستبان أن منازلهم بعيدة، و باحات بيوتهم يابسة ، و أن أحلامهم حقيرة.. لقد اأقوا بجثة استبان إلى اليمّ بدون ربطها بأثقال لتغرق في القعر، أملا في عودته" لقد حبسوا أنفاسهم في صدورهم لقرون ، حتى غرق الجسد في البحر" .. ومذ ذاك تغير كل شيء، ولم يعد أهل القرية لهم وجود.

VERKLIGHET OCH DRÖM EFTER 1945
Gabriel Garc ia Ma rquez
översättnig Sonia och Kjell A Johansson
استفن منيتا: گابريل گارسيا مارکز، ترجمهء فروغ پورياورى ، انتشارات روشنگران
‏17‏/12‏/2007




#حميد_كشكولي (هاشتاغ)       Hamid_Kashkoli#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ساركوزي يعبّر عن حقيقة النظرة البرجوازية الغربية إلى الإنسان ...
- مشاهدة فلم -الخامسة عصرا- لسميرا مخملباف
- قصيدتا غزل لجلال الدين الرومي ( 1207-1273)
- لك الخبز والخمر والهيام
- ثورة أكتوبر الاشتراكية كانت تغييرا للعالم لا تفسيرا له
- كل شيء كذب ونفاق على الجبهات الوطنية والقومية – 2
- كل شيء صاخب ودام ٍ على الجبهات الوطنية والقومية - 1
- ما جدوى النسوية البرجوازية واليسارية التقليدية؟
- ناظم حكمت خائن وطنه
- أجنحة محترقة في خطى فانوس الخراب
- العدوان التركي على أهالي كُردستان من إفرازات الاحتلال الأمري ...
- نوبل السلام لمن لم يسلم منه الناس
- الرومي ّ وأنوار الليالي
- قوى تمزيق الذات الإنسانية في العراق
- - لا تأخذوني إلى بغداد!-
- رفرفة الزنبقة في بحر الإنتظار
- خرافة معاداة اليسار التقليدي و الإسلام السياسي للإمبريالية
- الرومي و الخمر والرقص و الجنون
- كل يوم في العراق هو 11 سبتمبر
- سيناريو أكثر قتامة للتغطية على الهزيمة في حرب العراق


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كشكولي - انطباعاتي عن -أجمل غريق في العالم- لماركيز