أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فاضل سوداني - النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف















المزيد.....



النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 658 - 2003 / 11 / 20 - 05:36
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


أولا  : الوعي البائس للمثقف  المتكيف في منفى الثقافة  العراقية
البلاد أمست ظلاما        
 صارت ملأى بالظلال .
من ذا الذي رأى إنسانا      
 تملكه الخوف ، يعيش بسلام .
لا تدع أصدقائك الذين اصطحبوك
ينتظرون عند سفح الجبل ، 
لا تدع ألام التي ولدتك
تقذف إلي ساح المدينة .

ينبئنا هذا  الشاعر (من السلف  السومري ) الذي عاش في آلالفية الثالثة  قبل الميلاد  ،عن الخراب الذي عم بلاد سومر  ، فحفر   الخوف في روح الانسان السومري . انه يحدثنا عن فلسفة هذا الخوف  بطريقة وكأنه يحذر  المثقف العربي المعاصر ويؤشر مهماته ومواقفه التي  تساهم في إنتاج تلك الثقافة الانسانية  الفعالة التي  تحدد مستقبل  ومصير الانسان والامة والمدينة . وكأن هذا الشاعر السومري  يتحدث  عن  التكيف السلبي للمثقف العربي  الذي يؤصل  الخوف  ، عندما يخون مثل هذا المثقف  ذاته ومهماته التاريخية ويتكيف مع المشروع السلطوي الاستثنائي . ان تعميم الخوف في المجتمع وشعور الإنسان ببؤس ثقافته   يتحقق عندما يتخلى  المثقف عن حصانته الداخلية ودوره التاريخي فيعم الخواء في روح الأمة . وضمن أهمية  هذا الدور  لا يكون  من المنطقي  مناقشة الواقع الثقافي وفعالية المثقف في تطويره  مالم يأخذ بالاعتبار أهمية  الدور التاريخي للمثقف غير المتكيف   . حيث ينشأ التكيّف   عندما يكون هنالك خواء فكري يميز فعاليات الإنسان  الحياتية والفكرية ، وسكونية  التطور الاجتماعي
فالتكيّف هو الموقف السلبي للمثقف المتساهل مع ذاته وتاريخ كينونته ، لا ن مثل هذا المثقف هو الذي تفوح منه رائحة  خبيثة ( حسب  ميشيل غيلدرود ) بل تكيف نتن  نتيجة لموقفه المتصدي  . وبمعنى آخر ان مثل هذا المثقف المتكيّف لا يؤثر في تطوير العملية الفكرية بمسارها الديالكتيكي في مجتمعه  إلا سلبا . لانه يتخلى عن دوره  ووجوده  الفاعل  ،  وبهذا فان المثقف  هنا يتحول الى أداة في آلية السلطة الاستثنائية تاريخيا وآنيا  ، ويكون مستعدا للمساهمة  في برامجها  لتهيئة الظروف التي تخلق عدمية الثقافة والفن ، والمساهمة في تهيئة ظروف اجتماعية أخرى  تعمم مجانية  العنف وتعيد الغرائز  المتوحشة في روح الانسان لتاخذ الأولوية  في سلوكه ويكون  مستعدا دائما  لتبرير قرارات النظام الدكتاتوري التوسعي  في شن الصراعات الطائفية في داخل المجتمع و الحروب العدوانية  غير المجدية  بحجج  مختلفة يكيفها  ويبرمجها بالتدليس والاحتيال. ومثل هذا المثقف   هو الذي يهيئ الإرتزاق  الموبوء في الثقافة والفكر.
ويكون هذا واضحا  في الا نظمة الشمولية والدكتاتورية  . أما النقيض  لمثل هذا المثقف فقد اطلقنا عليه بالمثقف المتفاعل غير المتكيف   الذي يؤثر إيجابيا  كذات مبدعة  في العمليات الفكرية والاجتماعية  التي لابد أن تتطور ضمن المفهوم العام للتطور الديالكتيكي .
فالابداع الحر الناتج عن الموقف الفكري  غير المزيف للمثقف هو القادر على تعميق انسجامه لذاته  ومجتمعه  ( المثقف = منتج الثقافة المبدعة   ) ،و من جانب آخر فان   الموت القسري والمجاني والاضطهاد والحروب المدمرة اللامجدية وما تنتجه من ثقافة عدمية مزيفة تزكي العنف  ، بالتأكيد ستشكل منفى المثقف الداخلي  ، وهذا كله سيكون  متناقضا مع الوعي والنبل الانساني لشهود العيان من المفكرين والفنانين المتفاعيلين ، ومتناقضا  مع مطالبتهم  او  قسرهم  على  قبول او تبرير العنف الذي ستخلقه السياسة الدكتاتورية الاستثنائية   .اما المثقف الذي اجبر على ترك  وطنه  للعيش في المنفى فانه يتعرض للتشويه  المدمر عندما يُقتلع  ـ لاسباب  كثيرة ـ من منبع وعيه ، من المكان الاول ..البيت الاول  من الباب ودكته الاولى .. الوطن الاول  . ويقذف تائها في  حفريات  نفي الروح والفكر واللغة والاخلاق وفي الهوة المظلمة من ذلك  العالم الغريب  ، ذلك الفردوس الاوربي ، عالم المتاهة والآلية والعواطف المبتسرة ،المتجردة والملَتبسة  في غربة لانهائية مادام قد تعود عليها ، وفي زمن المنفى الذي يمتلك القدرة على محو  آلية  الذاكرة اللا إرادية ، ذاكرة الماضي ذلك الخزين الماضوي الذي يشكل أساس الحصانة الداخلية للمثقف ، لان المنفى بطبيعته يفرض اختلاط  الازمنة بل ان آنية المنفى ( وخاصة في البلدان  المتطورة والتي تعاني الاغتراب التكنولوجي) تحتم التخلي عن هذه الحصانه الذاتية  أي الذات في وجودها الماضوي .  فيبدأ التوهان الحقيقي  والاضمحلال في قدرات دور المثقف الابداعي    قياسا لدوره الحقيقي الذي يمكن ان يلعبه وهو في وطنه،  مثل  امكانية المساهمة في  تأسيس تاريخه وتاريخ أمته  عندما يمتلك مسؤولية  سن طرائق الفكر والثقافة في مجتمعه ، لانه  "كالطير الضائع عن عشه كذلك الانسان الضائع عن مسقط رأسه ". كما يقول شكسبير .
ومن خلال هذا التناقض بين نقاء ونبل ذات الفنان المتفاعلة ،  وبين التزام الصمت على دموية النظام الاستثنائي  من قبل المثقف المتكيف ، يكتشف المثقف بوجهيه (أي المتكيف والمتفاعل ) بأنه يعيش حالة من اللا إنسجام ، او الغربة القاسية والمنفى الداخلى وهو مازال في   وطنه  . وهذا  هو أيضا  منفى للثقافة والفكر واللغة في وطنها أكثر قساوة وعدم قبول للثقافة في منفاها . 
المثقف المتكيف
ان أي توقف لعملية تطوير الثقافة والفكر يعد  استثناء تاريخي على شتى الأصعدة مما يؤدي الى انحراف في مسار عمليات البناء  الاجتماعي . ، ولهذا فان  الكثير من البلدان غير الديمقراطية  يشكل تطور ديالكتيك  الثقافة  الحرة  خطورة على أنظمتها وخاصة اذا كانت الامية  تشكل نسبة كبيرة في  المجتمع ،   ، كما هو الحال مع الإحصائيات المفاجئة   لليونسكو عن حجم الأمية في الدول العربية  مثلا (65 مليون أمي أي  أكثر من 43%  من السكان إضافة الى وجود  900 مليون امي في العالم )   وإذا أضيف إلى هذا لامبالاة  وتساهل وخيانة المثقف لدوره  وخاصة في مجتمعات ما يسمى بدول العالم الثالث ،  فستكون النتائج بالتأكيد اكثر تشاؤما  بل خطرة الى حد مريع  .  فتتجذر السكونية في التطور الاجتماعي والثقافي  وفي الذات الفردية  . ان الهدف من خلق سكونية  مثل هذا الواقع وتهيئة ظروفه ،هو الخوف من  تأثير الثقافة ،وإلغاء  دور المثقف المتفاعل غير المتكيف فيتشكل منفى الثقافة في:
1) أما أن ينسجم المثقف مع هذه السلطة الاستثنائية مداراة لمصلحتة الانانية الفردية او الطبقية ويخون ذاته.
                       او
2) الانغلاق على الذات والضياع في متاهات الصمت او التباس الوضوح  .
                       او
3)خيانة الذات والموقف التاريخي فيتحول الى تاجر للخردوات ليعيش الكذب والزيف، ويصاب بشيزوفرينيا الذات الفنية .
                         او
4) يبتعد عن المساهمة في بناء العمليات  الاجتماعية ـ الفكرية  في وطنه ويفضل المنفى ، ابتغاء   لتفرد الموقف  وحرية الابداع خوفاً من أن يربطونه  بحجر الرحى  ويقذف في أحد الأنهار العربية  المذكورة في الكتب المقدسة فيضيع قضاءا وقدرا .
 اذن اما التكيف الفكري في وطنه ضمن ظروف السلطة الاستثنائية ،  او التكيف ضمن شروط  المنفى . اما الطريق الآخر أي طريق انسجام المثقف مع ذاته ودوره التاريخي  فهو الطريق الأشق لكنه  الوحيد لإنقاذ الوعي  الحر المشاكس الذي  يمتلك ضرورته  للمثقف الفعال غير المتكيف . إذن هل يتحتم على المثقف العربي في الظروف الاستثنائية ان يتحمل وسائل التعذيب التي  يهيئها له  نظامه ليجبره على التخلي عن ذاته وحصانته الذاتية  من اجل ان  يصمت  إزاء  إمعان  هذا النظام  بتخلفه وحروبه والويلات التي سيجلبها السياسي ـ الدكتاتوري على شعبه والعالم ، واعني أيضا  ذلك السياسي النرجسي فكرا وجوهرا
( الذي يتغزل دائما بنفسه أمام المرآة وأمام مرافقيه وضيوفه ) ؟
لكن قبل هذا يمكن القول بان الدقة في تفسير دور المثقف هي حتمية تفرضها المسؤولية الذاتية والاجتماعية  ،وعندما يكون هنالك التباس  في موقف المثقف وعدم وضوح هدفه  ، يبدأ الغموض في إبداعه وكذلك التماهي  بدوره التاريخي والحياتي .
فتبرز البلبلة الفكرية ويبدأ استعداد  السلطة الاستثنائية  لسحق المثقف الفعال غير المتكيف  ، او إغراءه وإجباره حتى يتكيف  ليصبح هو  مثقفها المخلص   الذي يكون على استعداد لتنفيذ المشاريع الثقافية والفكرية  ذات الطابع السياسي البوليسي التخريبي ، وبهذا يكون تابعا للسياسي و جزءا من ما كنة السلطة  ، فيمنحونه وسادة الخدر ، ليكون  صاحب  الوعي البائس  بامتياز . وهذا يعني توريط الذات في الوعي  المشوه وتحويل المثقف  إلى إنسان  متكيف مع آلية النظام ومرتكزا صغيرا فيه مستعدا دائما  ليس للمساهمة بعبث السلطة وتشويهها لديناميكية الثقافة تاريخيا  فقط ، وإنما العبث  بالقرارات المصيرية وتكيفها لمصلحة النظام التي تنعكس في  ( الحروب العدوانية  غير المجدية مثلا) .
 وبما أن الثقافة والفكر هي عمليات معقدة في تطورها ، لأنها تعتمد على العوامل الذاتية ، أي المفكر والمثقف  وتكوينه الطبقي و الفكري ومدى حساسيته الذاتية إزاء الحقيقة .  وكذلك العوامل الموضوعية ، أي التراكم الكمي والكيفي للتطور الثقافي والفكري تاريخيا والديناميكية الاجتماعية  ، فان دور المثقف ومكانة الثقافة في التطور العام يجب أن يكونا أكثر وضوحا . مما تدفع بالمثقف المتفاعل غير المتكيف  ان يحمل مصباحه النافذ  ( مصباح ديوجين ) وسط  ظهيرة  الخراب الفكري والاجتماعي الذي يتميز به مجتمعنا العربي  مثلا  بل  عالمنا ، للبحث عن المستحيل ، او عن الخدر والسكونية في روح الإنسان وروح الامة .
عدوى المثقف المتكيف .
إن مشكلة المثقف العربي  المبدع  عموما تكمن في أهمية قدرته على مقاومة  الضياع والبلبلة  الفكرية والقمع والاستلاب والاغتراب التي  تحتمها  الظروف الاستثنائية في وطنه ،  او قدرته على تجاوز مشكلة  آليات حياة المنفى التي يعيشها اختياريا او قسريا. ومن اجل الوصول الى الوعي الخلاق لتطوير ذاته  وعدم السقوط في شيزوفرينيا الذات والوعي( حسب إفهومة كيركغارد الفلسفية )   يتحتم عليه ان  يعتمد على تماسك ذاته وصلابتها وبنائها ، أي اختيار ذاته  من جديد والانغمار في الإبداع  الحر و المستحيل ورفض  مغامرات السياسي  وحروبه المجانية مهما كان الثمن  ، والوصول الى المسكوت عنه  في الثقافة والتاريخ والتراث  وتحويلهما الى عناصر فاعلة لخدمة الإنسان ثقافيا  ( في مجتمع عربي مهوس بالتعاويذ التي تقود نحو الهاوية  مثلا ) .
 ان تحولات عصرنا  الان   وبالرغم من إنها مرتبطة بالعولمة (اذا كانت تعني الهيمنة الثقافية والتكنولوجية) ، فانها تفرض  زمن المثقف و المفكر صاحب العقل الديناميكي المسؤول الذي يرفض التكيف  الخالق  لظروف الكتابة المرتزقة  غير المسؤولة في عالم  يتحكم به الصيارفة  والبنوك والبوليس السري والدكتاتور النزق الذي يجعل من مجتمعه ومدينته لعبته المفضلة  فيود ان يراها   تحترق من اجل ان يخلد دمعته الوحيدة  المزيفة . كل هذا   يؤكد النظر الى التاريخ  والواقع الاني  ببصيرة جديدة  تجعل من  حساسية المثقف عموما  ان تتلامس مع الازمنة الجديدة ، وعكس هذا فان  التكيف يخضع كل صنوف الثقافة والفكر للزيف  ،  من هنا تأتي أهمية عدم تساهل المثقف مع ذاته حتى يصبح فاعلا في وجوده  .
ان المثقف المتكيف وصاحب الوعي البائس هو المتساهل المحصّن دائما بالتبرير الجاهز الذي لايخدم الحقيقة . غير ان خواء اية ثقافة وعدم فعاليتها متأتية من خواء روح المثقف بالدرجة الاولى  وعدم تطور الظروف الموضوعية ، وتضخم عبوديته  لمصالحه الانانية  الآنية الصغيرة ،  وهذا يفرض عليه الالتزام  بثقافة تخدم مصالح الانظمة  الاستثنائية . كل هذا يتطلب التفكير الجدي بطبيعة الثقافة التي يحاول ان ينتجها المثقف المتكيف صاحب الوعي البائس في وطنه او منفاه  ، والتي بالضرورة تتناقض مع تلك الثقافة الفاعلة تاريخيا التي تخضع للتطور الديالكتيكي  المؤثر في الانسان والتي تساهم في بناء  المجتمع وإغناء ذات الانسان وروح الامة   . وبالتاكيد فان مانطلق عليه بمفهوم  التكيف الفكري والثقافي ، والذي نعتبره ظاهرة للمثقف السلبي المعاصر ، حيث من خلالها يضطر هذا  المثقف  الى الالتزام  بالفكر الفاشي . واذا كانت فرضيتنا هذه منطقية ومعقولة فاننا يجب  التاكيد بان   مثل هذه التحولات لابد ان يكون لها ظروفها ومسبباتها و تمهيدها التاريخي  . ولكن الخطورة تكمن في العمل على تعميم ظاهرة التكيف لدرجة إنها لا تشمل المثقف فحسب بل المجتمع  لفترة زمنية استثنائية محددة ،ولا يمكن للسلطة الدكتاتورية الاستثنائية ان تحقق هذا مالم تخلق الظروف التي ستساعد على تكيف  قطاعات كبيرة من المجتمع كما حدث في العراق عند وصول البعث الى السلطة في انقلاب عام    1968    حيث   عملت الدكتاتورية على فرض البرنامج الثقافي البعثي لتنمية خيانة المثقف البعثي  لدوره التاريخي مما يجعله تائها في تلافيف الارتزاق وخادما أمينا للجهالة التي يخلقها النظام الدكتاتوري الشمولي .

 

                  ثانيا : التدجين الثقافي في المجتمع  العراقي 

                                                                                     التمرد الثقافي
يعد المثقف المتفاعل غير المتكيف صاحب  الحضور الثقافي المكثف   والمنتج للثقافة خارج الارتزاق ، والعصامي والدؤوب  في البحث عن الحقيقة والسمو على الواقع  المشوه الذي لا يتناسب مع طموحاته،  من المؤثرين   كذات مبدعة  في العمليات الفكرية والاجتماعية  التي لابد أن تتطور ضمن المفهوم العام للتطور الديناميكي ، وبهذا فان تأثيره لابد ان يكون  إيجابيا ، مما يدفعه ان  يعمل على تصحيح  الظروف التي تساهم في تشكيل عدمية  الفكر والثقافة او اغتراب المثقف ( في فترة ما ) . بالرغم من ان الاغتراب مرتبط تاريخيا وفلسفيا بنشوء قلق المجتمع والذات مع وجود  أسباب أخرى لتعميمه  . وبالتأكيد فان هذا الدور الإيجابي يشمل المثقف الستيني المنتج للثقافة وكذلك مثقفو الأجيال الأخرى  من غير المثقفين المتكيفين  .
وبالتأكيد فان هذه الظواهر  لابد أن يكون لها تمهيدها التاريخيي كما اشرنا .لذلك فأن عملية تكيف الشعب العراقي   بدا ت منذ  ستينات  القرن العشرين   و خضعت لوسائل ودراسات استراتيجية وسيكولوجية على الرأي العام  مدفوعة الثمن  قامت بها مؤسسات  عالمية  وخاصة مؤسسات بعض الدول الاشتراكية السابقة التي كانت  مهمتها المساعدة في تثبيت النظام العراقي  وفرض سياسته على  الشعب  من خلال تدجينه خدمة لاستثماراتها  .
 ولتحقيق هذا وضع النظام السابق  في حساباته  منذ  مجيئه ، شتى المغريات  لتدجين  المثقف العراقي  المتمرد من جيل الستينات  وتحويله إلى مثقف متكيف  ، لأن النظام  انذاك  كان  يفتقر الى المثقفين عموما لذلك بدأ بشرائهم .إلا ان المثقفين  كانوا يتوجسون منه،  فانقلاب شباط البعثي الدموي عام     1963  مازال  في الذاكرة ، ومازالت دماء الكثير من الأبرياء والبريئات الذين ماتوا تحت التعذيب طرية، وكانت هذه  مشكلة كبرى أما م النظام أذاك.
ولهذه الاسباب وغيرها  لم  يستطع  النظام  كسب  الكوادر الثقافية البارزة  فعمد إلى  سياسة العنف والعزل بجانب الأغراء للوصول الى هدفه . ونتيجة  لحساسية  المثقف الستيني  الفكرية  والسياسية المبكرة   وقف  منذ البداية ، ضد جميع انواع الوصاية الفوقية  سواء  الاجتماعية منها او الفكرية  او السياسية  ، وكذلك  وقف ضد  تقنين الابداع في أطر قد لا تتناسب مع تمرده الواعي وطموحه الابداعي . ولهذا السبب فانه يعتبر  جيلا  متمردا  وقف ضد التكيف الإبداعي  أو التكيف  مع  برامج السلطة الاستثنائية  واعتبره خيانة وخداع  للذات الحقيقية ، وخاصة  عندما تحتم هذه السياسة الثقافية   تفضيل النظرة القومية ـ الشوفينية الضيقة على  الرؤيا الا نسانية الشمولية ، وتحويل قدرة الوعي والتوجه  الفكري ، من  التعمق  ودراسة المشاكل الفكرية والاجتماعية والذاتية الجوهرية  الى تمثل  المفاهيم التي تشئ  الانسان وفكره  وتشوه الذات ، فيتحول المثقف  من ذاتي مبدع ومتفرد  إلى كائن   أناني  متكيف وغارق في الروح الارتزاقية  البائسة ، فيصبح  المثقف آلة في الهرم الذي يقف في قمته  العقل  الدكتاتوري ـ الفاشي الذي يلغي  التفرد ، ويفرض  الانتماء  الى الجماعة التي تحرص ، ثقافة الحزب الواحد  والنظام الشمولي ، ان تجعلها  قطيعا يردد  فقط تلك المفاهيم والأهداف و الشعارات  التي  تمجد الدكتاتورية والعنف  والحرب ، وتشجع الانغمار في الأوهام  التاريخية .
ولهذا فان  مشروعية تمرد  جيل الستينات الثقافي حتم رفض التكيف مع  النظام معتمدا على تماسك  الذات وبنائها خارج الارتزاق الفكري  من أجل  الانغمار في المستحيل  الإبداعي والحصانة الداخلية التي يكتسبها من خلال استيعاب المعارف الجديدة ، والحساسية الذاتية المتفردة  لرؤية الواقع على حقيقته ومن ثم رفضه . ان  هوس الاطلاع على المعرفة بشموليتها  هي  محاولة للوصول بالإبداع إلى أقصى درجات أبعاده الحرة ، والجرأة في الكشف عن المسكوت عنه والانغمار في الحرام والممنوع الذي يشكل خطورة على الثقافة العربية الرسمية  ونفورا من المثقفين المحافظين .
وقد عمد المثقف الستيني  الى رفض كل ماهو سلفي  في المجتمع ، أما في الجانب الثقافي  فابتعد عن ضيق الافق الابداعي لأجل  التجاوز المستقبلي والطموح العنيد لخلق ثقافة ورؤى  لا تمت الى الماضي بأية علاقة ، بل تعتمد على أكثر  المفاهيم والنظريات الثقافية والفلسفات المعاصرة  المتناقضة  كالماركسية والوجودية والعبثية والسريالية وتيارات  الفكر الحداثي  الابداعي  التي خلقت آفاق  جديدة للحداثة في ادب وثقافة  الجيل الستيني ( ومن بعده الاجيال الاخرى )  الذي كان يتباهى بانه جيل عاق لتراثه الثقافي العربي  الكلاسيكي السلفي  .وفي خضم العداء  الذي  يشيعه السياسي الاستثنائي وبمعيته مثقفه المتكيف المرتزق وكذلك محاربته من  جميع الاحزاب السياسية الاخرى  وتحجيم افاق التفكير الحرة  ، كان جيل الستينات  يبحث عن  فردوسه المفقود خارج تلك الابخرة الموبوءة . وبالرغم من ان  مثقفي الستينات كانوا  قد  تميزوا  بالحس الشعري  للعبث  مما أضفى على سلوكهم   و إبداعهم سمة التشاؤم  كميزة للتمرد الواعي ( بتأثير المدرسة الفرنسية ورموزها المبدعة مثل  رامبو ، فرلين  ، لوتريامون ، الفرد دي فيني،  سارتر  والسرياليين)   مما دفعهم   الى حمل   صليب الذات  المعرفية  ، وانعكس هذا  في إبداعهم   المبني على القلق الداخلي  المبكر والذي هو قلق الابداع  المتفرد مما  سؤثر على مستقبل الثقافة العراقية .
لذلك  فقد تشكل وعي وثقافة ، جيل الستينات(اضافة الى كل ماسبق) من  مؤثرات كثيرة أهمها :
• الثورة الثقافية التي  عمت  أوربا في ستينات القرن الماضي  واتسمت بالتمرد على كل شئ .
• ترجمات الادب والثقافة الاوربية المعاصرة وخاصة الفكر الوجودي والفن الطليعي وقصيدة النثر  الحرة  .
• الرغبة في التمرد على النظرة السلفية  للثقافة العربية والتزام يسار الفكر الثوري  من اجل تغير الواقع العربي كرد فعل  للهزائم والانتكاسات التي عانى منها الانسان العربي بسبب الانظمة السياسية.
لذلك فان الكثير  منهم التزم  يسار الماركسية  كالتجربة الجيفارية والماوية .
• الطموح السريالي لخلق ثورة أدبية حرة وثقافة جديدة تقطع الصلة بالماضي والتراث العربي،ويعود هذا  بالتأكيد الى روح التمرد والعبث  الذي  تميز  به الجيل الستيني في تلك المرحلة  سلوكا وثقافة .
• الفلسفة الماركسية من جانب والتزام الفكر القومي من جانب آخر.
ان  الوعي السياسي للانسان العراقي  واتساع الرؤية الابداعية  المتوهجة للمثقف المتمرد  المنحوتة ليس فقط من التجارب النضالية  والفكرية المحلية والعربية  وخاصة اتجاهات التراث العربي التقدمي والتصوفي ـ الاسلامي  ،  وانما استشراف التجارب الفكرية العالمية  ومحاولة تطبيقها على  الواقع العراقي ،خلقت  لدى المثقف اتساع الرؤية وصلابة الموقف .
ولكن في بلد مثل العراق تكون  القاعدة فيه استثناء ، اذ  المفارقة  تكمن في  الغاء  القاعدة  وتعميم  الاستثناء .  لذلك   ( عندما تتحول الاكذوبة الى نظام شامل ، لن يكون هنالك سوى الاشباح ) ويقين الشاعر  فاضل العزاوي هذا فيه الكثير من الدقة ،  فهو تشخيص دقيق للمرحلة التي فرضت فيها  الحزب القائد وامتدت الى جميع جوانب الحياة السياسية والمؤسسات الفكرية العراقية ، وتعميم الحياة العسكرتارية والسلوك المخابراتي في شتى مجالات العمل والحياة وجعلها  ظاهرة طبيعية ،  ومحاولة إزالة الكره السايكولوجي  التاريخي بين المواطن العراقي ورجل الامن (فجندت لها تمثيليات تلفزيونية مثل بعض تمثيليات يوسف العاني التلفزيونية التي كانت تتملق السلطة   ومقالات ودراسات  خاصة فرضتها  صحافة النظام ومسرحيات وقصص وروايات كثيرة تصب في هذا المنحى  )  فانبثقت  مهمة ضابط أمن الدائرة كوظيفة مقبولة في مؤسسات  النظام العراقي  عموما وخاصة في المؤسسات الثقافية  في جميع  محافظات العراق  .
ففرضت شمولية النظام وأدت  الى تخريب الوعي باساليب العنف ، لتهيئة المجتمع العراقي لمرحلة تخريبية اكبر ، اعني الحروب التدميرية اللامجدية( الحرب الداخلية ضد الشعب العراقي والحرب ضد ايران والكويت )  التي لم يألفها   الشعب العراقي ،  لكنها بالتدريج  أصبحت جزءا من يومياته  ( حيث قام  النظام بشتى الوسائل والمغريات  لتدجين  الشعب العراقي حتى يقبل  الحرب كقدر لامفر منه) . وسيؤثر هذا على مستقبله عندما يصبح مصيره في كفتي  الميزان حيث يدخل ضمن مخططات ومراهنات النظام وطموحاته االتوسعية وعقده العسكرية ، وضمن خطط المافيا الدولية ليصبح جسرا للعبور الى الاهداف الستراتيجية  للرأسمال العالمي في منطقة الشرق الاوسط . في ذلك الوقت كانت المعارضة العراقية غارقة في حسابات اخرى ، في كيفية الحصول على المكاسب الآنية اللامجدية التي سيتفضل بها النظام  حسب مقتضيات مصلحته وليس مصلحة الشعب او الحياة السياسية لانه سرعان ما سيلغيها متى يشاء .
وننُفذ كل شئ بانسيابية ومباركة من كافة الفصائل الرئيسية للشعب ، الذي كان يلاقي كل التحولات السياسية بلا  اهتمام  لكثرة الشعارات والخدع التي مورست  لاستغلاله في العهود السابقة ( بالرغم من قيام الشعب بمقاومة  عنيفة ضد النظام  في زمن لاحق  ) فبرزت من جديد  تلك  المقولات  والحكم البالية وأصبحت هي التي تنير موقف العراقي مثل ( الذي  يتزوج أمنا يصبح عمنا )  أو ( لا يهمك  ، إمشي بجانب  ألحائط )
أو ( الامر لايهمني  ) وغيرها الكثير (التي تحتاج الى دراسة معاصرة  من قبل المختصين وعلماء الاجتماع  لكونها انعكاس للواقع النفسي والساسيولوجي في المجتمع العراقي) . وهذ ه المقولات التخديرية جلبت الويلات ودفعت  بالشعب العراقي الى  التزام اللامبالاة  ، فغط  في نومة الفجر الهنية على السطوح( العراقيون ينامون فوق  السطوح في ليالي الصيف ) يحلم بشربة ماء بارد   ، والطموح في الحصول على كارتون من البيض او معجون الطماطم  .  في ذلك الوقت لم يكلف أحد  نفسه من المعارضة او المثقفين الآخرين  إيقاظ النائم من هذا الحلم ألهني ،  والذين حاولوا  لم يسمعهم أحد  بسبب الخوف من كاتم الصوت  من جانب والمغريات  التي بذلها النظام بسبب الموارد الهائلة التي حصل عليها من تأميم النفط من جانب آخر (قدر احتياطي العراق قبل الحرب مع ايران ب 100 مليارد دولار ) وسيعمد النظام الى نهب ارزاق ومدخرات العراقيين  وإجبارهم على التبرع ذهبا  لأجل استمرار  حرب القادسية واحتلال الكويت  .

ثانيا : دمقراطية أم تبعيث الثقافة

وضع  النظام البعثي الشمولي و سياسة الحزب القائد والحاكم الاوحد  (بعد استلام السلطة في انقلاب1968 )     الثقافة العراقية في مفترق طرق ، حيث تصارع تياران في سياسة الحزب آنذاك هما : ديمقراطية الثقافة أم تبعيث الثقافة ؟
وبلا أية مسؤولية تاريخية انتصر التيار الثاني ، فحتم تغيرا جذريا في الحياة السياسية  والثقافية حيث تكثف التمايز بين العراقيين في الوظيفة ، والامتيازات ، والمستقبل والمصائر وحتى سبل الموت . وتركزت أيضا فكرة العراقي النموذجي( البعثي المتكيف ) والعراقي غير النموذجي( غير المتكيف )الذي يجب ان يعاقب ويحرم من عراقيته او زوجته الأجنبية او ملكيته في بغداد ( اذ كان في المنفى او يسكن  المحافظات ) . وتم التمايز ايضا في المؤسسات التعليمية وخاصة في شروط القبول في الجامعات العلمية و الفنية ( معهد واكاديمية الفنون الجميلة وغيرها ) حيث كان الشرط الحاسم في القبول هو الانتماء السياسي للحزب الحاكم والتكيف مع النظام  وليس المؤهلات الفنية (وبخلاف الكليات الاخرى فان هذا المجال لايمكن ان يستقيم الا من خلال القدرات الابداعية). وقد ادى هذا الى ان يحكم الاستثناء القاعدة . فامتلات  الاكاديمية ومعهد الفنون الجميلة بالجهلة وطلبة المعدلات الضعيفة الذين رفضوا من الكليات الاخرى  ، اضافة الى رغبة  الكثير منهم  كانت للدراسة في اختصاصات اخرى  غير الفن .  وارسلت دوائر  الامن والمخابرات عناصرها للدراسة الفنية والاعلامية  من الذين ترغب هذه الاجهزة باستخدامهم في شتى المؤسسات الاعلامية  كالاذاعة والتلفزيون والفنية… كالمسارح والنشاطات الاخرى  ….الخ وتعرض الطلبة الى حملات المضايقة والتحقيق في غرف خاصة  .وبدأت حملات متقنة لطرد المثقفين غير البعثيين من المؤسسات الثقافية والاعلامية  والفنية وملاحقتهم( وكان يقود هذه الحملة طارق عزيز ومحمد سعيد الصحاف  ).
ونكاية بالشباب عموما ومن أجل ترويضهم وتدجينهم بلا استثناء ،  اتبع النظام  في البداية اساليب ووسائل تدجينية لا تثير الراي العام بل تكسبه الى جانبها   (من منطلق المفهوم العشائري والابوي الذي يعاقب الشباب غير المتكيفين في مؤسساته او مع العرف العام ،  لمنع الفتيات من ارتداء الملابس الملونة مثلا   أو إطلاق  الشباب   لشعورهم ـ بالرغم من ان العرب في ازمنة قديمة كانوا يطلقون اللحى والشعور ـ  وسيتطور هذا العقاب العلني الى قطع الآذان  او الانوف او الايدي  وسمل العيون ..الخ  ، ومورس  هذا حتى اللحظات الاخيرة قبل سقوط النظام  ) .
 وأصبح في مقدور أي شرطي أمن  او  مسلكي سحل المثقف او الفنان  او أي عراقي من شعر راسه بلا سبب فقط لان هيئة هذا الكائن  لا تعجبه  . وبدأت حملات جز  الشعر الطويل وصبغ أقدام الفتيات  لإثارة الخوف والرعب بين الشباب ، وكوسيلة لاقتناص الجميلات منهن باعتبارهن مسبيات ومباحات لاصحاب الدماء الباردة والضحك الغليظ من ابناء واعوان وعشيرة راس النظام و أزلام  السلطة  .
إضافة الى تجريب  شتى مختبرات التدجين الأخرى  بدأً من فرض العقوبات والاتاوات على المارة أثناء  عبورهم  الشوارع خطأ (غير المنظمة أصلا ) ، الى  المنح المالية و توزيع السيارت والأراضي  والبيوت على  المرتزقة  من المثقفين الكتبة والاعلاميين   العراقيين والعرب  اوالاجانب وتمويل صحف ومجلات مرتزقة ،  وانتهاء بهدر أرواح العراقيين ،  وإذابة أجسادهم بالتيزاب او في المقابر الجماعية أو   على يد  أبي  طبر .
وتمت المهزلة عندما انعكس الرعب الشارع العراقي اليومي  على  حياة الناس  بفضل حفلات القتل  التي كانت تمارس ليلا  في بغداد  وبعض  المحافظات ، والتي نفذها  ما أطلق عليه آنذاك ( أبو طبر ) ذلك القاتل الوهمي  الذي غزا بغداد  فجأة حد العبث بجثث الضحايا من العوائل الآمنة المعروفة  وممارسة ابشع طرق القتل المستوحى  من افلام المافيا( حيث كان يقتل ضحيته بالفأس ) ، ففي إحداها وضع راس الضحية في مزهرية ، وفي الآخرى وضع في ثلاجة لإثارة الكثير من الرعب ، اضافة الى ان القاتل كان لديه الوقت الكافي لأ ستخدام ثلاجة الضحية ، يأكل ويشرب الخمر  باسترخاء وقد  يقضى ليلته حتى الصباح هناك . ولم تنم بغداد ليال عديدة ، حيث يتجمع سكانها ليلا أمام البيوت  يشربون الشاي والقهوة  وجميع غرف البيت مضاءة خوفا من النوم الذي يقلقه القاتل السري (ابو طبر ). وكانت  الاذاعة والتلفزيون  تزيد من رعب الناس من خلال إطلاق الاشاعات واصدار البيانات والتعليمات في كيفية مواجهة القدرة الخارقة  والامكانيات السوبرمانية للقاتل في فتح الابواب  وتنوع طرقه في ممارسة جرائمه مما يحبك التمثيلية المخطط لها  .
وفي الوقت الذي ( أرعب ابو طبر ) الشارع العراقي واقلق نوم  العراقيين البهي فوق السطوح  . فان المصارع عدنان القيسي ساهم في اللعبة المركبة بعد ان  جلبوه بعقود مغرية من  أمريكا حيث كان يعيش فيها كمهاجر  ، ليصرع  جميع " شقاوات " المصارعة  الأمريكان  والأوربيين. فأوهموا   الناس ببطولة كاذبة ينتصر فيها عدنان القيسي على المصارعين  المستوردين  باتفاقيات خاصة أيضا  . لذلك فان الشارع العراقي كان مشغولا ببطله من خلال متابعة مبارياته الحية  أو مشاهدتها في التلفزيون نهارا وليلا وفي كل مكان ،في الشوارع والمقاهي والبيوت داعين الله  بالانتصار له والخروج بمظاهرات مؤيدة يقودها رجال المخابرات  حتى حلبة المصارعة ،  وتخاصم  بعضهم   بعد المراهنة على نتيجة انتصاره ووصل الأمر إلى القتل .

آنذاك قلما ترى بشرا في الشارع ساعة المباراة ، فاصبح عدنا ن القيسي محقق  أحلام الشعب في البطولة الوهمية والانتصار على أبطال مزيفين  ، واصبح كذلك أمل النظام في  تخدير الناس وإبعادهم  عن  التفكير بمخططاته و التصفيات الجسدية للأعداء السياسيين  التي كانت  تنفذ كل يوم  في عموم العراق ومؤامراته العربية واتفاقاته السرية لنهب ثروات العراق  ،وفي ذلك الزمن  كان دجلة والفرات يعوفان   جثث مشوهة  لأعضاء من حزب  الدعوة  او الشيوعي او  الاحزاب الاخرى او من الشيعة عموما  . وفجأة ظهر ابو طبر مبتسما في التلفزيون للاعتراف بجرائمه  بطريقة سخر فيها من العراقيين . و اختفى عدنان القيسي فجأة كما انبثق بعد ان تقاسم مع شركاءه أموال العراقيين فلم يذكره احد حتى الساعة . وسيكون الهول اعظم في مستقبل الايام .
سرقة الزمن الابداعي
وفي لحظة التأمل اكتشف العراقيون بانهم كانوا مختبرا لدراسة ردود افعالهم  السايكولوجية ازاء ماسيحدث  من حروب وخراب منظم مستقبلا . وكرد فعل لكل ما كان يحدث انتمى الكثير من المثقفين الستينيين   او أعادوا ارتباطهم الحزبي من جديد مع الاحزاب اليسارية  التي كانت تمارس حياتها خارج السلطة . لقد سرق  النظام العراقي  زمن العراقيين وبالذات الزمن الابداعي للجيل الستيني  والاجيال اللاحقة . اما  المعارضة  السياسية عموما فقد تخلت عن   المثقف الستيني في زمن كان فيه مجال لرفض السياسة الثقافية  قبل ان تنغلق الدائرة، وبهذا فانه وضع أمام  المثقف خياريين:
•  اما قبول الهزيمة السياسية و الابداعية وتعميق الشعور  بفقدان الكينونة الثقافية  والقبول بالواقع السياسي والثقافي الراهن ، الذي تتحكم فيه السياسة الثقافية البعثية .
• او اختيار المنفى  والتشرد كهروب  وحلا موقتا .
ان المثقف الستيني وعى مأساته المستقبلية فلم ير أمامه سوى اللجوء التراجيدي للمنافي .لانه شعر بان هذه الحياة ستنتهي بكارثة مخيفة عندما هجس الخراب الذي سيعم العراق  الذبيح في المستقبل الذي خططت له الدكتاتوريةـ الفاشية  ،ولم  تعطي  المعارضة لجيل الستينات  شيئا سوى وسادة الحذر . جيل  متمرد حاولوا الغاء  دوره التاريخي فاصبح محكوما بالمنفى الابدي  ، جيل رفض  مثقفوه الفردوس المدنس من اجل تمرده الابداعي . جيل فرض على مثقفيه  الهروب نحو وهم قد يبدو منطقيا  ، نحو الضفاف الاخرى من العالم ،من اجل تماسك الذات . فالعراقيون عموما اعتبرو منفاهم انقاذا مؤقتا لهم من المحرقة الجماعية ، لكن المنفى  بدا وكأنه أبديا  في روح أجيال كاملة سرق منها زمنها ألابداعي أيضا ، تلك الجوهرة اللازوردية التي لن  تعوض ، ولكن بعد سقوط النظام لابد  للتمرد الثقافي  ان  يظهر باشكال جديدة ضمن الثقافة المستقبلية الحرة ، وهذا ضروري ايضا ، لان هذا  الأمر هو الذي يمكن ان يحول الثقافة من الآديولوجيا الحزبية او الطائفية الضيقة  الى ثقافة عراقية

 

  ثالثا   :الدكتاتورية  وسيكولوجية    المثقف   المتكيف
 
 فمن أجل معرفة  التطور الذي  طرأ على المثقف المتكيف مع نظام سيده الدكتاتور  علينا معالجة السؤال التالي : اين يكمن مأزق المثقف العربي او العراقي  بشكل عام ؟ وهل نحن الذين  زرعنا الجيفة في حدائقنا  الفارهة منذ زمن بعيد ؟

 يحيلنا هذا السؤال الى  الدقة في  تفسير دور المثقف الذي يشكل  حتمية تفرضها المسؤولية الذاتية والاجتماعية  ( فكل خطأ في تفسير دور المثقف يؤدي الى خطأ في تفسير دور الثقافة ). وعندما يكون هنالك التباس  ، يبدأ الغموض ، وهذا هو الذي يفرض  تحديد دور المثقف  التاريخي والحياتي وتأثيره في عمليات التغيير الاجتماعي  . اذن ماهو التطورالفكري و السياسي  للمثقف المتكيف  ؟
ينشأ التكيّف ويصبح جزءا من  عمليات التخريب الاجتماعي  والثقافي  كما اشرنا  في مرحلة البناء للتاريخ الاستثنائي السلبي فقط ، أي  عندما يكون هنالك خواء فكري يميز فعاليات الإنسان  الحياتية والفكرية ، وسكونية  في التطور الاجتماعي ، واعني مرحلة التطور السلبي الذي يكون فيه الانسان بشكل عام و المثقف المتفاعل  بالذات غريبا عن واقعه ومجتمعه  وخاصة عندما تتوفر الشروط الاستثنائية التي لا تسمح له  بممارسة دوره التاريخي  الحقيقي كما في المجتمع الديمقراطي  ، وفي مثل هذه الظروف  يخون المثقف ذاته ويقوم بتحويل قدرة الوعي والعقل الشموليتان الى أنانية  ضيقة ، وهذه  تحوله الى  مشروع للتكيف مع  سياسة السلطة الدكتاتورية  فيفقد حصانته الداخلية المتفاعلة  ليتحول الى مثقف متكيف يحفر  الخواء في روحه وروح امته .   وهذا يهيئه  الى ان   يصبح  داعية لبرنامج  القائد ( الذي يهيئ  المجتمع الى حروبه الشخصية التي تخلق تكامله كدكتاتور  )  وتكون مهمة المثقف هنا ،  إضافة الى ما ذكر ،  هي استغلال ثقافته  لتنمية غرائز العنف  المتوحشة في روح الانسان  في المجتمع حتى تحتل  الأولوية في سلوكه ، فتتحول الى ظاهرة طبيعية في مجتمعات الأنظمة الشمولية والدكتاتورية.
ويسبغ  هذا المثقف  على مثله السياسي الاعلى (الاب ، الدكتاتور ، الطاغية  ،القائد )   صفات الرسل والقديسين . من هذا المنطلق فان المثقف  المتكيف هوصاحب  الوعي البربري المزيف والبائس  ، يبني ذاته هامشيا ، انه المتساهل المحصّن دائما بالتبرير الجاهز ، انه توريط الذات المثقفة في الالتزام بالوعي المشوه.

لذا فإن المثقف المتكيف  جزء  لا ينفصل  عن النظام  الدكتاتوري الشمولي  المتسلط  مما يجعله هذا ان يكون مساهما  دائما  في  تزييف  حقائق  الواقع المعاصر والحقائق التاريخية ، فيصل الى مرحلة الاتكالية الفكرية ،  ويصبح المثقف الابن المدلل ، يمنحه الدكتاتور  المكرمات والهبات ، ولكن في ذات الوقت يحرمه الحق في التفكير واتخاذ القرارات الفكرية الخاصة لان  القائد ـ الدكتاتور  هو الذي يفكر ويخطط بدلا عنه وعن الامة . فيتحول  المثقف إلى  منفذ فقط  في الوقت الذي تشتدد حساسيته الخاصة إزاء التغير السياسي  المستقبلي ، ولا يتوانى  من  التكيف مع التغيير  الجديد ومتطلبات الظرف السياسي القادم  من خلال خداع الرأي العام من جديد .
 والميزة الأخرى التي تميز المثقف المتكيف هي تطور وعيه سلبيا  مع برامج  النظام  كما حدث  في السنوات الأخيرة  من القرن الماضي ، حيث فرضت  التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية و الحرب الباردة  وانتصار شراسة  الرأسمال العالمي ، تكثيف  العنف كوسيلة للاحتراب  بين الدول ،  او بين الانظمة الدكتاتورية و شعوبها  وخاصة  في بلدان العالم غير الاوربي ، وقد  خلق  هذا تطورا  في مفاهيم وممارسات  الدكتاتورية  والانظمة الشمولية فأصبحت أكثر شراسة من اجل ان تحافظ على مصالحها ووجودها ، واستخدمت العنف بأبشع أشكاله كلغة وحيدة ضد شعوبها ،فتعاملت معها  وكأنها شعوب محتلة، واتسمت  هذه الدكتاتوريات ببعض السمات التي حولتها الى أنظمة  فاشية كما حدث في بعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية ، وفي المنطقة العربية تجلى هذا واضحا في العراق في  الحرب الداخلية  ضد الشعب أولا ،  ومن ثم ضد  ايران  ،  او في سياسته العدوانية  وطموحاته التوسعية في استغلال ونهب خيرات الشعوب  كغزوه للكويت  التي كا نت  من خلال  ديمقراطيتها ومشاركة شعبها في ثرواتها  الطبيعية  قادرة على أن تبني نظام ديمقراطي برلماني حر ومؤثر في بلده والجيران  ، لذا فانه  في ذات الوقت يشكل استفزازا للنظام العراقي .
و هذا التحول  الجديد في بنية الدكتاتورية  يحتاج الى تغير في المفاهيم والبرامج الثقافية ، ويتطلب  من المثقف موقفا وفهما جديدا  اكثر من تكيفه في  المرحله السابقة  . فالمرحلة الجديدة بالنسبة لتطور الدكتاتورية   تحتاج الى ذلك المثقف الذي يغذي ويشيع هيكلة وأساليب  الفاشية التي  سيتبناها النظام ، فليس كافيا  أن يكون مثقفا متكيفا  مع  برامجه الثقافية  فقط ، وإنما  يطالبه النظام  ان يساهم  في المتغيرات المنهجية  الجديدة  في سياسته وان يكون محركها الفكري ، وهذا يفرض على المثقف ان يلتزم المفهوم الفاشي في الثقافة  روحا وممارسة تخدعه حجج مختلفة  مغلفة  بدوافع ديمقراطية زائفة  . فيتم التمسك بها  كأسلوب للتدجين  سيباركه  النظام  الاستثنائي وسيبرره  المثقف  المتكيف  إعلاميا. وبالتأكيد سيتحول  هذا المثقف الى مفكر فاشي مادام يتبنى تلك السياسة التي تشوه الفكر والثقافة الإنسانيتين  وتحول  الوطن الى ثكنة  للحروب اللامجدية  ومعسكر اعتقال لعموم الشعب بما فيهم الأطفال  الذين يتم تدريبهم على  الروح الإرهابية والحقد منذ نعومتهم ، تحقيقا لأحلام القائد التوسعية .
سايكولوجية  المثقف 
و سيبذل السياسي كثيرا من الأموال والمكافآت  وأنواط الشجاعة !! لتغذية هذا المثقف  ناشر الأبخرة الموبوءة  ، فيمنحه الحيلة والقدرة والقوة ومنديل الأمان ليساعده على تعميم منهجه  الفكري ـ الارتزاقي  وإشاعة التشئ والنظرة الأحادية الضيقة  في الحياة والفكر ، من خلال إلغاء المقدسات الفكرية( الدفاع عن الحرية الفكرية والاجتماعية والإبداعية) فينجح النظام السياسي والمثقف المتكيف  في لملمة مجا ميع من المثقفين المرتزقة الذين سيباركون  المرحلة الجديدة  التي لا تستغني عن العنف بالمفهوم الفاشي والحروب الداخلية والخارجية . ومن أجل أن يتم إحكام الحلقة المفرغة  يبدأ  هذا المثقف عملية البحث في تاريخ الثقافة البربرية القديمة لاكتشاف ذلك الفكر الذي  يعظم ويؤله  الزمن الاستثنائي لطاغية  مشابه الى الطاغية  ـ الدكتاتور ونظامه الفاشي  المعاصر.
ان هذا المثقف المتكيف  المدجن لا يكتفي بتبرير السياسة  الفاشية لنظامه وإنما سيساهم في قمع انتفاضة شعبه  ضد  النظام التسلطي من اجل العدالة والخبز  والديمقراطية وطفولة وشباب آمن بدل زجهم في معسكرات الحروب ،( كبلاء بعض المثقفون البعثيون   في المساهمة في قمع الانتفاضة الشعبية ضد النظام الصدامي )  . وتتركز  مهمة  المثقف   في زمن السلم  والحرب ،  في التنظير للافكار الجديدة وفي صياغة النظرية او المنهج الارتزاقي لتصبح جزءا من الممارسة الفكرية ، ويؤشر  تسهيل  الطريق أمام الآخرين للتكيف  من أجل الحصول على المكاسب مادام مثله الاعلى (  السياسي الاستثنائي) قد  سرق السلطة و القوة بهذا التسلق الديماغوجي  الملتوي السهل بعيدا عن الشرعية  . وسيعمد الدكتاتور   السياسي مستقبلا بمعية مثقفه المتكيف ، الى سرقة  زمن المثقف المتفاعل غير المتكيف و الزمن الابداعي لعامة  الناس  والامة  ، فيكون الخواء هو التاريخ الذي يفرض نفسه ، وتقود الجهالة الخراب والسكون الحضاري .
سلطة المثقف المتفاعل
سيكون ديالكتيك الثقافة العربية وتأثيرها الديناميكي  هامشيا  مالم يأخذ بالاعتبار أهمية  الدور التاريخي للمثقف المتفاعل غير المتكيف ، ومهماته الا بداعية خارج منطق التكيّف بمفهومه الذاتي والسياسي والاجتماعي كما اشرنا سابقا .
ومن اجل الوصول الى الوعي الخلاق لتطوير ذات المثقف  المتفاعل  وعدم السقوط في شيزوفرينيا الذات والوعي( حسب افهومة كيركغارد الفلسفية أيضا  ) ، عليه ان  يعتمد على تماسك ذاته وصلابتها وبنائها ، أي اختيار ذاته  من جديد  للمساهمة في خلق البناء الاجتماعي والحضاري ، مادام  المثقف الان  تخلى عن دوره التاريخي في الصراع الفكري  والبناء ، بعد أن اصبح مروجا لأفكار وبرامج سياسية . و يفرض هذا أهمية المثقف المتفاعل ، صاحب العقل الديناميكي والمعارف المتطورة ، وهذه كلها تشكل سلطة المثقف المتفاعل.
فلا يكون للتطورات العظيمة التي حدثت في عالمنا في السنوات الاخيرة أية أهمية مالم تفرض تحققا مطلقا للديمقراطية مما يحتم ملامسة حساسية المثقف المتفاعل لما يحدث في الحاضر الآني ، في وقت يخضع التكيف(والمثقف المتكيف ) الثقافة والفكر والكتابة الابداعية  للزيف الذي  يعزز عالما بوليسيا . من هنا تأتي  صعوبة الأزمنة التي يمر بها المثقف المبدع والمتفاعل الان . وما رفضه لزيف الواقع الاستثنائي في ازمنة الدكتاتورية  ، إلا تأكيدا  لانسجام وعيه الفكري والفني . وهو يُعد موقفا ومشروعا حياتيا وتاريخيا.
اذن هكذا مثقف  يؤثر  إيجابيا كذات مبدعة  في العمليات الفكرية والاجتماعية عند توافر الظروف الطبيعية التي اشرنا لها   ، وهذه  الإيجابية  هي التي تمنع  عدمية  الفكر والثقافة او اغتراب المثقف ( في فترة ما ) . بالرغم من ان الاغتراب مرتبط تاريخيا وفلسفيا  بالانسان منذ  نشوء قلق المجتمع والذات .

بالتأكيد أن  تكيف وتذبذب وخيانة المثقف لذاته  تحتاج إلى دراسات ومناقشات طويله تفتح الطريق أمام سبل تعميق الموقف الفكري  للمثقف المتفاعل  في المستقبل وبالذات في العراق الحر ، وخاصة عندما كانت  كل الأبواب مشرعة والطرق  مفتوحة  من قبل النظام السابق  أمام المثقف المتكيف والمرتزق  صاحب الحظوة  . لذلك فمن غير المنطقي  النظر الى  ممارسات هذا المثقف المتكيف وخيانته لذاته  على اعتبارها سلوكا مؤقتا ، سينتهي عندما ينتهي  ينتقل  من ساحة رقصه  في العرس مع بنات آوى الى المنفى ، هذا الرقص الذي  أهلّه لتبوء مناصب كثيرة سواء في المسرح او الفن او في المؤسسات الثقافية  الاخرى  للمساهمة في تثبيت ثقافة النظام الشمولي   من اجل   إشعال  محرقة  الوطن او بالعكس عندما ينتقل  هذا المثقف الان   من المنفى الاوربي الى الوطن ( بعد سقوط النظام  ) مما يحتم عليه  ان يخرج  قناعه الجديد  الذي أخفاه تحت إبطه طوال سنين المنفى  فيلونه ليتم قبوله على حساب الذين عانوا الويلات وتشردوا في المنافي نصف عمرهم  . ان  النظر الى هذا الأمر يجب الا يكون  بهذه السهولة  لان جوهر موقف المثقف  وتحولاته  تكمن في الجذور  العميقة لتكيفه مع النظام ، وتكمن أيضا في  صميم الجوهر السيكولوجي ـ الاجتماعي له كإنسان ومثقف  . وعلى هذا الأساس يجب ان  يتجوهر  الفهم  الحقيقي لموقفه وطبيعة دوره في التغير الثقافي و الاجتماعي ـ السياسي المستقبلي   .فالمثقف بحكم العادة  سيضيف  الى  أمراضه وانتهازيته والوسائل الموبوءة الأخرى التي تعلمها من معايشته وتكيفه مع النظام  اولا ، ومن ثم  ينقلها من جديد الى الوطن بعد ان  غذاها وأضاف  عليها الكثير من  الحيل  الانتهازية  في المنفى . لهذا فان مفهوم المنفى لدى المثقف الذي رفض النظام منذ البداية  وكذلك المثقف الذي  كان متكيفا  مع النظام  واضطر الى قبول المنفى بعد الحصار الاقتصادي ، وبعد ان كف  النظام السابق من إغداق الهبات عليه فكان المنفى بالنسبة له ليس موقفا سياسيا من النظام وانما نزهة وارتزاق جديد  .، مثل هذا  المثقف كان  المفروض التفكير بالمنفى    باعتباره  مكان  و زمان :
• تطهيري وفسحة هادئة للغور في أعماق الذات ومحاكمتها  بعيدا عن الاستلاب الذي كان مجبرا عليه في وطنه ،وألا يتحول  الى قربة لإشباع غريزة المال فقط . ، مما يؤهله ان يكون فاعلا في التغيير الجديد  الان
اذن  المهم في العراق الجديد هو الالتزام بالثقافة العراقية الحرة بعيدا عن الآديولوجيا الحزبية  . وأن يتخلى المثقف العراقي  ، وهذا هو المهم ، عن  السلوك الاناني  والتذبذب الذي أدى الى خيانته لذاته وخواء روحه و يفرض  عليه ايضا التخلي عن الروح العدائية  للآخر  والثقافة الاخرى والحزب الاخر .
فاذا كان اختيار  المنفى  بمثل هذا الوعي التطهيري  كما في الفرضية السابقة   فانه يحتم  استقلالية المثقف في تفكيره وقراراته ،  ورفض تبعيته للسياسي الاستثنائي من خلال التكيف الذي اجبر عليه في الوطن أبان النظام الساقط  . وحتى لا يكون  المثقف الذي تكيف مع النظام السابق هامشيا في العراق الجديد ( ماعدا أصحاب الجرائم الكبرى ضد الشعب ) عليه ان يكشف كل ما يعرفه من مخططات النظام السابق والمهام والخطط التي كانت توضع  لتخريب الثقافة العراقية ، وهذا ما قام به الشاعر البعثي المعروف علي الحلي وبالرغم من انه قضى 13 عام منعزلا في بيته إلا انه بدا ألان يكتب عن خطورة التي كانت عليه السياسة الثقافية التي اتبعها النظام المقبور،   محاولا  بذلك القيام بمكاشفة الذات والتطهير من ادران السياسة  الصدامية وبالذات نقده لزيف وثرثرات شعراء القادسية وخاصة عبد الرزاق عبد الواحد الذي بنى مجده الشعري وثروته على آلام  الشعب العراقي بعد ان كتب مائة قصيدة في مدح الحرب  وبطلها صدام .
ان الثقافة الحرة والمتفاعلة والمؤثرة في التغيير الديناميكي في العراق المستقبلي الجديد  ضرورية  حتى  نتبرأ  من تقديس اخطر وظيفة عرفتها البشرية سواء كان هذا في السياسة أم الثقافة و أعني وظيفة الدكتاتور الفاشي  صاحب العين الصفراء النزقة المارقة  .
                                                                      كوبنهاكن
                                                                      شمال الكوكب

 



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه
- خليل شوقي وليالي شجون المسرح العراقي
- توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان
- المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
- الفضاء السميولوجي لعمل الممثل
- الوعي البائس للمثقف المتكيف
- مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري
- جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فاضل سوداني - النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف