أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد الحاج علي - حكاية قرم الملفوف















المزيد.....

حكاية قرم الملفوف


احمد الحاج علي

الحوار المتمدن-العدد: 2128 - 2007 / 12 / 13 - 10:05
المحور: الادب والفن
    



قال لي صاحبي : خذ ها مني حكاية ولا كل الحكايات ، حكاية أنا شاهدها وسامعها ولن احكيها لك إذا لم تعطني وعداً بكتابتها ونشرها .

قلت : احكيها وتوكل على الله.

قال : وعد شرف.

قلت : وعد شرف.


قال بعد أن نفخ نفخة خرجت من قلب محروق : أنت تعرف أن صنعتي هي الحدادة ودكاني الذي اعمل فيه ، يطل على ساحة السوق ، وكما تعرف كنت اقضي بعض الوقت وأنا قاعد على كرسي قديم مقشش بقش من إنطاكية ، أراقب الناس وهي تعبر من أمامي ، مغربة مشرقة ، البعض من هؤلاء الناس ، مطرق واسه بالأرض كأنه يفتش عن شيء أضاعه ، والبعض الآخر، يمر ساهما ، واجما ، شاردا ، كأنه خارجا للتو من خمارة أبو نواس ، حتى انه لا يفطن أن يقول لك صباح الخير .

وكانت متعتي الوحيدة التي انتظرها من الخميس إلى الخميس , حيث بازار البلدة , يعج بالنسوة والرجال والأطفال من مختلف الأعمار, يتسوقون خضارهم وفواكههم ونقلهم المحمصة في أريحا * ويتسوقون ألبسة أطفالهم وأحذيتهم وقبعاتهم وجواربهم , وكلها من سوق الجلوم في حلب , ولا ينسون تسوق أدوات الطبخ من صحون وطناجر وملاعق لامعة ونزالات قماشية وجاطات من الزجاج وكؤوس وفناجين من صنع زجاج الشرق ومنافض سكائر ومزهريات وقطرميزات صنع ارمناز* كما تتسوق بعض السيدات ابر الخياطة والخيطان والأزرار وربطات الشعر والأمشاط والمرايا والأساور المذهبة وليف الحمام , وعندما يشد السوق ويحمى حوالي الساعة الحادية عشر, يصل صياح الباعة على بضائعهم للذروة , ويتبارون معلنين عن بضائعهم , وكان يتفوق عليهم جميعا بشدة صوته البياع نهاد أبو احمد ولا يرضى بأقل من إخراسهم جميعا , ليبقى صوته الباعق وحيدا ملعلعاً في سماء السوق ,لا بل في الحارات التي حول السوق, معلنا بصوته الجهوري عن خسه المسقي بمياه حلوة مال دينيت*

وشوندره الأحمر رزق الغاب والذي طعمه كما يزعم كطعم العسل , وفليفلته الحمراء من نوع قرن الغزال مال محردة وبندورته الحمراء رزق الروج وكنت يا مرحوم ألبي , أجد متعة لا تفوقها متعة وأنا أرى النساء وهن يساومن البائع على سعر كيلو البرتقال الذي حجم ثمرته بحجم ثمر ة الخوخ الأصفر, أو يفاصلن بياع

الصحون على شراء صحن من البلاستيك , وكنت أرى بأم عيني كيف أن النسوة يتغنجن أمام البائع أو يرمشن بعيونهن , أو يثنين خصورهن , ويبتسمن ابتسامات ماكرة, فتزبق مقاومة البائع أمامهن , وتطير من بين يديه متلاشية , ليحل محلها , بائع بشوش , لين , طيع , مسالم , سموح , سرعان ما يقول للزبونة مثل ما تأمرين , لعيون خاطرك هذا الصحن ببلاش , كرمالك يلعن أبو الصحون وأبو أهلها .

وقد وفّر لي كساد صنعة الحدادة وبوارها بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء في بعض البازارات فرصا لاتفوّت حيث

كنت أبقى جالسا على الكرسي أكثر من ساعتين , أراقب البياعين والشارين , فهذه تشتري البندورة المجرحة بنصف ثمنها , وأخرى تفاصله على اقل من نصف ثمنها , وذاك يشتري عنباً مفروطا نصفه لا يصلح للأكل وآخرون يشترون تفاحا قشرته الخارجية مجعدة من النوع الذي يسقط تحت أمه الشجرة , لقد اعتدت يا صاحبي هذه المناظر, والفتها إلى حد أني في السنة الفائتة لم التفت كثيرا إلى سلوكيات الناس في البازار, وتوهمت أني عرفت كل شيء عن طعام الناس وشرابهم , وأواني طبخهم وألوان بيجاماتهم ونوعية قمصانهم وسراويلهم الداخلية , وبقيت واهما إلى مدة قريبة , يعني من أربعة خمسة أيام , عندما انقطعت الكهرباء حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً , وربك حميد , كان يوم بازار, قلت لحالي , قم يا ولد , قم , تفرج على الناس , تتسلى , حتى تأتي الكهرباء , قمت , سحبت كرسي القش , وضعته قريبا من كومة الملفوف المقابلة لدكاني .

كان صاحبها بعد أن تعب من الصياح على ملفوفه الحمصي , واخرسه البياع نهاد أبو احمد وبعد أن برد البازار , صار ينزع أوراق الملفوف الخارجية والتي تبدو كأنها مشروطة بسكين , ويضعها فوق كومة من ورق الملفوف ليبيعها إلى مربي الأغنام والأبقار, وكان يزيل قرمة الملفوفة بسكين حادة ليخفف من وزنها ليغري الشاري بشرائها ثم يضع هذه القرم بجانب كومة ورق الملفوف المنزوع حتى صارت كومة كبيرة من القرم ,

سالت بائع الملفوف : لماذا لا تضع قرم الملفوف فوق كومة الورق وتبيعهم مع بعض ؟ قال : إن مربي الحيوانات لا يشترون القرم لان الأبقار الهولندية والأغنام غير قادر على أكلها , حتى لو فرموها قطعاً صغيرة وذالك لسماكة قشرتها الخارجية , والعجيب في الأمر, أن ثلاث نسوة أتت كل واحدة وراء صاحبتها وصرن ينبشن في كومة قرم الملفوف , ويخترن القرم الغضة منها حسب زعمهن ويضعنها في كيس من البلاستيك , تعجبت من الأمر يا صاحبي وصرت احيص كدجاجة عليها بيضة , لقد ذبحني الفضول وقلت لحالي :

ماذا ستفعل النسوة بقرم الملفوف ؟ الحيوانات لا تأكلها بحكم سماكة القشرة الخشبية كما قال بائع الملفوف ؟

هل يمكن طبخها ؟ مستحيل ! ماذا يمكن أن تصنع منها تلك النسوة؟

هل يمكن أن تعصر ؟

لم تطل حيرتي في الأمر, فقد مرت من أمامي امرأة من قريباتي , سلمت عليها وقلت لها : جئت والله جابك تعالي . لي عندك طلب .

قالت : على راسي وعيني بس أنت تأمر.

قلت : معاذ الله , لا يأمر عليك ظالم , بس شوفي لي النسوة واسأليهم سؤال واحد وهو ماذا سيفعلن بقرم الملفوف, لا حيوان ولا بني آدم يأكلها .

قالت : ولو, بسيطة , واحدة منهم جارتي واعرفها كما أعرفك , والتفتت صوب النسوة ونادت . بهية . يا بهية تعالي .

تركت بهية قرم الملفوف من يدها , واقتربت نحونا , كانت بهية سمراء , وذات قوام ممشوق , وعلى وجهها جمال ذابل وحزين , يوحي بالانكسار والمرمطة .

قالت قريبتي : أنا وقريبي نتساءل مستغربين تجميعكم لقرم الملفوف ماذا ستفعلون بها ؟

ازدادت ملامح الانكسار في وجه بهية , وانقلبت سحنتها السمراء إلى سحنة سوداء مثل كوخ الموقدة , وصارت تهطل دموعها على خديها مثل حبات الحنطة المسلوقة , وقالت : بعد أن مسحت دموعها .

أنت اعلم بالحال . نحن جماعة فقراء , مكسور ظهرنا من الفقر, وملعون أمنا في عزا أبونا , وزوجي عبد الصبور يكدح ويضبح طوال اليوم مثل كديش الروملي والعشى خبيز .

قالت قريبتي : الهذا الحد انتم فقراء ؟

قالت بهية: والله مالك علي يمين . وراس الحسين عندي الصغير موجوع , دايرين فيه من حكيم لحكيم . الله لا يحكم فينا حاكم ظالم ولا حكيم , تقولي يا مخلوقة ناقبين الكعبة , وفي حدا داعي علينا بالسخام , وبلا طول سيرة قلت لحالي : يا بنت , يا منحوسة , قومي . أحركي . ما بدها نوم . لا زم تساعدي زوجك عبد الصبور قرم الملفوف ببلاش حتى البقر الهولندي والتيوس البلدية لا يأكلها . قومي . أحركي . وصرت كل أسبوع انتظر بازار الخميس , أنا وبعض المحسونات كما ترين , ننخب قرم الملفوف الغضة وفي البيت نقشر القشرة الخارجية للقرمة ونغسلها , ثم نفرم اللب الداخلي كما نفرم حبات البطاطا , وبنقطة زيت عباد الشمس , نقليها حتى تذبل , وشوية بهار وملح تصبح وجبة يأكل فيها الأولاد مرتين في الأسبوع ونحمد الله , ثم رجعت إلى كومة قرم الملفوف تنبش مفتشة عن القرم الغضة .



*أريحا : مدينة تقع جنوب ادلب تبعد عنها عشرين كيلو متر

*ارمناز: بلدة تبعد عن ادلب إلى الغرب 15كيلو متر

*دينيت : قرية صغيرة تبعد إلى الشرق من ادلب 5 كيلو متر


قاص من سوريا

[email protected]



#احمد_الحاج_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متى نعترف بالآخر
- متى نبدأ بطرح الأسئلة
- السلطة الاستبدادية وحلقات الذكر الصوفية
- حكاية زهرة اللوز
- الحوار : حكاية كلمة مع الاستبداد
- الحمامة
- ثقب في السور
- حكاية الدب الذي غلبه أبو فهد في المباطحة


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد الحاج علي - حكاية قرم الملفوف