أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم المسعودي - إقبال والليل والبحث عن وطن الذات















المزيد.....

إقبال والليل والبحث عن وطن الذات


كريم المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 2127 - 2007 / 12 / 12 - 09:46
المحور: الادب والفن
    


في هذه القصيدة – وهي آخر قصيدة كتبها السياب وهو على فراش الموت -نجد السياب يعاني البحث المحموم عن (وطن الذات) التي أتعبها المرض ، ولم تعد تقوى على صراع الموت. ولم يجد غير منزله ما يشتهي العودة إليه، فهو وطنـ(ـه) الذي تسكن إليه نفسه، فإذ يحن إلى (العراق) يتجه حنينه إلى المنزل فكأنه هو الوطن.
في القصيدة يأس المريض من الشفاء يعلن (استسلاما للموت)، وأمله في التغلب على المرض يؤكد (رغبة في الحياة)
وقد عكس بناء القصيدة هذه الثنائية، ورشح توق الشاعر إلى العودة لمنزله - زوجته، فهو أي (المنزل) وطنه الذي تحنّ إليه الذات في بحثها الملتاع عن مستقر لها بعيداً عن أسرّة المستشفيات في الغربة.
للعنوان في قصيدة (إقبال والليل) أهميته في تحديد مسار الدلالة بذكر الزوجة، والإيحاء بحاجة الشاعر إليها بذكر الليل، كما أن له أثراً فنيّاً في جعل القصيدة - في مقاطعها الأساسية - تتحرك بين هذين القطبين، الليل بوصفه معادلاً للغربة في دلالتها على الوحشة والعزلة واشتداد الألم ، والزوجة بوصفها الملاذ الذي يخفف عذابات الليل وأوجاعه.
ولقد مهّد الشاعر لقصيدته بثلاثة أبيات تسير على النمط التقليدي من البحر الطويل، وهي مترعة بالشجن، وتستثير في الذاكرة قصائد تُجلّي (الحنين إلى الأوطان) في الشعر العربي القديم:
وما وجد ثكلى مثل وجدي إذا الدجى تهاوين كالأمطار بالهمّ والسهدِ
أحــنّ إلى دار بـعــيــد مـزارهــا وزغب جياع يصرخون على بُعدِ
وأشفق من صـبحٍ يـجيء، وأرتجي مجيئاً له يجلو من اليأس والوجدِ
وهذه الأبيات التي تفسّر العنوان، أو تؤكد دلالته - تلمُّ خيوط الدلالات الجزئية في القصيدة، أو ترصدها وتمهِّد لها، بلغة يدبُّ فيها الأسى الشفيف دبيباً هادئاً فلا يتعكر صفو اللغة بطغيان الانفعال.
وتأتي مقاطع القصيدة وسطورها - من البناء الحديث - كأنّها تفصيل لتلك الدلالات والمعاني الشعرية التي أوحت بها الأبيات الثلاثة. فالأبيات ترتبط بالقصيدة دلالياً، ولكن مقاطع القصيدة تفارقها بلغة تميل إلى الخطاب المنفعل الذي يقترب من الصراخ المحموم. وهذا الملمح ـ الاقتراب الدلالي، والمفارقة في مستوى البناء ـ يدفع الباحث إلى الظن أنّ هذه الأبيات كُتبت بمعزلٍ عن القصيدة، ولكنَّ الشاعر وجدها تجانس القصيدة دلالياً فأدرجها معها.
إنّ تداخل نمطي البناء، و تناوب بحرين مختلفين، (الطويل) للأبيات، و ( الكامل ) للمقاطع الأخرى يعكس الثنائية التي اشرنا إليها (اليأس/ الأمل)، فإذا أضفنا أن الليل ـ مجرداً من ذكر الزوجةـ يرد في مقطعين ينهضان على الجملة الخبرية، وأنّ الزوجة تذكر في مقطعين يقومان على الجملة الإنشائية تأكدت هذه الثنائية في بنية القصيدة من مستواها الظاهر.
يبدأ المقطع الأول بعد الأبيات الممهِّدة هكذا:
الليـــلُ طار( )ومـا نـهاري حيـن يُقبــل بالــقصــيرِ
الليـــل طال: نبـاح آلافِ الكــلابِ مــن الـغــيــوم
ينهلُّ، ترفـعـهُ الريــاحُ، يـرنّ فـي الليــل الضـريرِ
وهتــاف حراسٍ ســهارى يجلســون على الـغيـومِ
الليل والعشاق ينتظرون فيه على سنا النجم الأخير
ليرسم صورة غائمة، ربما تنحلُّ عن البيت الأول، إذ توحي بالغرابة وكأنّها عالم من الأشباح، لينسجم مع الدجى الذي يتهاوى كالأمطار بالهم والسهد، وإلا فمن أين تستقي صورة (نباح آلاف الكلاب ينهل من الغيوم) أبعادها؟ وما علاقتها بـ (هتاف الحراس السهارى يجلسون على الغيوم)؟ بل ما دلالة الصورتين؟ وهل من رابط بين السطر الأخير في المقطع ، وما قبله من السطور؟
إن هذه الصورـ فيما يبدوـ تنهل من (خيال) يغرق في دجىً موحش فتتراءى له الأشباح. وتتداخل بفعل الوحشة، وتهاويل الظلمة ألوان هذه الصور وتختلط أجزاؤها، فلا يتمكن القارئ من التقاط الخيط الذي يوحدها، أو يسمح له بفك تداخلها، وتشابكها المعقد لينتهي إلى تحديد أبعاد الصورة أو الوصول إلى دلالتها، وإن أثارت لديه إحساساً بأنّ الشاعر مضطرب غير مستقر.
وعلى الرغم من سيطرة الأفعال المضارعة على الجمل النحوية إلا أنّ ذلك لم يمنح المقطع الحركة والحيوية المفترضة بسبب طول السطر الشعري من جانب، وشيوع التفاعيل المضمرة التي تجعل الإيقاع بطيئاً، وانتهاء الأسطر الشعرية بالتفعيلة المرفّلة من جانب آخر. ولم تؤدِ القوافي المطلقة أو الروي المجهور أثراً واضحاً في تغيير سكون الإيقاع، لأن الأضرب مرفَّلة، ولأن القوافي مردوفة بالياء والواو، موصولة بالياء ، زيادة على شيوع أحرف المد في أكثر من مفردة من مفردات السطر الشعري على امتداد المقطع، وهذه الحروف تسهم في بطء الإيقاع.
في المقطع الثاني يتجه الخطاب إلى (الليل) - ليل العراق، وليس ليل الغربة - عبر النداء، وهذا التحوّل إلى الجملة الإنشائية ساعد على استحضار صورة ذلك الليل من ذاكرة تُحسن التقاط التفاصيل الصغيرة التي نسجها الخيال بصورة توحي بجمال الليل وصفائه:
يا ليل ضمّخك العراق
بعبير تربته، وهدأة مائه بين النخيلِ
إنِّي أحسُّك في الكويت وأنت تثقل بالأماني والهديلِ
أغصانك الكسلى و "يا ليل" طويل
ناحت مطوّقة بباب الطاق في قلبي تذكِّر بالفراقِ
في أيِّ نجمٍ مطفأ الأنوار يخفق في المجرّة
ألقتْ بيَ الأقدار كالحجرِ الثقيل
فوق السرير كأنّه التابوت لولا أنه دمٌ
يراقُ
في غرفةٍ كالقبر في أحشاء مستشفى حوامل
بالأسرّة.

إن المقطع في سطوره الخمسة الأولى يستحضر الليل المضمّخ بما تسكن إليه النفس: رائحة الأرض الندية، وانسياب المياه هادئةً بين النخيل، ولكن الحزن يطغى على الجمال، بالأغاني التي يوحي بحزنها (يا ليل) التي ترد في المواويل بما يشبه الأنين، وكذلك (نوح الحمام) الذي يرد في أكثر من قصيدة مغناة تستثير مواطن اللوعة والحنين في النفوس. إنّ الأغاني والهديل ـ المستعادين من ذلك الليل/ الذكرى، المفقودين في لحظة الشاعر تلك ـ تعيدان الشاعر إلى حاله الآن في ليل السهد والوجد ليجد نفسه كأنّه تابوت في القبر لولا أنينه ونزف دمه يدلان على أنّه جسد على سرير في غرفة المستشفى!
إنّ الصورة هنا صافية تكاد لشدة صفائها أن تتجسد في مخيلة كل قارئ خبر ليالي الريف وجمالها، ولكنها تتشح بحزن شفيف يوحي بتأمل لذيذ. غير أن (أمطار الهم) لا تسمح بإطالة لحظات الذكرى، فتكون العودة المفاجئة إلى الحاضر بهذه الصورة الحادة الدامية في الأسطر الأخيرة (14ـ 17) حين يشبه الشاعر نفسه بالحجر الثقيل تلقي به الأقدار من شاهق لا أثر للحياة فيه غير الأنين والدم المراق.
وإذا كان الإيقاع في الأسطر الثلاثة الأولى (يا ليل... والهديل) يسرع بوضوح لأنه يرتبط بجمال ليل العراق المستعاد بما يشبه الحلم، فإنه يعود بطيئاً ثقيلاً بدءاً من السطر الذي يذكّر بنواح الموّال (يا ليل) حتى أخر المقطع، وهو ما ينسجم مع استحضار الغناء الذي ينبش أحزان النفس، والالتفات إلى الذات بحالها تلك في ليل الغربة.
من هنا فإن التحول إلى المقطع التالي الذي يفصِّل ما أختزله البيت الثاني في التمهيد:
احن إلى دارٍ بعيدٍ مزارها وزغبٍ صغارٍ يصرخون على بُعد
يكون حاداً مأزوماً:
يا ليل أين هو العراقْ؟
أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجيَ والرفاقْ؟
يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج تصوّريني أقطع الظلماء وحدي
لولاكِ ما رمتُ الحياة ولا حننتُ إلى الديارِ
حبّبتِ لي سدُفَ الحياةِ مسحتها بسنا النهارِ
لِمَ توصدين الباب دوني؟ يا لجوّاب القفارِ
وصل المدينة حين أطبقتِ الدجى ومضى النهار
والبابُ أُغلِق فهو يسعى في الظلام بدون قصدِ
في هذا المقطع تصبح اللغة مغايرة للغة المقطعين السابقين، إذ ينشغل بالبحث المحموم عن (عراق) الذات المشتعلة بالأسئلة المعلقة بلا إجابة، وبالنداءات التي لا يجد الشاعر من يردُّ عليها.
وعلى الرغم من كون النداء والاستفهام يخرجان إلى الاستغاثة واللوعةـ باعتبار تجربة القصيدة ـ فإنهما أقرب إلى التعبير الحقيقي بلغة تميل إلى التقرير الذي تنعدم فيه الصورة الشعرية، ويميل الإيقاع إلى البطء الشديد.
إن الاستفهام في السطر الأول (أين هو العراقْ؟) لا يحدد دلالة الوطن ولكنه يوحي ببعده، وطول فراقه وشدته. ولكن الأسئلة المتلاحقة، والنداء الملتاع في الأسطر الأخيرة جميعها تحدد دلالة الوطن المفقود، إذ تتجه صوب الزوجة بما يشير إلى أنّ الشاعر ينشد في بحثه عن الوطن (منزله) الذي يحتاج فيه إلى (المحبة والحنان) ـ وهو ما يركزّه المقطع الأخير الذي سننتقل إليه قبل النظر إلى عناصر البناء هنا في هذا المقطع ـ لأن المقطعين يعتمدان اللغة ذاتها.
ويتم عبور هذا المقطع إلى المقطع الأخير فنياً عبر ثلاثة أبيات تقليدية تنتمي إلى الأبيات التي مهّد بها الشاعر للقصيدة وزناً وقافية. والانتقال من المقطع إلى الأبيات، ومنها إلى المقطع الأخير يتم بذكاء واضح، فالمقطع السابق للأبيات ينتهي بحيرة (الشاعر الغريب) يقف في الظلام، وقد أوصِد باب منزله دونه:
والبابُ أغلق فهو يسعى في الظلام بغير قصد
فيجيء البيت الأول وما بعده هكذا:
وخوّض في الظلماء سمعي تشدُّه بجيكور آهات تحدَّرنَ في المدِّ
بكاء وفلاحون جوعى صغارهم تصبرهم عذراء تحنو عل المهدِ
يغني أساها خافق النجمِ بالأسى وتروي هواها نسمة الليل بالوردِ
ليتحقق بالبيت الأول الربط بين حيرة الغريب واقفاً أمام الباب الموصد، وإصاخة السمع في هدأة الليل، فتتحدر (الآهات) تشد سمعه، ونعرف في البيت الثاني مصدر هذه الآهات إذ هي بكاء الفلاحين وصغارهم الجوعى.
ويتم بالبيت الثالث التحول إلى السطر الأول من المقطع الأخير بانسيابية وهدوء، فهوى تلك العذراء وأساها يذكّران الشاعر بهواه وشدة أساه:
أين الهوى مما لقيتُ، والأسى مما ألاقي
والأبيات الثلاثة ترتبط بالمقطع الأخير فنياً لأنها توفر جسراً للربط بين المقطعين، ودلالياً لأن بعض ما فيها يجد صداه أو ما يوحي به في أسطر المقطع الآتية:
يا ليتني طفل يجوع يئن في ليل العراق!
أنا ميّت ما زال يحتضر الحياه
ويخاف من غده المهدد بالمجاعة والفراق.
والأبيات الثلاثة ـ في أية حال ـ لها علاقة بالوطن - في بعده العام- بذكر معاناة الفلاحين واسى النساء، وهو ما يقوي لدينا الظن بان الأبيات التقليدية الممهدة، وهذه الأبيات كتبت بمعزل عن القصيدة، وربما في مرحلة سابقة.
إنّ المقطع الأخير يؤلف امتدادا ـ في المستويين الفني والدلالي ـ للمقطع السابق للأبيات في توجهه إلى الزوجة بحثاً عن ملاذ:
إقبال مدِّي لي يديك من الدجى ومن الفلاه
جسِّي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنان
بك ما أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسكِ والصبى في
العنفوان.

إن المقطعين كليهما يقومان على الجملة الإنشائية (نداءً، واستفهاما، وتمنياً)، ولكن هذه الأساليب ـ لا سيما الاستفهام ـ تظل في دائرة التعبير الحقيقي، وإن أشار تلاحقها إلى شدة الانفعال.
وقد حقق الإيقاع البطيء وظيفته في التعبير عن الأسى الذي ينطوي عليه المقطعان بتحويل تفعيلة الكامل إلى (مستفعلن) بالإضمار، وبالتذييل والترفيل في اضرب الأسطر، وبحروف المد التي تشيع في مفردات المقطعين بكثافة عالية. زيادة على تفوّق القوافي المقيّدة في الحضور واتخاذ الحروف المهموسة رويّاً في أغلبها، فمن بين (16) قافية نجد (12) قافية مقيدة، و (9) منها تتخذ من الحروف المهموسة رويّاً.
فإذا أضفنا إلى ذلك كون الأضرب كلها مشغولة بعلتي (التذييل والترفيل) أدركنا أي بطء يثقل إيقاع المقطعين، وأي حزنٍ يختزنانه.
إنّ الوصول إلى (الوطن / المنزل) شيء مستحيل ـ فيما يبدو من القصيدة ـ ولا يمكن للشاعر أن يجد زوجته إلى جانبه، وهي مَن يحتاج إليها بحالته المؤلمة تلك في لحظته الموحشة التي جسّدتها القصيدة، والجدير بالإشارة أنها المرّة الأولى التي تذكر فيها الزوجة باسمها وصفاتها (إقبال، زوجي، الحبيبة، أم غيلان)، ولم يرد ذلك في قصيدة أخرى من شعر السياب!
ولأنه لا يجد هذه الزوجة يظل يصرخ ـ بما يتفق مع ألم الجرح الذي يبعث على الصراخ ـ يطلب إليها أن تجسّ جراحه وتمسها بالمحبة والحنان!
إن الإلحاح في استخدام النداء والاستفهام والصراخ المنبعث منهما ينسجم تماماً مع الصراخ اليائس الذي يتخلق في ذات الشاعر. ومن هنا خلا المقطعان من الصورة الشعرية التي تحققها لغة الشعر بالانزياح.
ولكن..! هل يمكن لناقد أن يعزل الصورة عن إيحائها؟ إن افتقار القصيدة إلى الصورة الشعرية التي تشير إلى الخيال المبدع لا يلغي تأثير النص أو إيحائه الوجداني. ويمكن أن نجد في الأسطر التالية التي تخلو من الصورة، وتقترب لغتها من النثرية، ما يوحي للناقد بقدرتها على التأثير الوجداني المذهل إذا ما أخضعها للتحليل الذي يؤسس أحكامه بعيداً عن (القناعات) النقدية الجاهزة!:
يا ليلُ أين هو العراقْ؟
أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجي والرفاقْ؟
يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج تصوريني أقطع الظلماء وحدي.
فما الذي تكشف عنه القراءة النقدية:
1- إن خطاب (الليل) يوحي بأنه ماثل بكلِّ كثافة الحضور، فهو يُغرق الشاعرـ الغريب، فلا يجد غير الظلام المتكاثف (مَن) يتحدث إليه. وهو ما يعكس إحساس الشاعر بالوحدة والعزلة والوحشة!، وليس الليل هو الذي يتمدد ليحتل الوجود حتى لكأنّه (الزمن) الأوحد، بل إن الشاعر يمنح الليل اكتئابه وظلام نفسه وضجره فيراه طويلاً ثقيلاً لا يكاد يزول.
2- إنّ السؤال في السطر الأول لا يخرج إلى الشك في إمكان أن يجد الشاعر (عراقه) بل إلى استحالة أن يكون هناك عراق أصلاً. وفي هذا مفارقة تحقق معنىً رائعاً من معاني الصدق الفني، فالشاعر يبحث عن العراق، ولا أمنية له غير أن يراه، ولكنه يُنكر الآن مجرد وجوده.
إن إحساس السياب بعدم جدوى الصراخ وعبث محاولة الوصول إلى العراق يدفعه إلى إنكار وجوده بنوع من خداع الذات، أو يقوده إلى التنكر للحقيقة الثابتة بعد أن عزّ عليه الاعتراف بحقيقة أنه سيموت دون تحقيق اللقاء!
3- إن (التذييل) الذي يحيل تفعيلة الكامل إلى (متفاعلان)، في السطرين الأولين، و (الترفيل) الذي يحول التفعيلة مع زحاف (الإضمار) إلى (مُتْفاعلاتن) في السطرين الثالث والرابع، أسهما في إطالة السطر الشعري، أو في إحساس القارئ ببطء الإيقاع ورتابته، ودلالة ذلك واضحة على أنّ المسافة بين الشاعر ووطنه (طويلة) هي الأخرى .
4- إنّ المقطع يقوم على الجملة الاسمية التي توحي بالثبات بخلاف الأفعال التي تعني الحركة والتجدد، ولعل في هذا دلالة على (السكون) و (الجمود) في حياة الشاعر، أما أفعال الأمر (صوّبي، تصوّريني) فلا تُعدّ أفعالاً من منطلق الحركة والفعل، لأن فعل الأمر ليس حدثاً متحققاً بل هو طلب للقيام بالفعل. ولعل أفعال الأمر هنا تدلّ على رغبة الشاعر في أن يتحرك شيء في عالمه الساكن، ولكنه ـ حتى في مجال الرغبةـ لا يتصور تحقق ذلك، ولهذا جاءت الأفعال (المطلوبة) موحية بعجز الشاعر عن تصوّر إمكان الحركة الحقيقية، فالأمر الأول لا يتطلب ـ في حال تحققه ـ غير استدارة العين! والأخر دعوة لفعل ذهني!
5- إن الوقوف على (القاف) في أخر السطر الأول عند قراءته في ضوء ما يتطلبه (الإلقاء) الشعري، سيسدُّ منافذ الهواء تماماً، وسيظل الفم فاغراً، كأنه يرسم صورة للميّت، ولهذا يكون البحث عن (الأحبة، والأطفال والزوجة والرفاق) في السطر التالي عبر الاستفهام كأنه الاستغاثة التي تسبق الموت، ولقد ألمحنا إلى أنّ السياب كان دائم الإلحاح على ذكر الموت الذي شرع يدب في جسده (المسجّى)، ولا يرى نفسه إلا ميتاً أو يكاد!



#كريم_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم المسعودي - إقبال والليل والبحث عن وطن الذات