أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 1 السياق التركي















المزيد.....

تباشير فكر النهضة في العراق: 1 السياق التركي


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2126 - 2007 / 12 / 11 - 06:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الموجات المبكرة للنهضة التي بدأت على استحياء بهز البنى التقليدية في العراق كانت آتية، في الغالب، من اتجاهين يتصلان بسياقين متناظرين. كان الأول هو سياق النهضة التركية التي تمتد تاريخها إلى بدايات القرن الثامن عشر، أما الثاني فكان سياق النهضة العربية التي تجلت معالمها منذ بداية القرن التاسع عشر وتكرست حقيقة واقعة في منتصف ذلك القرن. ونشوء كلا السياقين كان بتأثير من عصر الأنوار الأوروبي الذي مهد للثورة الصناعية وحقبة الاستعمار حيث بات الاتصال بالغرب الأوروبي والاستفادة من منجزاته الفكرية والعلمية والتقنية ضرورة لا مناص منها. فضلاً عن أن الغرب شرع بتهديد الإمبراطورية العثمانية وقضم أجزاء واسعة من أراضيها بدءاً من نهايات القرن السابع عشر.وكانت الولايات العربية التابعة لتلك الإمبراطورية ( ومنها الولايات الثلاث للعراق ) مثار اهتمام الغرب وهدفاً لأطماعه الاستعمارية
كان عامل الجغرافية السياسية ومتغيراته، تحت وطأة الصراعات الإمبراطورية، حاسماً في تحديد شكل العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي.. كانت أوربا قد خطت خطوات واسعة في اتجاه تثبيت أسس نظام رأسمالي متقدم اقتصادياً وعلمياً وتقنياً وعسكرياً. وكان العالم الإسلامي ( في الشرق ) قد تنبه من خلال شريحة متنورة من أبنائه، والتي ستكون لها مرويتها الدراماتيكية مع التنوير والتحديث، ومواجهة قوى ستعيق مشروعها باستماتة.. أقول؛ ستتنبه إلى إشكالية علاقتها القدرية مع الآخر/ الغرب.. غرب مغر بتمدنه وحضارته المادية وثمار ثقافته العظيمة، في مقابل غرب استعماري شرس يبحث عن أسواق لمنتجاته الفائضة، وعن مصادر رخيصة للطاقة والمواد الأولية واليد العاملة، وعن طرق مواصلات آمنة إلى جهات العالم كافة. ولم يكن العراق استثناء في خريطة العلاقات والصراعات المستجدة هذه، وإنما كان في القلب منها. فإذا كان في كثر من الولايات البعيدة قد نشأت أسر حاكمة فرضت بحكم الأمر الواقع على الحكومة المركزية الاعتراف بها لتتوطد في ظلها مؤسسات ستلعب دوراً هاماً في نهضة بلدانها كما كان الأمر مع جامعي الأزهر والزيتونة في كل من مصر وتونس، فإن الحال لم تكن كذلك في ولايات الشام والعراق "فقد جعل ارتباطها بالحكومة المركزية أوثق، على الأقل في أوج المجد العثماني، إذ كان لها من الأهمية ما لم يُسمح لها بالتفلت: فدمشق كانت مركز تنظيم الحج، أعظم مظهر من مظاهر السنة العثمانية، وحلب مركز التجارة الدولية، وبغداد قاعدة الدفاع عن حدود الإمبراطورية ضد الفرس" حوراني*/ص49. ووظيفة بغداد العسكرية هذه ستلقي بظلها على الوضع السياسي والثقافي والنفسي للمجتمع العراقي لاحقاً. في الوقت نفسه سيلبث شكل وروح المؤسسات العثمانية مؤثراً في مكونات الدولة العراقية المرتقبة، فضلاً عن طبيعة العقليات التي تديرها، والتي ستعكس تناقضات وآليات تفكير القوى المتصارعة في قلب الإمبراطورية المتداعية، والتي انتهت بانتصار الأتاتوركية ذات التوجه القومي العلماني.
بواكير النهضة في تركيا:
في مقابل توطيد أوروبا لأركان قوتها العسكرية والاقتصادية ودخولها عصر الثورة الصناعية، كانت الإمبراطورية العثمانية تشهد انحطاطاً لا سبيل لوقف زحفه.. كانت نظرية ابن خلدون عن قيام الدول والإمبراطوريات وصعودها ومن ثم سقوطها في الأذهان. والمستشارون كانوا يذكِّرون السلاطين بفحوى هذه النظرية ويطالبون بالإصلاح. وقد ترجمت مقدمة ابن خلدون إلى التركية في حدود القرن الثامن عشر ليلقى اهتماماً في أوساط الساسة والمثقفين. وفي البدء كانت الدعوة إلى الإصلاح تتضمن فكرة إعادة بناء المؤسسات القديمة، إلا أن الدعوات مع الهزائم المتعاقبة التي منيت بها جيوش الإمبراطورية أخذت منحى مغايراً وثورياً والتي ستجد مقاومة ضارية من قبل رجالات العهد القديم ولاسيما طبقة رجال الدين المحافظة، وهؤلاء بحسب حوراني "كانوا يحرصون على الاحتفاظ بأساس الدولة العثمانية التقليدي، وذلك إما لارتباط مصالحهم به، وإما لاعتقادهم بأنه موافق لإرادة الله" حوراني/ ص68. كذلك كان هناك من يرى استحالة تطبيق الإصلاحات في الدولة العثمانية الآيلة فعلياً إلى السقوط.
فطن العثمانيون متأخرين نسبياً إلى تقدم أوروبا عليهم، وكانت هزيمة كارلويتز في العام 1699 إشارة إلى مدى هشاشة وانحطاط دولتهم في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش عصر تنوير حقيقي، وثورة صناعية لافتة. فكان لزاماً على المؤسسة العثمانية الحاكمة أن تعيد النظر بمجمل سياستها ووضعها، وأن تنفتح على أعدائها التاريخيين الذين خاضوا معها حروباً مريرة طوال أربعة قرون ( أي منذ تأسيس الدولة العثمانية في العام 1299 ).
وبدأ التفكير بإيجاد علاقات إيجابية مع أوروبا في عهد السلطان أحمد الثالث الممتد للفترة ( 1703 ـ 1730 ) وكان السلطان ووزيره ( إبراهيم داماد باشا، استوزر بين 1718 ـ 1730 ) "مقتنعان بضرورة الأخذ بما يظهر في أوروبا من مظاهر التقدم وخصوصاً في الميدان العسكري، فتشجعت إبان عهدهما حركة الترجمة عن اللغات الأوروبية فأصبحت أسماء ألبرت الكبير وسكوت أرجينا والقديس توما الأكويني معروفة في استانبول ولو على نطاق ضيق ومحصور ) زيادة**/ ص34.
أدخل العثمانيون في العام 1728 أول مطبعة إلى العالم الإسلامي أشرف عليها رجل مثقف من مواليد ترانسيلفانيا يدعى ( إبراهيم متفرقة ) وقع أسيراً في أيدي العثمانيين فاعتنق الإسلام. وألف وأصدر كتباً عديدة أبرزها ( أصول الحكم في نظام الأمم/ 1731 ) ويمكننا عد هذا الكتاب "أول محاولة نظرية من نوعها، ففيه يدعو المؤلف إلى الاستفادة من علوم أوروبا، وإلى استيعاب التقنية الحديثة وإعادة تنظيم القوات العثمانية وفق الأساليب الحديثة" زيادة/ ص39. وقد تطرق في كتابه هذا إلى مسألة خطيرة وهامة تعد تخطياً لخط أحمر في العالم الإسلامي، في حينه، وهي التي تتعلق بالقوانين وأصول التشريع.. يقول متفرقة؛ "إن الشعوب المسيحية ليس لها في أيامنا الحاضرة قوانين مقدسة تتعلق بإدارة أعمال الحكومة، أي ليس هناك قانون من جانب الله يتعلقون به دينياً، إنْ في شؤون التشريع أو في القرارات الشائكة لإدارة الدولة، إنهم يتعلقون فقط بقوانين وتشريعات بشرية ناتجة عن نور العقل وحده" زيادة/ ص43.
في هذه الآونة دخلت فكرة الإصلاح في أذهان السلاطين العثمانيين المتعاقبين، واستعان السلطان محمود الأول ( حكم بين 1730 ـ 1754 ) بالفرنسي دو بونفال الذي أسلم هو الآخر وأصبح اسمه أحمد باشا بونفال، وهو الذي قدّم مشروعاً لتأسيس مدرسة للهندسة وآخر لإقامة كيان جديد للمدفعية. وقد أشار إلى أن "التنمية التركية ينبغي أن لا تقتصر على المجال العسكري بل تتعداه إلى المجال الاقتصادي" زيادة/ ص46. وكانت تلك أولى الخطوات لتحديث المؤسسات العسكرية العثمانية، وعنها "بدأت تتكون ملامح طبقة جديدة من المتنورين العثمانيين العارفين باللغات الأوروبية والطامحين إلى تحديث دولتهم" زيادة/ ص47. وفي عهد السلطان عبدالحميد الأول ( حكم بين 1773 ـ 1789 ) عيّن شوازل غوفييه سفيراً لفرنسا لدى الباب العالي عام 1784 "فجاء إلى استانبول ترافقه بعثة موسعة من الخبراء والضباط والرسامين والطوبغرافيين والشعراء والعمال، تذكّر بالبعثة التي رافقت نابليون في حملته على مصر بعد أربعة أعوام، وقد لعب هؤلاء دوراً رئيساً في الإصلاحات" الجارية. وحقيقة، لابد من وضع مساعدة فرنسا للعثمانيين في إطار صراعات القوى بين الدول العظمى في ذلك الوقت ( روسيا وفرنسا وإنكلترا والإمبراطورية العثمانية ) والتوازنات الحادثة جراءها. وفي هذه الأثناء تولى سليم الثالث الحكم ( حكم بين 1789 ـ 1807 ) أي في السنة ذاتها التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية.
وإذ كان التأثير الأوروبي يفعل فعله فإن هاجس التحديث والإصلاح لدى السلطان الجديد سيفضي إلى تبدلات مهمة في بنية الدولة، وإلى حدوث صراعات خفية أحياناً، وظاهرة بشكل صارخ أحياناً أخرى بين القوى النهضوية التي تؤكد على الإصلاح وبين القوى الرجعية التي ستقاوم حتى الرمق الأخير من أجل أن لا يحدث أي تغيير يعصف بمواقعها وسلطاتها.
أدرك السلطان سليم الثالث أنه لا بديل لإصلاح مؤسسات الدولة وهذا لا يمكن من غير مساعدة أوروبية ( فرنسية على وجه التحديد ). فأقام مجلساً استشارياً تحول فيما بعد إلى هيئة حكومية أشرك فيه اثنين من غير المسلمين، وكان نصب عينه استقبال وتمثل أفكار جيدة يمكنها إعادة شباب الإمبراطورية الآخذة بالشيخوخة والانحطاط. وناقش المجلس مسائل الجيش والعلماء والمالية والإدارة من خلال تقارير صريحة.
أنشأ السلطان مدارس ومعاهد تعليمية وأعاد العمل بالمطبعة القديمة المتوقفة، وأسس مطبعة في مدرسة الهندسة طبعت ما يزيد على الخمسين كتاباً. ووجه سفراء إلى دول أوروبية أخرى.. كان ديدن سليم الأول هو الانفتاح والتغيير. ومن المهمات العويصة التي أقضّت مضجعه هي إلغاء جيش الانكشارية ذا النفوذ الواسع والسطوة القوية وإنهاء سلطة المفتي والعلماء الدينيين التي كانت تنافس سلطة السلطان نفسه.
توسع عدد الذين يتقنون اللغات الأوروبية ولاسيما الفرنسية، وساهمت الثورة الفرنسية في تصدير أفكارها على أقاليم السلطنة العثمانية. وكانت المطبعة التابعة للسفارة الفرنسية في استانبول تنشر الكتب والوثائق والبيانات منها ( دستور الجمهورية ) و ( وإعلان حقوق الإنسان ) وغيرها. وفي هذا المناخ ترعرع جيل متنور. متحمس للأفكار الحديثة ( ضباط وموظفو دولة وشباب ) وقف بجرأة في وجه القوى الرجعية.. كانت الأذهان تتفتح على أفكار الحرية والمساواة والتقدم وحقوق الإنسان والإصلاح والجمهورية والاستقلال . ومن الواضح أن الكتابة في شؤون السياسة والتاريخ، وكذلك الكتابة الأدبية تعرضت هي الأخرى إلى الإزاحة والتغيير، تغيير في اللغة والأسلوب وفي زاوية النظر والرؤية، أي في الأشكال والمضامين عموماً. وبدأ بعض المثقفين يؤلفون كتبهم بالفرنسية بسبب عدم استيعاب التركية لبعض المصطلحات الحديثة وأيضاً لتجنب مناوأة الجماعات التقليدية.
وإزاء هذا التيار المزعزع لم يقف العلماء الدينيون والانكشارية موقف المتفرج. فقد قام الجيش الانكشاري في العام 1807 بمساندة العلماء أولئك بانتفاضة عُزل على إثرها السلطان سليم الثالث. وأعدموا في ساحة الميدان باستانبول عدداً من المثقفين المتنورين، وأحرقوا كتبهم، بيد أن هذا الأمر لم يوقف حركة التجديد التي سرت عميقاً في البنى والعقول "فلم يمض وقت قصير حتى اكتسبت اللغة الفرنسية موقعاً راسخاً في استانبول، ففي عهد محمود الثاني ( حكم بين 1808 ـ 1939 ) ستتأسس أول جريدة في استانبول باللغتين التركية والفرنسية. وفي أواسط القرن التاسع عشر كان السلطان عبد المجيد ( حكم بين 1839 ـ 1861 ) يعرف الفرنسية" زيادة/ ص95ـ 96.
يتتبع الدكتور خالد زيادة في مؤلفة ( اكتشاف التقدم الأوروبي: دراسة في المؤثرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر ) بروز مفاهيم لم تكن مطروقة في أرجاء الإمبراطورية.. تلك المفاهيم التي ستضع العالم الإسلامي على عتبة فكرية وسياسية مغايرة،وتمهد لظهور نخب سياسية وثقافية ستكون لها دورها الحاسم في عمليات التحديث والتغيير.
ظهر شخص مثقف يكتب بالفرنسية، على الرغم من أنه لم يزر فرنسا قط اسمه ( سيد مصطفى ) وينطوي كتابه صغير الحجم ( نقد حالة الفن العسكري ) على قيمة لا تُضاهى لما تضمنه من أفكار ومصطلحات جديدة، وقد دخل في موضوعة كتابه مباشرة من غير البدء بالعبارات التقليدية ومدح السلطان وتوجيه الحمد له والدعاء لطول بقائه، ولم يستشهد بآيات قرآنية أو أبيات شعر عربية وفارسية كما كان أسلافه يفعلون وهم يكتبون بالتركية أو بالعربية. وها هو سيد مصطفى ينكر أن تكون العلوم موروثة من السابقين فقط كما يرى المحافظون، ويؤكد أن العقل الإنساني قادر على المعرفة والإبداع.. يقول: "أفلم نر العكس؟ وبسكال الشهير ألا يمكن استخدامه كمثال؟ فكيف أمكنه الخلق بدون يد مساعدة، في عمر مبكر إلى حد بعيد، وكيف توصل على معرفة مسائل أقليدس الاثنتين والثلاثين وبرهنتها بطريقة مختلفة؟".
استخدم سيد مصطفى مفهوم ( الوطن ) في كتابه الآنف الذكر، للمرة الأولى. وهذا المفهوم لم يكن معروفاً في الآداب الإسلامية إلاّ بمعنى مكان الولادة "ولم يأخذ المعنى المطابق لـ ( patrie ) إلاّ في وقت متقدم من القرن التاسع عشر" زيادة/ ص97ـ98. كما استخدم مفهوم الثورة الذي كان يعادل الفتنة والفوضى، بالمعنى الحديث الذي جاءت به الثورة الفرنسية. ولم ينج سيد مصطفى من مؤامرة الرجعية فأعدم مع من أعدم في أثناء خلع السلطان سليم الثالث.
أما المفاهيم الأخرى مثل ( استقلال، جمهورية، حرية ) فإن العثمانيين قد عرفوها وحاولوا إعطاءها معادلات في لغتهم. والإطلاع على هذه المفاهيم لم يأت بالضرورة، وفي المراحل الأولى على الأقل، عن طريق الإطلاع على نتاج الكتّاب والمفكرين الفرنسيين أو سواهم. بقدر ما جاء نتيجة للمشاركة والاتصال بالأوضاع السياسية لحكومات أوروبا، ونتيجة التطورات التي فرضتها الأحداث نفسها" زيادة/ ص99.
وكان مصطلح الإصلاح قد أخذ منحى مغايراً في الفهم منذ رسالة حاجي خليفة ( المستشار عند الباب العالي للسلطان في العام 1653 ) فآنذاك كان الإصلاح يشير إلى العودة إلى السلف الصالح أو إلى الينابيع الإسلامية وخصوصاً القرآن، ولكن مع حاجي خليفة فإن تعبير إصلاح بدأ يتجاوز المعنى الديني ليطال مسائل اجتماعية وسياسية" زيادة/ ص98. ويبدو أن تأثير الثورة الفرنسية وقبلها طروحات التنويرين الأوروبيين على شرائح متنورة من العثمانيين قد بدل فحوى المفاهيم والمصطلحات المتداولة ومنها الإصلاح الذي صار يعني إجراء تغييرات في مجالات الإدارة والجيش وكذلك العلوم.
بعد الانقلاب الذي أطاح بسليم الثالث في العام 1808 لم تتوقف حركة الإصلاح على الرغم من مقاومة الانكشاريين والمؤسسة الدينية المتنفذة. ويعد السلطان عبد الحميد من أواخر المصلحين في تاريخ الإمبراطورية، إذ أصدر في العام 1839 ما عُرف بقرار ( جلهانه ) الداعي إلى تغيير في المؤسسات على الأسس التالية "1ـ ضمانات تؤمن لرعايانا تأميناً تاماً الحياة والشرف والرزق. 2ـ نظام قانوني لتحديد الضرائب وجبايتها. 3ـ نظام قانوني للتجنيد ومدة الخدمة" حوراني ص65ـ66. وأكد القرار على إلغاء نظام الامتيازات والتجنيد النظامي وضمان حقوق الملكية وعدم الحجز الكيفي ودفع معاشات الموظفين بانتظام ومحاربة الرشوة. وفي العام 1956 أصدر السلطان بياناً إضافياً عُرف بـ ( خط همايون ) أعلن بموجبه أنه "من الآن وصاعداً لن يكون ثمة أي تمييز قائم على الدين أو اللغة أو العرق في توزيع وظائف الدولة، أو الدخول إلى المدارس الحكومية، أو دفع الضرائب، أو الخدمة العسكرية" حوراني/ ص67. ووجدت هذه التوجهات مقاومة من قبل المحافظين المتدينين ومن قبل أولئك الذين رأوا استحالة تطبيق بنودها في ظروف الإمبراطورية في حينها.
كانت الإصلاحات ضرورية لإنعاش جسد الإمبراطورية الشائخ والمتخشب حيث الأعداء الغربيون يتقدمون بخطى حثيثة في المجالات كافة، العلمية والمؤسساتية والفكرية، مهددين بتغيير خريطة العالم الجيوسياسية.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ازدهرت الصحافة فتأسست في العام 1860 جريدة ( ترجمان الأحوال ) وبعد ذلك بسنتين تأسست مجلة ( تصويري أفكار ) إلى جانب صحف أخرى باللغات الفرنسية واليونانية والأرمنية وكلها كانت معنية بشؤون الأدب والثقافة والسياسة.. كان ثمة تململ بين أوساط النخبة باتجاه التغيير. وحدث صراع بين دعاة المركزية واللامركزية، بين من حاولوا الحفاظ على الوضع القائم وبين من تطلع إلى إصلاحات حقيقية. وبعد أن أسست مجموعة من الضباط ما عُرف بـ ( لجنة الاتحاد والترقي ) وهي جمعية سياسية ثورية تعمل سراً تراءت تباشير الثورة في الأفق. وضمت هذه الجمعية أعضاء من العرب أيضاً، غير أنها تفككت في العام 1896. ولم يعنِ هذا نهاية التطلع إلى الثورة.
كانت الشريحة المتنورة من العثمانيين وهي تتسع وتزداد وعياً تمهد للثورة الدستورية في العام 1908، والتي تُعرف بثورة الشبان الترك ( تركيا الفتاة ).. هذه الثورة أجرت تحولاً في بنية السلطة السياسية، وقد استعار زعماء النظام الجديد "شعارات الثورة الفرنسية وضربوا عملة جديدة حملت الشعار التالي: حرية، مساواة، وبدل كلمة أخوة حلت كلمة عدالة، بما أن الإسلام هو دين العدل" زيادة/ ص112. وجرى خلع السلطان في العام 1909. وإذ كانت توجهات ( تركيا الفتاة ) تركز على قيام حكومة دستورية وتأمين الحرية والمساواة لجميع سكان الإمبراطورية كان أعضاؤها يؤكدون بالمقابل على ضرورة المحافظة على وحدة أقاليمها. وبالتالي لم يدعوا إلى مبدأ حق تقرير المصير، واستقلال الولايات والأقاليم غير التركية في إطار دول ذات سيادة، أو لأن مثل هذا المبدأ لم يكن من ضمن القاموس السياسي المتداول على نطاق واسع في ذلك الوقت. ولكن، وبتأثير تعاليم فيلسوف ( تركيا الفتاة ) ضياء جوكلب ترسخ مفهوم جديد للقومية التي كانت تعني الولاء للأسرة الحاكمة فصارت "القومية الفعالة إنما هي القومية المتأصلة الجذور في وحدة موضوعية كاللغة أو العرق. وهكذا تحولت القومية العثمانية إلى قومية تركية، بحيث أصبح أساس الإمبراطورية وحدة قومية تضم جميع الناطقين باللغة التركية والمتحدرين من أصل تركي" حوراني/ ص336.
كان انحطاط الدولة العثمانية قد بلغ الذروة وكانت هزائمها في البلقان إبان الحرب العالمية الثانية إيذاناً بأفول نجمها وإلى الأبد.
المصادر:
* تعني الإشارة ( حوراني ) كتاب ألبرت حوراني ( الفكر العربي في عصر النهضة ـ 1798ـ1939 )ترجمة: كريم عزقول.. دار النهار للنشر ـ بيروت.. بلا تاريخ نشر.
** تعني الإشارة ( زيادة ) كتاب الدكتور خالد زيادة ( اكتشاف التقدم الأروبي ـ دراسة في المؤثرات الأروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر ) دار الطليعة.. بيروت.. ط1/ 1981.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دلال الوردة: كسر المألوف وصناعة الصور
- فقراء الأرض
- أخلاقية الاعتراض
- شيطنات الطفلة الخبيثة: رواية الحب والخيانة والغفران
- ما حاجتنا لمستبد آخر؟
- قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة
- سعة العالم
- -قل لي كم مضى على رحيل القطار- فضح لخطايا التمييز العنصري
- في التعبير عن الحب
- -البيت الصامت- رواية أجيال وآمال ضائعة
- -صورة عتيقة-: رواية شخصيات استثنائية
- حكم الضمير
- مأزق المثقفين: رؤية في الحالة العراقية
- في ( بذور سحرية ): نايبول يكمل مسار ( نصف حياة )
- منتخبنا الوطني، لا الطائفي
- العدالة أولاً
- سحر السرد
- حدود العراقي
- في مديح الشعراء الموتى: أديب أبو نوار.. وداعاً
- المثقف الآن


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 1 السياق التركي