أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي السماك - قبر من لحم














المزيد.....

قبر من لحم


مجدي السماك

الحوار المتمدن-العدد: 2126 - 2007 / 12 / 11 - 08:28
المحور: الادب والفن
    



في البدء كان هدوء ، ليس كأي هدوء ، إنما هو هدوء يشبه الفناء . و الشمس في عليائها متوهجة مشعشعة ملهبة أقاصي الفضاء ، تصب جحيمها على أجساد بشرية حية أنهكتها الدنيا لتشويها بهدوء وتسلقها . والطقس خماسيني مغبَّر . والرئة تبذل قصارى جهدها لانتزاع نصيبها من هواء الأرض الساخن . الرطوبة خانقة مالحة وللنفَّس كاتمة . وسط هذا كله وصلت سيارة الإسعاف ، كنت اسمع صفيرها يوِّن من بعيد .. نعم من بعيد .
في قاع سيارة الإسعاف جسم ممدود ، هو جسد نسائي يتقلص و يتلوى ، والبطن منفوخ كقبة المسجد بجنين ينتظر الخروج إلى دنيانا.. هي لحظات الطلق . المرأة تصرخ بشدة ، و بشدة تتأوه متألمة و تئن . و الجندي الإسرائيلي على الحاجز يبتسم بهناء بعدما لوَّح بيده إيماءة إغلاق الحاجز.. تتابع وصول أرتال السيارات لتحيط بسيارة الإسعاف من اليمين واليسار والوراء حتى ازدحم بها المكان و ضاق ، كأن القيامة قامت وبعثت السيارات من القبور .
تمر الدقائق وتتحول إلى ساعات مؤلمة و يزداد الصراخ علوا ، هي لا تصرخ فقط بحنجرتها ، إنما قلبها يصرخ و كبدها ، و الجنين يصرخ ، صرخات وراء صرخات حتى غرقت الدنيا في عباب من صراخ .
في البداية كانت تصرخ : آه .. ثم : أخ .. ثم : أي .. ثم : آخ .. ثم : وي . ثم صرخة قوية مزلزلة ابتلعت كل الصرخات و الأصوات المحيطة ، هي صرخة جريحة طويلة ممطوطة و مذيلة بآهة خشنة كمواء قطة كسر عمودها الفقري للتو ، أو كأن شفرة سيف تقطع أوصالها .. بينما الجندي يمصمص قطعة بوظة و يلعقها بهدوء و يلحس أطرافها على مهل ، عيناه تنظران إلى الناس و قلبه يرفرف طربا ويتراقص فرحا لصراخ المرأة الحامل .. هل يا ترى ستضع مولودا سعيدا أو شقيا ؟ لا ادري !.. لكني اعلم أن هنا أكباد تمزق وقلوب تتصدع وأجساد تقطر بالوجع .
ها هي ذي امرأة تترجل من سيارة أجرة مجاورة ، و تخرج منديلا لتضعه في فم المرأة الصارخة خشية قطعها لسانها بأسنانها التي تكز عليها بقوة ، و هي محاولتها الوحيدة للصمود في وجه جحافل الألم المندفعة من أحشاء أحشائها متدفقة كالسيل . هي محاولة لكتم الآهة بالأنّة .
الجندي ينظر مبتهجا واضعا سماعات رأس صغيرة على أذنيه و يهز رأسه طربا . و الموت يرصد المرأة و يرقبها .. يا الهي!! أسوأ أنواع الموت هو ذلك الذي يتقمص شكل الحياة ، وأسوأ أنواع الحياة هي تلك التي تأخذ شكل الجحيم .
ها هو ذا زوجها يدعو الله مبتهلا باكيا صارخا متضرعا : يا الله .. يا الله .. يا الله .. نجِّها يا الله .. باسمك و بكل أسمائك الحسنى ادعوك أن تلطف بها ، و بكل الأسماء الحسنى بالكون ادعوك يا رب الأرباب ورب الناس وربي .. اقلبها يا ربي طائرا ليطير من فوق الحاجز.. اقلبها طائرا يا رب العرش وربها .. أعدك يا الله نيابة عنها ألا تطير بعيدا إلى خيام الأنبياء أو شجرة المنتهى .. أعدك و إني لصادق ألا تنقنق شيئا من حبوب الأرض .. لا تأخذها و خذني نيابة عنها يا رب الحكمة والحكماء والحكام ، فوراءها صغار ككومة لحم يا الله .. نجِّها .. ألطف بها .. أو اجعلها تبيض كالطير يا رب الدنيا والآخرة .. سأذبح كل خراف الأرض قرابين إن استجبت .
الناس واقفة حائرة متأففة غاضبة عابسة صارخة كافرة مؤمنة باكية شاكية .. عيونهم ترنوا إلى الجندي الضاحك يشرب البيبسي كولا و يرتشفها على مهل و كأن الناس أمامه ليسوا سوى صراصير عششت قرب الحاجز و محتم عليه سحقها بعقب بسطاره أو بمبيد الحشرات ، و يطرب للصرخات و كأنها معزوفة موسيقية عذبة لبيتهوفن . شعرتُ كأنه يقول : كتب عليكم البؤس كما كتب على الذين من قبلكم .. لعلكم تموتون .
فجأة عم الهدوء ليغرق الدنيا .. أي هدوء ؟ ليس كمثله هدوء . هو هدوء الفناء و الموت الكاتم للصرخة و القاتل للآهة و الكاسر للأنة .. ماتت .. مات الجنين ، و لا حاجة لدفنه فقبره لحم أمه الميتة .. أخذ زوجها يصرخ بحرقة قلبه كالمهووس : ماتت الدنيا .. مات الكون . جاء الموت حضر الموت حل الموت نزل الموت عمّ الموت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت . من يقتل الجندي ؟ أم ليس على الجندي حرج ؟
[email protected]



#مجدي_السماك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ربع ساعة اخرى
- لعبة عروسة وعريس
- رؤية خريفية
- مملكة فنان ميت .. قصة
- بائع العلكة الصغير
- آهات وعرانيس ..قصة قصيرة
- آهات وعرانيس .. قصة قصيرة
- جهنم نحن وقودها
- الهوية الفلسطينية في الطريق الى الضياع


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي السماك - قبر من لحم