أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - داود تلحمي - في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد الآسيوي: هل تنجح الصين حيث فشل الاتحاد السوفييتي؟!















المزيد.....


في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد الآسيوي: هل تنجح الصين حيث فشل الاتحاد السوفييتي؟!


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 656 - 2003 / 11 / 18 - 06:59
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


كثير من الكلام قيل وكتب عن أسباب انهيار التجربة السوفييتية وتفكك الاتحاد السوفييتي الذي وقع قبل اثني عشر عاماً. وقبل ذلك، كتب الكثير الكثير عن المسيرة السوفييتية بجوانبها المختلفة، من قبل اصحابها وأنصارها في أنحاء العالم، كما من قبل أعدائها وخصومها ونقّادها.
فهل ما جرى في السنوات 1989-1991 من انهيارات هو سفر النهاية في المشروع الاشتراكي الكوني الذي جسّدته الثورة السوفييتية عام1917 وانجازاتها في العقود التالية، ثم اخفاقاتها وانكساراتها في السنوات الاخيرة من عمر الدولة السوفييتية؟ وهل ما تبقى من أنظمة متبنية للمبادىء التي رفعتها المسيرة السوفييتية قادرة على تحقيق نتائج أفضل من تلك التي انتهت اليها التجربة السوفييتية؟ وهل الصين، تحديداً، قادرة على تحقيق نجاح حيثما لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من تحقيقه؟
السؤال مهم، ونحن نرى النهضة الاقتصادية الصينية الكبرى منذ عقد ونيّف، وتنامي القوة والدور الاقليمي والدولي للصين، التي ما زال نظامها السياسي يرتكز، من حيث المبدأ، الى المرجعية النظرية والافكار التي ارتكزت عليها الثورة السوفييتية. ويبدو واضحاً في السلوك الصيني، أي سلوك قادة الصين المعاصرين، أنهم يحاولون تفادي تكرار الاخطاء او النماذج التي، برأيهم، قادت الى انهيار التجربة والاتحاد السوفييتي على حد سواء، خاصة على صعيد وحدة البلد ووضعه الاقتصادي.
في البداية، لا بد من التأكيد على أن روسيا القيصرية التي قامت الثورة السوفييتية على أنقاضها كانت بلداً متطوراً الى حد معين وغنياً نسبياً مقارنة بما كانت عليه الصين في أواخر أربعينيات القرن العشرين عندما انتصر الشيوعيون الصينيون بقيادة ماو تسي تونغ على نظام تشانغ كاي تشيك التابع، وفرضوا سلطتهم على هذا البلد الضخم والهام، الذي كان، ولا يزال حتى اشعار آخر، البلد الأكبر من حيث عدد السكان في العالم (1300 مليون نسمة تقريباً، أي زهاء خمس سكان العالم حالياً). فالصين كانت في اوائل القرن العشرين بلداً منتهكاً من قبل العديد من الدول الاستعمارية التي كانت تحتل مناطق منه، وآخرها اليابان الذي احتل شمال الصين(مانشوريا) في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. كما كانت الصين بلداً من العالم الثالث، ضعيف التطور الصناعي والاقتصادي قليل الكوادر والطاقات العلمية والتكنولوجية، يعتمد الغالب من سكانه في ايراداتهم على الزراعة، كما هو حال معظم دول العالم الثالث.
وهناك، بالطبع، فوارق ثقافية وحضارية وتاريخية غير قليلة بين روسيا مطلع القرن العشرين وصين أواسطه، عكست نفسها في الكثير من صيغ تطبيق المبادىء التي يفترض انها مشتركة (الماركسية- اللينينية)، وساهمت الى حد معين (مع عوامل أخرى، ليس هنا المجال لذكرها) في انفجار الخلاف بين النظامين في البلدين في أواسط خمسينيات القرن الماضي. دون أن ننسى، طبعاً، أن الصين بلد عريق وصاحب حضارة قديمة وبالغة الغنى، وهي احدى الحضارات الكبرى الأقدم في التاريخ البشري، مع حضارتي مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين (العراق).
لكن، رغم التطور الهائل في وضع ومكانة روسيا ما بعد الثورة (الاتحاد السوفييتي) وفي قدراتها الاقتصادية والعلمية والعسكرية ودورها العالمي ما بين العام 1917 وسبعينيات أو ثمانينيات القرن العشرين، اتسمت التجربة السوفييتية باشكاليات واحتقانات، لم تكن واضحة دائماً على السطح، ولكنها انتهت الى انهيار التجربة وتفكك الاتحاد السوفييتي (وهذا، بالطبع، موضوع هام آخر، ولكننا لن نتطرق الى حيثياته بشكل واسع في هذه العجالة). وشهدت فترة ما بعد الانهيار في روسيا وغالبية الجمهوريات السوفييتية السابقة الأخرى درجة عالية من الفوضى الاقتصادية وتنامي نظام رأسمالي عشوائي ومتوحش ترافق مع صعود وتكاثر ما عرف لاحقاً باسم المافيات، أي العصابات الاجرامية، التي ورثت جزء لا بأس به من ممتلكات وثروات البلد وساهمت في تبديدها وتهريب جزء هام منها الى خارج البلاد، وبالتالي في المزيد من تراجع وخراب اقتصاديات روسيا ومعظم البلدان التي شاركتها عضوية الاتحاد السوفييتي. وقد جسّدت مرحلة بوريس يلتسين، الرئيس الروسي الأول بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، هذه الفوضى وهذا الخراب الواسع، اللذين ترافقا مع اختراقات اقتصادية وسياسية واسعة من قبل الدول الغربية النافذة، وخاصة وفي المقدمة الولايات المتحدة، الخصم السابق للعملاق السوفييتي.
أما الصين، التي كان عليها أن تبدأ ببناء اقتصاد ذي شأن من بلد متخلف وضعيف البنى الأساسية ومنهك بالحروبات والاحتلالات والانتهاكات المتعددة لسيادته ولثرواته، فقد شهدت صراعاً داخلياً في حزبها الحاكم الجديد، الحزب الشيوعي، وفي وقت مبكر، بين التيار اليساري الراديكالي الذي كان يجسّده الزعيم المؤسس ماو تسي تونغ والتيار البراغماتي الذي كان يعطي الاولوية لتطوير اقتصاد البلد بكل السبل، وكان على رأسه الامين العام الأسبق للحزب وزعيم الصين اللاحق، دينغ هسياو بينغ. واذا كانت الثورة الثقافية في الستينيات آخر محاولة من قبل التيار الراديكالي لاستعادة هيمنته وسيطرة نهجه، فان عواقب هذه الثورة الثقافية على صعيد الوضع الداخلي، وخاصة الاقتصادي، قادت الى بداية انحسار نفوذ التيار الأول وتنامي نفوذ التيار البراغماتي. وليس واضحاً، حتى الآن، اذا ما كان الانفتاح الصيني على الولايات المتحدة في مطلع سبعينيات القرن العشرين، الذي توّج بزيارة الرئيس الاميركي الأسبق ريتشارد نيكسون للصين عام 1972 ولقائه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، هو نتيجة التوازنات الجديدة داخل الحزب الحاكم أم خيار مشترك للتيارين فيه، حيث كان يجمعهما عداء مستحكم للقيادة السوفييتية وصل في النهاية الى حد تفضيل العلاقة مع واشنطن على العلاقة مع موسكو، وهو خيار أربك كثيراً أنصار التجربة الصينية، آنذاك، في العالم، الذين كانوا لا يزالون يعيشون سنوات التضامن مع النضال التحرري في فييتنام، وبلدان أخرى، ضد الاجتياحات ومحاولات الهيمنة الاميركية.
***
ويمكن القول أن رحيل الزعيم الصيني التاريخي ماو تسي تونغ في العام 1976، والسيطرة اللاحقة لدينغ هسياو بينغ وأنصاره على السلطة والحزب في الصين قد وحّدا، الى حد معين، وأزالا التناقض المرئي بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، خاصة بشأن العلاقة مع الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
ومنذ العام 1978، بدأت الصين بتخفيف مركزية السلطة على الصعيد الاقتصادي والتخفيف من أعباء القطاع العام على مالية الدولة المركزية. وتنامى هذا الاتجاه بشكل متدرج في السنوات اللاحقة، التي شهدت ازدياداً في الاستثمارات الخارجية وتنمية حصة القطاع الخاص والمشاريع المشتركة مع المؤسسات الاجنبية. وهذا المنحى تنامى ولم يتراجع، كما بدا لوهلة، بعد الضربة التي وجهت في حزيران/يونيو 1989 من قبل السلطة الصينية للتظاهرات الداعية الى تغيير النظام السياسي باتجاه أكثر ليبرالية، وهي الضربة التي أعادت قبضة الدولة القوية على البلد وكرّست دعوة دينغ الشهيرة الى السكان بتكريس الجهود للاغتناء الشخصي. أي ان الاقتصاد اتجه الى مزيد من الانفتاح على القطاع الخاص والاستثمارات الاجنبية وعلى أشكال التنمية الرأسمالية، بينما السياسة اتجهت نحو الحفاظ على سيطرة الحزب الحاكم على السلطة. ويلتقي هذان العاملان عند تطلع القادة الصينيين وقطاع واسع من الرأسمالية الجديدة في البلد، ومن الرأسماليين الصينيي الأصل المقيمين خارج البلد، الى تنمية دور الصين ووزنها العالمي من بوابة الاقتصاد قبل بوابة القوة العسكرية والاشعاع الايديولوجي والسياسي الخارجي، وهو ما اعتبره البعض استخلاصاً لأحد دروس فشل التجربة السوفييتية. وهذا ما يفسّر السياسة الصينية الجديدة الحذرة على الصعيد الخارجي، بعد أن كانت الصين في عهد ماو تسي تونغ (في خمسينيات وستينيات القرن الماضي خاصة) بالغة النشاط على الصعيد العالمي وداعمة بقوة لحركات التحرر في العالم، بما فيها الثورة الفلسطينية، التي كانت الصين أول من ناصرها من البلدان غير العربية في العالم ومن دعا رئيس منظمة التحرير، آنذاك، أحمد الشقيري، الى زيارة الصين، مقدمة له كل أشكال الدعم المادي والسياسي، وهو الدعم الذي استمر بعد ذلك بعد أن سيطرت الفصائل المسلحة على منظمة التحرير الفلسطينية في أواخر ستينيات القرن العشرين.
***
ويكاد ينحصر الاهتمام الخارجي للصين في اطار سياستها الجديدة في محيطها المباشر، أي شرقي آسيا، بدء بالعمل الدؤوب والحثيث على استعادة المناطق التي كانت جزء من الصين في الماضي، مثل هونغ كونغ وماكاو، اللذين عادا الى الصين في أواخر القرن الماضي، ومن ثمّ تايوان، التي كان قد أقيم عليها بعد انتصار الحزب الشيوعي في العام 1949 نظام ما سمي بالصين الوطنية، بقيادة تشانغ كاي تشيك المهزوم، وهو النظام الذي بقي طوال أكثر من عشرين عاماً يدّعي تمثيل الصين ويحتل مقعدها في منظمة الامم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، بدعم من الولايات المتحدة... الى أن تخلت واشنطن في السبعينيات، وفي تجاوب مع الانفتاح الصيني على الولايات المتحدة، عن هذه الصيغة الهزيلة، واعترفت بجمهورية الصين الشعبية، التي تسلمت تمثيل الصين في الامم المتحدة. ولكنها، أي واشنطن، ورغم اهتمامها بتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العملاق الصيني وسوقه الضخمة، أبقت على دعمها الاقتصادي والعسكري لتايوان، وما زالت تسعى حتى الآن لدعمها في مواجهة مطالبات قادة الصين المتكررة بعودة هذه الجزيرة الى الوطن الأم.
انجازات كبيرة على جبهة التنمية الاقتصادية
أما الانجازات الصينية على الصعيد الاقتصادي، خلال العقدين الماضيين، فهي اليوم ماثلة للعيان في أنحاء العالم. فلا يخلو بلد في العالم من الصناعات الصينية، التي تزداد تنوعاً وتطوراً. وحتى الولايات المتحدة، التي كانت تشكو قبل سنوات قليلة من الفائض التجاري المتفاقم في علاقتها مع اليابان، لصالح اليابان طبعاً، أخذت الآن تغلّب الشكوى بشأن الفائض الصيني معها. ففي الفترة ما بين 1/7/2002 و 30/6/2003، أي خلال عام، بلغ الفائض التجاري بين الولايات المتحدة والصين، لصالح الصين طبعاً، 116 مليار دولار. والصادرات الصينية للولايات المتحدة، وغيرها من بلدان العالم، لم تعد تقتصر على الملابس والأحذية وألعاب الاطفال، بل هي تشمل اليوم مجالات صناعية واسعة، بما في ذلك الصناعات عالية التقنية، مثل الحاسوب وملحقاته ( الصين تنتج حالياً 37 بالمئة من الاقراص الصلبة للحاسوب من مجمل الانتاج العالمي!). وقد استفادت الصين، بالتأكيد، من استعادة هونغ كونغ، التي كانت تعتبر قبل هذه العودة واحداً من "النمور الآسيوية" الشهيرة في الثلث الأخير من القرن المنصرم. لكن الاستفادة الصينية اليوم تذهب أبعد من ذلك من خلال تطوير قنوات الحصول على التقنيات الأكثر تقدماً، الى حد أن بعض المحللين في اذاعة "بي بي سي" البريطانية اعتبر أن الصين ليست متخلفة عن الولايات المتحدة في مجال السيطرة على أساليب استخدام التكنولوجيا المتطورة بأكثر من 5-10 سنوات، وهو ما يعتبر انجازاً هائلاً لبلد كان قبل نصف قرن في حالة كئيبة من التخلف والفقر والبؤس. ونستحضر هنا دخول الصين مؤخراً النادي المحصور للدول التي ترسل أقماراً صناعية مأهولة الى الفضاء، وهو النادي الذي يضم الى جانبها الولايات المتحدة وروسيا فقط.
ويمكن اعطاء الكثير من الارقام والمعلومات عن التطور الصيني الاقتصادي المذهل. فمعدل النمو الاقتصادي الاجمالي السنوي (بين1/10/2002 و30/9/2003) بلغ زهاء التسعة بالمئة، وهو معدل مرتفع جداً. وفي بعض السنوات الماضية، وصل هذا المعدل الى 13 بالمئة. وقطاع الانتاج الصناعي تطور أسرع من ذلك، حيث تجاوز معدل نمو الانتاج الصناعي في الآونة الأخيرة ال16 بالمئة ( وشملت الصناعات شتى المجالات، وخاصة صناعة المعادن، والحاسوب، والسيارات، والآلات).
وليس مستغرباً، بهذه الوتيرة من النمو، أن تتجاوز الصين في العام 2002 بريطانيا وتصبح المنتج الصناعي الرابع في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان والمانيا، والدولة المصدّرة الخامسة في العالم. ويتوقع بعض المحللين الاقتصاديين أن يتجاوز الانتاج الاجمالي للصين انتاج الولايات المتحدة في أواسط القرن الحالي. هذا اذا بقيت الامور في البلدين وفي العالم تسير بالاتجاه المعهود حالياً ولم تحدث تطورات غير متوقعة وغير مرئية حالياً.
***
ونعود الى سؤالنا الرئيس: هل تنجح الصين في تجربتها بعد أن فشلت التجربة السوفييتية؟
والجواب ليس سهلاً بالطبع. فاذا كان المقصود تنمية البلد وتطوره الاقتصادي والتكنولوجي، وبالرغم من الفوارق الكبيرة في نقطة الانطلاق بين البلدين، الصين وروسيا، في بدايات البناء ما بعد الانتصار والسيطرة على السلطة، يمكن اعتبار ما تشهده الصين انجازاً كبيراً، بالرغم من الجوانب السلبية المستجدة الناجمة عن نمط التنمية، مثل البطالة والتفاوت في المداخيل، الخ... هذا، دون أن نغفل أن الاتحاد السوفييتي شهد انجازات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية هائلة ما بين عشرينيات القرن الماضي وسبعينياته (هو، مثلاً، سبق الولايات المتحدة في بدايات غزو الفضاء، فكان أول بلد يرسل رائداً يدور حول الأرض، هو يوري غاغارين).
لكن الاقتصاد السوفييتي وصل الى حالة من التأزم والركود وتباطؤ التنمية في ظل نظام اقتصادي قائم على ملكية الدولة لكل وسائل الانتاج ولكل ثروات البلد، وآليات قرار اقتصادي شديدة المركزية، وفي ظروف تحديات دولية و"حرب باردة" تسخن على هذه الجبهة أو تلك بين حين وآخر ، خاصة مع الولايات المتحدة، التي أخذت على عاتقها محاصرة التجربة السوفييتية واعاقة نجاحها (وقد حققت، على الأقل حتى الآن، أكثر مما توقعت في هذا المجال).
أما الوضع الحالي في الصين، فهو مختلف كثيراً من عدة جوانب. فالنظام الاقتصادي الحالي في الصين يشمل مزيجاً من القطاع العام والقطاع الخاص والمشاريع المختلطة، بما في ذلك مع رأس المال الخارجي. وهو اقتصاد يمكن، بشكل ما، أن يعتبر امتداداً على نطاق أوسع لتجربة روسيا السوفييتية في عشرينيات القرن العشرين، والتي أطلقها لينين، مؤسس الدولة السوفييتية، في العام 1921 وعرفت باسم "نيب"، وهي الأحرف الاولى بالروسية لتعبير "السياسة الاقتصادية الجديدة". وهذه السياسة، التي أطلقت العنان للقطاع الخاص، خاصة في المجال الزراعي، لاخراج روسيا المستنزفة بالحروب والمجاعات من وضعها المأساوي بعد الحروب العديدة التي خيضت ضد ثورتها الوليدة، استمرت سنوات قليلة،الى أن قام خليفة لينين، يوسف ستالين، بوقفها في العام 1928 والعودة الى ملكية الدولة للاراضي ولكل وسائل الانتاج. واذا قسنا الامور بمعايير تلك الحقبة من تاريخ البشرية، يمكن اعتبار عدم شمول الازمة الاقتصادية العالمية الطاحنة في الاعوام 1929- 1933 للاتحاد السوفييتي انجازاً كبيراً، وهو اعتبر كذلك في ذلك الحين. ولكن التطورات اللاحقة في البنى الاقتصادية والسياسية في الاتحاد السوفييتي، ورغم الانجازات الصناعية والعلمية والعسكرية الهائلة، خاصة في الانتصار الكبير على القوات الالمانية النازية في الحرب العالمية الأخيرة وفي ارتياد الفضاء ومجالات علمية عديدة أخرى، لم تمنع الانهيار المريع الذي حصل في العقد الأخير من القرن العشرين، والذي لسنا بصدد الاستفاضة في الحديث عن أسبابه وحيثياته في اطار موضوعنا هذا.
***
يبقى أن ما حدث في روسيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق بعد العام 1991 يعد، بكل المعايير، اخفاقاً مدوياً في العودة "السلسة" نسبياً للنظام الرأسمالي. حيث تراجع الناتج الاجمالي لروسيا وغيرها من الجمهوريات بشكل مريع، وترافق ذلك التراجع مع تفاقم الاوضاع المعيشية لملايين البشر الذين دفعوا ثمن هذا التحول الفوضوي المتوحش، مقابل اثراء مريع لحفنة من الرأسماليين الجدد، الأقرب غالباً في سلوكياتهم الى زعماء المافيا. ومن هذه الزاوية، تنظر القيادة السوفييتية الحالية (فلاديمير بوتين) باهتمام الى التجربة التنموية الصينية مع ادراك الفروقات في أوضاع البلدين، خاصة على الصعيد السياسي. فالصين لا زالت متمسكة، من حيث المبدأ، بوحدانية الحزب الحاكم، في حين تسعى القيادة الروسية الى التعامل مع واقع التعددية السياسية الحالي في روسيا للوصول الى صيغة عملية من الحكم القوي، الذي يسمح بتحقيق انطلاقة اقتصادية لا تعطلها سلوكيات المافيات ومراكز القوى المختلفة، غير العابئة بمصير البلد وثرواته ومواطنيه.
واذا كانت روسيا قد تخلت، حتى اشعار آخر، عن مشروع التحول الاشتراكي الذي كان عنوان المرحلة السوفييتية، فان الصين لا زالت، رسمياً، متمسكة به، وان هي تعمل الآن بشكل خاص على تنمية اقتصاد البلد، حتى بالاستعانة بالاساليب والطرائق الرأسمالية. وهنا يمكن القول أن مآل التجربة السوفييتية دفع بعض المفكرين الاشتراكيين في العالم الى اعادة الاعتبار للمقولات التي تعتبر النظام أو المرحلة الاشتراكية مرحلة أعلى، بكل المعايير، من المرحلة الرأسمالية، أي انها تفترض توفر درجة متطورة من النمو الرأسمالي، علاوة على تطور وتقدم البنية السياسية الفوقية بالضرورة. لكن، من الواضح أن هذه التنمية الاقتصادية والسياسية يمكن أن تجري في ظل أشكال متنوعة من النظم والمسارات الانتقالية، تختلف من بلد الى آخر.
ولا ننسى أن التراكم الرأسمالي الاولي في البلدان الرأسمالية الرئيسة في العالم جرى في ظل أنظمة استبدادية أو قهرية، بما في ذلك في الولايات المتحدة، التي استجلبت ملايين المواطنين من القارة الافريقية وأخضعتهم لنظام عبودي قاهر وظالم، وأرغمتهم على العمل المسخّر في تطوير الاقتصاد الزراعي والصناعي الاميركي، وهو نظام (أي العبودية) استمر مشرّعاً حتى ستينيات القرن التاسع عشر، حين أعلن الرئيس ابراهام لنكولن عن الغائه رسمياً، دون أن تزول، مع ذلك، ذيول هذا النظام، التي استمرت، على الأقل، قرناً آخر من التمييز العنصري المعلن والممارس.
وعودة أخرى الى السؤال المركزي: هل تنجح التجربة الصينية؟ والجواب، كما ذكرنا، مركّب. فالنجاح، هنا، يمكن أن يكون نجاحاً لمشروع نهضوي قومي، تحقق من خلاله الصين، ليس فقط تجاوزاً لحالة التخلف والتبعية والضعف، وانما صعوداً قوياً على المسرح العالمي كقوة رئيسة يحسب لها حساب. وهو احتمال وارد تماماً، اذا لم تحصل تطورات غير متوقعة، يبدو أن القيادات الصينية تتحسب لها، وتعمل لذلك بحذر شديد مع القوى النافذة في العالم، وخاصة مع القوة الاميركية. ولا ننسى أن الادارة الاميركية الحالية، ادارة جورج بوش الابن وحزبه الجمهوري، بدأت عهدها في مطلع العام 2001 بسياسة عدائية تجاه الصين، قبل أن تفرض عليها هجمات 11/9/2001 اولويات أخرى. ولكن هذه الاولويات المستجدة، محاربة "الارهاب" والسيطرة على افغانستان والعراق، لا تلغي وجود سياسة كونية للادارات الاميركية يبدو انها تبلورت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي سياسة استباق تنامي أية قوة أو قوى يمكن أن تنافس الولايات المتحدة في المستقبل في مشروعها للهيمنة والتفوق والتفرد بالقوة الكبرى في العالم.
ومن هذه الزاوية، لا بد من التنبه ليس فقط الى كون افغانستان دولة لها حدود، مع الصين، وكون العراق دولة خليجية نفطية مهمة، في مرحلة التوجه الصيني المتزايد لاستيراد النفط الخليجي لتلبية احتياجات التنمية المتصاعدة للصناعات الصينية التي لم تعد موارد الصين النفطية كافية لتلبيتها، بل لا بد من متابعة خارطة القواعد الاميركية العسكرية الجديدة في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق الآسيوية القريبة من الصين ومساعي تطوير العلاقات الاميركية مع حكام هذه البلدان، وكذلك الوجود العسكري المتزايد في المحيطات وكل الجوار الصيني. ويلاحظ أيضاً الانزعاج الاميركي من أي تقارب واسع بين روسيا والصين يتجاوز حدوداً معينة ليشكل مسروع محور مستقبلي استراتيجي، على غرار المحور الذي تسعى فرنسا لبنائه حولها، مع المانيا ودول اوروبية أخرى اذا أمكن، بحيث يمكن أن يدق كل محور منهما، في حال قيامه، مسماراً اضافياً في نعش التفرد القطبي الاميركي في ادارة شؤون العالم.
***
لكن، كما سبق وذكرنا، ليست الصين حالياً بوارد تحدي الولايات المتحدة على المستوى الكوني في أي وقت قريب، حفاظاً على مشروعها التطويري لاقتصاد البلد والمكاسب التي يحققها هذا المشروع من خلال استمرار تدفق الاستثمارات والتقنيات الاميركية وغير الاميركية، وغير ذلك من الفوائد، التي جعلت الصين تعمل جاهدة للانضمام الى منظمة التجارة العالمية، في وقت كانت فيه بعض بلدان العالم الثالث تشكو من سياسات هذه المنظمة واشتراطاتها وقيودها، التي ساهمت في تأزم أوضاع العديد من هذه البلدان، من جنوب شرق آسيا الى اميركا اللاتينية.
يبقى أن عملية التطوير الاقتصادي ستتواصل لفترة غير قصيرة كأولوية ملحة بالنسبة للقيادة الصينية. ومع النمو الاقتصادي، سينمو بالضرورة دور الصين العالمي، وان فضّلت هي الانكفاء النسبي المؤقت في لعب دور سياسي بارز خارج محيطها المباشر، حتى اشعار آخر.
والانجازات على هذا الصعيد مرئية تماماً. لكن المشروع الايديولوجي، التوجه الاشتراكي، ليس مطروحاً الآن كمشروع قريب الأمد، الى أن تتوفر شروط وجود الدولة المتطورة اقتصادياً، مع ان الحزب الحاكم لا زال، من حيث المبدأ، متمسكاً بهذا التوجه.
أما بالنسبة للمشروع الاشتراكي المستقبلي في العالم، فهو الآن مرتبط بتطورات المجتمعات البشرية وتجاربها الجديدة مع النظام الرأسمالي المتطور في مرحلة العولمة. وتكون دروس التجارب الانتقالية أو محاولات البناء الاشتراكي، سواء منها التي انهارت أو التي لا زالت على جدول الأعمال المبدئي، أحد المراجع التقييمية للخروج بنموذج أكثر تطوراً وتفوقاً ونضجاً للمشروع الاشتراكي، الذي سيبقى على جدول أعمال البشرية طالما بقي في هذا العالم ظلم واستغلال وطالما بقي الانسان يطمح الى ما هو أكثر عدلاً وانصافاً واحتراماً لكرامة الانسان واحتياجاته المادية والمعنوية المتطورة مع التطور الانساني المستمر في شتى المجالات.
***
* ثورة اكتوبر الروسية وقعت يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر في التأريخ المتعارف عليه عالمياً، وهو التأريخ الميلادي الغربي. ولكن روسيا القيصرية كانت تستخدم التأريخ الميلادي الشرقي (الارثوذوكسي) في ذلك الحين، بحيث وقعت الثورة يوم 25 تشرين الأول/ اكتوبر بهذا التأريخ، ولذلك عرفت باسم ثورة اكتوبر. وبعد الثورة، ألغت القيادة الجديدة التأريخ القديم وتعاملت مع التأريخ المتداول عالمياً، لكن الكنيسة الارثوذوكسية في روسيا وغيرها من بلدان العالم استمرت في مناسباتها الدينية في استخدام تأريخها الخاص.

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين- رام الله



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- روسيا توقع مع نيكاراغوا على إعلان حول التصدي للعقوبات غير ال ...
- وزير الزراعة اللبناني: أضرار الزراعة في الجنوب كبيرة ولكن أض ...
- الفيضانات تتسبب بدمار كبير في منطقة كورغان الروسية
- -ذعر- أممي بعد تقارير عن مقابر جماعية في مستشفيين بغزة
- -عندما تخسر كرامتك كيف يمكنك العيش؟-... سوريون في لبنان تضيق ...
- قمة الهلال-العين.. هل ينجح النادي السعودي في تعويض هزيمة الذ ...
- تحركات في مصر بعد زيادة السكان بشكل غير مسبوق خلال 70 يوما
- أردوغان: نتنياهو -هتلر العصر- وشركاؤه في الجريمة وحلفاء إسرا ...
- شويغو: قواتنا تمسك زمام المبادرة على كل المحاور وخسائر العدو ...
- وزير الخارجية الأوكراني يؤكد توقف الخدمات القنصلية بالخارج ل ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - داود تلحمي - في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد الآسيوي: هل تنجح الصين حيث فشل الاتحاد السوفييتي؟!