أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر7















المزيد.....

الرحيل إلى المجهول تدمر7


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2116 - 2007 / 12 / 1 - 11:19
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


زمننا قاس ٍ.. متعبٍ ومضجر.
بقيت في مكاني فترة طويلة, منتظراً أن يفرغوا من جلد رفاقي وأخوتي، مستظلاً بالصمت المقيد والساخر, ساخراً من روحي المتيقظة.. المتملمة.. المغلوب على أمرها. اختلس النظرلما يجول حولي من شعور غامض. شعور مغلف بالتوترالمقلق الذي يداهمي بين البرهة والآخرى. البرد والخوف والإحساس بالتشظي الموقد يزرع أنفاسه عند مخدة روحي, منتظراً سنونوات الوقت أن تمر بسرعة.
الهواء المغموس بعجينة الشتاء يرمي بزاده في جوفي. مفاصلي تنمل, تتخدر رويداً رويدا وأنا أعيش في هموم الصمت والعزلة والغربة والمكان العاري.
أخذ خدرالألم الممهور بالوجع يجري من الأسفل الى الأعلى. يبدأ من القدمين الثابتتين, يجري الهوينة.. الهوينة الى الساقين, يرتفع ويمتد إلى الركبة فالفخذ ثم إلى أن يتجمد في المفاصل. يأخذ الدم فسحته, درزته البطيئة في التخثر, يسيرفي حركة جريانية ثقيلة عبرالأوعية الدموية المتقدة.
تمايلت قليلا,ً ثم حاولت مرة أخرى أن أقف على قدمي. استندت على شاطئ الجدار المائل بكل قواي, فارشاً راحة يدي عليه. رحت أحرك قدمي ببطء شديد من أجل تمرير الدم ونقل كميات الألم إلى مطارح أخرى من الجسد والبحث عن أماكن أخرى لتبديده.
كنا بين أيدي الجلاد, كالشموع النازفة, شموع تودع دمها السائح فوق أفق المحطات المتنقلة. شموع ذابلة ترسم لون نزيفها على المراكب المهجورة والبعيدة.
عيوني وعيون رفاقي لم ترالنوم في هذه الأماسي المأسورة. الأجفان متيقظة.. متوثبة ونشطة بفعل الانشطارات الليلية الطويلة والانفعالات الموجعة. كنا في حالة تحفزلما تخبئه قريحة النهارمن ابتهالات موسمية جديدة معبأة في لفائف مغروزة في عب الجلاد.
قال الشرطي سليل اللصوص وقطاع الطرق بلهجة قاسية وأمرة:
ـ قف مكانك يا حشرة!
وقف الجميع بذبول أخرس, موزعي النظرات الذابلة كالهياكل المهجورة.
كانوا قد أنتهوا من جلدنا للتو.
حملوا أمتعتهم وأدوات عملهم: الكوابل المغمسة بالدم.. الدولاب.. القارس والمرسة وبقية لوازم التعذيب.
كانت الرياح تعصف في الخلاء, تطلق عواءً أصفراللون, يحوزعلى المطلق, شكله سديمي المرمى, في أحشائه صفيراً حاداً, قادماً من السماء النائمة فوق حضن الليل, يدخل بأزدراء إلى داخل الإلغازالكبيرة.
عاد الصوت القذريتكلم بلهجته القديمة:
ـ أدخلوا إلى المهجع بسرعة يا قردة.
تمايلنا يميناً وشمالاً, سرنا بأتجأه المهجع, ننثرالرمال والحصى برؤوس أصابعنا, ندوس عليهم متجاوزين حرارة البرد.. نسير تحت ثقل وطاة الخوف الذي يشدنا إلى طريق الرحيل. ما أن دخلنا حتى أعاد الكرة مرة أخرى:
ـ عصب عينيك جيداً يا أبن الشرمو.. شتائم.. وشتائم. ثم قال:
ـ لاتتحرك من مكانك.
رحنا نعصب أعيننا بالأقمشة المتوفرة لدينا, نجهزأجسادنا لتنهش بأسنانهم الملوثة والحادة. راح الشرطي يجعربصوت عالي مرة أخرى:
ـ أسرع من هيك يا أبن المنيو.. شتائم بالجملة والمفرق. ثم ردد:
ـ أحمل ثيابك وفراشك على ظهرك وتقدم إلى الأمام.. إلى عندي. أسرع من هيك يا أبن المنيو.. أسرع من البرق يا أبن الشرمو.. شتائم بكل الألفاظ.
حملنا أمتعتنا.. الثياب المرمية على الأرض, الأحذية واللحف والبطانيات والعوازل على ظهورنا. كان الوقت صباحاً منهمراً على الدنيا كندف الثلج, يجروراءه سمت الشرق إلى أعالي السماء, ليحطها في الغرب, من أجل دحرجة الزمن الى الفلك الأخر.
وكانت الشمس أكثر وحشة وخيبة.
خيمت الأحمال الثقيلة على ظهورنا المائلة, تنخرضفافنا المترققة, لتصبح أكثر كمداً وهماً وأسى. تقافزنا بسرعة, بأتجاه الصوت السلطوي النافر, ووقفنا حيث توقف الصوت. طوقتنا الشرطة من كل الأتجاهات لدرجة أنهم حجبوا لون الضياء والضوء عن ضياء المكان.
الجسد الأعزل الممتهن, يعوم تحت فك المكان الخانق, كالفريسة الضعيفة بين براثن الطيورالجارحة. طيور قبيحة تنام على تخوم بيادر الدخان. قالها أبن سليل الطرائد:
ـ ضع يدك في مؤخرة بنطال الذي أمامك.
صارشهركانون شهر الوجع, مدمساً بالخطايا.. ضجراً من هذه التقاويم الليلية الطويلة, حزيناً على ألوانه ودموعه ووجهه الذي فقد بريقه الأسر. يبحث معي عن غشاوات ضيائه الخافتة. ينشج ويعصف هولاً, يند عن شفتيه الممتقعتين تأوهات حارة وزفرات حادة, ثم ينزوي في ركن بارد.
صارات أحمالنا مضاعفة.. أمتعة وعوازل ولحف وثياب مبعثرة وبطانيات مهترئة في يد وفي اليد الآخرى نمسك بنطال الذي أمامنا.
بدأت الدموع اليائسة لكانون تجف على وجهي وقامتي, تتفجر من عيني كشلال نظرات سارحة, رؤى حزينة, غارقة في الهمس الحزين.
كنت ألهث مثل رفاقي من التعب والخوف والألم والأنتظار. كدت أختنق من أنعدام الصوت في داخلي. عاد الصوت الخشن يخرش أذني ومسمعي:
ـ رأسك في الأرض. أبقيه في الأسفل.. لا ترفعه على الأطلاق يا أبن الشرمو..
ـ لا تلهثوا.. لا تتململوا ولا تصدروا أي صوت.. أنتم أموات!
كنا فرائس تائهة لا تعرف إلى أي مسلك وعر ستتجه, وإلى أي سخرية مرة سنسير, وماذا سينبثق وينبهق من بين عقولهم الملوثة بالنتانة.
النارالخامدة في داخلي دفعتني إلى السير تحت ثقل أوامرهم القاسية.
كنت أخنق التمرد في داخلي, أخمده حتى لا يتكلم, مسكت صوتي بيدي, خنقته.. خنقت غضبي ويأسي حتى لا ينطق بكلمة أوحرف. كنت متأكداً.. بل كنت أعرف إنهم سيعذبونني ثم يقتلوني ببطئ شديد. لم أتكلم ولم أعترض لخوفي على نفسي وعلى الذين معي.
آه.. يا ليتني تكلمت أو صرخت أو لعنت, لكانت روحي أكثررفرفة, أكثر حرية, لكنت أكثرالتحاماً بنفسي وقدري. لكني لم أفعل ذلك, كنت ضعيفاً. إنها غلطة عمري. كان يجب أن أفعل ذلك, كان يجب أن أفعل ذلك من أجل أن أبقى أنساناً. حتى أكون كما يجب أن أكون وأرغب وأريد. لكنها أرادة الحياة وقسوتها.. أنها أرادة الحياة وجمالها وسطوتها علينا.
كنا عراة وحفاة وأحمالانا على ظهورنا, ننتظرأوامرالسلطان والسلطة المأكسدة والمتأكلة. روؤسنا منكسة, وظهورنا منحنية, وأقدامنا تنزف من الجراح المفتوحة من عدة جوانب. بينما البرد يلسعها ويتناغم مع المسالك الوعرة المتدحرجة عبرالأفق السكران. قالها صوت نكرة أبن نكرة من مكان ما:
ـ أمشي يا ديوس أبن الديوس.
ترافق هذا الصوت النحس مع الضرب المبرح. لقد تناول هذا الضرب, كل مطارح الجسد العاري من الأسفل إلى الأعلى, مروراً بالمؤخرة, من الجانبين، الرأس والوجه والأكتاف. أصوات كثيرة تختلط وتتداخل ببعضها عندما ينهال الكبل, كالشتائم والكروالفرواللعن والسب والتعامل معنا كأننا نحس منجوس.
حوامات من التيه تنتشروتلوح في حقول الأنهاك والتعب، تزداد لزوجة الجلد تحت الأقدام المقروصة من جراء البرد اللعين.
السيقان ترتجف من الأحمال الثقيلة، الجسد يتقزم ويتداخل مع بعضه وفي بعضه، وينكمش على نفسه مع كل ضربة، ثم يتمدد الألم ويفرش قدرته ونفسه على بقية الأمكنة. تعود الأذن تصيخ السمع لأنتظار الضربات القادمة.
تحت العصابة السوداء، حريق يلفح الجسد، من الأنهاك والتعب، يلهب التلافيف، وسط صمت طويل إلا صوت اللهاث والأنفاس المخنوقة والمكسورة، تعلو بسرعة وتهبط. ننحني تحت سطوة السلطان المقدس، المنتصب، المربوط كوتد متأرحج علواً ونزولاً. يأمرفتطاع جميع الأجساد الواقفة. يصرخ بعالي الصوت، يشتم مع ضحك رخيص ومجاني.
الأقدام العارية تنهب الارض نهباً، تدب عليها مع الأحمال الأضافية، على البحص والرمال المذببة، تتمزق ويتفصد منها الدم ويسيل بأنسياب مرن.
ـ أمشي يا أبن الشرمو.. لا تتثاقل في الحركة، لست في رحلة سياحية أو أستجمام.. لست في حضن أمك. تابع رحلة أنكسارك وهزيمتك. بينما ينهال الكبل على الظهر، يرتفع الصوت من مكان أخر، من شرطي مجاور:
ـ سنخرب الصوت الكامن في حلوقكم، لتجفوا وتموتوا وسط صمت أنينكم، الذي سيتمزق في حناجركم. وأضاف في لهجة حيادية مصطنعة:
ـ ستحرمون من الهواء والضوء، ستتحسرون لسماع صوت حفيف الأشجارأونغنغة طفل، هديرالبحرأو رائحة أمرأة عابرة. لن تسألوا أوتستفسروا بعد اليوم لأن الصوت الداخلي فيكم يكون قد مات تماماً. صوت شرطي أخريلعن بثقة وثبات:
ـ أمطرهم بالبصاق، أجثم على صدروهم.
القافلة الموجوعة تقترب من الممرالأكثرظلاماً. أصوات كثيرة تتعالى، تشتم بكل اللغات والألسن:
أرفع رجلك يا أبن الشرمو.. إلى الأعلى يا القحبة.. هش.. هش يا حمار. ثم يتابعون:
ـ أمشي يا أبن الزانية. جه.. جه. أرفقت بصوت واضح:
ـ قف عندك يا كديش.
مع كل خطوة على الرمال المذببة يصدح الألم في رأسي ويثورويطلق العنان لحواسي بالأستغاثة. روابي اللحم تطقطق تحتي وهي تمط الخطا السريعة عبر مصادمات مهتوكة مع الحركة والثقل والوزن الزائد.
لم أكن امتلك مصيري, لهذا كنت أرمي قدمي على غير هدى, أسيرعلى جراحي النازفة. تكبرمساحة اللحم المهروس وتكوى من صفيح النار الحامية القادمة من تلال الأرض المعوجة والنافرة, تدخل الجلد كالأبر المذببة. لكن الجسد يندفع في سيرانه تحت ثقل الخوف غير أبه لما يحدث في الملمات في الأسفل. الذهن مشحون ومسمراليقين, راحل إلى مطارح أخرى, يركزعلى الكوابل وهي توسع فجوات الأماكن الأكثرلهفة من أجل الهروب من الضرب على الرأس والرقبة والوجه المغطاة بالطماشة او العصابة الثقيلة. نتمايل ونتأوه ونندفع ونكمل الرحلة التي رسمتها لنا سلطة اللصوص وقطاع الطرق.
بعد رحلة طويلة توقفنا في مكان ما.
ساد صمت خامد، طويل.
الباب يغلق الأن. صوت المزلاج يطق. طق. طق مرتين. المفتاح يخرج من القفل بتأن. الباب مغلق ومقفول. صوت الأغلاق ينذربأننا في الزنزانة من جديد. قال أحدنا:
ـ نحن في مهجع جديد يا أخوة وأصدقاء.. نحن أحرارإلى أشعارأخر. ضعوا احمالكم على الأرض.. وأرتاحوا قليلاً قبل أن يتفتق ذهن الأوباش عن شيئ جديد. ثم أردف:
ـ لنتنفس قليلاً من هواء الكون، نتصالح للحظات مع الزمن العابر والمتجدد، لنمسك الفضاء ونعجنه، نزرعه ثم نلونه. وأضاف:
ـ لنستفد من هذه المساحة الصغيرة من الحرية المسافرة, نلبس ثيابنا، نداوي جراحنا، أمراضنا والرضات التي خلفها القارس والدولاب، والبرد والأكبال.
وضعت أحمالي على الأرض ورحت أتنفس مثل غيري الصعداء. مشى كل واحد إلى جانب أغراضه المرمية، فتش عن حاجياته، أشياءه الخاصة المكومة فوق بعضها البعض بشكل مبعثر. أخذ كل واحد منا زاوية ورحنا نلبس ثيابنا على مهل وكل واحد يطلق من روحه زفرات الوجع والأنين.
تبدلت ملامح الوجوه بسرعة كبيرة. صارت أقرب إلى التشاءوم والخوف من المجهول.
ألقى حكمت وصفوان وغيرهم رؤوسهم وظهورهم على الجدار، مدوا أيديهم إلى الأمام، في حيرة وحسرة وتعب. يتنفسون بتقطع، الشهيق والزفيرمن الفم بسرعة، ينظرون إلى السد المغلق، الجدران القريبة من العين. بينما عمرومازن دخلوا إلى الحمام يراقبون المكان الجديد، يفتحون الحنفيات الصدئة والماء الصدء، والمرحاض الأزلي.
لملم كل واحد ثيابه في زاوية، وراح يصرها كبقجة. لقد صادروا الحقائب، وكل شيء له علاقة بالحياة، بأستثناء الحذاء والجوارب والألبسة.
مساحة الحرية ستضيق بعد الأن، تنحسروتضيع تحت هذا الظل القاتم.
الشراقة/ الفتحة في السقف/ هي المساحة..
والحرية.
تأفف أحدنا خافضاً وجهه وحاجبيه، تكلم من تحت لسانه وأسنانه:
ـ من هذه الشراقة ستتطايرالكلمات والبذاءات، رائحة السلطان وقذاراته. ثم قال:
من هذا المكان ستكون علاقتنا بضوء الشمس وضياء القمر، الهواء المتجدد والقديم، الهدوء والضجيج، الخيروالشر، الحياة وأسرارها، بؤسها وجمالها. من هذه الفتحة سينفث السلطان سمومه وسطوته.. لسانه السليط علينا.
من هذه الشراقة اللعينة سيلتقط أحدنا، يلسعه ويدس سمه فيه، يكزه ويزرع كلاباته في قلبه وروحه ثم يعيده ويتراجع بعد أن يكون قد حرق كل ذرة جميلة فيه.
سيهزالأرض والسقف بقدميه، سيدق السطح ويهز الجدران ويزلزل المكان والألوان وشريط البقاء. سيخرج الخوف من موضعه.. من شهوته ويدخله في أجسادنا، بعدها سينظرويبحث بعينيه اللأهثتين عن أضحية يتغدى بها. في لحظة السوداوية المرة رحت أقدرشكل السلطان الجديد, أقول:
ـ ربما لهذا السلطان عين واحدة في جبهته، أخمن ذلك. يتناول كل من يقع بين يديه ليمضغه قبل أن يلتهمه.. يجتره مرات ومرات، يسترجعه.. يعيده مرة وراء أختها إلى أن ينتهي منه ثم يعود إلى مخبئه. عندها يكون قد أرتوى من رائحة الدم، قبل أن يعود ويجلس مع هلوساته.
مازال النهار الكانوني في أوله، قال حكمت، الشمس تختفي وتعود, علينا أن نفعل شيئاً مفيداً.
وضعنا الكمادات، الماء البارد على أقدامنا حتى يتوقف النزف وتضمد الجراح.
رغم الخوف واليأس، يجب أن نبقى على قيد الحياة قالها مازن بصوت واضح.
ومضى كل واحد يراقب الأخر.
رحنا ننظر في وجوه بعضنا البعض بعد التغيرات الجديدة التي حدثت علينا بين ليلة وضحاها. نضع الاحتمالات المختلفة للسنون والأيام القادمة.
القسم الأكبرمنا لم يستطع أن يلبس الحذاء لأن الأقدام تورمت ولم يعد يتسعها الحذاء القديم كما أن سيالة الألم لم يسمح بالتمدد داخله. لهذا بقي الكثير منا فارداً قدميه أمامه إلى حين يهدأ الورم قليلاً.
ظل كل شيء معلقاً في الفضاء، الإرهاق الجسدي والمعنوي، الانقباض المسيطرعلى النفس والصدر، في حركة الشهيق والزفير، كالحمى تضغط، تطارد اضلاع الصدر وتنكمش، تترك النفس في حصار.
ـ لنفعل شيئاً!
قالها أحدنا مرة أخرى, ثم مشى على أطراف قدميه إلى أن وصل إلى السجائر. مد يده إلى السجائرالمتناثرة على البطانيات. أخذ كل مدخن سيجارة واحدة وأشعلها. رأيت أحدهم كيف يضغط عليها بأصابعه, كيف يضمها إلى شفتيه.. يمصها بقلق وتوتر, ماجاً المزيد من النيكوتين.
كنا أشبه بأستراحة محارب مهزوم ومتعب. كل واحد مستنداً على الجدار في زاوية لا يقوى على حمل جسده.
صمتُ برهة طويلة، محدقاً في الجدران منتظراً أجابات شافية من الآخرين. أنظر بتأمل في العيون المتعبة. وعند تيقني أن الصمت سيد الموقف سكتُ. لكن الصوت جاء من الطرف الأخر.. أقترب مني، نظر في عينيي ثم وجه كلامه للجميع قال:
ـ هل تتوقعون أن تكون معاملتنا بهذا السوء طوال السنوات القادمة من السجن. أجاب /م/ بطريقة حاسمة:
ـ لا تحلم في ظروف أحسن على الاطلاق. أنا أعرف هذا المكان.. هذا السجن! أعرفه من رفاق سبقونا إلى هذا المغطس المغمس بالقيح. ستبقى الصور المخيفة والمبعثرة مدفونة بيننا إلى حين رحيلنا من هنا.. هذا إذا رحلنا! سنبقى في هذه الإتجاهات المرعبة، سنبقى تحت سطوتهم.. سطوة أنصالهم المغروزة في جلودنا. الأمرسيطول، يجب أن لا تتوهموا غير ذلك. يجب أن نبدأ من الأن، يجب أن نفعل شيئ بأسرع وقت ممكن..
ـ ماذا عساك فاعل؟. رد أخر ساخراً.
ـ لدينا الكثير.. الكثير. أن نرفع رؤوسنا في وجوههم. نعم ما أقوله حقيقة. أن نرفع وجوهنا وعيوننا في عيونهم ووجوههم. أن نقول كلمتنا. كلمة لا، نصرخ، نصيح وبعدها الطوفان. يجب أن نرفع رؤوسنا وإلا ستبقى منطوية إلى الأسفل. رد عليه/ص/:
ـ أنها العاصفة يا أخي.. أنها العاصفة! ستمر.. ستمربسرعة, علينا أن ننحني قليلاً حتى تمر. لكن/م/ رد بسرعة:
ـ لا.. لا ليست عاصفة عابرة أو مؤقتة، أنها حالة، ظاهرة مستمرة, السكوت تعني نهايتنا.
ـ يجب عليك التذكريا أخي أن البطولة الحقيقية هو بقائنا على قيد الحياة.
ـ وما فائدة الحياة يا أصدقاء إذا كنا سنموت كل ثانية ودقيقية، كل لحظة. تذكروا جيداً أنكم بصمتكم ستسمحون لهم بالمزيد من التعذيب. تدخل /ش/ موجهاً كلامه للأخ المعترض ثم التفت إلى الجميع مشيراً إلى المرضى. قال:
ـ أنظر إليهم.. أغلب الرجال مرضى. أنظرإليهم جيداً. أنهم لا يقؤون على حمل أجسادهم. ثم تابع:
ـ هؤلاء. ثم أشارإليهم. أنهم لا يستطيعون تحمل الجوع في حال قمنا بالإضراب عن الطعام أو اعترضنا.
ـ لكنهم لن يوفروا أحداً. لهذا أقول إذا كنا سنتلقا الموت البطيء كل يوم، علينا أن نجهز أنفسنا، صوت واضح مضبوط الإيقاع، نقياً.. صافيا لا لبس به، صراخاً نظيفاً، عاليا مثل البروق وقت الربيع ليعقبها أمطار غريزة تغسل الارض والشجر، الزهر والطير. تدخل /ع/ وقال:
ـ تمهل قليلاً.. ثم أضاف.. تمهل. علينا أن لا نتهور في أتخاد القرارات الكبيرة والخطيرة. أننا ضعفاء. أقصد لا نملك الأرضية المناسبة التي تؤهلنا لمواجهة هذا المصيرالذي تتحدث عنه. بلع ريقه أكثر من مرة محركاً يديه صعوداً ونزولاً، جاعلاً حواسه في حالة ترقب واستنفار. ثم راح يتابع:
النهارالشتائي مفتوح على مفاجأت كثيرة كالسماء الواسعة والأمطار التي أتيت على ذكرها، نحن يا صديقي لا نستطيع أن نخمن ما يخبئه لنا القدر. تأفف صامتاً ومضى يقول:
علينا بالصبر والتحمل ونرى ما يجول في عقول السلطة القبيحة من حماقات وتهور. اليوم الشيطاني الأخرس يجب أن يحسب بدقة ويقاس بأنفاس هادئة.
تضرجت ملامح/م/ باللون الأحمروراح يرد بعصبية:
يتبع..





#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول تدمر 6
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الأخير
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الثاني
- ملكة دول الشمال مارغريتا
- الرحيل إلى المجهول تدمر5
- الرحيل إلى المجهول تدمر 4
- الرحيل إلى المجهول تدمر3
- الرحيل إلى المجهول تدمر2
- الرحيل إلى المجهول سجن تدمر1
- الملك السويدي كارل الثاني عشر
- الملكة السويدية كريستينا
- الرحيل إلى المجهول ما بعد النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 3
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 2
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 1
- الرحيل إلى المجهول العفو
- الرحيل إلى المجهول/قبل العفو
- الرحيل إلى المجهول التحول
- الرحيل إلى المجهول الوقت


المزيد.....




- -تجريم المثلية-.. هل يسير العراق على خطى أوغندا؟
- شربوا -التنر- بدل المياه.. هكذا يتعامل الاحتلال مع المعتقلين ...
- عام من الاقتتال.. كيف قاد جنرالان متناحران السودان إلى حافة ...
- العراق يرجئ التصويت على مشروع قانون يقضي بإعدام المثليين
- قيادي بحماس: لا هدنة أو صفقة مع إسرائيل دون انسحاب الاحتلال ...
- أستراليا - طَعنُ أسقف كنيسة آشورية أثناء قداس واعتقال المشتب ...
- العراق ـ البرلمان يرجئ التصويت على مشروع قانون يقضي بإعدام ا ...
- 5 ملايين شخص على شفا المجاعة بعد عام من الحرب بالسودان
- أستراليا - طَعنُ أسقف آشوري أثناء قداس واعتقال المشتبه به
- بي بي سي ترصد محاولات آلاف النازحين العودة إلى منازلهم شمالي ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر7