أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون















المزيد.....


زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2114 - 2007 / 11 / 29 - 10:18
المحور: الادب والفن
    


1
ـ " هيلا هوب ! .. هيلا هوب ! "
هتافنا هذا ، الملموم في إضمامةٍ واحدة ـ كعبق باقة قرنفل ، حقّ له أن يمضي عالياً ، متناهياً إلى مجهلة المحيطات الكبيرة ، الهادرة ؛ أين مركبنا الصغير ، المستدق ، يمخرُ عباب أمواهها ، مسيّراً بريح طيّب وخفيف المحمل ؛ هناك ، حيث الجزر الغامضة ، الشديدة الخضرة ، المزمّلة بضباب شفيف والملسوعة شطآنها الصخرية بوخزات الموج الزعّاف : ذلك كله ، إذاً ، كان يتراءى لعينيكَ ، المدهوشتين ، المفتوحتين على حلم يقظةٍ ، تمادى في الطيران بك بعيداً عن هذه البقعة الساحرة ، المشجرة ، من البستان ، والمركونة على جانبي الجدول ، النحيل ، المتفرّع عن النهر . مركبنا ، ما كان في حقيقته أكثر من جذر ميتٍ ، جاف ، لشجرة جوز ، عملاقة ولا شك ، سبق أن أجتزت في زمن ما ؛ في زمن ، سابق على كل حال لظهيرة هذا اليوم الربيعيّ ، العبق ، المنطلقة فيه عصبتنا الصغيرة في حملة عاتية ، منظمة ، على أوكار سراطين الساقية . رحلتنا هذه ، الملفقة في تناهيها الخرافيّ ، كانت قد إبتدهت ببهجة العثور على ذاك الجذر الهائل ، المهمل عند الحافة المتربة للبستان ، العالية نوعاً ؛ بدحرجتنا إياه في ركلة واحدة ، مشتركة ، إلى أسفل ؛ إلى قلب الساقية ، المسحور برؤيا أحجاره الملونة ، المختلفة الأحجام ، وسلسبيل أمواهه العذبة ، الناصعة والمخضرّة في آن ، مثلَ سوار مفضّض في معصم موشوم لحسناء . ثمة ، في فيء أشجار الصفصاف والسرو والدلب والحور والسنديان ، المتهافتة على الضفتين ، الهينتيْ الإرتفاع ـ كمشفريْ هنّ ، بكر ؛ هناك ، كان أفراد عصبتنا قد توزعوا فوق الجذر السحريّ ذاك ، المتشبث بدوره بغرين الساقية ، كما لو أنّ جذوره متغلغلة فيها . ها نحن ذا ، في لهو المغامرة المائية ، وقد إنبثقت من الجذر الميت قاماتنا المنتصبة ، أو المتهدلة ـ كأفرع حيّة ؛ مغامرتنا الملفقة نفسها ، الموصوفة ، وتلك الاخرى الآتية ، الحقيقية .

سلطعون الساقية ، المشابه تكويناً وخلقة شقيقه البحريّ ، هوَ مخلوق جبان ؛ بحسب تصنيفنا ، الطفوليّ . وهوَ على صفته تلك ، بما أنه يكاد لا يفارق موقفه ، المألوف ، أمام ثغرة جحره ، متبدياً أشبه بالقزم الحارس للمغر الأسطورية ، في الحكايات التي سحرت يفاعة أعمارنا . و" آدم " ، إبن جيراننا من آل " كرّيْ عيشة " ، هوَ فضلاً عن كونه دليل عصبتنا ، العتيدة ، فإنه دأبَ على قيادة مغامرة الصيّد ، نظراً لدربته ومهارته وخبرته في شؤون الضحايا ، المختلفين المتنوعين ، من مفخرة طيشنا . لكل صيدٍ فصله ، الخاص . السراطين واليرابيع ، للربيع ؛ وللفصل الصيفيّ ، التالي ، وجبات الضفادع والسحالي . هذا دونما إغفال هوسنا بإمتلاك الزيزان ، البهية ، فضلاً عن مطاردة وإهلاك الزنابير ، المؤذية . ما كان هذا " الصيد " ، في واقع الحال ، إلا مهاوشة ً لضجر العمر في ربيعه ، المبكر ؛ وإلا تقليداً ، إعتباطياً ، لإخوتنا الأكبرَ منا سناً ، الموغلين بدورهم في هذه الأنحاء ، المسحورة ، بحثاً عن صيدٍ ، حقيقيّ ، يمتّ لنهمهم للحم والدم ؛ عن طرائد من طيور مختلفة ، إلى قنافذ وسلاحف وثعابين . صيدنا ، والحالة كذلك ، للعجز لا للبطر . ها هنا ، إذاً ، على حافة الساقية ، المقابلة لموقفنا ، يتلبّث " آدم " متريثاً بخطو متمهّل ، حذر ، في تلصصه على أحد السراطين تلك ، المنذورة لمغامرتنا . ثمة ، في مستنابه على باب الجحر ، كان السلطعون منهمداً بلا أيّ حركة . طفقنا نرقب الحيوان ، الملون والساكن ـ كحجر الساقية سواءً بسواء ، فيما أيدينا مرتفعة بإشارات لا تقل صمتاً وحذراً وقلقاً ، في إعانتها لخطى دليلنا ذاكَ ، المناسبة . يا لمهارتكَ ، إبن " كري عيشة " ؛ حينما تحين اللحظة الحاسمة ، المطبقة بعصاكَ على مدخل الجحر وبحركةٍ سريعة ، مباغتة ـ كضربة القدَر ! السلطعون المسكين ، هو ذا ، في وقع المفاجأة ، الحائلة بينه وبين مكانه ، الأمين ، لا يلبث أن يرمي بنفسه في مهبّ تيار الساقية ، بجرّة من زحفه الخاطف ، الحثيث ، الساعي لحلاوة الروح . بيْدَ أننا كنا أسرعَ منك ، أيها الشقيّ ! فلنرَ إذاً ما إذا كنت ستواصل التبخترعلى أقرانك ، المائيين ، ببهاء درعكَ الحامي ، المفترض ؛ الدرع ، الذي ما عتمت أيدينا أن جردتكَ منه ، أبداً ، ليصير مفخرة لصيدنا ، الدعيّ ، كما لمنضدة حجرة الضيوف ـ كمنفضة سكائر ، فاخرة .

2
ـ " لكَ أن تختار صحبة " أوء " هذا ، أو صحبتي أنا ! "
قال لي " آدم " بنبرة آمرة ، معتادة ، مشيراً لصديقنا ، الأخرسَ ، بنعته المعروف ، المشنّع . كنا يومئذٍ على خلاف ونكد ، بشأنه . من جهتي ، كان مرجوح كفة ميزان المفاضلة هذه ، المفروضة ، مائلاً إلى صحبة " آدم " ، ما دام الآخر بعهدة وصيّة أمّه لي ، المتشددة ، ألا يقربَ البساتين وأضرابها ، بتاتاً . على أنّ مشكلة اخرى ، صغيرة ، كان يتوجّب عليّ حلها ، أولاً . إذ تحيّرتُ في أمر ضفدع ، صغير للغاية ، كان من أولى غنائم حملتنا ، الصيفية ، على أبناء جنسه ، والمبتدهة للتوّ . ماذا يمكن لطفل ، غرير ، أن يفعله بحيوان في حجم قبضة يده ، الصغيرة : لهونا ، كان لهوَ ولدٍ ، مدلل ، بلعبته البلاستيكية ، المشكلة هيئة حيوانية ما ، مصطنعة ؛ تفكيكها عضواً عضواً إلى قطع مختلفة الأحجام ، وإهمالها من ثمّ بحثاً عن لعبة اخرى . كذا كانت حالتنا وقتئذٍ مع الضفادع وأقرانها من مخلوقات الله ، المستضعفة . بيدَ أني هنا ، وعلى الرغم من مضيي متحمساً في مجاهل المفازة تلك ، كنت متأثلاً طبعيَ الخاص ، الأكثرَ رهافة ً من رفاق الطفولة ، الآخرين ؛ الطبع ، المنعكس على مسلكي مع طرائد مغامراتنا بخاصة ، والمعاكس في أحيان كثيرة طباع ومسالك أفراد مَخطرنا ، الخطير . موقفي هذا ، الموصوف ، شافهَ ما كان من فراقي للرفقة ، الآخرين ، في كلّ مرة يُبتده فيها التمثيل بأعضاء الطريدة . ظلّ الطفل ، المترسّخ في قامة حياتي جميعاً ، ما فتأ يهتز ضميره خلل تمادي الذاكرة نحوَ تلك الظهيرة ، السحيقة ، من اليوم الصيفيّ .

بما أنه تعيّن علينا يومذاك ، بحسب حلّ الخلاف المحتدم ، مرافقة " غسان " في طريق العودة لبيته ، فقد ترددت ملياً في إطلاق سراح الحيوان المسكين . هكذا ، وفي تقديري لحظتئذٍ أنّ رحلة العودة ، في واقع الأمر ، لن تستغرق وقتاً طويلاً ، فإنّ هواجسي هدأت مع فكرة ، مناسبة ؛ على حدّ زعم تفكيري الطفل : " دقائق معدودات حسب ، ولن أتأخر عليك يا صاحبي ! " ، خاطبتُ الضفدع فيما أعهد سلامته لرعاية الساقية . بين دموع " غسان " ، المقهورة ، وعناد " آدم " ، الحَرن ، إمتدّ طريقنا إلى الحارة ، إلى ما لا نهاية . طريق الإياب ، على كل حال ، كان مختلفاً . فما فتئنا في جدل ، معاتب ، حول صديقنا ذاك ، الأخرس ، الذي غادرنا لتوه ، إلا لنفاجأ بظهور صديق آخر لنا . إنه " فوفو " ، إبن جيراننا من آل " حج عبده " ، من إعترض طريق إيابنا للساقية تلك ، بإقتراحه علينا أن نرافقه إلى " الغيضة " . في اليوم التالي ، مباشرة ً ، عثرتُ بسهولة على البقعة المائية ، المُعلّمَة جيداً من لدن حرصي ، والمحتبية الضفدع ذاكَ ، الصديق . ساقيتنا معينة المياه ، عذبتها ، كانت على عهدها من الوداعة والهدوء . ولكن ، لخيبتي ، طالعني منظرٌ رثّ ، خلِقٌ ، لما يُشبه هيكلاً متعظماً ، متآكلاً ، بالكاد يوحي بالمخلوق الحي ، الغض ، المُرقش الخضرة ؛ الذي كانه ضفدعي المسكين : كنتُ يوم أمس ، على سبيل الحيطة ، قد أودعته هنا ، فيما حجر ثقيل ، كبير نوعاً ، جاثم فوق هامته الدقيقة ، الصغيرة للغاية .

3
ـ " إرفع يدكَ إلى ناحية اليمين . قليلاً أيضاً ، فالزيز الآن فوق رأسك تماماً ! "
همساً أخاطبُ " آدم " ، فيما هوَ متشبّث بجذع إحدى الأشجار ـ كقرد الغابة . صديقي هذا ، كما سلفَ القول ، كان الأكثرَ مهارة في الصيد بين أفراد عصبتنا . إننا اليوم على موعدٍ مع هذه الحشرة الطائرة ، الفائقة الحسن ، الملبّسة بقشرةٍ مقصّبة ، ذهبيّة . بحكم التراتب ، اللونيّ ، كان لدينا نوعان من الزيزان ؛ " السَريّة " ، وهيَ ذات رأس أخضرَ ، و " الفحل " ذو الرأس القاني . هذا الأخير ، علاوة على أنه أكبر حجماً من أنثاه ، فقد كان نادراً نوعاً ـ كما يجدر بنعته ، الذكوريّ ! بدورنا ، نحن الصبيّة ، كان هذا النوع أجدرَ بمفخرتنا ، يتباهى الواحد منا بتأثله أمام لداته . وعلى كل حال ، فالزيز منذورٌ لألعابنا أيضاً ، حينما نربط قدمه ، المتناهية في الدقة ، بخيط رفيع ، طويل ، ثمّ نرخي له العنان ليجوب الأفق الصغير ، المخيّم على أعمارنا الصغيرة . ومأوى صاحبنا هذا ، ليسَ سوى علبة الكبريت ، الفارغة إلا من توتة بيضاء ، غضة ، نتكرّم بها عليه في معتقله . بيد أننا الآن ما فتئنا في " الدايرة " ، في غمرة ملاحقتنا لبني الجنس الزيزيّ . أحيانا ، يتطفل على طيشنا نكدُ طنين ٍ ، طائش ، من حضور الزنابير ، والذي يسبب في العادة بلبلتنا أكثرَ مما يفعله فحيحُ أفعى ، عابرة . ها هوَ " آدم " ، في إحدى جولات شقوتنا ، يتعرّض وعلى حين فجأة لهجوم زنبور ، هائج ، فيما كان محتضناً خصرَ شجرة حَوْر ، مبثوثة بأبهتها على كتف الساقية ، ما أدى إلى تخليه عنها ، في لهوجة رعبه ، ومن ثمّ تهاويه أرضاً من عل . كان من حسن حظه ، في هذه المرة ، أن يتوازن جسمه ، الرشيق ، في سقوطه نحو العمق الهيّن ، الغرينيّ ، للجدول الصغير . وتأكيدي على الحظ هنا ، ما كان من خيبته في مرة اخرى ، عندما شاءَ " آدم " العبث بعش للزنابير ، متركن في إحدى إمتدادات الجدار الطينيّ ، المعتق التاريخ ، والمشكل مع توأمه الآخر ، المقابل ، ذلك الدرب الظليل ، الرطيب ، المكتنف بهيمان رائع ، أخاذ ، لأفرع وأغصان الأشجار المثمرة ، المشكوكة بدورها على الجانبين ؛ درب الحيّ القديم ، البالغ الطول ، والممتد بين منطقتيْ " البدوي " شرقاً ، و" العمارة " جنوباً .

كنتُ و" آدم " إذاً ، في ظهيرة لاهبة من يوم ، صيفيّ ، على طوافٍ ، مألوف ، خلل بساتين " الدايرة " ؛ تلك البقعة المألوهة من لدن مريدها ، من أولاد الحارة ، والمحتبية كل ما يشتهونه من ثمار الصيف ـ كالزعبوب والزعرور والجوز والميس والحبلاس والكمثرى والدرابزين والتين الأزرق وخوخ الدبّ والمشمش البلدي والتوت الشامي . طوافنا في المحجّ هذا ، ينتهي في العادة عند تينة السبيل ؛ الحارس الخرافي ، الأزلي ، للـ " الباب الصغير " . هذا الأخير ، حظيَ بنعته ذاكَ كونه مدخل " الدايرة " من جهة درب الحيّ ، الترابيّ القديم . ثمة ، في إحدى فجوات الجدار ، العديدة ، المتكاثر فيها مختلف أنواع الزواحف والقوارض والهوام ، أبصرنا أسراب الزنابير في همّة رواحها وغدوها . " علينا تدبير خرقة مناسبة " : قال صديقي ، فيما عيناه الماكرتان ، الباهتتا الخضرة ، تجولا هنا وهناك . سرعان ما عثرنا على بغيتنا تلك ، فقام " آدم " بعقدها على رأس غصن ، رفيع ، مجرّد للتوّ من أوراقه ، الخضر ؛ ومن ثمّ راح ينتظر الفرصة السانحة ، قبل البدء بالخطوة التالية . علبة الثقاب ، هيَ إحدى ضروريات متاع مغامرتنا ، جنباً لجنب مع المطرة والمدية والدبسة ، علاوة على النقيفة ، أو المقلاع . كل شيء كان في سيره المطلوب ، حينما قام صديقي بتسديد العصا المشتعلة نحو بوابة مملكة الزنابير ، تلك ؛ لولا أنّ هؤلاء ، في دهاء طبعهم على الأرجح ، كانوا قد إحتاطوا لحالات الطواريء ، المشابهة : دقيقة اخرى ، وإندفع طابور طائر ، عاصف ، من فجوة اخرى ، محاذية للأولى ، مهاجماً بلا رحمة ذلك المعتدي على حرمة مملكته . ويبدو أنني ، في الموقف العصيب هذا ، كنت لا أقلُّ دهاءً ؛ ما دمت قد سبق وإحتطت بدوري للطارئة ، المحتملة ، مبتعداً عن المكان بمسافة مناسبة . وإذاً صارخاً معولاً ، تراكض " آدم " بإتجاه الساقية ، تلاحقه الزنابير الغاضبة ، ليرمي بنفسه في خضمّ مياهها . على الأثر ، هدأ كل شيء ؛ وما من صوت تناهى إلى سمعي ، سوى نشيج صديقي ، المؤلم . إقتربت منه مشفقاً ، قلقاً ، وإذا به يرفع رأسه عن سحنة ، متورّمة كلياً ؛ سحنة شائهة ، غريبة عليّ ، فما كان مني إلا أن أتلقاها بإنشداهٍ مرعب ، صارخ .

4
" الغيضة " ؛ إنها المكان الأثير ، المفضل ، لمعقد عصبتنا . إنعقدت أسباب عدة ، لكونها كذلك ؛ ليسَ أقلها أهمية ، أنّ ساقية البستان ، المتوازي سير مغامرتنا ، اليوميّ ، مع سيرها الهيّن ، إنما تصبّ هنا ، في دغلة الحَوْر هذه . إذ تتفرّع الساقية ، إعتباراً من وصولها للبقعة المسمّاة بـ " بستان الملك " ، إلى جدولين نحيلين ؛ إحداهما ينحرف إلى الناحية اليسرى ، المقابلة للغيضة ، مستهلاً دورانه المشكل تلك الجزيرة ، الساحرة ، " الدايرة " ، المُعرّفة بصفة الفعل . وبما أننا سنهمل ، هذا اليوم على الأقل ، شأن هذا الجدول ؛ فلنواصل مسيرنا عبْرَ توأمه ذاك ، الممتطي صهوة البستان ، الموسوم ، المضمون من لدن عمّنا ، والمُفضي لمكاننا الحميم . هنا ، في الدغل الصغير ، المرصّع بفضة حَوْره البهيّ ، الألق ، يتحدد الفاصل الأخضر ، المشجر ، بين أملاك حارتنا وتلك العائدة لملك عائلات من حارة " الأيوبية " ، كما لبعض بيوتات الصوالحة . بيْدَ أنّ المعرفة هذه ، الجغرافية ، لا تمت بصلة لعالم طفولتنا ؛ ما دمنا آنئذٍ من اليقين ، حدّ أننا كنا نعتقد بأنّ إمتداد الغيضة ، الغامضة ، يتصل في مداه ، القصيّ ، بالمجاهل الملغزة ، البعيدة ، لغابات الهند : كان على السنوات أن تمضي ، إلى أبعدَ من هذا اليوم الطفل ، المغامر ، قبل أن يتسنى لي أن أعلمَ ، مصدوماً ، بأنّ مساحة غيضتنا هذه ، الأثيرة ، لا تتعدى حجمَ أيّ بستان مما يحيط بها . الحق ، فممرات الدغل ، المعبّدة بخطواتنا الدائبة ، كانت في سني الأولى ، المبكرة ، تفضي بي دوماً إلى تلك البساتين نفسها ، مما كان يبعث الحيرة في نفسي ؛ فألبث عندئذٍ متردداً في علة السياق هذه ، إلى أن أستعيد ، مطمئناً ، وهميَ الأول : " من حسن الحظ أنكَ أخذت طريقاً مختصراً ، جانبياً ، وإلا لكنتَ قد هلكتَ في هذه المتاهة أو ربما وصلت للهند ! " ، يخاطبني داخلي في كل مرة من المرات تلك ، التي أنفذ فيها من إحدى مضاءات الغيضة .

ـ " أنا البطل الصغير ، جئتكم أيها السَحَرة ، الأشرار ! "
رحتُ أردد بين فينة واخرى ، ملوّحاً بقضيب الرمان ، المرن ، المعتمل بيدي ـ كسيف مسلول . " البطل الصغير " ، إن هوَ إلا عنوان مسلسل هوليووديّ ، على الأرجح ، دأبَ التلفزيون وقتئذٍ على عرض حلقاته في البرنامج ، المسائيّ ، الخاص بالأطفال ؛ عنوان ، إستوفى حقّ البطل الهنديّ الصغير السنّ ، ذي القوّة الماحقة ، ومن كانت ضربات سيفه ، البتار ، ترمي هامات أشجار الغابة ، السحريّة . كنتُ ورفيقيْ المغامرة ، في حمأة إستعادتنا للمشاهد التلفزيونية تلك ، منهالين على الخصور الرشيقة لحَوْر غيضتنا ؛ هذه المافتئت في أماكنها ، الراسخة ، تمحضنا بنظرات ساخرة من عيون أوراقها ، الفضيّة المخضرّة . " فوفو " ، وبالرغم من أنه بعمر شقيقي الكبير ، ولكنه كان معتاداً على مواطئة ألعاب أعمارنا . هوَ ذا في مختتم المبارزة ، يطيح بسلاح " آدم " ؛ غريمه ، المفترض ، مبالغاً في التنكيل بهامته عبْرَ ضربات متتالية ، موجعة . اللعبة ، في منقلبها إلى مشادة ، تنتهي إذاً بشتائم متبادلة بين الغالب والمغلوب : " أنا متيّم بسروال أختك ، الورديّ دوماً ، في عادة ذوقها اللونيّ ! " ، يقول إبن " حج عبده " ، الأخرقَ ، متبعاً جملته بحركة أكثرَ بذاءة . أمّ " فوفو " هذا ، الإيرانية الأصل ، كانت أشهر خياطة في الحارة . فلا غروَ ، والحالة تلك ، أن تتأيّد مصداقية خيال إبنها ؛ هوَ المعتاد ، دوماً ، على الزعم بتلصصه على حجرة المشغل ، عندَ تفصيل فستان هذه الزبون أو تلك . ردّة فعل " آدم " ، العنيفة ، فجأتني أيضاً ؛ خصوصاً لجهة تمثله لهجة الكبار ، الحافلة بالإشارات الجنسية ، وقدرته الخيالية ، أيضاً ، على تمثل شقيقة الآخر في أوضاع مثيرة ، مزعومة بدورها .

5
ـ " علينا أن نقتنصَ حردوناً ، خلال طريق العودة ؛ فالعطلة قاربت على الإنتهاء "
هكذا يفطنني صديقي ، " آدم " ، إلى طقس ٍ ، ضروريّ ، كدتُ أن أنساه أبداً في بهجة صيفنا ، الرائع . الحردون ، شأنه في ذلك شأن أقرانه من العظائيات ، يتوارى غالباً في شقوق الجدارين الترابيين ، المتوازيين ، والمسورين الدرب القديم لحيّنا . الحرباء المتثاقلة الحركة ، كما السحلية العفريتة السريعة ، كانا بالمقابل متوافرين بسخاء لمرمى نقيفاتنا ، ما فتئتا في مشاغلهما على جذوع الأشجار وخلل أغصانها . على أننا سنتجشم عناء الصبر ، الممض ، في إنتظار إطلالة الحردون من مخبئه ، ما فتئنا ، بدورنا ، مشغولين بتخيّل عصا المعلم ، القاسية الظالمة . فدم هذه العظائية بالذات ، كان ذا فعل سحريّ مانع للألم ، بحسب المعتقد السائد آنئذٍ في عرف طفولتنا : ما عليكَ سوى دهن راحتيْ كفيكَ ، الغضتيْن ، بهذا الإكسير ، العجيب ، فلا يرهبَ لديهما السَقمُ ! ؛ هذا ما يؤكده لي حماسُ " آدم " ، الذي ما كان في فصلي الدراسيّ ، الخامس ، مادام يصغرني بعام كامل . إنه صديقنا الآخر ، " جمّو " إبن فرّان الزقاق ؛ من كان عليّ تذكيره ، فيما بعد ، بالتأثير الناجع ، المفترض ، للإكسير ذاك ، حينما راح يشدّ عضلات وجهه ، ألماً ، مع كل ضربة من عصا معلمنا . " لا بدّ أنّ مفعوله قد بطلَ ، بفعل الزمن المنقضي " ، يجيبني إبن الفرّان هذا ، بلهجة جازمة ؛ هوَ المعتبر رأس عصبتنا ، الصغيرة ، بما كان من قوته وجسارته . مزيداً من دم الحيوان المُقتنص ، المسكين ؛ ومزيداً من الألم ، البارح ، الذي لا يريد مبارحة راحة كفنا ، المُعاقبَة . نمضي إذاً في مجهلة الغيضة ، كما في مسالكنا الاخرى ، الأليفة ، المعرّفة بفراسة طيشنا ؛ نمضي ، غير مبالين بدروسنا وواجباتنا ، ولا بسخط الأهل أو رهاب الأساتذة .

ولكنني ، بالمقابل ، ما كنتُ تلميذاً بليداً ، أبداً . معلمي " سلمان " ، المنحدر من ريف السويداء ، إعتاد على تقريظ سلوكي وإجتهادي سواءً بسواء ، حينما كان يجتمع في حجرة المدير بإبن عمّي ، " الأستاذ حسين " ؛ الذي أضحى بنفسه مديراً لمدرستنا ، " النضال العربي " ، في السنة التالية مباشرة ً . معلمي هذا ، اللطيف للغاية ، كان وقتذاك قد خلّف زميله ، " غسان " ، الفظ القاسي ، والملتحق للتوّ بخدمة الإحتياط العسكريّ . " الأستاذ سلمان " ، على الأرجح ، كان شيوعياً : فيما بعد ، في فتوّتي المشغولة بالكتب الثورية وسيَر مؤلفيها ، جازَ لذاكرتي نعمة إستعادة تلك الحكاية التي قصّها علينا بلهجته المميّزة ، الدافئة ؛ والتي ما كانت سوى سيرة الشقيق الأكبر للزعيم السوفياتي ، " لينين " ، ورجولته في مواجهة الموت بعيد محاولة إغتيال القيصر . إستعدتُ آنذاك ، أيضاً ، ما كان من جنوح خيالي جهة شقيقي الكبير ، حينما كان معلمي يسترسل في روايته ، الموسومة . ولكنّ سيرة " جينكو " ، في هذه الفترة من طفولتي ، كانت أبعدَ ما تكون عن تلك الصورة ، المشرقة ، التي إختلقها لها خيالي . إذ طرد بشكل نهائيّ من مدرسته ، الإعدادية ، لإعتدائه بالضرب على معلم فصله ، الثاني ؛ وها هوَ ذا ، هائمّ في مجاهل جهالته ، في الدروب المودية غالباً للأماكن المشبوهة ، صحبة خلان السوء . وربما أنّ غمامة من المظنة ، سوداء مكفهرة ، قد غشيت صورة أخي ، العتيّ ، في مدى فكريَ الطفل ، بما كان من شهودي وقتئذٍ لموقف معيّن ، فيه ما فيه من الشبهة . ففي إحدى تلك الأيام الخريفية المبكرة ، الحارّة ، صادفتُ " جينكو " ، لحظة خروجي من الغيضة . ثمة ، على المنحدر الهيّن ، المترب ، للجدول الصغير ، المتفيئ ظلال الأشجار ، الكثيفة ، كان أخي متمدداً بإسترخاء ، منصتاً بصمت ، كعادته ، لثرثرة من حوله من الهمشريّة . دقائق اخرى ، ومرّ على الأثر شخصٌ فتيّ ، يبدو أنه بمستهل العشرين من عمره ؛ كالح الوجه أسمره ، وبرفقته صبيّ في مثل أعمارنا . كان " أبو علوش " هذا ، كما علمته فيما بعد ، شخصاً منحرفاً ، من حارة " جسر النحّاس " ؛ في الجهة الغربية ، اللدودة ، من حيّنا . وبما أنه كان محدوداً جداً ، آنذاك ، في بساتيننا هذه ، مجالُ الحرية المتاحة لفتية تلك الحارة ، فما كان بالغريب إذاً أن يخرق " جينكو " صمته : " إلى أين أنتَ ذاهبٌ ، يا هذا ؟ " .
ـ " ذاهبٌ حيثما أنا ذاهب ! فما شأنكَ أنت ؟ " ، أجابه صاحب الوجه الكالح بقحّة وتحدّ . ثوان لا غير ، وتناهض شقيقي لتأديب هذا الوقح . وبالرغم من عتوة الخصم وسنه المتقدّمة نسبياً ، فإنّ " جينكو " ما عتمَ أن جندل هامته ببضع لكمات خاطفة ، سديدة . تركَ أخي الرجلَ يفرّ من المكان ، إلا أنه إستوقف ذلك الصبيّ : " لماذا أنتَ ماض ٍ معه إلى الغيضة ؟ " ، سأله " جينكو " ، مشدداً على الكلمات ، فيما عيناه تجوسان عبر هيئته جميعاً . " أرجوك ، عمّاه ! دعني أذهبَ ، أيضاً ، ولن أعيدها ! " : مرتعداً مرجفاً متوسلاً ، أجاب البائس بلهجته المميّزة ؛ لهجة من نسمّيهم " أهل البنايات " ، الممقوتين جداً من لدن أخي ، في عصبيّة عرفه الضيّق ، الإعتباطيّ . ولكن " العمّ " هذا ، في محض المواجهة مع الآخر ، ما كان غافلاً عن حضوري ، الشاهد لها ، والمحرج له بكل تأكيد . فها هوَ إذاكَ ، يلتفتُ نحوي طالباً مني مغادرة المكان مع لداتي . ندّت عنه بلهجة آمرة ، بطبيعة الحال ؛ إلا أنها كانت متماهية ، كما أذكر ، بنوع من رجّة الخجل ، أو تأنيب الضمير ، على الأقل .

للحكاية بقية ..

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
- الحل النهائي للمسألة اللبنانية
- زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
- أشعارٌ أنتيكيّة
- زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه
- أبناء الناس
- الحارة الكردية والحالة العربية
- زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه
- بابُ الحارَة ، الكرديّة
- فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون