فور تقاعده من الجيش، توجه شارون ليقيم حزب الليكود، وكان ذلك عام 1973، عندما اتضح له بأن قيادة الجيش لن توافق أبدا على تعيينه رئيسا للأركان.
عندما عقد العزم على إقامة الليكود، تصرف وفق وصفة بسيطة وسهلة: توحيد كل الأوساط اليمينية تحت سقف واحد: حركة حيروت، الحزب اللبرالي، المركز المتحرر والقائمة الرسمية.
في الحقيقة، كان ذلك مضحكا جدا، فقد كانت حركة حيروت والحزب اللبرالي متحدين في كتلة تدعى جاحال (كتلة حيروت واللبراليون). وقد كانت الحركتان الأخيرتان حركتين صغيرتين وليس لهما أهمية تذكر. فقد كانت "القائمة الرسمية" بقايا من حركة أقامها دافيد بن غوريون بعد أن خانه موشيه ديان وشمعون بيرس وعادا إلى حزب العمل. "المركز الحر" كانت حركة أكثر بؤسا، فقد كانت بمثابة بلاطة على قبر تطلعات شموئيل تمير. وقد كانت عملية التوحيد الكبيرة، إذن، خداع نظر. لم يفرح أي من زعماء الحركات الأربع لهذه الفكرة، وقد فرض شارون عليهم الاتحاد.
سألته في ذلك الوقت عن معنى هذه المناورة. فشرح لي المنطق الكامن من ورائها: يجب إعطاء الجمهور إحساسا بأن اليمين موحد وسيتحول إلى قوة مركزية كبيرة. ولا يحبذ أن تبقى أي حركة خارج الاتحاد. لذلك كانت هناك حاجة لهاتين الحركتين الصغيرتين. انضمام "القائمة الرسمية" التي انسلخت عن حزب العمل كانت حجة للشخصيات اليسارية آنذاك للانتقال إلى اليمين.
وقد نجحت هذه المناورة، فبعد أربع سنوات فقط وصل اليمين إلى السلطة - لأول مرة منذ قيام الدولة.
للأسف الشديد، ما من رجل في اليسار اليوم لديه وصفة مماثلة. يشكل اليسار في الطيف السياسي الإسرائيلي نقطة سوداء. يمكن لمستقبل الدولة أن يتلاشى داخل هذه النقطة.
لدينا اليوم عدم تناسق مفجع. فوفق كل المؤشرات بدأ اليسار الإسرائيلي بالنهوض بعد ثلاث سنوات من الجمود واليأس. عشرات المؤشرات الصغيرة تشهد بأن هناك نهوضا في معسكر السلام. وقد بدأت التوجهات اليسارية تظهر أيضا في المجالات الاجتماعية. وبدأت حركات معارضة سياسة القمع والاستيطان التي ينتهجها شارون بالتعاظم جنبا إلى جنب مع تحركات معارضة الخطوات الاقتصادية التي ينتهجها بنيامين نتنياهو. إننا أمام فرصة – ضعيفة ولكنها واضحة– لتحول تاريخي.
إلا أن هذه الفرصة لا يمكن أن تتحول إلى واقع إذا لم تتواجد قوة سياسية قادرة على تحقيقها. حزب العمل كان وما زال مجرد أطلال، تتزاحم بين بقاياها قطط الشوارع. حتى محاولة ضم تيار عمير بيرتس إلى الحزب واجهت معارضة يائسة من قبل الوصوليين الذين كانوا قد أفلسوا، فهم يتخوفون من أن يستلب مكانتهم منهم إلى جانب الطبق الفارغ.
يقبع حزب ميرتس، منذ الانتخابات الأخيرة في قوقعة من اليأس والشفقة الذاتية التي تظهر جليا على وجه يوسي سريد المتألم. أما يوسي الآخر فيبادر إلى "تفاهم جينيف" ويحلم بإقامة "حزب اجتماعي ديمقراطي"، كنسخة جديدة عن حزب العلية الشكنازية. يبدو أن هناك تفاهم بين المقيمين المزعومين لهذا الحزب على أمر واحد فقط: من لن يتم ضمه للحزب.
هذا هو الفرق الكبير بين اليمين واليسار. فاليمين، المتعطش إلى السلطة، يدرك أهمية الاتحاد حتى وإن كانت فيه تيارات تكره بعضها البعض، إلا أنها مستعدة للتعاون. أفراد اليمين "المعتدل" مستعدون للسير جنبا إلى جنب مع الهامشيين الفاشيين أيضا.
يسيطر على اليسار توجه معاكس تماما. كل تيار في اليسار يرتعب ممن يتواجد على يساره. الجناح اليميني في حزب العمل يخاف من الجناح اليساري فيه. الجناح اليساري يخاف من ميرتس. ميرتس تخاف من يوسي بيلين، الذي قذف إلى خارج حزب العمل من قبل عمرام ميتسناع وزملائه اليساريين، والذي ميرتس بدورها لم تمنحه مكانا متقدما في قائمتها. ميرتس تخاف من حركة "السلام الآن". "السلام الآن" تخاف من "كتلة السلام" ومن الكتل العربية.
ما هو مصدر هذا الخوف؟ كل تيار في اليسار يتخوف من أن يبدو غير وطني. ويقول كل من هذه التيارات: "أنظروا، أنا وطني! أنا صهيوني! أنا محب للوطن! أنا لست كالتيار الأيسر مني، وهو ليس وطنيا، ليس صهيونيا وليس محبا للوطن!"
بعد اغتيال رابين قامت حركة سياسية جديدة باسم "جيل كامل يطلب السلام"، برئاسة يوفال رابين ابن سحاق. وقد كرست هذه الحركة مجهودا كبيرا كي لا ينظر إليها، لا سمح الله، على أنها موالية "للسلام الآن".
أذكر المشهد التالي: أقامت حركة "السلام الآن" عدة خيام في رأس العامود، لتعبر عن احتجاجها على النية بإقامة حي يهودي في قلب الحي العربي في القدس الشرقية. على عدة أمتار فقط من هذه الخيام أقامت حركة "كتلة السلام" خيام احتجاجية هي أيضا. أفراد "السلام الآن" لم يطرحوا التحية على أفراد "كتلة السلام". في اليوم التالي أجريت في المكان مسيرة قام بها أفراد "جيل كامل"، وعلى رأسهم يوفال رابين. هم أيضا لم يحيوا أفراد "السلام الآن" ونظروا إليهم وكأنهم هواء شفاف. ("جيل كامل" تفككت منذ ذلك الحين.)
إذا لم يتغلب اليسار على عقده، فلن يكون هناك أي احتمال لتبديل السلطة. اليسار المتفكك ومعدوم القيادة، معدوم الثقة بالنفس وليس لديه سياسة سياسية واجتماعية واضحة، لن يستقطب الجماهير يوم الانتخابات، حتى وإن تغيرت حالة الجمهور النفسية إلى الأحسن.
هناك حاجة إلى حزب يساري كبير، تجد كل التيارات السياسية والفكرية فيه مكانا لها، ابتداء من مؤيدي إيهود باراك (إن وجدوا) وانتهاء بمؤيدي يوسي بيلين، ابتداء بالديمقراطيين الاجتماعيين المعتدلين وانتهاء باليسار الراديكالي، يرتكز على أساس بنية مشتركة ("دولتان لشعبين"). تزهر فيه مئات الأزهار الفكرية، ويجري فيه نقاش عميق، شريطة أن تشكل فيه هذه التيارات قوة سياسية ضاربة لتغيير السلطة في الدولة.
إذا كان ما زال بمقدور حزب العمل أن يقوم بمثل هذه الوظيفة – فهذا شيء مستحسن بالتأكيد. يمكن للاتحاد مع "عام إحاد" (عمير بيرتس) أن يشكل خطوة إيجابية أولى. في حال لم يستطع حزب العمل القيام بذلك، يجب تشكيل حزب جديد وفق وصفة شارون من عام 1973.
يا حبذا لو كان في اليسار زعيم سياسي له حضوره، يستطيع قيادة مثل هذه العملية. أما الآن فهذا الزعيم غير موجود. وبانعدام وجوده، يجب تشكيل مجموعة قيادية.
ليس لدينا الكثير من الوقت. اليساريون وجزء من اليمين أيضا بدءوا يستيقظون من سباتهم اليائس وهم مستعدون للسير خلف من يحمل الراية. تحتاج الدولة إلى تحول قبل أن يبدأ الانحلال. إذا لم يستغل اليسار هذه الفرصة فلن يسامحه التاريخ.