أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - الوجودية والعولمة















المزيد.....


الوجودية والعولمة


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2103 - 2007 / 11 / 18 - 12:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(محاولة في استقراء الواقع الانساني)

يمكن توصيف التاريخ البشري في ثلاثة مراحل أو عناوين رئيسة:
- صراع مع الطبيعة
- صراع مع الحضارة
- صراع مع الذات!
*
الانسان الطفل والطبيعة الأم..
فتح الانسان عينيه.. فوجد نفسه في الطبيعة /على تماس مباشر وغير مباشر معها ومع تاثيراتها. كان طفلاً.. يكتشف ويتعلم ويتلذذ.. ومثل الطفل تنقصه التجربة والوعي.. ولا يكاد يميز بين/ أو يعرف ما هو جيد وما هو سيء. لم تكن الذاكرة قد تكونت بعد.. ولا المدارك.. وكانت المشاعر في غضاضتها الأولى.. لما تنضج ولما تتولد العاطفة. يختلف العلماء والفلاسفة والمؤرخون في تقييم الكائن البشري الأول وتوصيفه وتفسير كنهه وأصله ومآله عموماً. وعلى صعيد أدقّ، الاختلاف في تمييزه عن الكائنات الحياتية الأخرى ومنها الأقرب شبها إليه، بدء من الفقاريات حتى الهومو سابينز (Homo- Sapiens). هل يكمن امتيازه في الشكل، أو العقل، في قواه الظاهرة (الجسدية)، أو قدراته العقلية، في خصائصه النفسية أو لغز الروح. الإجابة هنا تختلف، باختلاف المنظور المستخدم في الرؤية، وطبقا لمرجعيات القراءة. مع الأخذ بنظر الاعتبار، أن كل مرحلة من المراحل، استتبعت مفهومها الخاص، ومن المبالغة بمكان، افتراض، أو تصور حريتنا المطلقة في إمكانية النفاذ للمفاهيم الفكرية والاجتماعية والنفسية في علاقتنا مع (الآخر). في هذه المرحلة تراكمت التجربة وتشكل الوعي.. الذاكرة والمعارف.. المدارك والأحاسيس وبدايات العواطف. وبدأ الانسان حثيثاً في توظيف تجاربه ومداركه ومعارفه لتسخير مقدرات الطبيعة للاستفادة منها في تأمين احتياجاته اليومية، الفردية والاجتماعية.
*
من الطبيعة إلى المادة.. الخطأ والمثال
لم يعد الانسان عبداً مطلق التبعية لمقدرات الطبيعة.. وفي هذا امتياز عن عالم الحيوان.. وكلما زاد استقلاله عن عوامل الطبيعة وتأثيراتها ابتعد في مضمار الحضارة، وامتاز الأفراد والجماعات البشرية عن بعضهم البعض بذلك. لكن السؤال هنا: إلى أي حدّ استطاع الانسان تقليد الطبيعة وكيفية تسخيرها لاحتياجاته. ان الطبيعة في سماتها وخصائصها هي صورة للكمال والمثال، فهل كان الكمال سمة أو خاصة لعمل الانسان ونشاطاته الأرضية؟. ان الطبيعة بجريانها الدوري المنتظم، تنتج تراكما معرفيا يساعد في تقدير تبعاتها والتحسب لها في جانب الطمأنينة والفائدة. ولكن النشاط الانساني يفتقد سنة الجريان الدوري وفق حسابات رياضية فيزياوية وزمانية دقيقة، تؤهل للتحسب لما يطرأ عنها.
في هذه المرحلة ترتبت آثار سلبية ثانوية أو رئيسة أحياناً، تبع النشاط البشري، وتحول الصراع من اتحاد البشر في مواجهة عوامل الطبيعة، إلى تمزق البشر في فئات متصارعة ضد بعضها. ليس من باب الصراع على القوت والاستقرار، وانما عمل كل جماعة لتفادي أخطاء الجماعة الأخرى، وتقليل المضار الملحقة بها. ومن هنا ظهرت عوامل متعددة تحكمت في انتاج التمايز الحضاري والاجتماعي والاقتصادي بين الجماعات البشرية أولاً، وبين الأفراد داخل الجماعة الواحدة نفسها (التفاوت الطبقي واختلاف المصالح).
*
فكرة الشرّ والفضيلة
الحضارة باعتبارها منتجاً بشرياً تتشكل من صنفين من الانتاج: المادي والعقلي. وهذا يقود إلى التمييز بين الحضارات المتعددة، ما يعتمد الابداع والتجديد منها، وما يعتمد التقليد والاجترار. ويترتب عليه حضارات متواصلة متوالدة في ذاتها، وحضارات مرحلية منقطعة، تتحكم عوامل اجتماعية وسياسية في ظهورها واندثارها. بعبارة أخرى، ثمة حضارات أصيلة وحضارات هجينة. هذا على مستوى التعريف والتصنيف، أما على مستوى التقييم، فلم تنجُ حضارة من ارتكاب أخطاء، ترتبت عليها كوارث بيئية أو اجتماعية. والسؤال هنا: هل كان بالامكان تفادي الضرر الحاصل (الشرّ!)؟..
هل الضرر تلقائي أو مقصود؟.. هل الشرّ كامن في العمل أو في البشر؟..
هنا افترق العقل البشري في تيارين أو أكثر، مميزاً بين الفكر الديني والفكر المادي، وما بينهما.
*
الواقع والتصور
منذ البدء استخدم الانسان عقله في معاملات الحياتية، رغم أن الدور الأكبر كان للغريزة كمهماز وموجه. وبفضل ما يتمتع به من غريزة ونقاء روحي، ارتسمت في مخيلته (مخيلة كل جماعة على حدة)- أشكال وصور تقريبية للطبيعة والكون الأكبر. بعض هذه التصورات كان متجسداً في الواقع في أشكال التضاريس الأرضية او الأجرام السماوية أو النبات والحيوان، وما لم يكن مجسّداً عمل على تجسيده في أشكال وتماثيل، ذات أبعاد دلالية وسيميائية أكثر منها واقعية مباشرة. كانت الميثولوجيا عنصرا مهماً لتشكيل علاقة كونية بين الفرد او الجماعة والطبيعة (باعتبارها روحاً تحكم الأرض وتتولى منح الحماية والبركة والقوة)-. ان إدراك الانسان لضعفه وما ينطوي عليه من نقيصة، كان مهماز حاجته لحماية فوق عادية وغير مرئية. وقد استغرق زمناً غير قليل لبلورة مداركه وتصوراته بالشكل الذي تنتظم في صورة أفكار وعقائد.. يتم ترجمتها في طقوس وممارسات وتقدمات للحصول على البركة والتكفير عن الأخطاء. ويمكن استقراء ثلاثة أغراض للتصور الأول..
- عقد صلة مباشرة مع السيد الأكبر/ الملك العظيم/ صاحب الطبيعة والخلق.
- الحصول على الحماية والقوة والبركة.
- السعي للمثال والتكامل.
*
فلسفة الأغريق

يعود الفضل للاغريق في جمع الميثولوجيات القديمة ودراستها لوضع قواعد الفلسفة العقلية في القرن السابع قبل الميلاد، وهو ما يضاهي انتقال الانسان من حالة البدائية إلى الحركة الحضارية. ان الدلالة الاغريقية لمعنى كلمة (فلسفة) هي أوسع كثيراً من دلالتها في العصور الحديثة (ما بعد القرن السابع عشر). وهو ما يشتمل على جملة العلوم والمعارف والآداب والفنون التي ينتجها العقل والمخيلة. ويرجع الفضل لفتوحات الاسكندر المقدوني في نشر معارف الاغريق والتأسيس للهلنستية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وهو ما يضاهي أثر حملة نابليون على مصر (1789) على مصر في حركة التنوير والثقافة الحديثة.
بذل علماء الأغريق وفلاسفتهم وقتا أكثر لدراسة الكون (خارج الأرض). حيث كان التصور الأول أن الأرض مركز الكون كما ثبته يطليموس السكندري في كتابه (المجسطي) في (150) ق.م. واستمر هذا الاعتقاد حتى القرن السادس عشر، حيث أثبت نيكولا كوبر نيكوس (1473- 1543م) مؤسس علم الفلك الحديث، أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم وحول الشمس مرة كل عام. لقد حاولت فلسفة الأغريق وضع القواعد الأساسية وتنظيم المناهج والأطر لمختلف مجالات الحياة والفكر والسلوك، الخاصة بالفرد والجماعة والدولة. وعندما نلتفت اليوم في أي جانب من جوانب الحياة المعرفية ونتحرى جذورها فلا بدّ أن نلتقي بالأصل الأغرقي أو اللفظ اللاتيني للمفردة. لقد نقلت الأغارقة الانسان من عصر الغريزة إلى عصر العقل، ولكن أثر الميثولوجيا والغيبيات لم يتغير كثيراً في حياة الناس. ويمكن القول على العموم، أن الجهد الفلسفي للاغريق انقسم إلى جانبين: البحث في الفلك والكونيات، والبحث في قواعد الفكر والسلوك البشري. ويعبر كتاب (جمهورية أفلاطون) عن قدم الاهتمام بتنظيم الحياة البشرية وداخل المجتمع وتقسيم الأعمال، وهو ما يتأصل أكثر فأكثر مع أرسطو (384- 322)ق.م. الذي دعا لنشر الفلسفة العقلية المشهور بقوله: أن علينا أن نتفلسف، إذا اقتضى الأمر التفلسف، فإذا لم يقتضِ الأمر التفلسف، وجب علينا أن نتفلسف، لنثبت عدم جدوى التفلسف.!. وهو مؤسس علم المنطق وصاحب كتاب الشعر ووصيته الشهيرة للكل فرد: (أعرف نفسك!). ويمكن القول أنه مع أرسطو بدأت الخطوات الحقيقية للفلسفة الاجتماعية الانسانية أو الفكر الاجتماعي مركزً على بؤرة النفس والسلوك البشري. وبذلك انقسمت الفلسفة بين الاهتمام بالكونيات والكليات، وبين الاهتمام بالاجتماعيات والجزئيات.
*
الدين والفلسفة
اجتماع الدين مع الفلسفة مفارقة من مفارقات العقل، وذلك لاختلاف المرجعيات والأساليب، ولكن ما يجمعها في سلة واحدة في هذا المضمار هو الغاية (الانسان) ودرجة تقربه من الكمال (الله). يقول أحد الكتاب في مجال المقارنة والالتقاء بينهما: أن الدين يبدأ بغير المنظور (الايمان هو الثقة بم يرجى والايقان بأمور لا ترى(عب 11-1))، وينتهي بالمنظور الذي هو (الانسان). أما العلم فهو على العكس من ذلك، يبدأ من المعلوم/ المنظور ليكتشف المجهول. كما أن العلم يبدأ من الشك ليصل إلى الايمان، بينما يبدأ الدين بالايمان، ليصل إلى (يقين الايمان). والعلم يستخدم التجربة والحواس، وهو غير الممكن في الدين.
لكن الصلة التي تبدو مستحيلة في الظاهر لعام، سرعان ما انعقدت عبر منهجية أرسطو التي وجدت قبولاً لدى رجالات اللاهوت سواء في عصر الآباء الذي مازجوا بين العقيدة المسيحية والفلسفة الاغريقية، أو العصور الوسطى ممثلا بالفلاسفة المدرسيين مثل توما الأكويني (1225- 1274م). (ويرى كثير من المؤرخين أن اهم عوامل –النهضة الأوربية- كانت المزج الفريد بين فكر اليونان وفكر الكتاب المقدس (جورج صامويل) وكان مؤسسوا العلم الحديث إما من رجال الدين أو العلماء الأتقياء)/ص20.
*
من الفلسفة المثالية إلى الوجودية
تزاوج الدين بالفلسفة، أسفر عن سمتين رئيستين: عودة الاهتمام بالكليات بدل الجزئيات وان اسمر الاهتمام بالجانب الاجتماعي والانساني، والسمة الثانية هيمنة النزعة المثالية على الفلسفة. فكان لا بدّ من ظهور لودفيج فويرباخ (1804- 1872) – L. Feurbach بدعوته للاهتمام بالانسان بقوله: ان الشعور الديني يتولد عن أماني الانسان، وأن الدراسة الفلسفية الصحيحة هي دراسة الانسان نفسه!، وتنتقل الفلسفة من المثالية المطلقة لدى هيجل إلى الانسانية. وهكذا دشّن (القرن التاسع عشر روح قرن جديد يسعى حثيثاً إلى خلق فلسفة جديدة عن طريق تفتيت النتيجة التي انتهت إليها الهيجلية، وتتمثل هذه الروح الجديدة في تيارين عظيمين لا يزالان يتقاسمان الفكر المعاصر حتى يومنا هذا هما: الوجودية التي ترتكز على الفرد -ممثلة بسرن كيركجورد (1813- 1855)- والماركسية* التي ركزت اهتمامها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالانسان)/ص 8. وقد حاول جان بول سارتر (1905- 1980) التوفيق بين التيارين في مشروعه الانثروبولوجي (بكسر ما في الماركسية من جمود وشكلية، وقوالب جاهزة، ويجعلها تهتم - بالفرد-). وغير هؤلاء، ساهم مفكرون وفلاسفة عديدون في إغناء تراث الوجودية وتثبيت معالمها أمثال هيدجر وسيمون دي بوفوار وكامي ويسبرز وكولن ولسن وآخرين، إلا أن الفضل الأول يبقى لرائد الوجودية بمختلف اتجاهاتها المؤمنة والملحدة، وهو الذي نحت مضطلح الوجودية (Existentialism). أدارت الوجودية ظهرها للموضوعات الأكادمية والمعارفية المأثورة لدى المدارس الفكرية ما قبلها، وعنيت بموضوعات الحرية والمسؤولية والارادة ما يشغل جوهر الوجود الشخصي للفرد، ناهيك عن موضوعات اليأس والاغتراب والقق والموت والتناهي والاثم والخطية والتطهير. وهي على العموم توصف بأنها (إسلوب جديد من التفلسف يتسم بسمات خاصة، منها أنها يبدأ من الانسان لا من الطبيعة، وأنها التفلسف ينصبّ على الذات لا على الموضوع، وأن الذات الوجودية ليست ذات مفكرة وانما ذات فاعلة.).
*
سرن كيركجورد
(لقد منحني الله القدرة على أن أعيش لغزاً.)- يوميات 1848.
يقول سقراط :( أن الحياة التي لا يتم فحصها، غير جديرة بأن يحياها الانسان). ويبدو أن هذه العبارة هي ما دفع كيركجورد لدراسة حياته، التي شكلت الأساس الذي بنى عليه فلسفته. ويقول في المعنى: المهم أن أفهم مصيري أنا، وأن أدرك ما يريد مني الله أن افعله، أو أجد الحقيقة التي تكون كذلك بالنسبة لي أنا، أن أجد الفكرة التي أكرّس لها حياتي ومماتي.).
ولد كيركجورد في أسرة غريبة الملامح وعاش مضطربة السمات، وقد عبّر عن تلك الأسرة بكلمة (اللغز!). أما عن نفسه فقال (ذلك الفرد) وطلب أن تنقش فوق قبره. كان والده الأوسط بين تسعة أبناء، في عائلة فقيرة، وكان هو (ميخائيل كيركجورد) راعيا حتى الثانية عشرة من عمره، وقد ضاقد بفقره ذات يوم وقف على ربوة مكلما الله وشاكيا، ثم لاعنا. وكان له عم يعمل تاجرا في المدينة، فجاء هذا ذات يوم لزيارتهم، واختاره لمرافقته للمدينة ومساعدته في العمل. عمل كيركجورد الأب مع عمه ثم استقل لحسابه تاجرا في النسيج، ثم افتتح فرعاً آخر وفروعاً أكثر وصارت الأموال تنساب بين يديه بدون حساب. وذاع صيته في البلاد وانتقل من تجارة الداخل للتجارة الخارجية. وصادف أن ألمت بالبلاد أزمة مالية أصدرت على أثرها أوراق مالية بدون غطاء نقدي مما نتج عنه انخفاض قيمة العملة إلى عشر القيمة، ولم ينج من الخراب إلا الدفوعات والصكوك الأجنبية. انتبه الأب لثرائه المفاجئ، وتذكر طفولته وفقره، وحديثه مع الله وشتائمه، فهل استجاب الله لشكواه، أم أن الله يريد أن ينتقم منه للعناته. من المهم هنا التنويه أن كلمة كيركجورد(Keirkegaard) الدانماركية تعني (لعنة). لم يتزوج الأب لانشغاله بالتجارة واللهو، حتى قارب السابعة والثلاثين (1794)، ولكنها ماتت بعد عامين دون ن تنجب. وبعد ثلاث سنوات اعتزل العمل، ليعيش على أمواله المكدسة. ثم تزوج من الخادمة (1797) وكانت له بها علاقة سرية. أنجبت له ستة أطفال ثلاث بنين وثلاث بنات. وتوقفت عن الانجاب مع بلوغها الخامسة والأربعين وكان هو في السادسة والخمسين. (ولكن الأقدار تتدخل بطرقة غير مفهومة، وتهمس الزوجة لزوجها في غمرة الفرحة بالنجاة من الخراب المالي الذي حاق بالبلاد، بأنها تنتظر حدثا سعيدا. وي الخامس من مايو تضع الطفل الذي سو يخلد الأسرة، Sören Aabye Kierkegaard. لكن مخاوف الأب استيقظت من جديد خوفا من حادثة المولود الجديد. مات ابنه الخامس في الثانية عشرة من عمره متأثرا بمرض عصبي وماتت ابنته الكبرى في الثانية والعشرين. وازدات قناعة الأب ان الله كانيعاقب بني اسرائيل في ذريتهم، وهو (يعاقبه في أبنائه. فيحرمه منهم واحد أثر واحد حتى يتركه وحيدا في النهاية يعاني من يأس قاتل)/ 77. ولم يسمح لابنه بمغادرة البيت وكان ياخذه من يده ويدور في الحجرة يوميا ويحدثه عن أجواء المدينة ويتوقف هنا وهناك كما لو كان عيانا. وكتب على الطفل أن يرث مخاوف الأب وقلقه وتدينه وكان يجتمع إليه في منزله جماعة من طائفة المورافيين، ولم يمارس كيركجورد الابن عملاً في حياته ولم يتزوج، مستفيدا من ثراء والده، وكان يعاني من تشوه شكله ويصف نفسه بالكانغر القصير اليدين، ولكنه إلى ذلك اشتهر بروح النكتة والدعابة، التي يخفي تحتها آلامه وضيقه بنفسه، وهو ما دفعه للانطواء والعزلة ودراسة تاريخ أسرته وحياته الخاصة مستفيدا من علوم الفلسفة واللاهوت، مؤسسا للوجودية (المسيحية) بمناقشاته الحادة وآرائه الجريئة.
*
كيركجورد والكتابة
في تاملاته التي لخص فيها جوهر مؤلفاته المستعارة كلها تحت عنوان : خاتمة محتملة لجميع أعمالي ذات الأسماء المستعارة بقلم نيكولاس نوتابن (Nicolaus Notabene)، يقول: سوف أخبر الجمهور الكريم الآن كيف أصبحت مؤلفاً، القضية بسيطة للغاية:
لقد أنفقت بعض سنوات عمري طالبا كسولاً متعطلا إلى حد ما..أقرأ قليلاً وافكر قليلاً. غير أن سنوات المراهقة كان لها عندي اليد الطولى، وقد حدث أن جلست بعد ظهر يوم من أيام الآحاد في مقهى فردريكسرج أدخن سيجارا وأتأمل الفتيات العاملات، وفجأة خطر لي خاطر فقلت لنفسي: أنت لا تزال تضيع وقتك عبثا، مع أن العباقرة قد ظهروا في كل جانب، واحدا أثر واحد، وحاول كل منهم أن يجعل الوجود والحياة، ووسائل الاتصال عبر التاريخ، والاتصال بالسعادة الأبدية.. أسهل وأسهل، فماذا تفعل أنت؟. ألا يمكن أن تكتشف طريقة ما تستطيع بواسطتها أن تعين الأجيال وتساعدهم؟. عندئذ سألت نفسي لم لا أجلس وأجعل كل شيء أكثر صعوبة. إذا لا بدّ أن أكون نافعاً بطريقة ما.
*
من دروس المعلم كيركجورد
- كل انسان ينتقم لنفسه من العالم، وانتقامي يكمن في محافظتي على آلامي وهمومي داخل نفسي عميقة مطمورة، وأن أسلي الآخرين جميعاً بضحكي.
- عزائي أن أحداً لن يستطيع بعد وفاتي أن يجد تفسيراً واحداً لما كان يملأ حياتي كلها، لن يجد الكلمات التي تفسر له كل شيء.
- لم أعش قط بالمعنى الانساني للكلمة، لقد كنت فكراً من البداية إلى النهاية.
- ليس لي سوى صديق واحد هو الصدى، ولم كان صديقي..؟ لأني احب آلامي، وهو لا يحرمني منها. وليس لي إلا مستودع واحد لسري هو سكون الليل، ولم..؟ لأنه صامت.
- أنني أقول عن آلامي ما يقوله الانجليز عن بيوتهم، أن ألمي هو قلعتي.
- أنني آمل بفضل العذاب الذي أتحمله أن أكون شوكة في جنب العالم.
- لقد ذقت الفاكهة من شجرة المعرفة واستمتعت بمذاقها، غير أن هذه اللذة لم تمكث إلا لحظة المعرفة المعرفة فحسب، ثم تمضي دون أن تخلف بصماتها العميقة داخل نفسي، وأنه ليبدو لي أنني لم أشرب من كأس الحكمة، لكني سقطت في هذه الكأس.
- الانسان ينبغي له أن يعرف نفسه، قبل أن يعرف أي شيء آخر. وبعد أن يفهم الانسان نفسه من الناحية الداخلية، وأن يتبين طريقه على هذا النحو، هنا فقط سوف تنعم الحياة بالسلام والمعنى.
- الله لا يفكر، أنه يخلق، الله لا يوجد، أنه أبدي. أما الانسان فهو يفكر ويوجد، والوجود الفعلي للانسان Existence هو الذي يفصل بين الفكر والوجود العام Being.
- أريد أن أكتب قصة، يصبح أحد أبطالها مجنونا، وأظل أكتب وأكتب... حتى أتحدث آخر الأمر بلسانه، أو أجعله يتحدث بلساني.
- الخوف يعني أنك تعرفالشيء الذي تخاف منه، فهو خوف من وجد متعين. أما القلق فهو الخوف من مواجهة الواقع كله. الخوف من الوجود بأسره.
- آه، اندلعت النيران في كل شيء لا يمكن أن يحترق، اندلعت داخل نفسي.

*
كيركجورد والمسيحية
يرى الكاتب إمام عبد الفتاح إمام أن أحد أسباب عزوف كيركجورد عن الزواج من خطيبته ريجينا كان (شعوره بأن مهمته في هذه الدنيا روحية وأن عليه أن يقوم برسالة دينية كالمسيح والقديس بولس، ومن ثم لا بدّ أن يكون مثلهما عازباً)/ 138. ويرى المؤرخون أن كيركجورد كان لديه ميل خفي لإقامة(مذهب مسيحي) رغم معارضته الشديدة للمذاهب، وللنسق الفلسفي بصورة عامة، فقد استهوته (المذهبية الهيجلية) رغما عنه، ولهذا كان في كثير من الأحيان يعالج تصورات مجردة ومفاهيم عامة ثم يحاول الربط بينها، مثل (مفهوم القلق)، و(رسالة في اليأس)، و(العبقرية والجنون)، و (بين الحقيقة والجنون)، حيث تشيع المذهبية والتعميم. ويقول هربرت ماركيوز: إن أعمال كيركجورد تمثل آخر محاولة كبرى لاسترجاع الدين بوصفه أدة نهائية لتحرير الانسانية من الأثر الهدام لنظام اجتماعي غير عادل. أما ديفيد روبرتس (D. E. Roberts) فقد قال عنه: في أي مناقشة للوجودية المسيحية، سوف يكون سرن كيركجورد، الشخصية الرئيسية بلا جدال. لم يقتصر أثره على ميدان اللاهوت، وانما امتدّ إلى أولئك الكتاب المعروفين بكونهم ممثلين للوجودية غير المسيحية وكالوجودية اليهودية وكذلك الوجودية الملحدة.
*
العولمة
تتعدد تعاريف العولمة وتتفاوت شرقاً وغرباً، بيد أنها بصياغتها الأمريكية ليست غير عنوان لإمبراطوية إمبريالية كشرت عن أنيابها عقب الحرب العالمية الثانية (1945) واستأسدت باستفرادها الهيمنة الدولية عقب انهيار النظام الاشتراكي (1989). اقترنت العولمة بانتشار ثورة الاتصالات التقنية المتمثلة باطباق البثّ الفضائي الدولية وشبكة الانترنت وشبكات الهواتف الخلوية، وكلها من العابرة للقارات والحدود، مع مركزيتها الأمريكية. وعلى غرار الثورة الالكترونية الاتصالية، عمدت الولايات المتحدة الأميركية لاعتماد نظام عالمي اقتصادي جديد يهدف إلى جعل العالم وحدة اقتصادية تقودها قمة الدول الصناعية الثمانية بزعامة أميركية، مدعومة بالأطر السياسية التي توفرها جمعية الأمم المتحدة التي تحولت إلى تابع للخارجية الأميركية منذ التسعينات. ان إعادة تقسيم العالم إلى مجموعتين، صناعية منتجة، وتنموية مستهلكة بإدارة صندوق النقد الدولي ومؤسسة البنك الدولي، لا يترك آثاراً سياسية واقتصادية فحسب، وانما يتعداه إلى ما هو أبعد منه، ممثلاً في الأثر الاجتماعي والنفسي والثقافي للسلعة الاقتصادية والسياسة الدولية. بعبارة أخرى، أن العولمة ليست سوى أمركة مباشرة وعارية، وأن العالم منذ عقد ونيف، موغل في التأمرك على صعيد اللغة والثياب وألعاب الأطفال والأكلات السريعة وطراز العيش الأمريكي، ما يعنيه كل هذا من عقدة الانتماء والهوية، والنزعة المادية والاستهلاكية. وعلى صعيد الخطاب الثقافي السياسي، انحسار تام للفكر الاجتماعي واليساري ، وانجراف كامل نحو اليمينية (القومية والدينية) والثقافة الالكترونية المسطحة والاعلانات التجارية. بكلمة واحدة، أن الأمركة الأمبريالية تعني، تقزيم الفرد وسحق الكيان الانساني وانتاج قنانة اقتصادية الكتروية، لا تعرف غير خدمة ماكنة الاقتصاد بالعمالة الرخيصة والاستهلاك المفرط. لم يتنازل أحد عن جهازه المحمول، ولن يتردد عن شراء هاتف جديد، يطرح غدا تروج له الاعلانات بوجود خاصة اضافية أو شكل مختلف، وهو ما ينطبق على موضات ومجالات حياتية أخرى، شغلت الكثيرين عن مشاكلهم الحقيقية، ومشاكل بلادهم.
ان معظم العوائل اليوم تشكو من أوضاع أطفالها، وانجرافهم للالعاب الالكترونية وانشغالهم بالتفكير بالمادة والماديات، على حساب الثقافة والدين والأخلاق. وأن أغلبية يفضلون اليوم كرة القدم والرقص وعروض الأزياء على دراسات الطب والهندسة والتخصصات الأكادمية، وتشكو عموم البلاد الغربية من انخفاض نسبة الدراسات العليا والأكادمية، لصالح زيادة مساحة العمالة الوسيطة والمحدودة الثقافة والوعي.
*
الوجود في زمن العولمة
كيف يجيب شباب اليوم على سؤال أرسطو القديم: أعرف نفسك؟..
وماذا يحدثون سقراط الذي يقول أن الحياة التي لا يتم فحصها غير جديرة أن تعاش. ما المقصود بالفحص في ضوء ثقافة اليوم الاستهلاكية، هل هي فحص الهاندي أم الكمبيوتر أم الدعاية الالكترونية؟.. ما هي الأسس الثقافية والفكرية التي تؤهل الناشئة لطرق أي موضوع سياسي أو ثقافي خارج لغة الاعلام الاستهلاكية، وماذا تعني الفلسفة والوجودية لكثيرين اليوم. عقب الحرب العالمية الثانية كتب كولن ولسن عن سقوط الحضارة، وانتشر تيار التشاؤم في غرب أوربا وتحولت وجودية سارتر إلى مزيد من الاهتمام بالانسان. ان الانسان اليوم في أزمة، وهي أزمة ذات، قبل أن تكون أزمة هوية أو دين. والحضارة الجديدة، إذا اعتبرنا العولمة حضارة بالقياس التاريخي، قد انقلبت ضد الانسان. وكما في العصور الأولى والوسطى، مرة |أخرى تلتقي الفلسفة والدين على بساط واحد، لمقاومة الحضارة الجديدة بوصفها الشرّ، أو الخراب. اليوم أكثر من أي وقت نحن بحاجة لاستذكار الفيلسوف الروسي ليو تولستوي والشمال أفريقي ترليان في موقفها من الحضارة، ولكن قبلهما، نحن علينا إعادة قراءة أرسطو وفويرباخ وكيركجورد وروسو.
*
المصادر
- د. امام عبد الفتاح امام- سرن كيركجورد رائد الوجودية- ط2- 1983- دار التنوير للطباعة- بيروت.
- د. فوزي الياس- الكتاب المقدس والعلم الحديث- 1987- دار الثقافة- القاهرة.
- لودفيج فويرباخ في كتابه (جوهر المسيحية)- Essence of Christianity
- كارل ماركس (1818- 1883)- في كتابه- نقد فلسفة هيجل السياسية.
- المورافيين طائفة بروتستانتية أنشأها المصلح الديني جون هس في القرن الخاس عشر في بوهيميا ومورافيا.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظاهرة الاغتراب في نصوص مؤيد سامي
- بقية العمر
- ليلة ايزابيلا الأخيرة
- مستقبل المرأة الرافدينية وقراءة الواقع
- قاع النهر قصة: الفريد بيكر
- أبي / هيلكا شوبرت
- توازن القطاعي في النظام المعرفي العراقي..!!
- صورة جانبية لأدورد سعيد
- من الشعر النمساوي المعاصر- كلاوديا بتتر
- أوهام الضربة الأميركية لايران
- النوستالجيا.. الطمأنينة والاستقرار
- الفرد والنظام الاجتماعي
- الاغتراب في ظل الإسلام
- من الشعر النمساوي المعاصر- بيرنهارد فيدر
- أحلام مكيسة
- Shadowsظلال
- محمد علي الباني رائد تحرر المرأة العربية
- نكايات
- الجنس والجسد والزواج
- في ذكرى الصديق الشاعر مؤيد سامي!


المزيد.....




- إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟ ...
- الرئيس السابق للاستخبارات القومية الأمريكية يرد على الهجوم ا ...
- وزير خارجية الأردن لنظيره الإيراني: لن نسمح لإيران أو إسرائي ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع أنبا ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع وأنباء عن ضربة إسرائيلية على أ ...
- انفجارات بأصفهان بإيران ووسائل إعلام تتحدث عن ضربة إسرائيلية ...
- في حال نشوب حرب.. ما هي قدرات كل من إسرائيل وإيران العسكرية؟ ...
- دوي انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود على إيران- وسط نفي إيراني- لحظ ...
- -واينت-: صمت في إسرائيل والجيش في حالة تأهب قصوى


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - الوجودية والعولمة