أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل اندراوس - أصول ومكونات الفكر الماركسي - تتمة القسم الاول















المزيد.....


أصول ومكونات الفكر الماركسي - تتمة القسم الاول


خليل اندراوس

الحوار المتمدن-العدد: 2100 - 2007 / 11 / 15 - 11:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


* فيشيه وشلنغ: إن فيشيه وهو يتناول مسألة تطور العالم إنما وضع في اعتباره أساسا وهو يعبر عن الآمال الثورية لزمانه والأهداف التي يجب انجازها، وهو لم يركز على العودة الى ماضٍِ بال او حاضر لا يتغير، بل ركز على المستقبل الذي تكمن مهمة الماضي والحاضر في الإعداد له.
وقد رد فيشيه الفعل الثوري- ليس لطبقة معينة او وضع اقتصادي اجتماعي معين، بل الى نشاط العقل باعتباره إرادة أخلاقية.
وقد أقام تعارضا شأنه في هذا شأن الفلاسفة المثاليين الآخرين بين الواقع الحاضر، والمثال الذي يجب تحقيقه، بين ما هو كائن وما ينبغي ان يكون. وقد ألغى العالم الخارجي باعتباره عالما خارجيا الى اللا- انأ أي الى إبداع وتغيير وأداة للذات المفكرة، أي للأنا.
وهكذا ارتد عند فيشيه تطور العالم الى المعرفة التي يندمج فيها الموضوع الذي يعرف والذات التي تعرف، لقد جعل ما هو واقعي خلقا دائما للذات المفكره، أي للأنا التي تقيم لا – أنا ضد نفسها لكي تحدد نفسها وترفع نفسها عن طريق عملية جدلية الى ذاتية أعظم وأخلاقية أسمى.
ويحد هذا التطور الجدلي التغير العقلاني للواقع كما يحدد في الوقت نفسه تجاوز الأنا الفردية تنصهر تدريجيا في الإرادة الجمعية التي تمثلها الدولة.
وهذه الفلسفة لا تأخذ بعين الاعتبار وجود طبقات مختلفة في المجتمع البرجوازي، لديها ملامح وتناقضات تناحرية تمنع تجاوز الأنا وتمنع الطبقات الاجتماعية المختلفة في المجتمع البرجوازي.
ومن نتائج هذا المذهب فكرة الأنا الروحانية، أي الذات المفكرة لا توجد في ذاتها كذاتية مجرده وإنها لا تستطيع ان تتطور الا بعلاقتها مع اللا- أنا أي العالم الخارجي.
وهناك نتيجة أخرى هي فكرة ان الفعل ورد الفعل اللذين ينشآن من العلاقات بين الأنا واللا- أنا، بين الإنسان والعالم الخارجي، التطور الجدلي للتاريخ.
مع هذا لا يعطي هذا المذهب الا دمجا وهميا مثاليا للانسان في العالم الخارجي جاعلا الروح لهذا العالم، الى جانب القصور العام الموجود في المذاهب المثالية، وهو الغاء الواقع العيني.
لقد كانت فلسفة شلنغ خطوة اولى من المثالية المطلقة التي ترد الواقع جميعه الى الذات المفكرة، الى مثالية اكثر موضوعية، فهو على نقيض فيشيه، أعطى تفسيرا رجعيا اكثر منه ثوريا لعالم التطور العضوي مركزا على الماضي أكثر من تركيزه على المستقبل.
لقد ركز شلنغ على الدور الجوهري للأصل او للمصدر في التطور جميعه ولم يندد باسم الماضي باية حركة ثورية فحسب، بل ندد أيضا بأية فكرة متعلقة بالتقدم أصلا، ويقوم العنصر الجوهري للحاضر في رأيه في الماضي الذي يجب ان نرتد إليه للتوصل الى الحق والحرية، وقد لاح هذا الماضي المثالي في عينيه على انه تجسد في العصور الوسطى، وهو عنصر الروحانية السامية والقوية عندما دخلت الروح بالفعل في العناصر جميعا المتعلقة بالحياة والعالم، وعندما وجدت الروح والمادة شكلها المحدد في الأعمال الفنية وخاصة الكاتدرائيات.
ولقد حددت هذه النظرة العامة للعالم مذهبه كله الذي أعطى للواقع العيني أهمية اكبر بالمقارنة مع فيشيه، كما تميز هذا المذهب أيضا بتيار جماعي وتأملي قلل من دور الفعل والجدل في العملية التاريخية. وهذا الطرح الى جانب المثالية، تعتبر فلسفة ارتدادية بالنسبة لذلك العصر ومقارنة مع فلسفة فيشيه.
لكن الى جانب ذلك رفض شلنغ التعارض الذي أقامه فيشيه بين الأنا واللا- أنا، وهو التعارض الذي انتهى بفيشيه الى ان يتخلص من الواقع العيني باعتباره واقعا عينيا.
ولقد اعتبر شلنغ الروح والمادة عما هو الهي يختلفان في الشكل ولكن يتشابهان في الجوهر.
ولقد كان – شأنه جميع الرومانتيين المثاليين ينادي بأولوية الروح، فانه اظهر الطبيعة وهي ترتفع تدريجيا الى الروح التي تنفذ بدورها في الطبيعة وتحقق ذاتها.
وهنا يطرح فكر جدلي بين الطبيعة والروح ولكن تبقى المثالية أساس هذه العلاقة .



*جورج فلهلم فردرش هيجل (1770-1831): اكثر كتابات هيجل الفلسفية السياسية اهمية هو كتابه "فلسفة الحق" من جهة، وبعض المقالات مثل تلك المقالات عن الدستور الألماني (1802).
وعن لائحة الإصلاح البريطاني (1830)، من جهة اخرى.
يعتبر العمل الذي قام به، هيجل عن آمال ومصالح الطبقة المتوسطة الألمانية وهي البرجوازية التي كانت تتشكل اذ ذاك والتي أرادت ان تحرر نفسها من النظام الإقطاعي الذي كان لا يزال سائدا على غرار ما صنعت البرجوازية الفرنسية غير انها لم تستطع واضطرت إلى التمشي مع ما ظل حيا من الماضي الإقطاعي الألماني.
لقد رفض هيجل كلا من الاتجاهات الثورية عند فيشيه والاتجاهات الرجعية عند شلنغ، اما وجهة نظره هو للعالم فهي وجهة نظر محافظة.
لقد نصب نفسه لتبرير الحاضر، لم ينصبها لتبرر المستقبل كما فعل فيشيه ولا لتبرر الماضي كما فعل شلنغ.
لقد أضفى على الحاضر قيمة مطلقة واعتبره المحصلة الضرورية والكاملة للتطور العقلاني.
أكثر كتابات هيجل السياسية أهمية هو كتابه "فلسفة الحق" (يترجم هذا الكتاب أحيانا بفلسفة القانون) كما قلت، ولكن هذا الكتاب، أكثر كتبه إثارة للجدل والخلاف والمناقشات، بل وللهجوم العنيف في كثير من الأحيان، فهو على حد تعبير بوزانكيت B.BOSANQUET "كتاب ربما يكون قد أسيء فهمه اكثر بكثير مما اسيء فهم أي كتاب اخر من كتب الفلاسفة السياسيين العظام، اذا استثنيا جمهورية افلاطون".
ولقد بدأ الهجوم يوجه الى هذا الكتاب منذ صدوره، ولا يزال قائما حتى يومنا هذا، من فريز (الذي خلفه هيجل استاذا للفلسفة في هايدلبرج)، والذي وصف الكتاب بأنه "ترعرع لا في حديقة العلم وانما في قمامة الذل والخنوع"، حتى كارل بول الذي وصفه بأنه كان يستهدف "خدمة مسيرة فردريك فلهلم ملك بروسيا.....".
كما كان هناك أنصار متحمسون رفعوا شعارا ضيق الافق هو:"كل من ليس هيجليا فهو جاهل وأحمق"، ولكن الى جانب ذلك كان هناك معارضون مثل شلنغ وشلايرماهز وغيرهما، ولكن ابرز المعارضين فيلسوف التشاؤم "آرثر شوبنهور (1788-1860)، الذي كان يتمنى ان يحاضر في إحدى الجامعات الكبيرة، وأتيحت له الفرصة عام 1823 عندما دعي لإلقاء محاضرات يعرض فيها فلسفته أمام طلاب الجامعة، فتعمد ان يختار لإلقاء محاضراته نفس الأوقات التي كان يلقي فيها هيجل محاضراته.
وكان هيجل في ذلك الوقت في اوج شهرته، وكان شوبنهور على ثقة تامة بأن الطلاب سيقارنون بينه وبين هيجل، بعين الاجيال القادمة، فيفضلونه ويقبلون عليه، لكنه ها هنا فقط كان متفائلا موغلا في تفاؤله، ذلك لانه وجد نفسه يلقي محاضراته امام صفوف من المقاعد الخاوية، فاستقال من منصبه، وانتقم لنفسه من هيجل بالتشهير به.
كتب يقول:"أعظم قدر من الوقاحة يكمن في نشر هذا الهراء المطبق، ان تجميع ذلك القدر المجنون من "الخربشة" التي لا معنى لها لتشكل نسيجا من الكلمات، هو امر لم نكن نسمع عنه في السابق الا في المصحات العقلية، لكنه ظهر أخيرا عند هيجل، واصبح اداة للتعمية والملل والضجر، وسوف تكون له نتيجة لا تصدق على الأجيال القادمة، ومن ثم سوف يظل مذهب هيجل النصب التذكاري الدائم لغباء الألمان". ولكن واضح بان هذا الموقف غير موضوعي كُتب من قبل فيلسوف يحمل أفكارا وتوجهات رجعية، متشائم في كل طروحاته الفلسفية الاجتماعية وله موقف شخصي ذاتي غير موضوعي ضد هيجل.
ومع كل الهجوم الرجعي الذي تعرض له هيجل في ذلك الوقت، فقد بلغ تأثير هيجل في العالم الحديث حدا لم يبلغه مفكر آخر، فتصور ماركس لجدل التاريخ، وتحليله للنظام الرأسمالي، مدين لهيجل بدينٍ كبير، بالإضافة الى أعمال كثيرة للاهوتيين البروتستانت من أمثال كارل بارث (1886-1968K.BARTH ) وبونهوفر ديترس (1906-1945) الذي أعدمه الحكم النازي، والمنظرين لعلم الجمال امثال تيودر ادورنو T.ADORNO (1903-1969) الذين لا يمكن ان أتصور وجودهم من دون خلفية أفكار هيجل في علم الجمال، الى التفكيكة (DECONSTRUCTION) عند جاك دريدا J.DERRIDA (1930) والدراسات الحديثة تؤشر الى صحوة معينة في الاهتمام بالهيجليه، التي تعتبر السلف المباشر للماركسية.
وفشل الفلسفات الحديثة من وجودية، وتحليلية، لدرجة فقدت هذه الفلسفات مبرر وجودها، دفعت بالكثير من الفلاسفة في الغرب وفي أماكن أخرى في العالم بالبحث عن محرك آخر يدفع الفلسفة الى الحركة والنزول بها من برجها العاجي الى ارض الواقع، جعلت من الفلسفة الماركسية مركز الاهتمام عند العديد من متنوري ومثقفي العالم.
فالماركسية في رأي ما زالت الفلسفة القابلة للحياة، والنمو والتطور، والتي تشمل أمورا بالغة الأهمية يمكن ويجب أن تنسيهم بها الدراسات الحالية حول العولمة، والنسبية التاريخية، والفقر، والاغتراب الاجتماعي وطبيعة الحرية، والشرعية السياسية ومستقبل التاريخ والإنسانية ومستقبل الفن وطابع الإيمان ... الخ
وهذا ما سأذكره لاحقا بتوسع.
لا شك بان هيجل عند تبريره للحاضر وارتكازه على فلسفة مثالية جعلت الروح أساس التاريخ فبالنسبة لهيجل التاريخ هو الروح وقد ارتدت ثوب الحوادث، او التحقق الفعلي المباشر للطبيعة، ولقد حاول هيجل برغبته في تبرير الحاضر ان يجعل المثالية أكثر عينية، وذلك بإظهار ان العقل لا يوجد بالفعل الا في الإطار الذي يشارك فيه في الواقع الموضوعي.
ولقد اوحت إليه بهذه الفكرة الثورة الفرنسية والتطور الاقتصادي الانجليزي اللذان ضربا المثل على قوة العقل الإنساني في تغيير الواقع وإعطاءه طبيعة عقلية.
ففي فرنسا وانجلترا ارتبط النشاط العقلي بالحياة العينية والتنظيم الاقتصادي السياسي والاجتماعي على حين كان على هيجل في ألمانيا المختلفة في ذلك الوقت ان ينظر الى النشاط أساسا من وجهة النظر المثالية الروحانية، ولقد كان شأنه شأن العقلانيين في القرن الثامن عشر، فقد ردّ النشاط الى تطور المعرفة، اي الى بناء من التصورات.
لقد فشل هيجل في تفهم الواقع باعتباره موضوع النشاط للعمل العيني للإنسان، ومن ثم لم يتوصّل الى العلة الفاعلة لتبدل العالم، لقد ظل في الأساس مثاليا. فقد اعتبر ما هو واقعي موضوعي مادي على انه موضوع النشاط الروحي، وكان اهتمامه الرئيسي هو ان يبين كيف ان الواقع العيني من الناحية الفعلية هو نفسه مع تمثله الروحي وكيف ان تطور الروح لا يعبر فحسب بل يحدد أيضا تطور العالم.
ولكي يتمكن هيجل من التوحيد بين الواقع المادي والواقع الروحاني اجتهد في ان يجدد الواقع العيني من المادة الملائمة له التي حولها- على الاقل في خصائصها الجوهرية- الى روح، وعلى هذا جعلها التعبير عن العنصر الروحي الذي تجد فيه سببها الكافي وحقيقتها، لقد اصبح الواقع العيني عند هيجل كما هو عند فيشيه (الذي تم التطرق لفلسفته سابقا في هذه الدراسة)- خلق الذات المفكرة، اي موضع ( اي إضفاء النزعة الموضوعية) على الروح.
وهيجل لم يستمد تطور العالم من الارادة بل من شكل للعقل أسمى من العقل الذاتي الفردي، الا وهو العقل الموضوعي الذي يربط في ذاته الروح بالكينونه ويكون في الوقت نفسه ذاتا وموضوعا معا .
لقد سعى هيجل الى ان يبين كيف ان هذه الوحدة (بين الروح والمادة) تتحقق في مجرى التاريخ عن طريق الاندماج المتقدم للروح في العالم الموضوعي الطبيعي.
وبالفعل نجد ان حركة العقل في مذهبه هي شكل للحديث عن إضفاء النزعة العقلانية المتقدمة للعالم التي حدثت نتيجة جهد طويل قامت به البشرية طوال التاريخ.
وقد استمد تصوره لتحديد ما هو واقعي بنشاط الروح، من الفكرة المسيحية عن الخلق، فالله عند هيجل هو"روح العالم". انه الفكرة المطلقة، الله هو الذي يخلق الواقع جميعه.
ولما كان هدف هيجل هو في الأساس تبرير الواقع الحاضر، فلم يركز كثيرا على التعارض الأساسي بين الله والعالم، بين الروح والواقع المادي العيني بل ركز على وحدتهما العميقة الجذور وقد تجسدت في نظره في شخصية المسيح.
ان النظرة المتشائمة للعالم التي تتميز بالوعي "التعس" او "المنسحق" إنما تنسحب من الواقع الحاضر الى ماض مختلف او مستقبل وهمي، وهيجل يقف من هذه النظرة ويضع الرؤية المتفائلة لوحد قائمة في الرب في الواقع الحاضر.
وهذه الوحده في الرب التي نقلها هيجل الى المستوى الفلسفي على شكل وحدة لما هو عقلي وما هو واقعي، ليست وحدة صافية ومباشرة، ولكنها تجعل نفسها معروفة عن طريق إضفاء الصبغة التقدمية على ما هو واقعي الذي هو ثمرة رحلة الناس طوال العصور.
ان هذا التصالح بين الاسس والجهد والذي بدونه لا تكون هناك حياة عميقه والذي تعد شخصيه المسيح رمزا له، يكون الفكرة الجذرية لمذهب هيجل.
وقد طبق هذا التصور للتعارض الذي تتبعه وحده ما، على الحياة الكلية للروح التي لا تنجح الا في جعل الواقعي عقليا، وذلك بالتغلب على المتقللات تتولد دوما نتيجة تطور ما هو واقعي والتطابق بين ما هو واقعي وما هو عقلي الذي نحصل عليه أصلا في الفكرة المطلقة، انما تدمره عملية إضفاء صبغة خارجية على ما هو عقلي في واقع يبدو في الاول غريبا عنه، ثم تستعاد الهوية بشكل تقدمي عن طريق النشاط الروحي الذي يستعبد العناصر اللا عقلانيه مما هو واقعي ويجعله مع الوقت يتجاوز ذاته، ويتخذ اشكالا ومحتوى أكثر وأكثر مطابقه للعقل. ان الوحدة التقدمية للروح والكينونة والتي تتحد بهذا الإضفاء للصبغة العقلية على العالم انما تتكامل في شكل أفكار او مفاهيم عينية لا تكون مجرد تمثلات يصنعها الإنسان في الأشياء والموجودات بل تشكل الواقع نفسه في اكثر جوانبه جوهرية.
ولما كانت العناصر المادية والروحانية تمتزج في المفهوم أي في الفكرة العينيه، فان هيجل وهو يقيم تشابها بين دور المفهوم ودور المسيح، قد جعل من المفهوم الرابطة الضرورية أي حدا متوسطا، حدا ثالثا بين الإنسان والعالم الخارجي.
وبهذه الطريقة اقام المركب بين الواقع الروحاني والواقع المادي، وأكد ان الروح تحتوي بالفعل على الجوهر الخالص للأشياء وتحكم تطورها.
فهنا ايضا يؤكد على ان الروح هي التي تحكم وتحرك التطور.
من هنا، حسب فلسفة هيجل تأتي الأهمية الرئيسية للتاريخ الذي يتحقق فيه التطابق بين الذات والموضوع عن طريق وحدة الفكر في العمل والواقعة العينية. وهذا الارتباط بين المنطق والتاريخ من الخصائص المميزة لمذهب هيجل.
ولما كان تطور الفكرة مرتبطا بتطور الوجود الذي يجد واقعا الحق في الفكرة، ولما كان ما هو عقلي- على هذا- يجب ان يتطابق مع ما هو واقعي فان هيجل قد نبذ القطيعة التي تنعزل من الواقع ، كما نبذ التجريدية التي لا تعمل حسابا إطلاقا للواقع العيني، لقد ندد بالقطيعة التي تفصل الفكر عن الواقع ومن ثم تجعله عقيما. ولما كان من العبث البحث عن مثال خارج الواقع الحاضر، فانه اناط بالفيلسوف مهمة فهم ما هو واقعي، باعتباره تعبيرا عن العقل.
فالواقع الموضوعي المادي عند هيجل هو تعبير عن العقل والفكرة.
ان هيجل وهو ينبذ القطيعة والتجريد، قد اقتنع بأن التجريبية لها جدارة تكريس نفسها لدراسة الواقع العيني الذي هو الطريق الوحيد للدنو من الحق (تحتوي التجريبية على مبدأ عظيم وهو ان ما هو حقيقي يجب ان يكون في الواقع ويوجد من اجل الإدراك الحسي)، ومع ذلك فبالنسبة لهيجل فان المعرفة المحضة البسيطة للعالم لم تكن كافية بالنسبة لهيجل فان المعرفة المحضة البسيطة للعالم لم تكن كافية بالنسبة له.
فقد نادى بان ما هو واقعي لا يكون صادقا الا ما دام تعبيرا ونتاجا للروح (في كتاب فلسفة التاريخ ما هو عقلاني واقعي وما هو واقعي عقلاني) ووجه اللوم للتجريبية انها لم ترتفع على المعطيات المباشرة للواقع المادي العيني وأنها تضيع وسط التكدس المتناهي للواقع المادي العيني وانها تضيع وسط التكدس اللا متناهي للوقائع والأشياء بدل ان تلتقط ماهيتها الروحية.
فالواقع الجوهري يرتبط بتطور الفكرة التي هي جوهره، هذا الواقع الجوهري عقلاني وضروري معا.
وهذا الواقع الجوهري وحده هو الجدير بأن يعرف لأنه وحده الذي يجسد العقل.
ولما كان الواقع العيني يجد، من الناحية الجوهرية،كلا من شكله وجوهره في الروح فان الضرورات الواقعية هي نفسها الضروريات المنطقية.
ومن ثم فان قوانين الروح تنطبق على العالم الخارجي ويصبح المنطق أي حركه الأفكار ،خالق ما هو واقعي،الذي يكون تطوره الآن مشتقا من مجرد عمليه التفكير فعند هيجل المنطق ارتفاع للفكرة الى مرتبه تنطلق منها لتصبح خالقه الطبيعة .
وينتهي تصور الفكرة التي تحقق ماهيتها في العالم الى منطقية مطلق يشرح فيها هيجل التطور عن طريق قيام الفكرة بغض النظر عن ما تحتويه بالفعل ولقد جعل زحف التاريخ تابعا لزحف المنطقية ألمطلقه ويتحدد تتابع الأحداث في الزمن وفق نظامها العقلاني.
وبموجب مذهب هيجل تتحدد حركة الفكرة التي تضم الروح والوجود عن طريق العقل العيني، وهذا العقل العيني يتسبب في ظهور منطق دينامي جديد الا وهو الجدل فالمنطق القديم يتمشى مع تصور جامد ساكن للعالم ، فهو ينظر الى الموجودات والأشياء في ضوء الابدية والسكونية ويقترح اقتراحا جوهريا ان يثبتها في ذاتها وذلك باستيعاد الأضداد.
اما الجدل فانه يرفض الهويه التي تضمن عزل التطور جمعية ووقفه، ومن ثم لا يستطيع هذا المبدأ ان يفسر كلا من الروابط التي توجد بين العناصر المختلفة لما هو واقعي وتغير هذه العناصر ،اما الجدل فهو ينظر الى هذه العناصر كما لو كانت في حالة تغير وتقدم ويبين انه بدلا من مجرد قيام كل استبعاد عنصر باحتواء او استبعاد العناصر الأخرى كما يفعل المنطق القديم يبين الجدل ان هذه العناصر تتضمن بعضها بتبادل ،وإنها تمتلك أصل تغيرها في العلاقة المتداخلة والجدلية بينها.
لقد نظر هيجل الى الموجودات والأشياء في تحولها الذي لا ينقطع فالأضداد والمتناقصات الكامنة في الواقع الحي قائمه في قلب كل واقع روحاني او مادي او كل فكر او كل موجود او كل شيء والعناصر المتناقضة يصبح كل منها شرطا للأخرى يتبادل ويحدد تغيرها تطور ما هو واقعي .
النقيض ومن التناقض، أي النفي ،أي النقيض وقد تم تصوره على انه العنصر الذي يجعل الواقع يتغير ،تتدفق طبيعة المركب الهيجلي.
لقد رفض هيجل الحل الذي قدمه المنطق الشكلي أي استبعاد الأضداد، الذي هو استبعاد يجمد الواقع ولا يسمح له بالتطور .واظهر بدلا من هذا كيف تتوحد الأضداد لتحقيق وحدة ارقى. وهذه الوحدة هي ثمرة حدة التطاحنات بين العناصر المتناقضة التي تصل الى نقطه لا تستطيع بعدها ان تتعايش.
وفي سير الأزمة الناجمة تلغى العناصر المتضادة والاطروحة والنقيض ،وهما على هذا النحو ،وتتم إعادة استيعابهما في وحدة ارقى ومختلفة كيفيا الا وهي المركب.
وفي هذه العملية الجديدة حيث تتغير الأضداد وتتحد في المركب الذي تظهر فيه تناقضات جديدة والذي يعاد استيعابه بدوره في مركبات جديدة-في هذه العملية يبدو تطور الروح الذي يحاول في الجهد الذي يبذله ليتجاوز التناقضات المتولدة من جديد بلا انقطاع ان ينتقل من فكرة الى أخرى ومن مفهوم الى آخر وكل منها يوحد في ذاته مرحله جديدة للواقع المادي والروحاني .
هذا التطور العام هو نقطه انطلاق هيجل في محاولته الضخمة في ان يعيد بناء الواقع الذي يرتده الى المفاهيم ويفسره وان يبين كيف ان الواقع يسلك دربا عقلانيا في تطوره وانه يعبر عن الروح الخالصة للروح.
قام هيجل قبل ان يتناول الواقع الموضوعي والمجتمع إنساني بتحليل تطور أشكال الوعي والفكر وهو تطور يحدد تطور العالم بمفهوم هيجل ؟
وفي البداية أخذ على عاتقه أن يبين في كتابه "فينومينولوجيا الروح" كيف ان العقل ينمو تدريجيا الى الوعي الذاتي ان يحقق السلسلة الكلية بأشكاله بدءا من الوعي التجريبي الذي يتفق مع الخبرة الحسية، إلى الروح المطلق التي تعبر عن الحقيقة الكاملة.
ولما كانت الروح لا توجد في ذاتها مستقلة عن الواقع العيني الذي يشكل جوهرها فقد درسها هيجل في علاقاتها مع العالم الخارجي واظهر تغيرات تلك العلاقات بين الوعي والموضوع.
وفي دراسته هذه تخلى هيجل عن وجهه النظر الميتافيزيقية من اجل وجهة نظر تاريخية وجدلية لكي يعبر عن العلاقة بين الإنسان والعالم.وهذا التطور استفاد منه لاحقا ماركس وطور النظرة الجدلية على أساس مادي رافضا النظرة المثالية لهيجل وسنكتب عن ذلك لاحقا.
يواصل هيجل رحلته ليحلل الطبيعة ودور تأثيرات العمل. وخواص العمل الجوهرية في خواص النظام الرأس مالي في الإنتاج ويمكن تلخيصها في ما يلي :التغير المتقدم للعالم بالنشاط الإنساني الذي يسبغه قدما بصبغة إنسانيه بتكيفه مع احتياجاته ،الترابط الأوثق المتزايد للأفراد في نمط الإنتاج الذي يتخذ طابعا جمعيا ويثير مشاعر التضامن بين الناس التناقض بين نمط جمعي للإنتاج ونمط فرداني للتملك ينصب كل فرد ضد الآخر ويعيق اندماج الناس في المجتمع ويعوق تطور هذا الشعور للتضامن.
لقد قدم تحليل هيجل للعمل تفسير "أيديولوجيا"لطبيعته وتأثيرها في ظل النظام الرأسمالي وهكذا قدم التأثير الجوهري للنشاط الإنساني الذي يمكن الإنسان من التسيد على العالم وتغييره وذلك على غرار تسيد الوعي على الشيء حيث يحقق فيه الوعي ماهيته.
وقدم عرض "أيديولوجيا" مماثلا للطبيعة الجمعية للعمل وربط بين الناس في أداء المهام المشتركة والإنسان في تغيره لا يستطيع ان يحقق ماهيته الا من خلال الآخرين وان وجوده الحقيقي هو ان يوجد للآخرين.
وهكذا مرة اخرى قدم هيجل تفسيرا أيديولوجيا للطريقة التي يتحطم بها التضامن الإنساني في المجتمع الحالي بسبب السعي للربح الذي يضع مصالح الفرد ضد مصالح الناس.
وهيجل في تحليله للعلاقات بين السيد والعبد لا يؤكد فحسب هذا التعارض الأساسي بل يؤكد أيضا العبودية العامة التي تنجم عن قوة المال في ظل الرأسمالية ؟
ولكن لما كان يدافع عن مجتمع الملكية الخاصة(وهذا هو الخلاف الجذري مع الماركسية إلى جانب كون فلسفة هيجل مثالية) الذي يولد هذا التعارض فانه لا يستطيع ان يتجاوزه الا بطريقة خيالية وهمية.
ويقول هيجل ان العمل الذي يقسم بين الناس بفوارق اجتماعيه يخلقها العمل بينهم انما يتيح أيضا إدماج الفرد في الجماعة بقهر النزعه الفردانية والذاتية .
وبدل ان يحاول هيجل إحداث الاندماج بالتغير الفعلي لنمط الإنتاج من نمط إنتاج يعتمد على الملكية الخاصة الى نمط إنتاج اجتماعي كما فعل ماركس يرد عملية التغير الاجتماعي الى تغير الوعي الذي بارتفاعه الى الوعي الذاتي يعطي الفرد الشعور بان ماهيته الحقة هي في ان يوجد للآخرين. وهنا أيضا فشل هيجل، حيث ان الوعي هو البناء الفوقي للمجتمع وهو يتطور بتأثير البناء التحتي للمجتمع أي الاقتصاد وتطور المادة وليس العكس، وهذا ما طرحه وطوره ووضعه ماركس في مكونات فلسفته.
وهيجل الذي كان لا يريد ان يمحو الملكية الخاصة التي قال انها أساس الشخصية الإنسانية، فانه لم يحدث سوى انعتاق الذات من سيادة الشيء بطريقة خيالية وهمية مثالية، وظاهرة الاغتراب الذي يتحدد بنظام الملكية الخاصة والتبعية المترتبة على هذا، مشكلة اجتماعية واقتصادية حولها الى مشكلة العلاقات بين الوعي وموضوعه.
لا شك بأن هيجل قد افاد مما أثمرته العصور السابقة كلها في شتى ميادين المعرفة... في التاريخ والفن والدين والمنطق والفلسفة ... الخ.
فقد رد الدين القديم وافاد بدوره هذه المجالات جميعا فأمدها بكثير من الأفكار الخصبة، ودفع بها خطوات الى الأمام فظهرت تيارات فكرية متعددة ومدارس فكرية متباينة لكنها تتفق فيما بينها في انها جميعا على أرضيه هيجلة، والحق ان الأثر الهيجلي يصعب حصره في مجالات بعينها ولذا فان أفضل وصف لهذا الأثر ان نقول انه كما ان هيجل تأثر "بالعقل الكلي" على حد تعبيره فقد عاد واثر في هذا العقل الكلي من جديد.
ولا شك فالكثير من الفلسفات التي ظهرت بعده، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وحتى فلسفة فوكوياما حول نهاية العالم تأثرت بفلسفة هيجل، وكذلك تأثرت به الفلسفة الوجودية والبرجماتية.
ولكل الفلسفة الماركسية هي الفلسفة الوحيدة التي استفادت من فلسفة الجدل الهيجلي وحولتها الى فلسفة مادية، فكأن هيجل وضع الهرم على رأسه فجاء ماركس ووضعه على قاعدته المادية مطورا وناقلا الفلسفة الجدلية المادية الى المجتمع من اجل تغييره وبناء مجتمع المستقبل مملكة الحرية على الأرض.

(يتبع)



#خليل_اندراوس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصول ومكونات الفكر الماركسي- القسم الاول
- ألدور الرجعي لتشويه وعي الذات القومي
- ألمسألة الأساسية في الفلسفة
- ألحزب الشيوعي والجبهة وتحدّيات المرحلة الراهنة
- ما أصعب أن يعيش الإنسان بدون حلم
- مداخلة في نقد الخطاب والفكر السلفي
- مداخلة حول رسالة الحزب الشيوعي التاريخية .
- مداخلة حول رسالة الحزب الشيوعي التاريخية
- ألعلاقة الجدلية بين الدمقراطية والرأسمالية
- أنصار الدولة الكهنوتية الاسلامية
- عملية السلام وبسيخوزا المجتمع الاسرائيلي
- دور اليسار في مكافحة هيمنة رأس المال
- البديل الإنساني الوحيد
- ألصهيونية المسيحية - دين في خدمة العنصرية ورأسمال
- ألثورة العلمية والتناقضات بين العمل والرأسمال
- حول الطائفية والعودة إلى السلفية
- علمنة التراث ودمقرطة العالم العربي
- إمبراطورية الشر - من وجهة نظر ماركسية
- بعض ملامح مملكة الحرية - مجتمع المستقبل


المزيد.....




- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - خليل اندراوس - أصول ومكونات الفكر الماركسي - تتمة القسم الاول