أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مسعد عربيد - قراءة في كتاب -مانيفستو: ثلاث مقالات كلاسيكية في تغيير العالم-















المزيد.....



قراءة في كتاب -مانيفستو: ثلاث مقالات كلاسيكية في تغيير العالم-


مسعد عربيد

الحوار المتمدن-العدد: 2098 - 2007 / 11 / 13 - 11:27
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


قراءة في كتاب:
مانيفستو:
ثلاث مقالات كلاسيكية في تغيير العالم
تشى غيفارا ـ روزا لوكمسبرغ ـ كارل ماركس وفريدريك إنجلز

عرض وتحليل د. مسعد عربيد

إسم الكتاب:
Manifesto: Three Classic Essays on How to Change the World
(المانيفستو: ثلاثة مقالات كلاسيكية في تغيير العالم)
المؤلفون: Che Guevara, Rosa Luxemburg, Karl Marx and Fredrich Engels الناشر: Ocean Press, Melbourne, Australia, 2005 (166 pages)

(1)

يجمع هذا الكتاب ثلاثة نصوص: "البيان الشيوعي" (1848) لكارل ماركس وفريدريك انجلز، و"الاصلاح أم الثورة" (1899) لروزا لوكسمبرغ و"الاشتراكية والانسان في كوبا" (1965) لإرنستو تشى غيفارا. كتب المقدمة أرماندو هارت، أحد كبار المثقفين الشيوعيين الكوبيين وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي الذي شغر منصب وزير التربية ثم وزير الثقافة في كوبا (1976 ـ 1997).
لا ننوى تقديم عرض للكتاب بقدر ما نود ان نتوجه الى:
• تجليس هذه الاعمال في سياقها التاريخي الذي يجمع بينها من أجل تلمس الخيوط التي تربط بينها، وبين نضال الانسان عبر التاريخ.
• راهنية الافكار والمفاهيم التي يتضمنها الكتاب ودورها في مسيرة الانسانية ونضالها في سبيل نمط جديد من التفكير والفعل في القرن الحادي والعشرين.
• تتبع التطور الفكري لهذه الاعمال في المسيرة الفكرية والنضالية لمؤلفيها.
من هنا نرى ان الفائدة الرئيسية من نشر هذه النصوص مجتمعة، هو حث القارئ على دراسة الافكار التي تساهم في تلمس الدرب نحو التحول الثورى، وتلك بحق هي سمة عصرنا بل أكثر مهامه تعقيداً وإلحاحاً وراهنيةً.

(2)
السمات المشتركة

تنبض الاعمال الثلاثة في هذا الكتالب بالفكرة الحية والذهن المتيقظ، وتتسم بمسحة انسانية شمولية همّها الانسان وظروف معيشته وتحقيق ذاته. إلاّ ان "تحقيق الذات" من منظور هؤلاء المفكرين لا يعني ولا يكون بخسارتها او بذوبان الفرد في كتلة أو جمع جماهيري، وإنما بالتحرر من احاسيس الاغتراب في مجتمع "للكل". وعلى الرغم من التباين في تقييمها، تظل هذه الافكار الاكثر عمقاً وراديكاليةًً بين الافكار التي أنتجتها اوروبا القرنين التاسع عشر والعشرين. (ص 13)
نرى ماركس يسعى الى "التحرر الكامل" لكافة الخصائص والحواس البشرية، حيث تصبح العين "عيناً بشرية" وحيث يصبح الشيء "شيئاً إنسانيا إجتماعياً". وتحدثنا لوكسمبرج عن "السعادة الاجتماعية" والحرية للكل "كامتياز خاص" وعن "محبة كل يوم جميل"، اما تشى غيفارا فيتحدث عن الثوري الذي تحدوه "مشاعر الحب العظيمة" وعن الحاجة الى "الانسان الجديد" الذي يولد من خلال المشاركة المسؤولة في "مجتمع للكل".
ناضل مؤلفو هذه الاعمال من أجل رؤية لمجتمع متكامل يشعر كل فرد فيه بالترابط حيث "التنمية الحرة لكل فرد هي شرط للتنمية الحرة للجميع". كما قال ماركس، أو كما قال تشى: "ليست الثورة، خلافاً لما يزعم البعض، جهازاً لقياس الارادة والمبادرة الجمعية. على العكس من ذلك، فهي المحرر للقدرة الفردية للانسان. إن ما تفعله الثورة هو توجيه هذه الطاقة".
بوسعنا ان نكثف الجوهر العام والمشترك للنصوص الثلاثة:
أ) تطلع الانسان الى التحرر خلال حياته هذه وفي دنياه هذه لا في "الآخرة"، مستعيناً بالمعرفة والعلم والإرتقاء بالوعي وبتجنيد فقراء ومضطهدي هذا العالم (مادة التغيير والثورة) في هذا المشروع.
ب) وعليه، جاءت هذه المقالات محاكمةً للإغتراب الانساني، بكافة تجلياته، والناتج أساساً من إغتراب العامل (والفلاح والكادح) عن إنتاجه وعمله بسبب إستغلال الانسان للانسان.
ت) تلتقي هذه الدراسات على فكرة أساسية مشتركة، ولعلها الخيط الرابط بين نضالات الشعوب، وهي ان النظام الراسمالي بطبيعته وتطوره يخلق التناقضات والتفاوتات بين الناس والطبقات والفئات مما يستدعي النضال ضد الاستغلال والفوارق الاجتماعية والاقتصادية من أجل إيجاد وسائل لتعميم عادل للثروة والموارد وإشراك المجتمع فيها.
لم يكونوا حالمين رومانسيين في مسعاهم هذا رغم بلاغة وجمالية أعمالهم. ولم يكن فهمهم لأحداث زمنهم، ردة فعل عليها، بل إستند الى تقييم نقدي للمجتمعات الانسانية وإقتصادها السياسي ونظمها الاجتماعية وتطورها منذ القدم مروراً بما لا يحصى من إرهاصات وتغييرات عميقة وحروب أودت بحياة الملايين من البشر.
من هنا، فان دراسة هذه الاعمال وتأثيراتها لا تستوي دون تجليسها في سياقها التاريخي رغم تباين الحقبات التاريخية المختلفة التي كتبت فيها.
أ) تميزت هذه الحقبات بتصاعد وهيمنة رأس المال بوتيرة متسارعة وبسعيه نحو التوسع والاستيلاء على أسواق جديدة بغية مضاعفة أرباحه حتى ولو كان ثمن ذلك حروباً دموية تذهب ضحيتها الملايين. وكانت نتيجة هذا المشروع الراسمالي المسعور إثراء القلة وإفقار الاغلبية وتعميق الهوة السحيقة بين الطبقات والفئات الاجتماعية.
ب) إتسمت الحقبات التاريخية التي عايشها هؤلاء المفكرون وناضلوا فيها بالغليان الاجتماعي والشعبي من ثورات وإضرابات وإنتفاضات، جاءت لتأكد أمراً واحداً، وإن إختلفت في الشكل، وهو رفض العمّال والفلاحين والفقراء لواقع الاستغلال الذي يعيشونه وتصميمهم على النضال من أجل الانعتاق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ونحو التحكم في الثروة التي ينتجونها بما أنهم أصحابها وملاّكها الحقيقيون. هذا ما تكرس في وعي هؤلاء المفكرين وتجلي في صرخاتهم التي جاءت لتعبر عن معاناة وأوجاع الطبقات الشعبية. وفي "وعيهم" هذا عثر هؤلاء الثوار على معنى حياتهم وتجلت غاية وجودهم فعاشوا وناضلوا وقضوا أمناءاً لها.
ت) لم تتكون، ولم تكتمل أفكار هؤلاء الثوار في فراغ أو في عزلة أكاديمة، بل إستقوا المعرفة والتجربة ممن سبقهم، فجاء نتاجهم ثمرة دراستهم ومشاهداتهم وإنخراطهم العملي في نضالات حركات التغيير الثورية والاجتماعية في عصرهم مما دفع هؤلاء الثوار الى آتون الاحداث، فحراك الجماهير والشعوب والفقراء لا يتوقف بل يميز كل حقبات التاريخ بشكل أو بآخر وبوتير أو باخرى. كما جاءت هذه النصوص ثمرة الحوار والجدل مع رفاق الدرب ومناضلي تلك الحقبة. ف"البيان الشيوعي" لماركس وإنجلز جاء بتكليف من عصبة الشيوعيين الالمان لوضع برنامج للحزب، ومقالة لوكمسبرج جاءت في خضم معركة الرد على المحاولات الارتدادية في الحركة الشيوعية الالمانية والعالمية التي تزعمها آنذاك إدوار روبنشتاين، أما دراسة تشى غيفارا فقد تزامنت مع تصاعد حركات التحرر في العالم الثالث ونهوض بلدان حركة عم الانحياز ومع إنطلاقته نحو الثورة الاممية التي بدأها في الكونغو وإنتهت باستشهاده في بوليفيا. لذا جاءت هذه النصوص ومؤلفوها، أبعد ما سجل التاريخ المعاصر عن الدوغما والتشنج العقائدي وأقربها الى الالتحام باوضاع الفقراء:
ـ فقد عاش ماركس فقيراً ومريضاً وهكذا مات؛
ـ أما لوكسمبرج فقد عانت طيلة حياتها حتى لقيت حتفها بعد أن القي القبض عليها رجال البوليس الالماني وأتخذوا القرار باعدامها ونفذوه فوراً بعد أن عملوا بها تعذيباً وتنكيلاً؛
ـ أما ثالثهم، تشى غيفارا، فلا تخفى ملحمة إستشهاده في الادغال البوليفية على أحد.

(3)
البيان الشيوعي

كلفت عصبة الشيوعيين (جمعية عمّالية عالمية) في مؤتمر لندن المنعقد عام 1847 كلاً من كارل ماركس (1818 ـ 1883) وفريدريك انجلز (1820 ـ 1895) بإعداد برنامج مفصل للحزب يعالج الجوانب النظرية والتطبيقية في نضال الشيوعيين.
ارسلت مخطوطة "البيان" الى لندن حيت تمت طباعتها بالالمانية في شباط (فبراير) 1848. رأى "البيان" النور للمرة الاولى بالانكليزية عام 1850 وبالفرنسية قبيل إنتفاضة 1878، أما في الولايات المتحدة فقد ظهرت طبعته الاولى عام 1871. تلت ذلك ترجمات وطبعات لا تحصى بكافة اللغات كانت أولها البولندية والروسية. وكما قال انجلز: "ورغم أن الظروف تبدلت كثيراً خلال السنوات الخمس والعشرين الاخيرة [منذ صدور البيان]، فالمبادئ العامة الواردة في هذا "البيان" لا تزال بالاجمال محافظة على كل صحتها، وان كان يجب ادخال بعض التعديل على عدد من الفقرات. ان "البيان" نفسه يوضح ان تطبيق هذه المبادئ يتعلق دائما وفي كل مكان بالظروف والاوضاع التاريخية في وقت معين....".
يظل "البيان" من أكثر النصوص جدلاً وتأثيراً، وربما رواجاً حسب إعتقاد الكثيرين، في التاريخ البشري. إذ لم تتزعزع آثار هذا العمل على التاريخ والشعوب والمجتمعات منذ صدوره عام 1848 كونه دخل وعي الشعوب إما للإرتقاء به وتجذيره، وإما لنسف ما علق به من أوهام وقيم بالية وغيبيات. وفي كل الاحوال، يظل "البيان" أعظم وأهم الوثائق الانسانية التي كتبت من أجل الفقراء معلناً إصطفاف الشيوعيين، وأبوي الفكرة الشيوعية ماركس وإنجلز، في جبهة نضالهم من أجل محو الاستغلال. يجزم أرماندو هارت في مقدمة الكتاب، بانه لم يقم حدث سياسي، منذ صدور" البيان"، لم يتأثر أو لم تكن له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالافكار الملتهبة التي إكتنزها. وما زالت أفكار وعبارات ذلك "البيان" صائبة حتى يومنا هذا، بعد ما ينوف على قرن ونصف.
ليس جديداً ان ماركس وانجلز كانا أول من شخّص أزمة المجتمع والانسانية في مفهوم جذري، رغم بساطته، خلاصته ان الازمة تكمن في رأس المال الذي ينهب البروليتاريا (والمقصود الاوسع هنا هو العمال والفلاحين والفقراء والكادحين في القرن التاسع عشر والذين لا يختلفون من حيث الجوهر عن كادحي القرنين العشرين والواحد وعشرين) ثمرة عملها ويرمي بها في غياهب الاغتراب عن إنتاجها وذاتها ومجتمعها، بل أبعد من ذلك، كانا أول من فهم رأس المال كنظام يحمل في ذاته بذور دماره وزاوله: "البرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. وهذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات وأفكار قديمة موقّرة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، والتقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدّس يدنّس، والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة." (ص 33)
رغم الدور التقدمي الذي لعبته البرجوازية الحديثة التي قامت على أنقاض الاقطاع بعد تصفيته، فانها لم تستطع ان تزيل التناقضات، بل ولّدت تناقضات اكثر حدةً وعمقاً. وكان جل ما فعلته هو إحلال ظروف القهر بظروف أخرى مماثلة حافلة بالتناقضات التي تهدد مستقبل البشرية.
يجد القارئ لدى مطالعته "للبيان" وما تلاه من تطورات على مدى أكثر من قرن ونصف، ان هذه التطورات قد أكدت الحقائق الاساسية الواردة فيه والتي تكررت في حياة المجتمعات مراراً منذ ذلك الحين. كما تؤكد القراءة المتمعنة والأمينة لهذا الكتاب ان تاريخ المجتمعات البشرية، ما زال حتى يومنا هذا، صراعاً أزلياً بين القاهر والمقهور ومواجهة مباشرة ومكشوفة بينهما، وإن غُلّفَ أحياناً أو إحتجب أحياناً اخرى.
(4)
الاصلاح أم الثورة

يجدر بنا التوقف عند مقالة روزا لوكمسبرج "الاصلاح أم الثورة"، للتعريف بفكرها الذي ظل محجوباً لردح طويل من القرن العشرين.
جاء كتاب لوكسمبرج بعد نصف قرن من صدور "البيان"، ليشنّ هجوماً على النزعات الاصلاحية والانتهازية التي تزعمها أدوارد روبنشتاين، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني آنذاك، والتي إدّعت الاصلاح الاشتراكي في حين أبقت، في حقيقة الامر، على نظام العلاقات الانتاجية (الاجتماعية) على حالها. ولم يردع لوكسمبرج عن ذلك كونها الكاتبة الشابة والمرأة في حزب سادت فيه الشوفينية الذكورية.

اطروحات إدوراد برنشتاين
لمع إدوارد برنشتاين (1850ـ 1932) في ريادة الفكر الشيوعي وقيادة الحركة الشيوعية الالمانية والاممية الثانية. إلاّ أنه إرتد بعد وفاة إنجلز (1895) ونشرَ مجموعة من المقالات في الفترة بين عامي 1896 و 1898 تحت عنوان "مشاكل الاشتراكية" ظهرت في مجلة الازمنة الحديثة Neue Zeit (المجلة النظرية لحزب الديمقراطية الاشتراكية الالماني). وقد نظّر برنشتاين في هذه المقالات لموقف نقدي من أعمال ومفاهيم ماركس من راس المال حيال ما رآه برنشتاين تنامياً للديمقراطية الاجتماعية. وكانت خلاصة حجته، وغيره من دعاة الاصلاحية آنذاك، ان مفاهيم ماركس قد أصبحت "عتيقة الطراز". إرتكز روبنشتاين الى:
أ) أن التجربة قد أثبت خطأ توقعات ماركس حول الإنهيار المحتوم للراسمالية.
ب) ان الراسمالية تستيطع ان تتغلب على الفوارق الطبقية بوسائل إصلاحية (مطلبية، قانونية، برلمانية) مثل تحسين اوضاع الطبقة العاملة، توسيع القدرة على الاستلاف، تطوير وسائل المواصلات، وتمركز الشركات والمؤسسات التي زادت من نزوعها نحو تعميم الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج. بعبارة اخرى، رأى الاصلاحيون (1) أن هذه الخطوات ستعيق التناقضات الطبقية التي تقود الى التمرد الاجتماعي وبالتالي الى الثورة ضد الراسمالية، و (2) أن هذه الوسائل والتدابير قادرة على التغلب على "فوضى" السوق الراسمالية حيث أن الراسمالية قد إتجهت هي ذاتها، نحو إخضاع الانتاج لأشكال إجتماعية (أي لأشكال الملكية الجمعية أو الاجتماعية socialized production) وصولاً الى الإدعاء بان النضال المطلبي النقابي للعمال قادر على إنتزاع زيادة في اجورهم من شأنها، في المحصلة، ان تقلل من معدل ربح الراسماليين الى حد يتوقف معه الاستغلال الراسمالي دون الحاجة الى ثورة إجتماعية.
ت) إستند روبنشتاين في اطروحاته هذه الى العديد من الاعتبارات والتطورات الاقتصادية والسياسية التي حفل بها الربع الاخير من القرن التاسع عشر.
ث) خلص برنشتاين، وهنا بيت القصيد، الى ان تصاعد قوة ونفوذ "الديمقراطية الاجتماعية" social democracy وحزب الديمقراطية الاجتماعية الالماني SPD والملايين من أعضائه وأنصاره، يشيران الى إمكانية وقابلية النظام الراسمالي للاصلاح عبر الوسائل القانونية والبرلمانية. وقد كثف برنشتاين مواقفه هذه بعبارته: " بالنسبة لي، فان الحركة [يقصد الحركة السياسية والاجتماعية ـ م ع] هي كل شيء، أما الهدف فهو لا شيء".

رد لوكسمبرج على الاصلاحيين
لم تكن روزا لوكسميرج أول من رد على اطروحات برنشتاين، ولم تكن الوحيدة أيضاً. إلاّ أن تحليلها كان الأكثر شمولية مما أحرز لها موقعاً مرموقاً كمناضلة ومفكرة في الحركة الاشتراكية الالمانية والاممية الثانية ولم تكن قد بلغت من العمر سبعة وعشرين ربيعاً. كما رفعها نقدها الجريء لروبنشتاين الى مصافي المفكرين الماركسيين الجذريين الذين شهروا السلاح بوضوح وجرأة ضد النزعات الاصلاحية داخل الاممية الثانية، دون أن يمس ذلك أو يقلل من دورها في الدفاع عن الحقوق والحريات الديمقراطية.
نشرت لوكسمبرغ ردها على اطروحات برنشتاين في مجموعة من المقالات (بين سبتمبر 1898 و ابريل 1899)، تم تجميعها عام 1899 في كتاب بعنوان "الإصلاح الاجتماعي أم الثورة". ثم ظهرت الطبعة الثانية من ذلك الكتاب عام 1908 بعد أن أدخلت عليه المؤلفة بعض التعديلات بعنوان "الاصلاح أو الثورة". وما زال ردها، من وجهة نظر الكثير من المحللين، من أفضل الابداعات الماركسية في دحض "الاوهام" حول دحر الراسمالية بالوسائل الاصلاحية والقانونية والبرلمانية.
رأت لوكسمبرج أن الخلل الاساسي في الحجج الاصلاحية يكمن في أنها تفسر المواقف والمصالح تفسيراُ يتناقض مع أسس النهج الماركسي. إذ لو كانت "المصالح" والمواقف تستند الى الاخلاق العامة والذوق والاحساس الانساني أو الثقافة، لكان من الممكن الوصول الى الحل بالوسائل الاصلاحية، القانونية والمنطقية. ألاّ أن هذا النهج ينهزم أمام الحقيقة البسيطة وهي: ان المصالح المادية هي التي تحكم مواقف راس المال من طبقات شركات وأفراد ومؤسسات، وأن الفوارق الطبقية ليست مجرد وجهة نظر أو جدل نظري ـ فلسفي في فهم "الحقيقة" بل هي تناقض في المصالح المادية يصل حد التضاد والتناحر. هنا يكمن فشل المنطق الاصلاحي.
حاججت لوكمسبرج أن تحقيق المساواة القانونية والسياسية في ظل الرأسمالية لا يمكن ان يحل التناقضات الاجتماعية لنظام يقوم أساساً على قيمة الانتاج والاستغلال الطبقي والعمل المأجور. ان الثورة والاصلاح (الدستوري والقانوني)، كما تقول لوكسمبرج، ليستا وسيلتان مختلفتان للتطور التاريخي نختار واحدة منهما دون الأخرى، بل هما "لحظتان مختلفتان في تطور المجتمع الطبقي، تحدد كل منهما شروط وظروف الاخرى وتكملها، وفي الحين ذاته تستثني الواحدة منها الاخرى بشكل تبادلي كما هو الحال في القطبين الشمالي والجنوبي والبرجوازية والبروليتاريا." (ص 128) ولعل في هذه الكلمات، الكثير من العبر التي يمكننا ان نستنبطها في دراسة واقعنا العربي وسبل الخروج من المأزق.
في حين أيدت لوكسمبرج توسيع رقعة الحقوق والحريات الديمقراطية عبر الوسائل القانونية، إلاّ أنها حاججت بان إنجاز الديمقراطية الحقيقية الاصيلة (genuine democracy) أمر مستحيل في إطار العلاقات الانتاجية الراسمالية: "إن الديمقراطية الكاملة، لا الشكلية، بل الحقيقية والفعّالة ممكنة التصور فقط عندما تتحقق المساواة الاقتصادية والاجتماعية".
نسفت لوكسمبرج الحجج الاقتصادية التي قدمها برنشتاين حيث أنه تناول المجتمع من منظور "الفرد الرأسمالي" أو "الراسمالي كفرد" دون أن يتناول الراسمالية بشموليتها كنظام إجتماعي ـ إقتصادي. على سبيل المثال، أصرت لوكسمبرج ان "الانتاج الاجتماعي"socialized production الذي دافع عنه برنشتاين لا يمكن ان يحرر المجتمع من التناقضات المتأصلة والملازمة للرأسمالية، بل على النقيض، فانه يدفع بمثل هذه التناقضات الى مستويات أعلى وأكثر حدة وتوتراً، لتخلص الى القول:" علينا أن نتخلى عن كل الآمال باقامة الديمقراطية كقانون عام للتطور التاريخي حتى ضمن إطار المجتمع الحديث". وإن كان هذا صحيحاً عام 1899، ترى كم هو دقيق في عصر العولمة "والحرب على الارهاب"، عصر غوانتانامو وأبو غريب!
وعليه، قام نقد لوكسمبرغ لبرنشتاين جذرياً على أن الاخير ركزّ على مركبات جزئية في معالجته للراسمالية وأغفل تناولها بشموليتها ومن خلال طبيعتها كنظام، كما انه (أي برنشتاين) عالج الاخطاء الجزئية للنظام بدل التصدي للقاون العام الذي يحكم حركة رأس المال. لذا جاء نقد لوكسمبرج للاصلاحيين نقداً دياليكتيكياً حيث أوضحت ان المواقف التي ترتكز على أرضية الاصلاح تؤدي عملياً وفعلياً الى تدهور العلاقات وتعميق التناقضات بين الغني والفقير كما تؤدي، في نهاية التحليل، الى تفاقم هذه التناقضات وإنفجار الثورة الاجتماعية. وحذرت انه من شأن هذه المواقف، وما ينطوي عليها من تطورات وسياسيات إقتصادية وإجتماعية، ان تعيق نضال العمال وأن الثورة الاجتماعية حتمية لا مناص منها
أما على صعيد الاوضاع الدولية، فقد رأت لوكسمبرغ، على نقيض برنشتاين، ان رأس المال لا يعمل على توفير الاستقرار وتوطيد الامن والسلام في العلاقات الدولية، إذ أن العلاقات الراسمالية تفضي دوماً الى الحروب المستمرة لان "الامم الراسمالية المتقدمة" تتجه دوماً نحو الحروب، نتيجة تساويها في طور النمو الراسمالي المتقدم لكل منها.
رغم أن هذا العمل كان، في سياق التطور الفكري لروزا لوكسمبرج، من أوائل أعمالها، إلاّ أنه دلل على إحاطة هذه المناضلة، على صغر سنها، بالمحور الرئيسي في النضال الشيوعي والذي إستدعى تصديها "للآب الروحي" للحركة الشيوعية آنذاك، إدوراد برنشتاين.

(5)
الاشتراكية والانسان في كوبا

يقف تشى غيفارا، بين مؤلفي هذا الكتاب، خارج السياق الاوروبي والفلسفة الاوروبية في القرن التاسع عشر ما لا ينفى إفادته منها وإطلاعه عليها. فقد عرفته الانسانية مفكراً اميركياً لاتينياً أممياً عالمثالثياً: عاش هموم تلك الشعوب وقضى من أجل تنميتها ووحدتها رافضاً كافة الحدود الجغرافية والسياسية. كما يتميز غيفارا بانه الوحيد بين مؤلفي الكتاب الذي مارس الكفاح المسلح وإنخرط في صنع وقيادة العملية الثورية وساهم في صياغة نظريات حرب العصابات وبرامج العملية الثورية وسياساتها.
لعل مقالة غيفارا هي الاقرب للقارئ العربي من حيث حداثة عهدها وتواصل تشى غيفارا مع نضال شعوب العالم الثالث والواقع العربي عبر تجارب حرب التحرير الجزائرية والمقاومة الفلسطينية.
أنجز تشى عمله هذا في غمرة إنشغاله بالاعداد لمشروع كفاحه الاممي بعد ان قرر التخلي عن مهامه الحزبية والحكومية في كوبا والانطلاق في ثورة أممية في بلدان العالم الثالث، والتي رأى فيها تشى مرحلة المخاض لولادة المجتمع البشري الذي سيكون مجتمعاً تحولياً نحو الاشتراكية.
أرسل تشى هذه المقالة، خلال زيارته للجزائر، الى مجلة Marcha الاوروغواية الاسبوعية التي قامت بنشرها للمرة الاولى يوم 12 مارس 1965 تحت عنوان:"من الجزائر ...الى مارتشا: الثورة الكوبية اليوم". وقد نشرته تلك المجلة بضعة أيام بعد خطاب تشى الشهير في الندوة الاقتصادية الثانية لمنظمة التضامن الافرو ـ أسيوي في الجزائر التي إنعقدت يوم 24 شباط (فبراير) 1965. وكان غيفارا قد ختم جولتة في القارة الافريقية (كانون الاول/ديسمبر1964) والتي أرادها أن تكون إستكشافية إعداداً لرحيله عن كوبا وإنطلاقة نحو الكفاح الثوري الاممي والذي بدأه في الكونغو في نيسان (ابريل) عام 1965.
أعادت المجلة نشرة الدراسة ذاتها يوم 5 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته تحت عنوان:"ملاحظة خاصة من تشى غيفارا". ومنذ ذلك الحين، نشرت هذه الدراسة عدة مرّات وبالعديد من اللغات وعرفت باسم: "الاشتراكية والانسان في كوبا".
بدأ تشى غيفارا بتشكيل مفاهيمة حول "إنسان المستقبل" (الانسان الجديد) من خلال مشاهداته وخبراته في الحرب الثورية الكوبية (1956 ـ 1959). وأخذ بتدوين بعض هذه الملاحظات الاولية في كتاباته وخطاباته المبكرة. ولم يكن قد مضى على إنتصار الثورة في كوبا بضعة أشهر، حين نشر مقالة بعنوان:"الانعكاسات الاجتماعية للجيش الثوري" (1959). وفي خطاب له عام 1960 بعنوان "الطبيب الثوري" طوّر تشى أفكاره حول هذه المسائل وأشار الى أن كوبا تعمل على "خلق نمط جديد من الفرد [الانسان]" بفضل الثورة التي حققتها ولانه "ليس هناك ما يمكن ان يثقف الانسان...مثل أن يعيش عبر الثورة ذاتها".
كانت تلك هي البوادر المبكرة للمفاهيم التي طوّرها تشى في أعماله اللاحقة والتي تتوجت في هذه المقالة حيث أصبحت جزءاً أساسيا من مفاهيمه حول الفرد/الانسان كلاعب مباشر وواعي في عملية البناء الاشتراكي.
يقدم لنا تشى تحليلاً، وإن بدى جنينياً، للعلاقة بين البنية الفوقية والعوامل الذاتية (الايديولوجية، السياسية، الاخلاقية، الثقافية) من جهة، والقاعدة المادية (الاقتصادية) في المجتمع الاشتراكي خلال سنوات الثورة الكوبية وبدايات البناء الاشتراكي في ذلك البلد (1959 ـ 1965)، من جهة ثانية. ويشير تشى الى أن المجتمع، في هذه المرحلة ـ مرحلة البناء الاشتراكي، يعيش في ظل العلاقات الاقتصادية للنظام السابق (العلاقات السلعية) التي ما زالت عالقة ومترسبة في الثقافة والعقلية والذهن الجمعي. ويعتري هذه المرحلة في العملية الثورية الكثير من التوتر والقلق وغياب الاستقرارمما يتطلب الكثير من الصرامة والحزم في مرحلة مبكرة وشاقة من البناء الاشتراكي والتحول الاجتماعي. وفي هذه الحقبة يغلب تعزيز الحوافز المادية كي يتسنى تجنيد وتنظيم المجتمع وتصعيد وتيرة الانتاج لتوفير الحاجات الاساسية للمجتمع. أما تشى، فقد نحى كما نرى في عمله هذا، رغم إنشغاله وإنخراطه في مهام المرحلة، نحو الوسائل والطرائق ذات الطبيعة الاخلاقية لتحقيق هذين الهدفين (تنظيم المجتمع وزيادة الانتاج) دون إغفال أو التقليل من أهمية الحوافز المادية وخاصة تلك ذات الطبيعة الاجتماعية والمرتبطة بتوفير الحاجات الاساسية للمواطن. وربما تكون هذه، على ما يرى أرماندو هارت في مقدمة الكتاب، من أهم الاسهامات الكوبية في الفكر الاشتراكي والتي لا تتناقض مع أفكار ماركس وإنجلز ولينين. (ص 19 و 20)
إعتقد تشى ان الاشتراكية ما زالت في طفولتها من حيث تطوير النظرية الاقتصادية والسياسية بعيدة المدى. وعليه، فان الفكرة المركزية في هذه المقالة، التي ذاع صيتها وتعددت عناوينها وطبعاتها، تدور حول الفرد الذي يعيش وجوداً مزدوجاً: ككائن فريد وكعضو في مجتمع، ودور العوامل الذاتية والثقافية وإرتباطها بتربية الفرد وتثقيف الانسان الجديد، الانسان الاشتراكي. وبيت القصيد لدى تشى أن تقدم الثورة "يستلزم تطوير وعي يشمل نظماً قيمية جديدة" وانه بعد إنتصار الثورة يتوجب على "المجتمع ككل ان يتحول الى مدرسة كبيرة".
يبعث الكتاب، في ما مجمل ما يثيره في ذهن القارئ، على التأمل في التحديات التي واجهتها الاشتراكية عبر القرن العشرين وخاصة خلال الحقبة السوفيتية وفشل سياسات تلك الحقبة في معالجة مسألة الثقافة والوعي وخلق النظم القيمية الجديدة والانسان الجديد. يتكشف لنا، من ثَم بعد أربعة عقود وبطريقة أكثر جلاءاً وتحديداً، طيف من القضايا الذاتية، (والثقافية والاخلاقية والمعنوية)، لا يمكن الفصل بينها وبين السعي نحو مستو شامل من الثقافة في المجتمع. فثقافة التحرر والانعتاق، وأفكار تشى حول العوامل الذاتية، ذات صلة وأهمية مباشرة وملحة بعملية التحليل الثوري لموضوعة تأثيرات الثقافة في التنمية الاجتماعية ـ الاقتصادية. ولعلها الدرب الوحيد الذي يودي بنا الى فكر فلسفي جديد وفعل سياسي متناغم مع الاوضاع المعاصرة. (ص 20)
إن تحديد تأثيرات الثقافة ودورها في التنمية أمر أساسي وضروري كي يتسنى تطويرالافكار اللازمة لمواجهة القرن 21. وهي مسألة لم تستوفي حقها من الدراسة في التجارب الاشتراكية والمعارك الفكرية الاشتراكية للقرن العشرين، وبقيت مرجأة، رغم إلحاحيتها ودورها الحاسم في تاريخ الشعوب وحركتها الثقافية وتأثيرات الثقافة عليها، وبالرغم من أنها تقع في لب المراجعة النقدية للتجارب الاشتراكية وأسباب فشلها. وكذلك هو الحال في وطننا العربي، حبث لا زالت المسألة مرجأة أيضاً رغم إلحاحيتها.
بقيت الفلسفة في الغرب وسيلة لتفسير العالم والطبيعة، ولم تكن وظيفتها تتجاوز هذه المحدودية وبعض التحليقات الفلسفية في فضاءات المجتمع والانسانية، الى أن جاء ماركس وانجلز وحددا أن وظيفة الفلسفة ومهمتها تكمن في تغيير العالم، فكانا بذلك أول من أسسا وطرحا البعد الاجتماعي كاحدى المواضيع الاساسية في مسألة الثقافة، أي أنهما وضعا هذه المسألة في الجبهة الامامية في تحديات الفكر الاوروبي الغربي. (ص 21 و 22)
يشير أرماندو هارت في المقدمة الى مسألة إنشغل عنها الكثير من الماركسيين خلال القرن العشرين ولم تندمج في الممارسة الاشتراكية بعد وفاة لينين وهي: الاهيمة والدلالات السياسية العديدة للثقافة ودورها في المجتمع. وهي قضية كثيراً ما أشار إليها تشى غيفارا وفيدل كاسترو وأكدا على أهميتها حتى أصبحت بالفعل جزءاً من إرث الثورة الكوبية ومساهماتها. ويضيف هارت مؤكداً أن سرقة وتزييف وتشويه ثقافات الشعوب المضطَهدة، كانت على الدوام المناورة والآلية الرئيسية للقوى المستغِلة والمستعمِرة كي تفرض الهيمنة على الآخرين من أجل تحقيق مصالحهم. ويرى هارت انه لا يتسنى فهم مسألة الثقافة ودورها دون إستيعاب هذا المبدأ الاساسي. (ص 20)

(7)
خاتمة

يأتي نشر هذه الاعمال في لحظة حاسمة في تاريخ الفكر الماركسي ونضال الحركة الشيوعية ليعكس الحاجة الملحة لتفعيل الحوار حول الفعل الشيوعي، والبحث عن سبل المقاومة لتوحش الراسمالية وهيمنتها الامبريالية على مصير الانسانية في ما بعد الحقبة السوفيتية وفي ظل غياب القطب الاشتراكي، بل وغياب أي قطب آخر، مناهض أو بديل؟ وتتوخى قراءة هذه النصوص مراجعة المفاهيم والركائز التي قامت عليها وما طرأ عليها من مستجدات. فبدون هذه المراجعة النقدية تتعذر المقاربة بين تلك الافكار وواقع الشعوب الراهن، ويستعصي تعزيز وتجديد ما أتت به ومن أجله. ولعل إحياء هذه الباقة من التراث الشيوعي يشكل حافزاً للعودة الى دراسة الفكر الماركسي كنهج في التحليل وكدليل عمل، لا كنص جامد يدّعي إمتلاك الحقيقة الازلية.
تُرى كيف لنا أن نفهم ما آل اليه النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دون "البيان الشيوعي" وحضوره الدائم في تناسج الافكار وتحابكها، بل أبعد من ذلك، من أين لنا أن نفهم القرن العشرين بكل ما حفل به من تطورات وتجارب، دون التحليل والدروس التي قدمها لنا ماركس وانجلز؟
أما إرث روزا لوكسمبرج فنتوقف أمامه لنشهد المماثلة مع الواقع الراهن، رغم مرور أكثر من قرن، ولنتأمل الاحداث التي جاءت لتؤكد ان الاصلاحية لم تنجح، بل أتت بالوبال على الانسانية. وها نحن نعيش اليوم مأزق وكارثة ما بعد إنهيار القطب الاشتراكي وتوغل الهيمنة الراسمالية في كافة فضاءات حياتنا، الاجتماعية والثقافية والسياسية، لتنبؤنا "بنهاية التاريخ" و"موت الاشتراكية" ولتعظ فينا بان "الخيار الوحيد" المتبقي أمام الانسانية هو الراسمالية وسوقها وثقافتها، ولنستمع الى زعيق منظري المرحلة، بان هذه "الانجازات" جاءت لتتوج نضال طويل ضد "آفات" القرن العشرين الثلاث، الشيوعية والنازية والفاشية، وان الانسانية قد رست، أخيراً، على شاطى "الديمقراطية والتقدم والازدهار"...شاطئ الراسمالية.
قلة هي الاعمال الفكرية التي شدّت البشرية الى تحديد أسباب بؤس الانسان وإغترابه ومعاناته وتلمس سبل الحل مثلما فعلت هذه النصوص الثلاثة. وندرة هي الافكار التي إستطاعت ان تهزّ العالم، وما زالت، لتنجز من التغيير ما أنجزته الافكار التي يحتضنها هذا الكتاب بين دفتيه.
قراءات تبدو وكأنها من الماضي البعيد، ولكنها حية نابضة في لحظتنا، وحاضرة حضوراً دموياً في العراق وفلسطين وفي السودان والصومال وفي كوبا وبوليفيا وفي فنزويلا ونيبال و...
نصوص ثلاثة ... أصوات لاجيالٍ متباعدة آمنت بالمقاومة وبكافة أشكالها، كما تؤمن اليوم جماهير فلسطين والعراق في كفاحها ضد الاحتلال، وكما تهرع في المسيرات والتظاهرات جماهير فنزويلا وكوبا ولندن، لتناهض الحروب والامبريالية والعولمة وكافة أشكال الاستغلال، ولتصرخ بان عالماً آخراً ممكنٌ بل وقابل للتحقيق.
نصوص ثلاثة، تتجلى راهنيتها، ومن هنا مصداقيتها ومصداقية المشروع الاشتراكي، فيما نستشرفه في قرائتها من دروس وعبر وإكتشاف للاسباب الحقيقية في فشل اليسار وتعثر المشروع الاشتراكي.
يزدحم واقعنا العربي اليوم بالقوى والنزعات الاصلاحية والتطبيعية والاستسلامية: الزائفة والفاشلة من ناحية، والخائنة لمصالح الشعوب والفقراء والطبقات الشعبية من ناحية اخرى. وتتغلغل هذه النزعات في نسيج معقد ومتشابك من المشاكل والتحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تواجهنا اليوم: الاحتلال الاجنبي والتدخل الخارجي والاستقواء بالخارج وقضايا "الديمقراطية" والليبرالية والحداثة والعلمنة والتصدي للاستبداد وغيرها.
إن ما يميز هذه الاعمال هو إيقاظها للوعي النقدي وتحديد وظيفته بالقدرة على إنارة الفعل الانساني وإرشاده وتفجير ما فيه من طاقات كامنة، وهي جبارة وبلا حدود كما يشهد لنا التاريخ. وهذا هو شأن الافكار والاعمال الانسانية العظيمة. إلاّ أن تاريخ الشعوب يعلمنا أيضاً ان إطلاق الافكار من مخزونها الجماهيري وتجنيدها في مشروع الانسانية، (أي تحويلها الى قوة مادية قادرة على إنجاز التغيير، حسب مقولة ماركس)، إنما يتطلب إحداث التغيير الجذري في المجتمع ذاته.
إذن، فالمولود قادم، وسيأتي الانسان الجديد من مخاض مجتمع جديد يتشكل ويتبلور من خلال النضال. أما السؤال فيبقى، هل تستطيع الانسانية أن تنسى أو تغفل الآمال والتطلعات التحررية التي تأطرت بالفكرة الشيوعية الكبرى وفي نصوصها.
تُرى، هل من لحظة نكون فيها أحوج من هذه التي نعيشها اليوم، لدراسة وإستيعاب هذه الافكار!

مراجع لها صلة بالبحث

1) Peter Hudis and Kevin B. Anderson, The Rosa Luxemburg Reader. Monthly Review Press, New York, 2004.
2) Che Guevara Reader: Writings on Politics and Revolution, Ocean Press, Australia, 2003, Second Expanded Edition.
3) Che Guevara, Global Justice, Liberation and Socialism. Ocean Press, Australia 2002.
4) مسعد عربيد، روزا لوكسمبرغ: قراءة متجددة في سياق العولمة. مجلة "كنعان" الفصلية، العدد 123، اكتتوبر 2005.
5) مسعد عربيد، ماذا تبقى من تشى غيفارا؟ مجلة "كنعان" الفصلية، العدد 127، نوفمبر 2006، ص 41 ـ 58.
6) مختارات ماركس وانجلز، الجزء الاول، دار التقدم ـ موسكو (دون تاريخ).





#مسعد_عربيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روزا لوكسمبرغ: قراءة متجددة في سياق العولمة
- التوظيف السياسي للدين: الولايات المتحدة نموذجاً
- إشكاليات الاغتراب الثقافي العربي: مناقشة في كتاب -الاغتراب ا ...
- العرب بين اللوبي الاسرائيلي ولوبي رأس المال الجزء الثالث
- العرب بين اللوبي الاسرائيلي ولوبي رأس المال الجزء الرابع وال ...
- العرب بين اللوبي الاسرائيلي ولوبي رأس المال الجزء الثاني
- العرب بين اللوبي الاسرائيلي ولوبي رأس المال
- ماذا تبقى من تشى غيفارا؟ الجزء الرابع والأخير
- ماذا تبقى من تشى غيفارا؟ الجزء الثالث
- ماذا تبقى من تشى غيفارا؟ - الجزء الثاني
- ماذا تبقى من تشى غيفارا؟ الجزء الاول
- نيبال: الثورة المنسية
- العرب الاميركيون والانتخابات الاميركية: مفاهيم وخلفيات
- العرب الاميركيون والانتخابات الاميركية: إشكاليات وتحديات
- الانتخابات الاميركية ـ الرئيس الاميركي: نموذجاً أم استثناءً؟
- مشاهدات مغترب في إشكاليات الانتخابات الاميركية ـ الحلقة الاو ...
- بين ناصر ولينين تأملات في الموت المبكّر وإغتيال الحلم
- الانتفاضة الساباتية بعد عشرة اعوام: مرحلة جديدة أم خيار بين ...
- في رحيل إدوارد سعيد مفكراً وإنساناً
- الهيمنة المطلقة...خواطر في اسلحة الدمار -الاشمل


المزيد.....




- زعيم يساري أوروبي: حان وقت التفاوض لإنهاء حرب أوكرانيا
- إصلاحُ الوزير ميراوي البيداغوجيّ تعميقٌ لأزمة الجامعة المغرب ...
- الإصلاح البيداغوجي الجامعي: نظرة تعريفية وتشخيصية للهندسة ال ...
- موسكو تطالب برلين بالاعتراف رسميا بحصار لينينغراد باعتباره ف ...
- تكية -خاصكي سلطان-.. ملاذ الفقراء والوافدين للاقصى منذ قرون ...
- المشهد الثقافي الفلسطيني في أراضي الـ 48.. (1948ـــ 1966)
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ عملية بمجمع الشفاء الطبي في غزة ...
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدعو إلى تخليد ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مسعد عربيد - قراءة في كتاب -مانيفستو: ثلاث مقالات كلاسيكية في تغيير العالم-