أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - سياحات خيالية (1)















المزيد.....

سياحات خيالية (1)


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2097 - 2007 / 11 / 12 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


كنا ثلاثة ، قال . لا ، كنا أربعة ، قال . لا ، أظن كنا خمسة ... ضقتُ ذرعاً بتقلباته ولا يقينه . يا أخي ، قل رجاءً كم بشراً كنتم ؟ قال لا أدري ! لا تدري ؟ قال نعم ، لا أدري كم كنا ... على الأغلب كنا ستة . إنفجرتُ ضاحكاً . تفرّس فيَّ بوجه محايد التعبيرات ، مثل وجه دب . قال لماذا ضحكتَ ؟ قلت لا أدري ؟ قال هذا أمر غير ممكن . تضحك ولا تدري لماذا تضحك ، هذا أمر عجيب ! لا من عجائب في الدنيا اليوم يا هذا . غدا كل شئ مألوفاً ومعروفاً . قال فلنرجع إلى ما كنا فيه . أين كنا ؟ قال لا أدري ، لا أدري أين كنا ، في الشرق في الغرب ، شمالاً جنوباً ، لا أدري.
إذاً لماذا وعلامَ الرجوع ؟ قال ( ما أحلى الرجوع إليه ) . ضحكتُ مرة ً ثانية ولكن ، ضحكت فأضحكته معي . تجاوب معي ومع ضحكي . شئ جيد . تضامن وحسن فهم وإنسجام بين صديقين . لماذا الرجوع والرجوع تقهقر وإنتكاس أو نكوص ؟ قال إنه رجوع ولكن من نوع ( نؤاسي ) . ماذا تقصد ؟ قال أفلم ْ يقلْ ( أبو نؤاس ) :
هزّني الشوق ُ إلى أبي طوق ْ
فتدحرجتُ من تحتٍ إلى فوق ؟
بلى ، قد قال الرجل ، لكنه ما كان طبيعياً لا مع نفسه ولا مع غيره . ماذا تقصد ؟ إنه كان شاعراًٌ غلمانياً أي ( حلقياً ) كما كانوا يطلقون عليه وعلى أمثاله في زمانه. ضحك صاحبي بقوة حتى سعل . إستعرضتُ السعال وما يتسبب عنه من مشاكل لبعض الناس فتذكرتُ الشعر الذي قاله رجل جاء إلى صاحب بيت المال يطلب معونةً فألفاه منشغلاً بحساب وارد ذلك اليوم . قال السائل : كلما فتحت الموضوع مع ( المُسيب ) راح يسعل ويسعل لكي يصرفني عن حاجتي وطلب حقي من بيت مال المسلمين حتى ضرط مرة وهو في أوج سعاله ، فصرخ في وجهي مدعياً أن إلحاحي في المطالبة بحقوقي جعله يخطأ في ضبط حسابات أموال المسلمين . فقلت يائساً وأنا أغادر بيته نافضاً عباءتي:

أتيتُ المُسيَّبَ في حاجةٍ
فما زالَ يسعلُ حتى ضرطْ

فقالَ غلطنا حسابَ الخراجِ
فقلتُ من الضرطِ جاءَ الغَلَط ْ

عاود صاحبي الضحك حتى سعل فضرط . إحمرت وجنتاه . قلت له هل أعيد عليك قراءة هذين البيتين ؟ قال كلا ، فضيحة واحدة تكفي .
في الطريق إلى المقهى شرع صاحبي يقص عليَّ بعض حكايا أيام شبابه الأولى وغرامياته مع بعض بنات الجيران وطالبات المدارس المتوسطة والثانوية. قال بل حتى بلغت بي روح المغامرة أن أغازل ممرضة مستوصف الطلبة . كانت ( سعاد ) فتاة جميلة جاءت مدينتنا من العاصمة بغداد . كانت في مثل سني تقريباً . أُخذتُ بجمالها وبدلتها البيضاء المكوية جيدا وسن الذهب يتلألأً بين باقي أسنانها الشديدة البياض . يبدو أنها كانت تنظف أسنانها بالفرشاة ومعاجين الأسنان ثلاث مرات في اليوم ... حسب نصائح أطباء الأسنان . كنت أفتعل المرض لكي يوافق مدير مدرستنا على إدراج إسمي في قائمة الطلاب المرضى . حار الطبيب اللبناني ( سامي ) في أمري . كنت كلما دخلت مكتبه في المستوصف أفتعل مرضاً أو علةً ما لا وجود لها أصلاً . كان يصدقني بادئ الأمر ، يغدق عليَّ بأنواع الحبوب
فلم أكف عن مراجعته مرتين أو ثلاث في الأسبوع . كنت في كل زيارة أردد مع نفسي [[ وما حب ُّ الديار شغفنَ قلبي // ولكنْ حب ُّ مَن سكنَ الديارا ]] . ما كنت أستطيع إطالة كلام المجاملات مع سعاد لأنها لم تكن وحدها في الحجرة المجاورة لمكتب الطبيب ، كان معها ممرض عجوز مجدور الوجه . كنت أحييها من مدخل حجرتها فكانت تستلطف تحيتي وتقابلها بوجه باسم ودود مشرق فأزداد تعلقاً بها . نفذت حيلي بمرور الزمن فصرت أخجل من تكرير نفس الأعراض المرضية الوهمية. وصار الطبيب يدرك أني متحايل فكتب مرةً أمام إسمي في قائمة الطلاب المرضى (( متمارض )) ، الأمر الذي سبب لي متاعب جدية مع مدير مدرستنا . وجدتُ حلاً لهذه المشكلة . إتفقت مع كاتب المدرسة ، وهو صديق أحد أشقائي الكبار ، أن يضيف إسمي إلى قائمة الطلاب المرضى التي يكتبها المدير بنفسه قبل أن يضع عليها ختم إدارة المدرسة . إستأنفت زيارة مستوصف الطلاب وعاودت مراجعة الطبيب بدعاوى جديدة يحار الطبيب المسكين معها ويتمحن بها . أفتعل أمراضاً وعللا ً لا وجود لها . جرب معي نوعاً آخر من المعالجات : أخذ يخصص لي حقن ( إبر ) البنسلين أو بعض المضادات الحيوية . جاءت الرحمة لي مع هذه الإبر . الممرض العجوز حسين صاحب الوجه المجدور هو الوحيد المسؤول عن تحضير وحقن هذه الإبر في العضلات . جاءت الرحمة ! حسين يشترك مع الممرضة سعاد في غرفة واحدة . كم تمنيتُ أن تقوم سعاد بهذه المهمة التي وقعت في غرامها بعد أن كنت ــ شأن أغلب الناس ــ من أشد الكارهين لها . جسم معدني نحيف رقيق يدخل في عضلات جسمي لمسافة تتراوح بين سنتمترين أوثلاثة ... يا للبشاعة . أتحمل الإبرة وأصبر على قبح وجه الممرض حسين مقابل أن أرى صاحبتي رغم حرجي الشديد من إنزال سروالي الطويل واللباس الداخلي الأبيض القصيرحتى ركبتي بحضور سعاد الجميلة. كنتُ شاباً خجولاً يومذاك ورشيقاً حد َّ النحافة. أدارت سعاد وجهها في المرة الأولى لكنها أصبحت فيما بعد تشعر ببعض السرورالممتزج بمشاعر شتى غامضة عليَّ وعليها . ما كانت تخجل من هيئتي أمامها لحظة إنزال ملابسي من على جسدي حتى الركبتين . كنت والعم حسين يبالغ في إغراز إبرته في لحمي أختلس النظرات لكي أتابع حالاتها وهي تراقب ما يجري أمام عينيها الشهلاوين البراقتين . كنت حريصاً أن أداري الجزء المكشوف من ظهري وكنت في الحقيقة أستحي من العم حسين لا منها . ما كانت عيناها تفارقان ظهري ، فما الذي يغريها فيه ؟ قلت كنت شاباً مراهقاً ناحلاً قليلاً وما كان في جسمي شحوم ودهون.
كنتُ أهيم فيها وفي عينيها لحظة أن تستغرق في مراقبتي نصف عارٍ بين يدي زميلها الممرض العجوز حسين ( أبو علي ) . كنت أتمنى أن تطول شغلة أبي علي مع إبرته كيما أظل هيماناً سابحاً في عيني حبيبتي المفترضة . لم َ لا تمارس سعاد حقن الإبر بدل هذا العجوز القبيح ؟ صرت أتمنى أن يمرض العم حسين أو يُحال على التقاعد أو يموت . كنت أدعو الأولياء والصالحين أن ينفذوا رغباتي أو في الأقل واحدة منها . أن يتغيب أبو علي لينفسح المجال أمام سعاد كي تمارس حقن الإبر . شاءت الصدف النادرة أن يُنقل العم حسين إلى مستشفى حكومي كبير آخر . إستجاب الأولياء الصالحون لدعواتي . سأواجه يدي سعاد ذات الوجه الصبوح الباسم . ستتولى هي مهمة حقني بالإبر ، إبرتين في الأسبوع . إبرة كالسيوم تساعد في تقوية عظام المراهقين وأخرى لتقوية هيموغلوبين الدم بإعتباري كنت في أوائل طفولتي مصاباً بمرض الملاريا الذي أتعب الطحال والكبد ودمر نخاع عظامي . يا للغرابة ! صرت أشعر كأني مريض بالفعل ولست متمارضاً . مريض سأشفى على يدي سعاد . سأتكلم معها طويلاً . سأعرض عليها أن تتعرف على شقيقتي ومن ثم لتزورنا في بيتنا . ما أسعدني مع سعاد ! صرت مدمن أحلام يقظة طويلة عريضة . صرت مهندساً بارعاً في تصميم وتنفيذ مشاريع خيالية شتى . هل أقول لشقيقتي إني أحب سعاد ؟ هل ستتقبل مني هذا الإعتراف وهي فتاة محافظة متدينة ؟ هل ستسمح لنا أن نختلي لوحدنا في غرفة الضيوف الأمامية ؟ كلا ، أعرف شقيقتي ، أعرف درجة محافظتها وتمسكها بالتحفظات فيما يخص علاقة الرجل بالمرأة . كنت أصغر سناً منها فكيف سأجرؤ على كشف أمري وأمر سعاد أمامها ؟ مشكلة . أمي بالطبع أكثر صرامة فمن المساعد والمعين ؟ . أفقت من أحلام يقظتي لحظة دخولي مستوصف الطلاب إذ لمحت في حجرة سعاد رجلاً مجهولاً لم أره قبلاً . قلت لعله مثلي مريض أو متمارض جاء للتداوي أو لأخذ حقنة تنفذها له سعاد بعد غياب زميلها السابق حسين المجدور . سلمت فردت سعاد بودها المعهود . وقف الرجل وسألني عن إسمي وهو يقرأ في ورقة بين يديه . أجبته فقال أنا الممرض البديل وسأقوم بتنفيذ الحقنة المخصصة لك في هذا الأسبوع . صُدمت ! رحل حسين وجاء هذا الغريب بدلاً منه ؟ لِم َ لا تقوم سعاد بالمهمة وهي كذلك ممرضة ؟ إهتديت إلى فكرة بارعة جاءت بالضبط في مكانها وزمانها فإقتربت من سعاد وقلت لها إن والدتي مريضة ، ألديك مانع في أن تزورينا وتنفذي حقنها بالإبر التي خصصها لها طبيبها ؟ قالت بكل سرور ، وسأقوم بذلك مجاناً لأجل عينيك ! سأنتظرك في بيتي الساعة السادسة عصراً لتقودني إلى بيتكم . لم أصدق ما سمعت !! سعاد تأتي إلى بيتنا ؟ لم تكن سعاد الفتاة الجميلة الأولى التي ستدخل بيتنا ، كان لشقيقتي الكثير من الصديقات يتبادلن معها الزيارات الدائمة لكنها ما كانت تسمح لي بالبقاء في البيت أثناء هذه الزيارات . كانت تقول : اليوم تزورنا فلانة وفلانة وأم فلان ... حضر نفسك لمغادرة الدار الساعة الخامسة . أمر صارم ما عليَّ إلا التنفيذ . أغادر البيت فأرتاد مقاهي مدينتا صيفاً أو أقضي الأمسيات في تمشيات طويلة مع العديد من الأصدقاء . زيارة سعاد شئ آخر . إنها ليست صديقة لشقيقتي . وشقيقتي لا تحترم مهنة التمريض أساساً . سعاد ظاهرة أخرى . ستزورنا زيارة
( رسمية ) ... زيارة عمل لا زيارة ( قبول ) ومجاملات . ستقدم خدمة مجانية للوالدة . كيف إذاً سأخترق الطوق المضروب حولي وحول سعاد بإحكام ؟ هل ستطلب شقيقتي مني أن أغادر البيت وأنا الذي أتيت بها إلينا من بيتها ؟ هل ستكتشف أمي وأختي خفايا الموضوع وأمر تعلقي بهذه السعاد ؟ ستقوم على رأسي القيامة . أحسنتُ لأمي لكنها سوف لن تقابل الإحسان بالإحسان . إتقِ شر َّ مَن أحسنتَ إليه !! جاء الموعد فقصدت بيت سعاد ، وهو بيت لبعض أقاربها إستأجرت حجرة لها فيه . إستقبلتني بملابس وردية جميلة تتناسب ألوانها مع لون بشرتها وشفافية وجهها ولون شعرها الكستنائي المسرّح بعناية منسدلاً فوق قرطين من الذهب . كانت جميلة جميلة بشكل لم أعهده ... أراها لأول مرة بدون بدلة العمل البيضاء وإكليل الرأس القصير الأبيض . فرق هائل بين شابة أثناء العمل وفي بيتها خارج ساعات الدوام ، ما الذي يتبدل في الإنسان ... المرأة وهي على حالين أو وضعين أو مكانين مختلفين ؟ هي التي تغيرت أم نظرتي لها ؟ لم يكن بيت سعاد بعيداً عن بيتنا . لفت جسدها المتناسق الجميل بعباءة سوداء لم تعتدْ على إرتدائها في العاصمة بغداد . هناك سعاد فتاة سافرة متحررة .
في الطريق إلى بيتنا كانت تتعثر بالعباءة وتزداد حرجاً إذ تنزلق من فوق رأسها وتستقر على كتفيها فيضحك بعض المارة منها [ إنها غشيمة ] طارئة على شغلة العباءة . كنتُ أتعمد الإبتعاد عنها قليلاً لكنها كانت تقترب بإصرار ٍ مني لاصقة ً كتفها بكتفي . ما هذا ؟ تجربة أولى في حياتي . قلتُ كنت مراهقاً خجولاً نحيف الجسم شاحب الخدين قليلاً نتيجة إصابتي المبكرة بالملاريا . ولعل هذا كان على رأس أسباب حيائي وشعوري بالخجل في حضرة وحضور النساء . مع إستثناء واحد : ما كنتُ أخجل من جارتنا صبيحة ، صديقة شقيقتي ، فقد دأبت على زيارتها أكثر من مرة في اليوم الواحد .إعتدتُ عليها وعلى حضورها الدائم . وما كانت أختي إذ تحضر صبيحة تأمرني بمغادرة البيت . تعلقت المسكينة بمرور الزمن بي وكانت أختي على علم بهذا التعلق . هي التي كشفت الموضوع ، لكن أختي المحافظة لم تشأ أن تضعني في الصورة فلم تخبرني بهذا التطور ... ربما خوفاً عليَّ من مطبات الحب ، حب وغراميات الصبيان المراهقين . لم تسعَ إلى تطوير العلاقة فيما بيننا . لكنها لم تقف حائلاً بيني وبين صديقتها المغرمة . كانت في البيت مع أختي بل وتظل في رفقتها حتى أثناء إعدادها طعام العائلة اليومي في مطبخ بيتنا الصغير . كانت تساعدها في غسيل وتقطيع الخضروات واللحوم وتنظيف حبات الرز من النقط السود فيه . كنت أنا أقضي وقتي في حجرة البيت الأمامية أقرأ الروايات التأريخية والأدبية الراقية وقصص الرومانس خاصةً في زمن العطلة الصيفية الطويلة ( ثلاثة أشهر ) . بإختصار ، كنت أتحاشى أن نجتمع معاً حتى في وجود شقيقتي وكان ذلك يؤلمها بالطبع . تظل في بيتنا حتى تناديها أمها بإسمها وكان باب بيتهم مقابلاً لباب بيتنا لا يفصلهما إلآ زقاق ضيق بعرض ثلاثة أمتار . كانت أبواب بيوتنا صيفاً تظل مشرعةً في النهارات القائضة الشديدة الحرارة . تطل أمها من باب بيتها بجدائلها السود الطويلة تتدلى من أُذنيها أقراط الذهب الطويلة . ما أن يرتفع صوتها {{ صبيحة ... أما تشعرين بالجوع ؟ طعام الغداء جاهز }}
يدخل صوتها بيتنا جهورياً عادياً حيناً غاضباً أحيانا ... حسب وضعية بيتها . تهرع ُ صبيحة إذ ذاك لتلبية نداء الأم . ما كانت أمها تجهل نوايا ومشاعر إبنتها نحوي . الأمهات يتفهمن حاجات وخصوصيات بناتهن َّ وغالباً ما يتعاون َّ معهن ويغضضن الطرف عن بعض خروقاتهن َّ . كانت تلمح لي بذكاء وخبث إلى ذلك حين تزورنا لتتجاذب أطراف الحديث مع والدتي وشقيقتي وتطلب سيجارة شعبية من والدتي فإنها لا تتجاسر على التدخين في بيتها ، زوجها منعها من التدخين لخلل في صدره ... ربو أو حساسية أو إلتهاب قصبات هوائية ، لا أدري . كان الرجل يسعل ليلاً فيسمعه الجيران جميعاً إذ منام الناس صيفاً على سطوح دورهم المكشوفة للسماء والغبار والطيور والذباب باكراً . دخلت بيتنا قبل الممرضة سعاد وكانت والدتي وشقيقتي قد هيأتا البيت لإستقبال الزائرة الجديدة . كنست أختي الساحة المبلطة بالكاشي الأحمر التي تتوسط الدار ما بين ثلاث غرف والمطبخ والحمام ثم رشّتها بالكثير من الماء وأعدت كرسياً خاصاً للزائرة وطاولة كبيرة صفت عليها صنوف الحلوى والكرزات وأواني ومستلزمات شاي العصر . ما كنا نهتم بالورود في ذلكم الزمان . لم تأكل ضيفتنا شيئاً بل أخرجت معدات حقن الإبر من حقيبتها الصغيرة ووضعتها أمامها على الطاولة . ناولتها والدتي إحدى الإبر ففتحتها سعاد وسحبت منها محتوياتها برشاقة وتؤدة . دفعت الضاغط قليلاً إلى داخل إسطوانة الدواء فتقافزت عدة قطرات ثم أشارت إلى الوالدة أن تتهيأ لوخزة الإبرة . تم كل شئ بسرعة وعاى أحسن ما يرام . قالت سعاد الآن سأشرب الشاي مع بعض الكيكات . جلست أمي على سجادتها الكاشان الأثيرة التي تعتز بها كثيراً أنها جاءت بها من إيران في زيارتها الرابعة الأخيرة لمرقد
( علي موسى الرضاء ) في مدينة مشهد الإيرانية . بينما إتخذت شقيقتي مجلسها على كرسي قريباً من زائرتنا الجميلة . تداريها بالمأكولات وصب المزيد من أكواب الشاي الفاخر وتجاذبها أطراف الحديث فإنبسطت الزائرة كثيراً وإنسجمت سريعاً مع مداعبات وقصص أختي والحق ، كانت أختي بارعة في أحاديثها وسرعة إنسجامها مع ضيوفنا الجُدد . ثم كانت جميلة أنيقة رفيعة الذوق في إختيار الملابس ، وخياطة ماهرة وطباخة لا يُشق لها غبار . بقيت واقفاً في وسط ساحة البيت طوال الوقت غير مصدق ٍ عيني . سعاد ضيفة الشرف في بيتنا والأخت لم تطلب مني مغادرة البيت . يبدو أن َّ الضيفة قد أعجبتها أو ... ربما إلتقطت إحساساً غامضاً مبرراً أن َّ بيني وبين سعاد نوعاً من الود المتبادل . لم أحول عيني عن سعاد ، وكانت سعاد تفهم ما يدور في خلدي من أفكار وتمنيات . كانت تختلس الفُرص إختلاساً لترد َ على نظراتي الوالهة ردوداً عجلى مختصرة كالبرقيات أو رسائل الفاكس التي لم نكن نعرفها في ذلك الوقت ... لئلا تنفضح أمام شقيقتي الذكية . شعرت ببعض الحرج ــ وكنتُ قليل الصبر ــ فوجهت كلامي لأختي قائلاً : هل أنتظر حتى تقرر سعاد العودة لبيتها كي أرافقها فقد أقبل المساء ؟ نظرت إليَّ قليلاً فأجابت ، كلا ، لا تنتظر ْ ، سأرافقها أنا إلى بيتها / ثم إن َّ العشاء جاهز . وأضافت : تستطيع مغادرة البيت وأن تأتي متى شئت بعد الساعة التاسعة مساء . هيا ، شرّفْ ، لا تضيعْ وقتك في سماع أحاديث النسوان . أعطنا فرصة لنتعرف جيداً على سعاد فنحن غدونا لها بمثابة أهلها وإنها كما تعلم غريبة في مدينتنا . تركت البيت أجرجر أذيال الخيبة والإحباط . ما المانع أن أشارك الضيفةَ طعام العشاء حتى لو جلستُ في غرفة الضيوف وحيداً حيث يمكنني سماع صوتها المغرد وضحكتها الملائكية المنطلقة بكل عفوية وبراءة وحبور ؟ كانت الوالدة قد تهيأت لأداء صلاة المغرب أو العشاء ... لا أعرف الفرق بينهما ... توضأت وشرعت تقرأ الآيات القرآنية بصوت مسموع ، كعادتها حين يكون لدينا ضيوف . ألقيت نظرة حائرة على سعاد كأني ألومها لِمَ لمْ تعترض على طلب أختي وتقترح بقائي لكي أرافقها أنا في العودة لبيتها بدلاً منها ، أو البقاء لتناول العشاء معاً على مائدة واحدة ؟ لمْ تؤازرني ، خذلتني ، تخلت عني ، طعنتي في الصميم ، خانتني عجلى . هل وقعت تحت سحر وجاذبية شخصية شقيقتي القوية ؟ جائز . خرجت أهيم على وجهي وقد أسدل الظلام ستوره وأنا موزع ما بين الحيرة والخذلان . هل دخلت الممرضة بيتنا أم ، ترى ، دخلت في قلبي ؟ ضحكتُ ، نعم ضحكتُ إذ عنت لي فكرة صبيانية فيها شئ من الفلسفة . رحت أخادع نفسي بالقول إنَّ سعاداً وقد دخلت بيتنا لأول مرة وإنسجمت مع أختي فلا بدَّ وأنها ستكرر زياراتها المرة تلو المرة . ستفتعل لا ريبَ المناسبات : للإطمئنان على صحة الوالدة ... للتعرف جيداً على صديقتها الجديدة... لمناسبة هذا العيد أو ذاك ... لكي تصمم لها أختي بدلتها الجديدة ...، ثم ، قلت لنفسي : دخلت بيتنا وستدخله مراراً فما الذي يمنعها من أن تدخلني قلبها كما دخلت قلبي . الدخول هو الدخول ... دخول قلب كدخول بيت .



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصص ألمانية سوريالية (6)
- قصص ألمانية سوريالية (5)
- ورابعهم المتنبي (1)
- قصص ألمانية سوريالية (4)
- قصص ألمانية سوريالية (3)
- قصص ألمانية سوريالية / (2)
- قصص ألمانية سوريالية (1)
- المتنبي والأرمن / شكر للسيدة سهيلة بورزق
- من تأريخ الحلة النقابي والسياسي / الجزء الثاني
- من تأريخ الحلة النقابي والسياسي / الجزء الأول
- المتنبي وفاتحة والطبيبة أسماء
- رسايل تلفونية بين المتنبي وحنان عمّان
- المتنبي يزور الخيمة سراً
- المتنبي والمتصوف هرون بن عبد العزيز الأوراجي
- المتنبي وحنان
- المتنبي وإبن بطوطة ( مداخلة إشتراكية رمزية ) / إلى مليكة الح ...
- المتنبي والصورة / إلى حنان في عمّان
- المتنبي يروي قصة لجوئه
- المتنبي متوعك الصحة
- في ضيافة المتنبي


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - سياحات خيالية (1)