أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نعيم شريف - السجن والرواية خيمياء الألم ولوعتهُ















المزيد.....

السجن والرواية خيمياء الألم ولوعتهُ


نعيم شريف

الحوار المتمدن-العدد: 2095 - 2007 / 11 / 10 - 10:34
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تطمح الروايةُ دوماً لتدوين الألم ولعلها تجهدُ لنفيه أيضاً، من طريق هذا التدوين، وفي سعيها ذاك تجوسُ أراضي وعرةً مثقلةً بنصيبها من بئر القسوة تلك.

فالسجن، هذا الابتكار البشري بامتياز، هو إقصاء للحرية، نفي للديمومة الفاعلة، تقزيم للكينونة الإنسانية، وتكريس لـ (اللاّ إنساني) بالمطلق.

يبدو لي مفيداً هنا القول بأن الرواية بوصفها نوعاً سردياً متقدماً، نأت بنفسها عن محايثة الألم فقط إلى التفوق عليه وتخليده في الوقت ذاته.

ليس من دأب الرواية في تصديها للـ (ثيمات) المعقدة والملتبسة أن تكتفي بالرصد والتسجيل فحسب، بل عليها أن تتجاوز المعطى إلى المبتكر.

سأوردُ هذه الفقرة للكاتب الروسي الكبير (تولستوي) من رسالته إلى صديقه ستراخوف: (بعد أن قرأت (ذكريات من منزل الأموات) أيقنت أن ليس في الأدب الجديد كله كتاب يفوقه، حتى ولا كتب (بوشكين).. إذا رأيت (دستويفسكي) فقل له أني أحبَّه)(1).

سوف لن يجد القارئ صعوبة في فهم أن المقصود من كلام تولستوي هو رواية دستويفسكي عن فترة سجنه التي امتدت عشر سنين في مدينة (أومسك) في سيبريا.

في كتابه (ذكريات من منزل الأموات) يوردُ (الكاتب السجين) تفاصيل مروّعةً عن العذاب الذي يلقاهُ السجناء، وعن ألوان الاضطهاد التي يتعرضون لها على يد سجّانيهم.

فالسجين دستويفسكي، ينسحب ويُخلي المكان للروائي دستويفسكي، وهو برصده حيثيات السجن، يحاول أن يجد طريقاً سالكاً لفهم عذابات هؤلاء الأشقياء والاقتراب منهم، الكاتب هنا يسبر أغوار الشخصيات ويلجُ إلى داخلها، مستعيناً بقدرتهِ على (التماهي) مع الأمر، وتأمل ما يراهُ.

عندما صدرت هذه الرواية عام 1862م، أحدثت ضجة في كل البلاد الروسية، وحين قرأها القيصر أجهش بالبكاء مرات كثيرة، وعلى أثر صدروها وبالتحديد بعد مضي عام على ظهور الرواية، صدر قانونٌ بإلغاء العقاب الجسدي إلغاءً تاماً.

فالمعاناة التي تعرَّض لها الكاتب (السجين) والعذاب الذي مزَّق روحه طيلة أعوام سجنه، أسعفتها الموهبة الفذّة، فتحصَّل لنا من عذاب السجن المَهولِ كتابٌ خلَّدَ الألم ونفاه في الوقت عينه.

فلنقرأ هذه الفقرة من رسالة لأخيه ميشيل، يكتب دستويفسكي: (لن أخبرك بما طرأ على نفسي ومعتقداتي، على فكري وقلبي، في غضون هذه السنوات الأربع، فالحديثُ يطولُ، لكن التأمل المستمر الذي كنت أهرب إليه من واقعي الأليم لم يكن عديم الجدوى، تحدوني الآن آمالٌ وأمانٍ، لم أكن أتبينها في ما مضى) (2). تنصهرُ معاناة الكاتب وآلامه مع سعيه الحثيث للخلاص منها، وليس في نفسه إلا (الفن – الرواية) منفذاً لينقذَ روحهُ، بعد أن أنهك السجن جسدهُ. في المقطع الذي أوردناهُ، تتوضح بجلاء معالم التجربة العميقة، وآثارها على معتقدات الكاتب وعلى أفكاره وما اعتور نفسه من تغير.

لعلي ألقي بعضاً من الضوء على قيمة كتاب (ذكريات من منزل الأموات)، إذا ذكرت بعضاً مما جعل دستويفسكي يدخل السجن أسوة بالمجرمين وعتاة الأشقياء على الرغم من كونه سجيناً سياسياً، الأمر الذي شكل له صدمة أول الأمر، لكنه ما لبث أن تكيّف للحياة معهم!!.

كان دستويفسكي واحداً من المواظبين على حضور ما سمي في حينه بـ(حلقة بترافشسكي)، وكانت هذه الحلقة تحاول أن تقوّض النظام الإمبراطوري وتطيح بالقيصر، لكن أعضاء الحلقة قُبضَ عليهم وحكموا بالإعدام وكان دستويفسكي من جملتهم.

لنستمع إليه يقول في رسالته لأخيه ميشيل:

(أرسل إليَّ القرآن، وكانْت (نقد العقل الخالص) وهيجل خاصةً تاريخ الفلسفة، إن مستقبلي متوقف على هذه الكتب).

ثم يلح في الطلب في رسالة في 27 آذار 1854 ويكتب:

(ثم أرسل لي القرآن وقاموساً للغة الألمانية... ). ذلك أنه بحاجة أساسية لهذا الزاد الفكري، كيما يؤسس له قاعدة مفاهيمية صلبة، تعينهُ على فهم وتقبل وتفسير ما يحدث أمامهُ، ذلك أن الرواية تغتني وتتألق حين يكون الزاد الفكري لكاتبها موازياً للجهد المبذول في كتابتها.

تصور الرواية عالم السجن، تصويراً لا يغفل أدق التفاصيل، مظهرةً مقدار البشاعة التي يحيا بها هؤلاء السجناء. تحرصُ عين الكاتب على التمعن في ثنايا المأساة بدأب وصبر طويلين، فالكاتب ينقل على لسان بطله (جورنيتشيكوف) - وهو هنا الاسم الروائي لدستويفسكي - هذه الفقرة البالغة الدلالة:

(رأيت رجالاً مشدودين إلى الجدران بسلاسل.. إن طول السلسلة متران، وعلى مقربة منهم مضاجع يرقدون فوقها... إنهم يُشدون إلى هذه السلاسل لجريمة ارتكبوها بعد ترحيلهم إلى سيبيريا، وهم يلبثون على هذه الحال من التنكيل بالأغلال خمس سنين أو عشر (ورغم ما يبدو عليه من رضى) فإن الرغبة في إنهاء مدة التنكيل تحرقهُ حرقاً وتأكل نفسه أكلاً... ). كانت رواية (ذكريات من منزل الأموات) مثالاً على عظمة الفن الروائي وخلوده.

شكَّلت رواية الكاتب المصري صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة) منعطفاً مهماً في أدب الكتابة عن السجون، فهذه الرواية المهمة تنحو منحىً مختلفاً عن كل ما كتب في هذا المجال.

يستخدم صنع الله إبراهيم هنا - تقنية (إرنست همنغواي) – أقصدُ بها تقنية (جبل الجليد) التي تعني أن ما يظهر من جبل الجليد هو عشره، أما التسعة أعشار الباقية فإنها تختفي تحت الماء، في إشارة إلى طريقة جديدة في السرد القصصي، تبتعد عن الجمل الكثيرة المثقلة بالترهل العاطفي، والمجازات أو الإحالات والتشبيهات البلاغية، هذا الأسلوب يطمحُ إلى رشاقة في الأسلوب، تمنحُ السردَ قوةً ذاتيةً وشفافيةً عالية تنأى به عن الاستطالات الزائدة وغير الضرورية. فرواية (تلك الرائحة) تصور حالة سجين أُطلقُ سراحهُ حديثاً، ويجد نفسه في غربة روحية ثقيلة الوطء على نفسه، فلا أحد في استقباله، ويرفض أخوه تسلمه، وفي خضم هذه الفوضى من مشاعر السجين، تسيطرُ عليه حالة من اللامبالاة الغريبة التي تهيمن عليه بشكل يكاد أن يكون كلياً.

فهو يسجل أدق مشاعره (بحيادية) شديدة، ويراقب ذاته والآخرين بموضوعية لا تتأتى إلا لمن أيقن يقيناً لا يرقى إليه الشك، بأن روحه أمست

خراباً حقيقياً، وبأن لا سبيل إلى بعث الحياة في لحظات نأت وأخذها بعيداً تيار الزمن المنصرم.

لكنه في رصده وتسجيله للوقائع اليومية لحياته، تداهمهُ ذكرياته السوداء المريرة في السجن، فتهيمن عليه حالة من السوداوية، وهو لا يتورع عن ذكر تفاصيل (خاصة جداً) وبلغة لا تحفل بالحياء أو التورية، بل إنه يُسمي الأشياء بأسمائها الأكثر بدائية والتي لا تتساوق مطلقاً مع لغة المجتمع، تعرض (تلك الرائحة) حالة السجون المصرية زمن الحكم الناصري وما فيها من تنكيل واضطهاد على يد أجهزة جمال عبد الناصر الأمنية.

فهناك عالم مكتظٌ بشروره، سادرٌ في فساده وتحللّه، وصنع الله إبراهيم، يشرَّح بمبضع الجراح بنية التعفن، ويفضح الممارسات التي تحدث في السجن بذكاء وجرأة قلَّ نظيرهما.

فعمليات التعذيب الوحشية والمستمرة التي تنال المناضلين، تظهر إلى أي مدى وصلت آلة القمع البوليسي في امتهانها للإنسان، لمجرد أنه يحمل رؤية مخالفة لها ولا تتفق مع نهجها الحديدي في الحكم.

ثم تعرج الرواية، بأسلوب (الرؤية من الخلف) إلى رصد مجموعة من الأحداث الموضوعية التي اختيرت بمهارة وقطعت في نقل محايد للواقع.

إن الأسلوب يقوم هنا على الوصف الخالي من التعليقات الذي أسمته كلودا ادموناني (عين الكاميرا): رؤية لا يتدخل فيها المؤلف حيث لا يقال فيها إلا ما يمكن أن يلحظه مصوَّر سينمائي موضوعي أو تسجله مسجلة صوت.

ذلك أن هناك عمليات قتل بشع لسجناء سياسيين، وحالات اغتصاب لسجناء صغار في السن من قبل بعض المجرمين من السجناء الذين ترعاهم إدارة السجن وتتواطأ معهم.

كانت رواية (تلك الرائحة) فضحاً للمسكوت عنه والمستتر من بشاعات وجرائم خلف غطاء سميك من التظليلات لمجتمع دُجّن حتى صار لا يحفل بما يلاقيه على أيدي جلاديه.

هذه الرواية كانت الرائدة في (أدب القبح) ذلك النوع من الكتابة التي تشير إلى مثالب وعيوب الحياة في ظل نظام دكتاتوري شمولي.

كثيرة هي الروايات التي تناولت (السجن) كثيمة رئيسية، ترصد حالات القهر ومحاولات مسخ الإنسان وقتله، ولعل الروايات التي تناولت السجن عكست جوانب مُغفلة ومهمشة، ومشت في طرق صعبة لتخليد الألم الإنساني، عَلَّ الفن يكون شكلاً من أشكال الخلاص.

المصادر:

1- أدب السجون: نزيه أبو نضال – دار الحداثة.

2- دوستويفسكي: مقالات ومحاضرات، أندريه جيه ترجمة إلياس حنا إلياس.

3- قراءات في الأدب والنقد: د. شجاع العاني، منشورات اتحاد الكتاب العرب.

4- تلك الرائحة رواية: صنع الله إبراهيم.



#نعيم_شريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سرير الرمل- لسلام إبراهيم تنويعات سردية على موضوع واحد
- سرير الرمل- لسلام إبراهيم تنويعات سردية على موضوع واحد
- العنف في الأدب الإنساني أو لعنتنا الدائمة
- نساء الظّل: قراءةٌ في كتاب ميادة ابنةُ العراق
- قراءة في كتاب حميد العقابي أصغي إلى رمادي


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نعيم شريف - السجن والرواية خيمياء الألم ولوعتهُ