أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين - هشام البستاني - من أجل مانيفيستو ماركسي عربي حول القضية الفلسطينية















المزيد.....



من أجل مانيفيستو ماركسي عربي حول القضية الفلسطينية


هشام البستاني

الحوار المتمدن-العدد: 2089 - 2007 / 11 / 4 - 11:38
المحور: ملف: الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين
    


(نقاش مع الصديقين عادل سمارة ومسعد عربيد)
مقدمة: حول ضرورة إنتاج تيار يساري عربي جذري

كانت القضية الفلسطينية ولم تزل المحور الأساسي للصراع في المنطقة العربية، والأس المحدد لتحقق المشروع التحرري العربي من عدمه. وان كانت قد طرأت متغيرات أخرى وتحديات مستجدة في وجه هذا المشروع تتمثل في احتلال العراق، والوجود الأمريكي العسكري في الخليج، والإمعان في تفتيت الكتل الاجتماعية/الاقتصادية إلى ما دون التشكلات القطرية التي أفرزتها الفترة الكولونيالية البريطانية/الفرنسية/الإيطالية، وغيرها، فان هذه المستجدات لم تنتقص من أهمية ومركزية القضية الفلسطينية، بل زادتها، وأثبتت بموضوعية أن المشروع "المقابل" أو المعادي: المشروع الإمبريالي/الصهيوني، هو مشروع متكامل ومترابط، ويسير بمنهجية عالية لتحقيق رؤاه ومصالحه على الأرض.

في مواجهة هذا المشروع، لم يتبلور مشروع عربي تحرري، ونجد أنفسنا اليوم ساحة مفتوحة للصراع بين مشاريع الآخرين (1)، وما زلنا نراوح مكاننا، بل تراجعنا كثيرا، في محاولة إنتاج (لا تحقيق) تشكل نظري لهذا المشروع، حتى نبدأ على الأقل في الخطوة الأولى على طريقه. وان كنا نتفق مع المفهوم القائل بانعدام الحركة الثورية أو عدم فعاليتها في غياب نظرية ثورية، فان إنتاج تنظير لفهم اشتراكي للمشروع التحرري العربي وأساسه الأول (قضية فلسطين)، يقع على رأس أولويات أي حراك لإنتاج يسار عربي جديد قادر على مواجهة الأزمة أو الأزمات ومن خلال:

1- مواجهة مدعي اليسارية من "اليسار الديمقراطي" (اليسار ما بعد الحداثوي!) والمتمولين، والمنتفعين والوصوليين والمرتبطين بالدوائر الإمبريالية والاستخبارية، والذين يراد لهم أن يكونوا هم وليس غيرهم ممثلي اليسار، في محاولة لطمس الدور الثوري للماركسيين وإعادة تشكيل هذا الدور في السياق الليبرالي والنيولبرالي للإمبريالية وافرازاتها المحلية. وأشير في هذا السياق وبشكل واضح إلى أن الأشكال "اليسارية" التي يراد لها أن تبرز فوق أنقاض اليسار الجذري، وفي الأردن على وجه التحديد، هي تلك الأشكال المرتبطة بالتمويل الأجنبي وبرامج الـUSAID وبرامج مؤسسة فورد وغيرهما؛ وتلك التي تعترف بشرعية وجود الكيان الصهيوني على الأراضي العربية المحتلة، وتعترف بقرار التقسيم وحل الدولتين في فلسطين، وتفتخر بعلاقاتها "الكفاحية" مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي والحزب الشيوعي العراقي العميل للاحتلال (فصيل حميد مجيد)؛ وتلك التي تُنَظر للشوفينية الإقليمية ومشروعية القطر السايكس – بيكوي وتدعو للحفاظ على "الخصوصيات القطرية"؛ وأخيرا (وليس آخرا) تلك التي ترتبط بالأجهزة الاستخبارية وعملت وتعمل حتى الآن على اجتذاب العناصر الشابة لتسلمهم لقمة سائغة إلى المتمولين أو الأجهزة.

2- القيام بمراجعة نظرية جدية وحقيقية وجذرية للتراث الماركسي والشيوعي العربي، وعلى رأس ذلك الموقف التقليدي للأحزاب الشيوعية من الكيان الصهيوني، والموافقة على ومن ثم تبني قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 والذي وافق عليه الاتحاد السوفييتي في حينه، والموقف من النضال المسلح ضد الصهيونية والإمبريالية، والموقف من المسألة القومية ووحدة النضال الشعبي العربي، والتبعية الميكانيكية لمعظم الأحزاب الشيوعية العربية للمركز السوفيتي في حينه، وغياب قراءة ماركسية أصيلة للواقع العربي فيما عدا القليل من الاستثناءات.

إن واجب إعادة بناء اليسار العربي في هذه اللحظة، ينبغي أن يكون الأولوية الأولى لكل اليساريين الحقيقيين، وان يتم هذا البناء على القواعد التالية:

أ‌- العداء التناحري مع الإمبريالية والصهيونية.
ب ـ الدعم الكامل للمقاومات ضد الإمبريالية والصهيونية دون تحفظات أو شروط.
ت ـ بناء التحالفات القائمة على العداء للإمبريالية.
ث ـ المراجعة النقدية للتراث الشيوعي العربي وخاصة تراث الأحزاب الشيوعية.
ج ـ البدء بقراءات ماركسية للواقع العربي للخروج به من واقعه المأساوي.

هذه مهمات لا يمكن القيام بها ضمن أشكال شبيهة بنوادي حوار تتسع للجميع بغض النظر عن المواقف فيما تعلق بالقضايا الأساسية والحاسمة. إن زمننا هذا هو زمن الصراع، والمواقف غير المحسومة هي تواطؤ صريح وعقبة أخرى في طريقنا نحو التحرر والحرية ولا يجوز أن ننظر إليها بعين "الأب الحنون" الذي يريد أن يجمع أبناءه حوله قبل أن يموت؛ كما لا يجب الاعتقاد أن هؤلاء "اليساريين" من المتمولين أو الإقليميين أو المشبوهين، هم من السذج أو "اللي فاهمين غلط"، إنهم هكذا لان هذا هو خيارهم الواعي، ولأنهم اختاروا أن يكونوا في المعسكر الآخر المعادي للناس.

من هنا تبرز أهمية الورقة التي أعدها الصديقان العزيزان عادل سمارة ومسعد عربيد تحت عنوان "نحو حل اشتراكي في فلسطين: مناقشة نقدية في حل الدولة الديمقراطية العلمانية"(2) لعدة أسباب:

أولها، أنها تطرح من منظور نقدي الإشكالية التاريخية لموقف اليسار العربي من القضية الفلسطينية ورؤيته لها ولآفاق حلولها، من القبول بقرار التقسيم عام 1947 رضوخا للقرار السوفييتي، أو التنظير لـ"الدولة الديمقراطية العلمانية"، أو "الدولة ثنائية القومية"، أو الانقلاب إلى الحل "الاوسلوي" واللهاث خلف أي قطعة جغرافيا مقترحة لـ"دولة" فلسطينية!

ثانيها، أنها تأتي استكمالا لفهم ماركسي ثوري ومغاير للسائد، كنا قد عملنا عليه نحن ورفاق كثر آخرون من اليسار الجذري، يطرح بوضوح قضية لا شرعية الكيان الصهيوني وانعدام إمكانية أي حل تسووي معه أو مع مشروعه(3).

وثالثها، أنها تنظر لمشروع اشتراكي مقترح في فلسطين ومحيطها العربي دونما اعتبار للدعاية الرائجة هذه الأيام حول "العقلانية السياسية" (هي لا عقلانية في الواقع!) وسياسة التعامل مع الأمور "بحسب موازين القوى القائمة" (وهو أمر من شأنه أن يؤبد التبعية والاحتلال إلى ما لا نهاية!)، وخطاب "نهاية الاشتراكية" في عصرنا هذا.

ورابعها، أنها تطبق المنهج المادي الجدلي على قضية حية في محاولة للخروج بإجابات موضوعية.

فيما يلي، سنخوض نقاشا جديا ونقديا مع هذه الورقة. وسيتركز النقاش حول نقاط الخلاف لا الاتفاق، وهو خلاف في التفاصيل لا حول القضايا الأساسية التي نتفق حولها مع الصديقين عادل سمارة ومسعد عربيد بشكل شبه كامل. آملين أن تكون محصلة هذه الورقة والتعليقات عليها الخروج بمانيفيستو ماركسي عربي حول فلسطين، ليوضع كبديل حقيقي أمام حركة التحرر الشعبية العربية، وصوتا تقدميا مغايرا أمام العالم يحمل في طروحاته جميع ما افتقدته المقاربات الأخرى: العدل، الموضوعية، والإنسانية.

"الدولة" أم "اللا دولة" في فلسطين: نقد المقاربة القطرية

بتصوري أن الأساس الموضوعي لتهافت حل "الدولة الديمقراطية العلمانية" أو "الدولة ثنائية القومية" أو "الدولتين"، لا يقوم فقط على كونها تعترف بمشروعية المشروع الصهيوني كأمر واقع فحسب، بل إنها تكرس القطر ما بعد الكولونيالي كوحدة سياسية شرعية على المناضل السياسي/المنظمة السياسية أن يتقيدا بها ويعتبرانها ذات أهمية استثنائية إن لم يكن نهائية.

غير بعيد عنا استقتال السلطات السياسية العربية في تأسيس الأقطار الناتجة عن اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها كآفاق نهائية للعمل السياسي، ويصبح "الخارج عن القطر" باتجاه الأصل (المساحة العربية) خارجا عن الوطنية وعن المصلحة الوطنية، وأصبحت السلطات السياسية تؤسس لأن تكون الأقطار ما بعد الكولونيالية أوطانا بحد ذاتها تحوي في طياتها شعوبا ذات ثقافات متمايزة وتشكلا تاريخيا متمايزا (في الأردن مثلا: مشروع "الأردن أولا"، ومحاولة إنتاج هوية "أردنية" وثقافة "أردنية"، واثبات تمايز "أردني" ما قبل تاريخي عن محيطه العربي...الخ، وهي تجربة تتكرر في مصر ولبنان والعراق وغيرها من الأقطار العربية).

هذا التأسيس يجري على نسق نموذجه الأول والاعمق أثرا: النموذج الفلسطيني، الذي كان المشروع الرائد في هذا المجال تحت ضغط مقولات مصطنعة من نمط "الخصوصية الفلسطينية" وفيما بعد "الانفراد الفلسطيني في المواجهة بعد التخلي العربي عن القضية"، وهي مقولات شجعتها الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت "ممثلة شرعية ووحيدة للشعب الفلسطيني" بمباركة الأنظمة إياها، ممهدة الطريق أمام "استقلالية القرار الفلسطيني" الذي يعني في الواقع عزله ودفعه إلى الحضن الإسرائيلي في اوسلو وما بعدها، ليذهب الجميع إلى ذلك الحضن بعد ذلك بحجة أن "الفلسطينيين فعلوها" وهم الادرى بمصالحهم!

الخطاب الانعزالي القائل بتمايز "فلسطيني" وتخلي شعبي عربي عن قضيته المركزية هو كلام يثبت التاريخ تضليليته الشديدة:

أ‌- مشاركة مناضلين ومقاتلين عرب وامميين في النضال في فلسطين على مدار تاريخ الصراع، سواء كان ذلك على عاتقهم الخاص ـ مثل المتسللين من الأردن ومصر- أو أولئك الذين انضووا في تنظيمات مسلحة، من عز الدين القسام وحتى الوقت الحاضر، ومن المفيد ذكرهم للتذكير لمن ذاكرته قصيرة المدى جدا في سياق أي "مانيفيستو" ماركسي عربي حول القضية الفلسطينية.

ب ـ إن الخريطة/القطر الفلسطيني هو صنيعة استعمارية بامتياز، كما بقية الأقطار العربية، والتأسيس القائم على تميزها وانفصالها عن محيطها العربي هو في أساس الأطروحة الصهيونية التي تريد إثبات عمق تاريخي لهذا الانفصال والتميز يؤسس لـ"إسرائيل" قديمة يراد إعادة إنتاجها حاليا. ودعونا لا ننسى أن القرار الأول للمؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد من 27/1 إلى 10/2/1919 في القدس كان: "ان فلسطين هي جزء من سوريا العربية، وهي لم تنفصل عنها في أي وقت من الأوقات، ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية وطبيعية واقتصادية وجغرافية...."(4)

إن إعادة الاعتبار إلى مفهوم لا مشروعية الكيان الصهيوني يعني بالضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم اسبق هو لا مشروعية القطر ما بعد الكولونيالي في المنطقة العربية، خصوصا إذا علمنا أن هذا التقسيم هو الذي أسس لإنتاج "إسرائيل" في المنطقة وساعد ويساعد على الإبقاء على مشروعها. كما أن القطر العربي ما بعد الكولونيالي وتشكله السياسي (النظام الرسمي العربي) يريد أن يكرس وجود الكيان الصهيوني والمشروع الإمبريالي لعدة أسباب:

أولا: ترابط المصالح والوجود من زاوية التابع والمتبوع.

ثانيا: وجود الكيان الصهيوني مبرر وظيفي لوجود النظام الرسمي العربي الذي يعمل على تمييع التناقض الشعبي مع الكيان، وهو ضمانة لعدم انفجار الشعب في وجهه.

ثالثا: الوجود غير الطبيعي وغير الشرعي للكيان الصهيوني هو انعكاس للوجود غير الطبيعي وغير الشرعي للنظام العربي الرسمي نفسه مما يكسبه "طبيعية" ما.

رابعا: وجود الكيان الصهيوني كمانع لتحقق المشروع التحرري الوحدوي العربي هو انعكاس لوجود النظام الرسمي العربي الذي يعتمد القطرية كأفق سياسي نهائي مؤديا وعاكسا نفس وظيفة الكيان.

خامسا: ليس لدى النظام الرسمي العربي أي مشروع عربي أو حتى قطري، وهو جزء من المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة.

باختصار: الكيانات القطرية العربية والكيان الصهيوني تشرعن بعضها بعضا من حيث أن "لا شرعية" الكيان الصهيوني هو انعكاس مباشر وتبرير موضوعي لـ "لا شرعية" النظم الحاكمة العربية وكياناتها القطرية المصطنعة، وهو ما يولد اعتمادا بينيا متبادلا بين هذه الـ"لا شرعيات"، مع ملاحظة أن الأولى أسست سياسيا للثانية وسبقتها في الوجود.

ورغم أن سمارة وعربيد يشيران إلى هذه المسألة في أكثر من مكان في دراستهما (تحت عناوين مثل "حيز الصراع اكبر من فلسطين التاريخية")، وبالرغم من أنهما يشخصان بحق بأن "كل من الكيان الصهيوني وكيانات التجزئة العربية متواكبة الولادة ومتواكبة السقوط"، إلا أنهما لا يوليانها الأهمية المركزية التي تستحقها.

يقتضي منا تساؤل وضعه الكاتبان كعنوان لأحدى الفقرات: "هل فلسطين المحررة جزء من الوطن العربي الموحد؟" أن نسأل نحن بدورنا: وهل هناك إمكانية لفلسطين محررة دون تحرر عربي شامل؟ وهل هناك مكان في ظل تحقق مفترض لتحرر عربي شامل لسؤال من هذا النوع؟

يقول الكاتبان: "وليس هناك، في حقيقة الأمر، ما يزيل الاحتكار الاشكنازي لأرض فلسطين العربية سوى عودة هذه الأرض إلى الحضن القومي العربي أي عودة فلسطين المحررة إلى الحظيرة العربية كجزء من الوطن العربي الموحد". القضية برأيي هي ليست قضية "عودة فلسطين المحررة إلى الحظيرة العربية كجزء من الوطن العربي الواحد" لان هذا إقرار أن فلسطين حالة اجتزاء متميزة عن بقية الأقطار العربية التي هي أيضا يجب أن تعود إلى الحظيرة العربية .... الخ، هذا من جانب، الجانب الأهم أن هذه العبارة (في صدى للتساؤل السابق) وكأنها تقول أن فلسطين المحررة ستنجز بمعزل عن نضال عام ذو طبيعة وحدوية، أي سينجز التحرير ومن ثم تعود فلسطين إلى البعد العربي نافيا بذلك الربط الجدلي بين التحرير والوحدة والنضال القومي كمتلازمات موضوعية.

ويشدد سمارة وعربيد في عنوان دراستهما على الجانب "القطري" أو تمظهر الدولة ما بعد الكولونيالية: "نحو حل اشتراكي في فلسطين" (وهو عنوان يتكرر داخل الدراسة "المشروع الاشتراكي في فلسطين" بما قد يفيد الفهم بان مثل هذا المشروع قد يكون منفصلا و/أو متمايزا عن المشروع الاشتراكي في الوطن العربي)، فلم يأت العنوان (مثلا): "نحو حل اشتراكي عربي للقضية الفلسطينية". فيما أوضح العنوان الفرعي للدراسة هذا التوجه أكثر حينما حدد نقاشه النقدي حول حل "الدولة الديمقراطية العلمانية"، واجتهد سمارة وعربيد في تبيان لاموضوعية مثل هذا الحل من جانبي "ديمقراطيته" و"علمانيته" فقط، فيما لم يمارسا نفس النقد البنيوي لمفهوم "الدولة" وعدم إمكانية حل التناقض القائم بين المشروع التحرري العربي من جهة والمشروع الإمبريالي الصهيوني من جهة أخرى، على قاعدة "دولة" ذات جغرافيا ما بعد كولونيالية.

يقول سمارة وعربيد: " يستند حل الدولة الديمقراطية العلمانية إلى مكونين أساسيين: أولهما البعد القومي فيطرح نفسه كحل "لقوميتين" متنازعتين (...) وثانيهما المسار الديني ـ العلماني ...". هناك مكون أساسي ثالث لم يقاربه الكاتبان هو البعد "القطري" الذي يصور إمكانية الحل في إطار دولة منفصلة عن محيطها وتعتبر استكمالا لـ و/أو تطويرا على مشروع التقسيم الاستعماري (سايكس-بيكو وما تلاها).

يقول سمارة وعربيد: "ليس المقصود هنا أننا ضد حل الدولتين أو أي حل لأنه يقيم دولة للشعب الفلسطيني، فلسنا ضد دولة لشعبنا وحبذا لو تقوم "ثلاث وأربع" دول فلسطينية إذا كان من شأن ذلك أن يسهم في إضعاف وتفكيك الكيان الصهيوني شريطة أن يتم ذلك دون الاعتراف بهذا الكيان ودون التخلي عن حق العودة" ونقطة! وربنا غاب عن بال الصديقين اشتراطان اساسيان آخرين: دون أن تكون هذه الدولة أو الدول ناتجة عن تفاهمات سياسية من أي نوع مع الكيان الصهيوني، ودون سلخ القضية الفلسطينية عن بعدها القومي، لأن التمظهر القطري (أو حتى الحلم به كما في الحالة الفلسطينية) يلعب دورا كبيرا في الانسلاخ القومي.

ويكمل سمارة وعربيد: "إننا ضد حل الدولتين (وما شابهه من حلول) لأنه يعترف بالكيان الصهيوني ويشطب حق العودة، ويثبت هذا الكيان كقاعدة عدوانية رأسمالية في المنطقة، لأنه يستند إلى دولة للفلسطينيين على أراضي الاحتلال الثاني (أو جزءٍ يسير منها)، ولأنه حل وهمي يرفضه الصهاينة ولن يسمحوا بإنجاز أي خطوة تنفيذية فعلية على طريقه" دون الإشارة إلى أن السبب الموضوعي للوقوف ضد حل الدولتين (وأي حل آخر يقوم على "دولة" في فلسطين مهما كان شكلها) يكمن في أن الدولة السايكس-بيكوية ما بعد الكولونيالية بذاتها الموضوعية مناهضة لأي مشروع تحرر عربي وتقف عقبة كبرى في طريقه.

تتجاهل أطروحة الدولة الديمقراطية (وأية أطروحة أخرى ترتكز إلى "الدولة" كإمكانية للحل) البعد القومي لفلسطين وطابعها العربي وكونها جزءً لا يتجزأ من الوطن العربي. وبالإضافة لما ينطوي عليه هذا من خلل وإجحاف تاريخيين، فان هذا النهج يفصل، من منظور النضال الوطني والبرنامج السياسي، مشروع تحرير فلسطين عن المشروع النهضوي العربي.

طبعا نحن نختلف مع هذه المقاربة من جانبين أساسيين: أنها لا تحل التناقض الناتج عن "الاحتلال" حيث يبقى المحتل "مواطنا" في مثل هذه الدولة، والجانب الثاني أنها تقارب المسألة من زاوية "قطرية" وبالتالي تخطئ في تحديد أساس الصراع بين العرب والصهاينة، وهو ليس صراعا على جغرافيا بقدر ما هو صراع تحرر من هيمنة: صراع المشروع التحرري العربي في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني. مثل هذا الصراع لا يحل على قاعدة الجغرافيا بل على قاعدة الوجود، ولا يحل من المنظور "القطري" بل من المنظور "القومي" على اقل تقدير و"الاممي" إن توفرت الظروف الموضوعية. الحل بنظري يكمن في تعمق المشروع التحرري العربي وتحققه الوحدوي وانتصاره على مشاريع الهيمنة الإمبريالية الصهيونية، وبالتالي إزالة الكيان الصهيوني واستعادة فلسطين إلى حاضنتها العربية وذوبانها فيها وعندها فقط تحل جميع التناقضات. أما أن نحول الصراع إلى خلاف حول "دولة" وشكلها وحدودها فهو تمييع للصراع وتشويه له.

وأضيف: إن أي مقاربة قائمة على "دولة" هي مقاربة ميتافيزيقية غير موضوعية على الإطلاق، حيث لا أساس موضوعي لتحققها سوى تنازل الأعداء من منزلة تعطف القوي على الضعيف أو تكرم الباحث عن الهيمنة على المهيمن عليه، وهو أمر لن يحصل موضوعيا وإنما يُتمنى. إن تحقيق أي مكسب في مواجهة المشروع الإمبريالي-الصهيوني لن يتم إلا بتحقيق نصر مادي، هذا النصر المادي الذي لن يتحقق إلا بنضال ذي طابع قومي على اقل تقدير، ومحصلة النضال القومي لن تكون قطرا أبدا.

هكذا، يصل سمارة وعربيد إلى نهاية معقدة وملتبسة عندما يريدان الوصول إلى الحلول المقترحة للقضية الفلسطينية دون تحديد الحالة "القطرية" كعقبة موضوعية أساسية، فهما يقترحان مثلا حلا اشتراكيا "يقوم على تجاوز الملكية الخاصة للموارد ووسائل الإنتاج وتؤسس لملكية المجتمع وبهذا تخلع الاشتراكية مبرر وجود الصهيونية بما هي حركة طبقية رأسمالية في الأساس وتمنع الصهاينة (إسرائيل) من اغتصاب الأرض واحتكارها وتحرّم نهب حقوق وملكية الآخرين وتمنح الفلسطينيين في الوقت ذاته تبريراً للقبول بالشراكة مع اليهود في ظل نظام اشتراكي عادل". طبعا ليس هذا عدلا!! ولم أفهم كيف تمنح هذه الصيغة للفلسطينيين "تبريرا للقبول بالشراكة مع اليهود" المستوطنين. كما لم أفهم إن كان هذا التبرير المطلوب هو تبرير نفسي/ذاتي/ذرائعي أم تبرير ذو مرجعيات تاريخية وأخلاقية وموضوعية.

ففي ظل هذه "الاشتراكية" المقترحة على مستوى فلسطين، يتساوى المستوطن الغازي المحتل مع من شرد واغتصب واحتلت أرضه!! وهي إعادة إنتاج اعقد قليلا لفكرة وحدة "الطبقة العاملة العربية واليهودية" الساذجة التي طرحها شيوعيو الماضي، وتأتي كدليل آخر على انعدام أية إمكانية لحل التناقض ضمن الدولة/القطر.

وضمن نفس السياق، وفي ظل الإبقاء على المحدد "القطري"، يجهد سمارة وعربيد في شرح مستقبل المستوطنين الصهاينة بعد تحقق المشروع الاشتراكي، فيشيران إلى أن "هذه الكتلة البشرية المؤلفة من بضعة ملايين، هم في التحليل النهائي وبغض النظر عن المسميات، أناس وبشر وهذا يقتضي إيجاد حلول إنسانية لاشكاليتهم أو لاشكاليتنا معهم. وحتى لو اقتضى الأمر أن نذهب إلى أنهم أسرى حرب، فهناك من القوانين والمعاهدات التي يتوجب علينا الاحتكام إليها لدى التعامل معهم"، ويجعلان من المتشددين الدينيين (اليهود الأرثوذكس) معضلة كبرى حيث أنهم "سيرفضون الرحيل عن ’أرض الميعاد‘ و’الدولة اليهودية النقية‘ مهما كان الثمن، كما أنهم، وللسبب ذاته، لن يقبلوا بالمجتمع الجديد أو بالعيش فيه. وسيؤدي هذا إلى مواجهات وصدامات من العسير التكهن بعواقبها".

إن المخرج الوحيد من كل هذه التعقيدات والالتباسات هو المقاربة التي تتجاوز "الدولة" في فلسطين باعتبارها عقبة مماثلة للعقبات الأخرى، حين ذاك، تحدد السياقات المواقف. فبعد هزيمة المشروع الإمبريالي/الصهيوني وتحقيق الدولة العربية الاشتراكية الموحدة، يحسم المستوطن أمره في كونه مواطنا في هذه الدولة، وهنا يتم إعادة توطينه في أي مكان في الدولة العربية خارج الحدود الجغرافية لما كان "فلسطين" لأن وجوده المادي هناك هو وجود "وظيفي" ويعكس التحقق المادي للمشروع الصهيوني، إضافة إلى أن تنفيذ "حق العودة" يتناقض مع وجود استيطاني في ما كان "فلسطين". بهذا يتحول اليهود غير العرب إلى "أقلية" مواطنة (لها ما للجميع وعليها ما عليهم).

أما التواجد كـ"مستوطنين" أو كـ"استكمال أو تابع لمشروع إمبريالي/صهيوني" فهذا تواجد معادي لا يقبل ولا يتسامح معه، وليس من "اليهود" وحدهم بل من الصهاينة غير اليهود أيضا (الأنظمة التابعة، الطبقات المرتبطة مصالحها بالمشروع الإمبريالي...الخ). وغير خفي على أحد أن تشكل المشروع الاشتراكي العربي سيكون في سياق صراع كبير وعنيف، وستحل قصة المتشددين بالضرورة في سياقات هذا الصراع.

إن الآليات والمحصلة المنطقية لنضال قومي لتحرير فلسطين هو هزيمة كل الأنظمة المرتبطة بالإمبريالية والأشكال القطرية، وتحقق دولة الوحدة الاشتراكية، في هذه المساحة الكبرى تذوب التناقضات ويرحب بكل من لا يأتي بصفته صهيونيا أو معتديا أو غازيا أو محتلا، وليس اليهود فقط، وتذوب طبيعة الاستيطان والمشروع الصهيوني لأنه ليس ثمة "فلسطين" بعد.

تحديد العدو: الطرف الثاني في صراع تناحري ليس"آخراً"

اصطلح على أن "الآخر" في الخطاب الثقافي تعني المغاير والمفارق والمختلف استنادا إلى البنية المعرفية والفكرية والثقافية، وهو ما يستدعي في الوقت عينه الحوار والتثاقف والتبادل المعرفي والتحمل والاستيعاب، لأن وجوده (وجود "الآخر") أمر مفروغ منه. "الآخر" لا يعني التناحر والصراع بل يستدعي الحوار والتكامل، والواحد منا لا يخوض صراعا الغائياً أو تناحريا مع "الآخرين" والا لاستحالت حياتنا إلى سلسلة لا نهائية من المعارك التناحرية.

وفي ظل مرونة عالية لهذا المصطلح، تبناه دعاة التطبيع في سياق الإشارة إلى "الآخر الإسرائيلي" الذي تجب محاورته والاستفادة منه وتقبل منطقه...الخ.

يتبنى سمارة وعربيد مصطلح "الآخر" أيضا في الإشارة إلى المعسكر المعادي. ورغم انه يرد ضمن سياقات مختلفة تماما عما ورد أعلاه، إلا أنني اعتقد أن تحديد الاصطلاحات أمر بالغ الأهمية في زمن أضحى فيه التلاعب بها وقلب مراميها أمرا يوميا، إضافة إلى أن استعمال المصطلحات والمفاهيم المحملة ضمنا بأبعاد لا يرمي إليها المنظر أو الكاتب يضر أكثر مما ينفع.

مفهوم "الآخر" قد لا ينطبق بدقة على "الآخر الصهيوني" أو "الآخر الإمبريالي"، أو أي "آخر" نخوض معه صراعا تناحريا محصلته الغائية وتناقضية. إننا نخوض معارك تناحرية مع أعداء، نقائض لـِ "الآخرً" بالمعنى الصراعي والأيديولوجي: "الآخر" امتداد بينما "العدو" تناقض، "الآخر" حوار بينما "العدو" صراع، "الآخر" تسوية بينما "العدو" تصفية.

هكذا، يصبح السؤال عن تحديد "معسكر الأعداء" منفصلا عن تحديد "الآخرين". فالإسلامي الذي يحمل السلاح في مواجهة الإمبريالية والصهيونية هو "آخر" ادعمه وأسنده من حيث انه منتَج اجتماعي في مرحلة تاريخية من مراحل الصراع، وهو يعبر عن ديناميكية اجتماعية مقاومة قادرة على إنتاج المقاومة في ظروف موضوعية مختلفة. وفي استطراد بسيط، تصبح عبارة سمارة وعربيد التالية: "أما اللجوء للإثباتات التاريخية، حيث أن شهادة التاريخ هي لصالح العرب، فلا يقدم في أمر الصراع ولا يؤخر" ضعيفة في هذا السياق، حيث أن اللجوء للتاريخ يقدم ولا يؤخر، من حيث انه يكشف تهافت وزيف الطروحات الانهزامية من جهة، ويوفر أساسا أخلاقيا وموضوعيا لدعم الحركات المقاومة في المرحلة الحالية من حيث أن هذه الأخيرة ليست "يسارية" أو اشتراكية من جهة أخرى.

وإضافة إلى ما أورده سمارة وعربيد من أن "موقع ودور الكيان الصهيوني ـ إسرائيل في المشروع الرأسمالي ـ الإمبريالي ـ الصهيوني الكبير" هو الأساسي في تحديد معسكر الأعداء، فمن الحري إضافة: مواقف الأشخاص والمنظومات الفكرية والسياسية النظرية والعملية من هذا المشروع، إلى العوامل المحددة. وبهذا يحل أي تناقض سابق وحتى لاحق لتحقق المشروع الاشتراكي العربي. فمن يظل متمسكا بالمشروع الرأسمالي ـ الإمبريالي ـ الصهيوني الكبير (كما في الحالة المفترضة للمتشددين الأرثوذكس من اليهود المستوطنين، انظر ما كتبنا أعلاه) يظل محسوما في خانة العدو التناحري. وتصبح عبارة سمارة وعربيد الملتبسة التي تقول: "كما أنه لا يليق بحركة تحرر عربية إلا أن تفتح باب العيش المشترك والمتآخي الذي يضرب جذوره العميقة في تراثنا العربي ـ الإسلامي العريق في التآخي والتسامح" ذات مغزى وعدالة أكبر!

حول المسألة القومية: "القومية الإسرائيلية" والقوميات الأخرى في الوطن العربي

لا أنوي هنا الدخول في موضوع القومية العربية وأهميتها كأداة مواجهة في ظل انعدام التحقق القومي العربي والانتقال المباشر من مرحلة الاضطهاد العثماني إلى حالة التقسيم القطري الكولونيالي ومن ثم التفتيت ما دون القطري إلى اثنيات وطوائف وعشائر. وأكاد اتفق بالكامل مع ملاحظات سمارة وعربيد حول القومية العربية وتشكلها الطبقي. ما أريد مقاربته هنا هو مسألة "القومية الإسرائيلية"، وقضية القوميات الأخرى في الوطن العربي.

رغم أن سمارة وعربيد يقران بالأهمية الكبيرة باتجاه ضرورة حسم الجدل حول تشكل "قومية إسرائيلية"، إلا أنهما لا يحسمان هذا الأمر ويتركانه مفتوحا للتأويل والقراءات المختلفة، وهو أمر ليس دقيقا وليس موضوعيا أيضا. بل انهما يتساءلان في دراستهما باستغراب: "لماذا يتوجب على الفلسطينيين الاعتراف ’بقومية إسرائيلية‘ في حين لا يتوجب على اليهود الإسرائيليين مجرد الاعتذار والإقرار بالمسؤولية عن نكبة الفلسطينيين؟" وهو برأيي تساؤل ليس له معنى لان التساؤلات اللاحقة عليه تنسفه: إن اعتذر اليهود الإسرائيليين عن النكبة واقروا بمسؤوليتهم، هل على الفلسطينيين عندها الاعتراف بـ"قومية إسرائيلية"؟؟ وهل العامل الموضوعي المحدد لتبلور "قومية إسرائيلية" هو موقف الإسرائيليين من النكبة؟؟

لم تتم مقاربة مسألة "القومية الإسرائيلية" بشكل موضوعي، وأنا أرى ضرورة ملحة لمقاربة هذه المسألة أجملها فيما يلي:

إن "عناصر ومكونات القومية والسمات المشتركة التي طرحتها الماركسية ـ اللينينية حيال المسألة القومية (العيش المشترك، استمراية التفاعل التاريخي لجماعة ما، اللغة، وحدة الأرض والحدود السياسية، التكامل الاقتصادي في سوق اقتصادية مشتركة، الطابع الجمعي...وغيرها)" تحتاج لبنية اجتماعية/اقتصادية مستقرة نسبيا لتحققها، وهي ما لم ولن تتوفر للكيان الصهيوني، فالعيش المشترك لن يثبت في مجتمع يُهاجَر منه واليه بشكل شبه مستمر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتفاعل التاريخي الجمعي، كما لن يتحقق الطابع الجمعي في كيان عنصري يميز حتى على مستوى مكوناته اليهودية، بينما يُثبت تطلع وإصرار الكيان إلى تحقيق "الاندماج المهيمن" في المنطقة العربية، فشله في تحقيق "تكامل اقتصادي" أو تشكيل "سوق اقتصادية مشتركة"، ولا يمكننا الحديث عن "سوق داخلية إسرائيلية" لأننا نعلم استحالة تشكل هذه السوق على مستوى القطر ما بعد الكولونيالي.

أن المجتمع الإسرائيلي المتشكل من قوميات واثنيات وأجناس متباينة جدا (يهود من أوروبا وأميركا والبلاد العربية وروسيا وإفريقيا..الخ، وغير يهود من روسيا) هو مجتمع هش ومفبرك وسريع العطب، كل ما يحتاج إليه الأمر هو إرادة حقيقية بالمقاومة والانتصار وسينهار هذا المجتمع تحت قصف الصواريخ والعمليات الاستشهادية، ولهذا السبب بالذات تجر الأنظمة العربية إلى طاولات توقيع معاهدات "السلام" لتأمين هذا الكيان وحمايته وإعطاءه الوقت الكافي لتمتين بناه الداخلية وتحقيق تجانس اكبر في مكوناته، إضافة إلى الاستحقاقات السياسية والاقتصادية المعروفة الأخرى.

سأذهب أكثر من ذلك بالقول باستحالة التشكل القومي للـ"إسرائيليين" من حيث أنهم مجتمع وظيفي، وان كيانهم كيان وظيفي، وبالتالي لن تتحقق فيه أبدا شروط التكون القومي. إن الشكل الوظيفي للاجتماع الصهيوني في فلسطين يشكل نقيضا للتشكل القومي في الأساس. وإذا اتفقنا أن الأساس في المشروع الصهيوني هو تحويل الدين اليهودي إلى قومية في قفزة ميثولوجية، يصبح الاعتراف بـ"قومية إسرائيلية" هو اعتراف بالمشروع الصهيوني نفسه وبأساساته الميثولوجية، وهو اعتراف أخطر وأكثر ميتافيزيقية من الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي هو التحقق المادي للمشروع الصهيوني. وهذا هو احد المساقط الكبرى لحل الدولة الديمقراطية العلمانية، فهو لا يتصدى للأكذوبة الصهيونية التي تجعل من اليهودية قومية، فيعزز بالتالي منها بدلا من أن ينقضها.

فبما أن الاعتراف بـ"حق تقرير المصير لليهود [المستوطنين في فلسطين هو] اعتراف بالكيان الصهيوني" بحسب سمارة وعربيد، وهو أمر نتفق معه، فان الاعتراف بـ"قومية إسرائيلية" مفتعلة لم ولن تتحقق هو اعتراف بالمشروع الصهيوني من جذوره.

عند الحديث عن القومية العربية، ينبغي التوضيح دائما أن الوطن العربي هو وطن لأعراق واثنيات ومجموعات مختلفة (أكراد، أمازيغ، أرمن، شركس...الخ)، وهي جميعها شريكة في هذا الوطن ومصالحها الجمعية وواجباتها في مواجهة المشروع الإمبريالي/الصهيوني واحدة ومتكاملة، وأن مفهوم العروبة الذي نتحدث عنه هو مفهوم تقدمي لا عرقي، يجعل من العيش المشترك والمصالح المشتركة وحق الجميع في التعبير عن ثقافاتهم التي هي جزء مكون وأساسي من الثقافة العربية بحكم التداخل والممارسة التاريخيين، من أهم أساسيات الاجتماع التي تغنيه وتطوره.

بهذا الفهم، تستقيم عبارة سمارة وعربيد الملتبسة: "اليهود العرب (السفارديم) ليسوا من الآخر [=العدو] حينما جُلبوا إلى فلسطين. لكنهم أصبحوا من الآخر بكونهم استوطنوا فلسطين وانخرطوا في البنية العدوانية"، من حيث أن المبدأ العام هو حرية حركة أفراد المنظومة القومية في المساحة القومية، وهي مسألة مفروغ منها ولا تشكل مادة للنقاش إلا في حالة الانخراط في مشروع معادي كالمشروع الإمبريالي/الصهيوني.

على صعيد آخر، يلجأ سمارة وعربيد إلى خطاب يجعل من اليهود العرب "آخراً" ضمن تواجدهم الاجتماعي التاريخي في المناطق العربية المختلفة التي كانوا فيها قبل تهجيرهم إلى فلسطين، فيقولان: "لقد عاش اليهود الفلسطينيون والعرب بين ظهرانينا في فلسطين والبلاد العربية الأخرى مثل مصر والعراق واليمن والمغرب وغيرها، وشاركونا العيش بسلام وطمأنينة قروناً عديدة دون أن يتمتعوا بكيان سياسي معين أو حكم ذاتي، بل عاشوا معنا كمجموعة أو أقلية دينية/ثقافية ومارسوا حرياتهم الدينية والثقافية دون عوائق. ناهيك عن أن مفاهيم الحكم الذاتي وحقوق الأقليات وحق تقرير المصير وغيرها من مثل هذه المفاهيم لم تكن مصاغة خلال تلك القرون من التعايش المشترك بل تطورت خلال القرنين الأخيرين."

حين تعيش مجموعة ما بين "ظهرانينا" و"تشاركنا" وتعيش "معنا" بسلام، معناها انه كان هناك "نحن" و"هم"، ومعناها انه لم يكن هناك حالة حقيقية من الاندماج الاجتماعي/التاريخي. فلنتذكر أن "اليهود العرب" هم عرب، وأن الجزء الذي تحول منهم الى طرف معاد بانخراطه في المشروع الصهيوني، تحول حديثا، جنبا إلى جنب مع عرب غير يهود من مختلف الأقطار هم أيضا جزء من المشروع الصهيوني.

ينبغي التأكيد دائما على أن اليهود العرب لم يكونوا "آخراً" حتى بالمعنى الثقافي، بل كانوا مكونا مندمجا من مكونات الثقافة العربية، وأن عدائنا مع من تحول منهم إلى المشروع الصهيوني قائم على هذا التحول بالذات وليس لأي سبب آخر.

حول مرحلية الحل المفترض

يطرح سمارة وعربيد حلا مرحليا مجزأ على ثلاث مناطق: قيام دولة فلسطينية في فلسطين المحتلة عام 1948، انسحاب إسرائيلي من فلسطين المحتلة عام 1967، ومن ثم استعادة وحدة فلسطين ومن ثم وحدة هذه الأخيرة مع محيطها العربي.

ثلاثة إشكاليات أساسية تقف عقبة أمام مثل هذا التصور سأوجزها بشكل سريع:

1- انه يقوم على أرضية "الدولة"/القطر، وهو ما نقدناه بتوسع أعلاه.

2- انه ذو طبيعة رغائبية أو أمنياتية (من أمنيات - wishful thinking)، فقيام دولة فلسطينية في 48 وانسحاب إسرائيلي من فلسطين 67 هو تصفية فعلية للمشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة العربية، وهو أمر لن يحصل منطقيا من خلال نضال "مناطقي" بل من خلال نضال عربي شامل، ونتيجة هذا الأخير لن تكون أقطارا يعاد توحيدها لأن هدف الثورة الشاملة سيكون البنية القطرية التابعة بالتحديد. ومن هنا فمن غير المنطقي تخيل تشكل مراحل أو "دول" متفككة أو مرحلية كنواتج عن هذا النضال.

3- الفصل و"المرحلية" مسألة تتناقض والدياليكتيك أساسا، وهو ما ينبغي النظر إليه بإمعان في أية قضية صراعية. وعليه ينبغي التأكيد على أن هذه "المراحل" هي كينونة صراعية واحدة متماسكة وغير نهائية بحسب التطورات التاريخية والموضوعية، وان العمل من أجل تحققها هو بالضرورة تفصيلة من نضال "كلي" هو الأساس وهو الأهم، والتشديد على أن لا تتحول "المراحل" إلى قضايا "نضالية" بذاتها. وهو ما يعيدنا إلى عدم الفصل كأساس لأي تحرك ثوري.

تعليقات مختصرة وسريعة أخرى

ينبغي الإشارة بوضوح إلى أن ما يسمى "اليسار الإسرائيلي" لم يكن ولن يكون يسارا على الإطلاق، من خلال تبنيه للفهم التوراتي الميثولوجي للحق "اليهودي" في فلسطين، ومن حيث انه جزء ومكون عضوي بطروحاته الفكرية وممارساته العملية في المشروع الرأسمالي – الإمبريالي – الصهيوني، النقيض الموضوعي لأي يسار. وهو جزء أساسي من المعسكر المعادي.

ينبغي الإشارة إلى أن توجه الكيان الصهيوني نحو "الاندماج المهيمن" في المنطقة يقوم على قاعدة التفتيت ما دون القطري لمجاميع الإقليم القطرية والاجتماعية (نماذج العراق ولبنان كبرامج مستقبلية لمنطقة أو "مساحة" جغرافية ذات مجاميع سكانية ذات طابع ما قبل رأسمالي –اثني، عرقي، طائفي، ديني، عشائري، عائلي- قابلة للإلحاق والتوظيف بسهولة لصالح المركز المهيمن الإقليمي الصهيوني).

يورد سمارة وعربيد ملاحظة عرضية تفيد بأن "الأديان بنصوصها متشابهة متآخية". هي متشابهة في المنهجيات النصية والدوغما اللانقدية نعم، ولكنها قطعا ليست متآخية بل متصارعة أو - بشكل أكثر موضوعية- قابلة للاستعمال والتوظيف بسهولة مطلقة في مواجهة بعضها البعض بينما يكون الشق "التسامحي" أو القابل بالآخر فيها أكثر معاناة لإثبات نفسه.

يورد سمارة وعربيد أن هناك "ضرورة زرع الكيان الاستعماري الاستيطاني المتقدم فيه ليطرد الشعب الفلسطيني من وطنه ولتُمنع عودته ويتم توطينه" دون التوضيح أن ذلك يأتي في سياق تثبيت أوتاد هذا الكيان وتحقيق المشروع الإمبريالي الصهيوني، وهكذا سيفهم من النص أن طرد الفلسطينيين ومنع عودتهم وتوطينهم هي أفعال مقصودة لذاتها.

يورد سمارة وعربيد "أن أطروحات السلام حتى الآن محصورة بأيدي الأنظمة الحاكمة من جهة، وهي مصاغة بما يخدم الاستيطان اليهودي في فلسطين وحده من جهة ثانية" وهذا يثير التساؤلات التالية: لماذا هي محصورة بأيدي الأنظمة الحاكمة؟؟ وهل تملك الأنظمة الحاكمة من أمرها شيئاً؟ اقترح إعادة صياغة تخدم الفهم القائم على أن الأنظمة العربية هي أنظمة "تابعة" بالمعنى الفسيولوجي للمركز الإمبريالي وان ما يسمى مبادرات "السلام" التي تطرحها هذه الأنظمة هي محاولات حقيقية وجادة لتمكين مشروع المركز الإمبريالي بالذات.
___________

الهوامش

* د. هشام البستاني هو كاتب وباحث وناشط في قضايا مناهضة الإمبريالية ومقاومة التطبيع، والحريات العامة؛ وهو عضو مؤسس في التحالف الشعبي العربي المقاوم، وأمين سر منتدى الفكر الاشتراكي الأردني. للاتصال: [email protected]

(1) راجع: هشام البستاني، أميركا خطر زائل وإيران خطر مقيم؟ حول إيران والدور الإيراني في المنطقة العربية، http://www.kanaanonline.org/articles/01064.pdf

(2) رابط إلى ورقة سمارة وعربيد في حلقاتها الثلاث على الروابط التالية في موقع "كنعان":
http://www.kanaanonline.org/articles/01307.pdf
http://www.kanaanonline.org/articles/01309.pdf
http://www.kanaanonline.org/articles/01310.pdf

(3) مثلا، انظر ورقة: الطاهر المعز، المسألة الفلسطينية، http://www.kanaanonline.org/articles/01053.pdf

(4) انظر حول ذلك، وحول نقد التمسك بالخرائط القطرية: هشام البستاني، الذاكرة المفقودة: من اختراع "فلسطين" إلى اكتشاف "لبنان"، الآداب، العدد 6/7 2005، ص 107 – 109.



#هشام_البستاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -مناهضي العولمة- العرب في اجتماعات مومباي: ممولين اجنبيا وأص ...
- 25 سبتمبر/ ايلول: اليوم العالمي للتضامن مع المقاومة العراقية
- لنجعل من 20 اذار يوما لدعم المقاومة في العراق
- عايدة الدباس: عندما يحترق الزيت ليهب الحياة
- حان وقت لتجذير الطروحات حول الصراع العربي/ الصهيوني - رسالة ...
- منع طباعة جريدة الوحدة في الاردن
- دافوس الاردن: اسرائيل كمحور لمنطقة حرة امريكية متوسطية
- العولمة الرأسمالية و-إعادة تشكيل المنطقة- والبدائل
- رامز طهبوب: شهيد الدفاع عن الكرامة العربية والانسانية
- عن المعتقلين الاردنيين لدى قوات الاحتلال
- احتمال تحويل الناشط شادي مدانات الى محكمة امن الدولة
- العدوان الأمريكي على المنطقة العربية: خطوط التصدع عالمياً وا ...
- اعتقال د.ابراهيم علوش اليوم واعتقال العشرات خلال الاسبوعين ا ...
- من سجن الجويدة الى -السجن الاميركي الكبير- المثقف -المغترب- ...
- المسمار الأخير في نعش الحريات في الاردن
- قوننة القمع: استحقاقات المشروع الامبريالي على الحريات في الا ...
- حول الحراك الشعبي الجماعي: لماذا نجحت المقاطعة وكيف تستمر؟
- آليات القمع والانتهاك معتقلي المسيرات في سجن الجويدة نموذجاً
- الافراج عن نشطاء مقاومة التطبيع المعتقلين حل مجلس نقابة المه ...
- ارفعوا اصواتكم معنا وقولوا لا للقمع في الاردن


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- -دولتان أم دولة واحدة؟- - مناظرة بين إيلان بابه وأوري أفنيري / رجاء زعبي عمري
- رد عادل سمارة ومسعد عربيد على مداخلة سلامة كيلة حول الدولة ا ... / عادل سمارة ومسعد عربيد
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي - مناقشة الصديق ... / سلامة كيلة
- مناقشة نقدية في حل -الدولة الديمقراطية العلمانية- / عادل سمارة ومسعد عربيد
- ماركس وحده لا يكفي لكنه ضروري - تعقيب على رد الصديقين عادل و ... / سلامة كيلة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف: الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين - هشام البستاني - من أجل مانيفيستو ماركسي عربي حول القضية الفلسطينية