أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن كريم عاتي - ليل الذئاب















المزيد.....

ليل الذئاب


حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)


الحوار المتمدن-العدد: 2081 - 2007 / 10 / 27 - 09:31
المحور: الادب والفن
    


أطلقت أنثى الذئب الذي قتلته في أول الليل عواء أقرب إلى الصراخ، فأدخلت القشعريرة إلى جسدي. كنت أتوقع عودتها بحثاً عن جثة القتيل في حظيرة الخراف، ذلك الذي تركته خلفها مضرجاً بدمائه، بعد أن اخترقت رشقة من الرصاصات جسده، فتركته يترنح فوق الارض المبتلة. بعد أن فاجأتها الاطلاقات وقفت على مبعدة من الحظيرة، في الاتجاه المعاكس لاتجاه الإغارة، كأنها بانتظاره للحاق بها، وأطلقت عواء متصل، أعقبه سكون، ظننته يطول لأيام تأتي. أعرف أنها ستأتي، لكن لم يكن في ظني عودتها قبل بزوغ الفجر. فكان العواء الذي أطلقته عند عودتها تواصلاً مع منازلة أول الليل والذي فقد فيها الذكر حياته.

لم تكن عودتها بمفردها، تقدمت قطيع ذئاب أجاب بعواء آخر متعدد ومتصل، ومن اتجاه هبوب الريح، تعلن قدومها لخوض المعركة من دون حاجة لخلق مفاجأة.

أصاب الخراف خارج الكوخ الذعر، وهي تسمع عواء قطيع الذئاب وتشم رائحتها، أصابها الاضطراب، وهي تتحرك باتجاهات غير منتظمة، محاولة الاحتماء ببعضها، فسقط بعض منها في الحفرة التي احتميتُ بها. أنظر إليها من كوة في الكوخ على ضوء بريق الرعد الذي يضيء المكان بين الحين والأخر. في حين كانت الحملان داخل الكوخ تحاول الاحتماء بجسدي وجسد الكلب، مبتعدة عن جثة الذئب القتيل التي نقلتها من الحظيرة إلى داخل الكوخ.
انسحبت مجموعة الذئاب التي أتت خلفها إلى مكان آخر لا أعلمه، وتركت لها فضاء المنازلة تخوضه بمفردها، بعد أن أخذت ما شاءت من خرافي، وتركت غيرها مضرجة بدمائها في الحظيرة، فأختلط الدم بتراب الأرض خالقاً عجينة الطين التي تسرب من خلالها خط ماء المطر المحمر الى الحفرة التي احتفرتها لنفسي. لم يكن بالا مكان الخروج إليها مجتمعة، فلم تترك منازلتي للذئب القتيل غير إطلاقة واحدة في حجرة السبطانة، وعند اطلاقها أصبح أعزلاً من السلاح. أجلت ذلك الاستخدام إلى أبعد زمن يقربني من الفجر، علها تنسحب، وانسحب أنا كذلك. فلقد أفقدني ترصد ومتابعة ذلك الذئب صبر خزنته لعمر جاوز الأربعين، ودربة ليل إعتدت صحبته.

كان يقتنص في كل ليلة ذبيحة من وسط الخراف. لم تفلح محاولاتي إصطيادة طيلة ليال مضت. في البدء رغبت في إبعاده بإطلاق العياران النارية باتجاه معاكس لهبوب الريح، حيث يكون مستقره دوماً يترصد الحظيرة منه بعد ان يقوم بدورة حولها، فلا تتحسسه الخراف ولا تشم رائحته، فتربض هادئة ساكنة حتى وقت إغارته. فلا أحس إلا وقد فاجأني بدخوله في وسط القطيع محتمياً من بندقيتي بخراف تُقْتل حين أطلق النار عليه من كوتي داخل الكوخ، الذي أعود اليه في موسم الكلأ بعد هطول الأمطار، في كل عام، أصلحه على عجل بعد إهمال سنة مضت. ذلك ما كان يسلكه. اعرف انه قد يغير توقيت الإغارة كما يغير الاتجاه تبعاً لهبوب الريح. غير إني أستدل على اتجاهه من حركة الكلب واتجاه نباحه. حين يشتد النباح أتأكد من اقترابه من الحظيرة، فأتخذ ذلك الاتجاه الاحتمال الأكيد لوجوده.

أصبح العداء بيننا عداءًً شخصياً. لا أرغب توقفه إلا بقتله، ولا يرغب هو بتوقفه إلا بإنهاء قطيع الخراف. فكان الابتعاد عنه بالانسحاب الى منطقة أخرى غير مجدٍ، لأنه سيتبعني. لم يكن أمامي سوى إنهاء المنازلة بقتله أو قتلي. إحتفرت، عند ظهر ذلك اليوم، حفرة في وسط الحظيرة، حاولت فيها إخفاء جسدي حد الخصر. غطيت رأسي بعباءة الصوف من نثيث مطر بدأ يسقط منذ العصر، حاولت ما أمكنني المحافظة على بندقيتي من بلل الماء والحفاظ عليها قادرة على العمل في الوقت الذي أرغب، وإلا أكون قد أسلمت نفسي له، من دون جهد منه. كانت الحفرة تسمح لي بالاستدارة إلى جميع الجهات لاحتمال تغير جهة هبوب الريح الذي يغير معه اتجاه إغارته. أدخلت الحملان الى الكوخ. كدستها بعضها فوق بعض وأغلقت باب الصفيح عليها من الخارج بإحكام، فأصبحت في مـأمن منه. اجتمعت الخراف حولي من خوفها المعتاد في كل ليلة، غير إن الإغارة المتوقعة تأخرت عن وقت أرغب أن يكون مبكراً. كان الوقت يمر طويلاً، وأنا في حفرة سال الماء اليها حتى غمر نصف ساقي فيها. كان رذاذ المطر يرش جسدي ويغرقه في ماء سال على وجهي، وأنا أحتضن البندقية خوفاً من وصوله إليها فيفسد اطلاقاتها. ارتفع البلل في جسدي وأحسست أطرافي تتجمد مع كل دقيقة تمر، في وقت كان طويلاً. لم يكن بإلامكان الخروج من الحفرة في ظلمة حالكة أتوقع إغارته فيها في أية لحظة. قد يكون بالقرب من القطيع، عند خروجي أعرض جسدي كله له، فأكون بذلك صيداً سهلاً. لا يمكن احتمال الرطوبة والبرد في الحفرة أكثر مما حدث لي. جل ما أخشاه تأخير وقت الإغارة إلى الفجر، أو تأجيلها لعدم حاجته لصيد جديد، فصيد الأمس قد يكون كافياً، غير إني استبعدت الاحتمال الأخير، فلم يكن سلوكه فيما مضى، قد ترك ليلة من دون إغارة منذ عشر ليال مضت. أخذت أترصد الاتجاهات كلها وذهني مشدود الى الاتجاه المعاكس لهبوب ريح تلك الليلة الممطرة، يعينني نباح الكلب على تحديد الاتجاه، وهو ما أفادني في إتقاء رشقات المطر المباشرة على جسدي، غير ان تتابع قطرات المطر أخذ يتسارع على ظهري ورأسي، وأنا أرقب على عجل حدوث إغارته.

إضطربت الخراف في حركتها بعد سكون استمرت به طيلة وقت مكوثي تحت المطر، واخذت تدور في حلقة حول الحفرة، حتى ان بعضها أخذ يحتك جسده بجسدي، وأنا أترقب حدوث الهجوم. أدركت هجومه بدأ مع ذلك الاضطراب. صوبت بندقيتي بالاتجاه الذي أتوقع هجومه منه مستعيناً بالاتجاه الذي يختاره الكب للنباح عليه. لم يكن بإلامكان الإفادة من العين في التصويب، فقد حلت الأذن محلها في ظلام ليل منع النجوم من الظهور في السماء، فتجملت بصبر يعينني على اقتناصه، فإحتمال الخطأ يحول جسدي إلى وليمة قد يشاركه غيره فيها، بدلاً من لحم أحد خراف الحظيرة الذي اعتاده طيلة الأيام المنصرمة. أعرف أن سرعته في اختطاف فريسته قد تحول دون اصطياده. استجمعت قوة التركيز على إطلاق النار عند اللحظة التي استشعر بوجوده، وهو ما حداني الى تحويل عتلة الرمي في البندقية من حالة الرمي المفرد الى حالة الرمي بالرشقة. عند لحظة التحويل أبرقت عيناه بعيني مباشرة، فأطلقت النار بين الجمرتين المتقدتين، وهما تتحركان بسرعة نحوي، انطفأ اوارهما وهو يتدحرج بالسرعة نفسها نازفاً ما بقي فيه من رمق برفسات على حافة الحفرة حتى خمد عن الحركة. غير إن مرور ريح سريعة وبريق عينين خطفتا بالقرب منه، تركتني في ذهول أول الأمر. تأكدت إن إغارته كانت تصاحبه فيها أنثاه. حين أصبحت على مبعدة من الحظيرة، أطلقت صراخها عواء متصل. أسرعت باختطافه من حافة الحفرة، بعد أن تأبطت، تحت العباءة، بندقيتي، وهرولت به نحو الكوخ، والكلب يلوذ بين ساقي، وجسد الذئب يقطر دماً تعجنه أقدامنا بالطين موصلاً منطقة قتله بالكوخ بخط أحمر من دم حار. عالجت الباب على عجل، وألقيت به على أرض الكوخ، الذي وصله ماء المطر وتحول الى بركة تحت قوائم الحملان. سبقني الكلب في الدخول، فأغلقت الباب خلفي بإحكام. احتمت الحملان منه بجسدي وجسد الكلب. فاحت رائحة بولها الحار في المكان، وانتشر خوفها من جثته وهي تراه مكشر عن أنياب بيض تحت ذبالة فانوس يكاد ينطفئ. تحسست البندقية للتأكد من إطلاقاتها. نزعت مخزنها فهالني خلوة من الاطلاقات، وحيث إن الاجزاء الميكانيكية لها عادت الى وضع الرمي، تأكدت من وجود إطلاقة في حجرة السبطانة. أغلقت عتلة الرمي على وضع الآمان، لا حافظ على تلك الاطلاقة. فلم يكن ما بقي لدي من عتاد في الكوخ قد سلم من ماء المطر الذي وصل إليه.

اقعيت على الارض لاسترد أنفاسي، وأنا أراه ممدداً على بركة من دم لم يجف بعد، وآثار خروج الاطلاقات من جسده فاغرة فاها يحيطها دم يعكس الضوء الشحيح الذي تطلقه ذبالة الفانوس.

اصطكت عظامي ببعضها وأنا أسمع صوت احتكاك مخالبها بباب الصفح، خلع الفزع إرهاق جسدٍ أغرقه الترقب بالإجهاد. تمسكت بالبندقية، أصغيت السمع، فكانت همهماتها زفرات تطلقها خلف الباب. إمتدت أصابعي الى عتلة الرمي وأزالت عنه الآمان. تأكدت من ر تاج الباب أكثر من مرة. جلست على الطين قبالة الباب وبندقيتي مصوبة نحوه. إطلاقة واحدة وتتحول تلك البندقية إلى عصا غير قادرة على رد شرها. أبعدت سبابتي عن عتلة الرمي، كي لا يدفعني الفزع الى الضغط عليه فأفقد تلك الاطلاقة من دون قتلها. كان الوقت يمر طويلاً، ألصقت خدي على الصفيح البارد أصغي لأي صوت يدلني على وجودها. إختفى الصوت. نهضت مسرعاً الى الكوة أنظر منها المكان خارج الكوخ. كشف بريق الرعد جثثاً تناثرت متباعدة عن بعضها لخراف نحرت لتوها على مساحة الحظيرة كلها. كانت تقف فوق الحفرة تتشمم دمه. إشرأبت بعنقها ودفعت صدرها الى الأعلى وأطلقت عواء أشبه بالنواح. تتبعت أثر خيط الدم المعجون بالطين من حافة الحفرة حتى باب الكوخ. تظهر مرة وتختفي أخرى تبعاً لضوء البرق الذي يضيء المكان. اقتربت من الباب حتى لامسته بمخالبها. عدت مسرعاً الى مكاني أمام الباب أتعثر بالحملان، يتبعني الكلب أينما حللت. حين جلست فوق الطين أمام الباب مصوباً بندقيتي تجاهه، كان الكلب يقف خلفي حتى لامس أنفه كتفي. أتحسس وجودها، دليلي في ذلك زفيرها الذي تطلقه بحدة، وصوت احتكاك مخالبها بصفيح الباب.

توقفت عن معالجة الباب بمخالبها، تبعها فترة سكون دفعتني الى القلق، لا أدري ان كانت غادرت المكان أم ترقبه من محل قريب منه، فلم تكن الكوة تسمح بالنظر الى مكانها أمام الباب. ألصقت أذني بأرض الكوخ أصغي لأي صوت قد يعينني على معرفة مكانها. كان صوت الرعد يصم أذني حين يحدث، وان توقف، فان تتابع زخات المطر يخلق ايقاعاً طاغياً على ما تلتقطه الأذن. فأزيد من إلصاق خدي بالطين بقوة أكبر كأني أبغي دسه فيه وعيناي مفتوحتان عل اتساعهما باتجاه باب الصفيح. بعد جهد تطلبه السكون والإصغاء أدركت من صوت حث التراب، أنها تحفر أمام عتبة الباب مباشرة عند نقطة دخول خيط الدم المعجون بالطين الى داخل الكوخ. أصبحت الارض الضيقة أمامي نقطة الالتقاء بيننا. لا بد أن تظهر من هذا المحل بالذات أن تواصلت في الحفر. فلم يعد الكوخ مكاناً آمناً أحتمي به منها. تجملت بالصبر عسى





أن اهتدي الى حل يقيني لقاءً محكوماً بموت أحدنا. أخذت تحث التراب بسرعة أكبر، أصبحت الارض أمامي رخوة، كانت على مقربة مني، لا يفصلني عنها سوى تلك الطبقة الرخوة من أرض نقف عليها معاً. عرفت من إقتراب صوت الحفر الى أسفل محل الصاق اذني بالارض، أن نصف جسدها دخل في النفق الذي تحاول النفاذ منه الى مكاني. فتحت الباب وألصقت فوه البندقية بظهرها حتى لامس العظم، وأفرغت خوفي بالضغط على الزناد بقوة.

من مجموعة عزف منفرد
الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 2007



#حسن_كريم_عاتي (هاشتاغ)       Hasan_Kareem_Ati#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تبادل الأشلاء


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن كريم عاتي - ليل الذئاب