أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صالح سليمان عبدالعظيم - نحو سلام واقعي















المزيد.....



نحو سلام واقعي


صالح سليمان عبدالعظيم

الحوار المتمدن-العدد: 2081 - 2007 / 10 / 27 - 12:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الجوليانية أسوأ مراحل الريجانية
تمثل مقالة رودلف جولياني، المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة، برنامج عمل شامل وكامل فيما يتعلق بتصورات الرئيس الأمريكي للسياسات الخارجية الأمريكية المقبلة. إن أية قراءة لهذه، المقالة المنشورة في العدد الأخير من مجلة "شؤون خارجية" الأمريكية ذائعة الصيت، لا يجب أن تغفل السياق العام للسياسات الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، والتي انتهجت نهجاً استعماريا توسعيا ودمويا شأن كل القوى الامبراطورية المتنفذة عبر التاريخ. كما لا يجب أن تغفل عن التدهور الاقتصادي والسياسي الذي أصاب الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقدين من الزمان وحتى الآن. والمفارقة اللافتة للنظر هنا، وربما التي لا تسترعي انتباه أحد، أن هذا الانهيار قد بدأ بشكلٍ فعلي حقيقي ومؤثر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. فرغم انفراد الولايات المتحدة بالعالم منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، إلا أن هذا الانفراد قد بدا مثقلاً بأعباء الحقبة الريجانية التوسعية التدخلية بإفراط في أماكن كثيرة من العالم.

عبر الرئيس الأمريكي الجمهوري السابق رونالد ريجان (1981- 1989) عن حالة الذعر الأمريكية عبر تدخله في مناطق كثيرة من العالم، جرينادا ووسط أمريكا ولبنان وليبيا، إضافة إلى عنف غير مسبوق في الخطاب الأمريكي تجاه ما يتعارض مع السياسات الخارجية الأمريكية. لقد أسست الريجانية مبدأ البرجماتية السياسية في أسوأ مظاهرها غير العاقلة بدون تنظير حقيقي وبدون وعى سياسي رصين. وكان المحرك الوحيد لممارسة هذا التدخل والتعبير بمثل هذه العنف الخطابي غير المسبوق هو القوة العسكرية والإمكانيات الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية التي أتاحت لها التدخل في أية بقعة ساخنة في العالم، وفي أي موضوع يتعارض مع مصالحها الآنية قصيرة المدى. فمنذ المرحلة الريجانية فقدت أمريكا الرؤية الاستراتيجية لمشروعها الرأسمالي الذي أتاح لها الهيمنة شبه العقلانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول، أن أمريكا، منذ انتهاء الحقبة الريجانية عام 1989 وحتى الآن، لم تقدم للعالم شيئاً يعتد به، كما أنها لم تستطع أن تقود العالم بدرجة كبيرة من الوضوح والاتساق. صحيح أنها قامت بأدوار تدخلية مهيمنة عديدة مثل الموقف في يوجسلافيا السابقة وفي الكويت وفي أفغانستان وأخيراً في العراق، إلا أنها كانت مواقف تدخلية عسكرية ارتبطت بمصالح آنية، ولم تكن مرتبطة بأبعاد استراتيجية واضحة من ناحية، كما أنها لم ترتبط بمشروع قيمي إنساني حقيقي من ناحية أخرى. لقد تعاملت الريجانية مع العالم بوصفه فضاءً خاصاً يحق لأمريكا استخدامه والتدخل في شؤونه، وأصبح التعامل مع الآخرين يتم من خلال مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يحقق لنا أهدافنا فهو بالتأكيد عدو لنا. ومن أسف أن أسس الحقبة الريجانية استمرت فاعلة في تصورات السياسات الخارجية الأمريكية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، يتساوى في ذلك الجمهوريون مع الديمقراطيين.

لا تنفصل مقالة جولياني السالفة الذكر عن إطار السياسات الريجانية بشكلٍ عام، وإن كانت تزيد عليها ضرورات التنظير والإدعاء بالمشروعية، وهو ما لم يكن يهتم به الرئيس رونالد ريجان. لقد كان التدخل الريجاني في العالم تدخلاً مشروعاً لا يستدعي التبرير والتنظير، كان تدخلاً فجاً يمارسه الكاوبوى الأمريكي في أشد مظاهره عنفاً ودموية. ورغم ذلك فإنه لم يكن بالخطورة المتوقعة، رغم ما تخلف عنه من آثار بالغة العنف والوحشية، من حيث أنه كان واضحاً في دمويته وعنفه أمام الآخرين. أما خطاب جولياني، فرغم عنفه وعدوانيته، فإنه يختفي وراء التنظير ويبحث عن مشروعية وأسانيد التدخل في شؤون الآخرين، ومن هنا تبدو خطورته، ومن هنا تبدو ريجانيته في أسوأ أوجهها وحمولاتها الفجة والمخيفة في الوقت نفسه.

لقد جاء برنامج جولياني متأثراً بدرجة كبيرة بالحقبة الريجانية، وبأعباء مرحلة ما بعد سبتمبر 2001، وبظهور القوى المتنفذة الجديدة مثل الصين وروسيا. ويمكن القول بأن الشرق الأوسط قد حاز مساحة كبيرة من برنامجه، وهو ما يؤشر على مخاطر الحقبة القادمة، في حال فوز جولياني، بالنسبة للشرق الأوسط بعامة، وبالنسبة للقضية الفلسطينية بخاصة. فقد كال جولياني الاتهامات يميناً وشمالاً للشرق الأوسط، وللإسلام الفاشي، متوعداً ومهدداً بشكلٍ لا يتناسب مع رئيس قادم لأكبر دولة في التاريخ المعاصر. والأخطر من ذلك أنه يدعي في غمرة عنفه وتهديده أنه يبحث عن السلام الواقعي، وهو السلام الذي لم أجد تعريفاً له سوى أنه ذلك السلام الذي ينسجم مع المصالح والرغبات والهوى الأمريكي. فكل ما لا ينسجم مع أمريكا فهو لا يندرج تحت مقولة السلام الواقعي الذي يتحدث عنه جولياني.

في هذا السياق، يصلح كل ما يؤيد السياسات الأمريكية للتصنيف في خانة المدافعين عن السلام الواقعي، مثل أوروبا وكندا والمكسيك وبعض دول أمريكا اللاتينية واليابان وكوريا الجنوبية. أما من تسول له نفسه معارضة المصالح الأمريكية، ناهيك عن تهديدها، فهو لا يحق له أن يندرج تحت فئة المدافعين عن السلام الواقعي مثل كوبا وفنزويلا والصين وروسيا وإيران وفلسطين. ويلفت النظر هنا أيضاً أن الأمم المتحدة ذاتها قد أصبحت في نظر جولياني منظمة غير جديرة بالاحترام والتقدير، إلا في مجال الإغاثة والشؤون الإنسانية، أما فيما عدا ذلك فهى مؤسسة فاسدة وضعيفة ومهترأة، يجب التخلص منها والبحث عن آليات جديدة تتفق ورؤية أمريكا للسلام الواقعي.

لا أعلم لماذا استخدم جولياني كلمة السلام الوقعي في برنامجه، فقد كان يجب عليه أن يستخدج كلمة الساسية الخارجبة العملية، ليجنب نفسه تلك المفارقة الغريبة بين دعواته الممتلئة بالويل والتهديد لكل ما يتعارض مع السياسات الأمريكية. إن برنامج جولياني يحمل مأزق الولايات المتحدة الأمريكية المعاصرة المتناقض، من حيث الرغبة في الإعلاء من شأن القيم والجوانب الإنسانية، وهى الرغبة التي لا تستطيع أمريكا أن تبرهن عليها عمليا وواقعيا، وبين تلك الممارسات الأمريكية التوسعية في كافة أنحاء العالم. وهو التناقض نفسه الذي وقع فيه جولياني حينما لم ير في إنشاء الدول الفلسطينية، التي يعاني شعبها ليل نهار من القمع الصهويني المتواصل، سوى إضافة لدولة إرهابية جديدة تضاد المشروع الأمريكي وتدخلاته المفرطة. وبينما يعارض جولياني إقامة دولة فلسطينية، فإنه يؤكد مثل رؤسائه السابقين ضماناته المفرطة لأمن إسرائيل وشعبها.

يجسد برنامج جولياني مأزق أمريكا المعاصر من حيث ارتكانه المبالغ فيه إلى القوة العسكرية، وضياع رؤتيه الاستراتيجية في فهم الشؤون الكونية المحيطة بأمريكا. تبرز أمريكا في برنامجه بوصفها العالم ذاته. تصبح تقوية وتدعيم القوة العسكرية الأمريكية إحدى أهم معالم برنامج جولياني، حيث لا تكفيه تلك الترسانة العسكرية الهائلة التي تمتلكها أمريكا، بل ينادي ويدعو لإنشاء فرق عسكرية جديدة تتيح لأمريكا التدخل في أى مكان في العالم. إضافة إلى ذلك، فإنه يرى التدخل الاقتصادي الأمريكي مسألة على قدر كبير من الأهمية، حيث يتمثل الاقتصاد بالنسبة له في هيمنة الرموز الاستهلاكية الأمريكية المتمثلة في الماكدونالدز والبيبسي كولا والجينز والموسيقى، أى كل ما يدعم النزعة الاستهلاكية الكونية لصالح الشركات الأمريكية المتنفذة كونيا.

من أسف أن برنامج السيد جولياني برنامج عسكري توسعي بامتياز، لا يرى في العالم إلا ما يرتبط بالمصالح الأمريكية، ولا يرى في الآخرين سوى مقدار خضوعهم للهيمنة الأمريكية. وفي هذا السياق، فإنه لا بد وأن تنشأ جبهة كونية جديدة بآليات القرن الواحد والعشرين، وبمستويات غير مسبوقة، من أجل مواجهة السيد جولياني وبرنامجه التدخلي الرئاسي القادم.

نحو سلام واقعي
رودلف چولياني
From Foreign Affairs, September/October 2007

كلنا ننتمي لجيل الحادي عشر من سبتمبر
بينما انتهت التحديات الرئيسة الخاصة بالقرن العشرين بسقوط حائط برلين فإننا قد بدأنا القرن الواحد والعشرين بهجوم الحادي عشر من سبتمبر، على الرغم من أن الإرهابيين الإسلاميين قد بدأوا هجومهم على النظام العالمي قبل ذلك بعدة عقود. لقد أدى هجوم الحادي عشر من سبتمبر إلى نهاية التصور القائل باستحالة قيام أية حروب أو هجمات على الأراضي الأمريكية. وكما كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر هجوماً على الأراضي الأمريكية فإنها كانت أيضاً هجوماً على الحضارة نفسها، وعلى النظام الدولي بواسطة العدوان الإسلامي الوحشي. لقد حققت أمريكا وحلفاؤها تقدماً كبيراً منذ أحداث ذلك اليوم الرهيب، حيث اتسمت استجابتنا بالقوة ضد الإرهاب الموجه ضدنا، كما أنها اتسمت بالتحول من استراتيجية الدفاع ورد الفعل إلى استراتيجية الهجوم والفعل. ورغم ذلك فإن الحرب على الإرهاب سوف تكون حرباً طويلة، حيث ما زلنا في المراحل الأولى منها.

إن الرئيس الأمريكي القادم للولايات المتحدة الأمريكية سوف يواجه ثلاثة تحديات مفصلية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية. أول وأهم هذه التحديات يتمثل في دحر الإرهاب الموجه ضد النظام الكوني. ويتمثل ثاني هذه التحديات في تدعيم النظام الدولي الذي يسعى الإرهابيون لتدميره. أما التحدي الثالث والأخير فيتمثل في تعظيم المزايا الناجمة عن النظام الدولي الذي استطاع أن يوفر المزيد من الأمن والاستقرار بشكلٍ كبير في كافة أنحاء المعمورة. إن أكثر الوسائل تأثيراً لتحقيق هذه الأهداف تنبع من خلال بناء دفاع أقوى، وتطوير دبلوماسية صارمة، وتوسيع دائرة التأثيرات الاقتصادية والثقافية. ومن خلال استخدام هذه الوسائل الثلاث فإن الرئيس القادم يمكنه أن يؤسس قواعد سلام واقعي دائم وفعال.

إن تحقيق السلام الواقعي يعني الجمع بين الواقعية والمثالية في سياستنا الخارجية. فأمريكا دولة تحب السلام وتكره الحرب. ففي قلب كل أمريكي إيمان بأن لكل البشر حقوق كفلها الله لهم يجب عدم المساس بها، كما يجب حمايتها من قبل الدولة. كما يؤمن الأمريكيون بأنه يمكن تحقيق السلام مع تلك الأمم التي تقر بتلك الحقوق من خلال قوانينها وأعرافها المختلفة. وعلى العكس من ذلك تلك الأمم التي لا تقر تلك الحقوق فإنه من المتوقع أن ينتشر العنف وتعم الاضطرابات فيها. إن الحفاظ على المثل الأمريكية وتوسيعها يجب أن يظل هدف السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية على السواء. وبدون السعى نحو تحقيق أهدافنا المثالية من خلال الوسائل الواقعية فإن السلام لن يمكن تحقيقه.

وإذا كانت المثالية تحدد لنا أهدافنا النهائية فإن الواقعية يجب أن تساعدنا في التعرف على الطرق التي يجب أن نسلكها لتحقيق تلك الأهداف. فالعالم أصبح مكاناً خطراً بحيث لا يمكننا أن نتحمل أية أوهام أو تصورات خاطئة عن الأعداء الذين نواجههم. فحرب الإرهاب على الولايات المتحدة الأمريكية تم دفعها وتشجيعها بسبب من تلك الأفعال غير الواقعية والمتعارضة الموجهة ضد الإرهاب في الماضي. وفي هذا السياق يمكن القول بأن السلام الواقعي يمكن تحقيقه فقط من خلال القوة.
والسلام الواقعي ليس هو السلام الذي يمكن تحقيقه من خلال اعتناق أفكار السياسة الخارجية الخاصة بالمدرسة "الواقعية". فهذه الأفكار تحدد المصالح الأمريكية بشكلٍ بالغ الضيق، كما أنها تتجنب أية محاولات لإصلاح النظام الدولي وفقاً للمصالح الخاصة بنا. إن الارتكان فقط عند هذا النمط من الواقعية يعني ترك الحلبة لأعدائنا في حرب الأفكار والمعتقدات المعقدة، كما أنه يعني المزيد من التكيف الدبلوماسي مع الدول العدوانية، وهو ما سوف يؤدي لا محالة إلى المبالغة في إظهار الضعف الأمريكي والحط من شأن القوة الأمريكية في مقابل ذلك. إن اقتصادنا هو الأقوى في العالم المتقدم، كما أن نظامنا السياسي هو الأكثر استقرارً بدرجة كبيرة مقارنة بتلك الأنظمة الاقتصادية العملاقة البازغة في عالمنا الآن. كما أن الولايات المتحدة تأتي في صدارة أمم العالم من حيث جذبها للمواهب البشرية ولرأس المال.

ورغم ذلك، فإن المدرسة الواقعية تقدم لنا بعض الرؤى القيمة، وبشكلٍ خاص تأكيدها على ضرورة التعامل مع العالم كما هو، وفي الحد من تضخم توقعاتنا لما يمكن أن تحققه السياسة الخارجية الأمريكية. فنحن لا يمكننا أن نحقق السلام من خلال المبالغة في الوعود أو من خلال الانغماس في إطلاق الآمال المغلوطة. فمن الممكن أن يكون العقد القادم حقبة إيجابية بالنسبة لوطننا وللعالم إذا استطاع الرئيس الأمريكي القادم أن يحشد جيل الحادي عشر من سبتمبر بشكل واقعي من أجل مواجهة المهمات الجسيمة التي تواجهه.

كسب المعارك الأولى في الحرب الطويلة:
إن أول خطوة نحو تحقيق السلام الواقعي تتمثل في ضرورة أن نكون واقعيين بخصوص أعدائنا. فهم يتبعون أيديولوجيا عنيفة؛ فالفاشية الإسلامية الراديكالية تستخدم قناع الدين من أجل تدعيم أهداف شمولية، ومن أجل تدمير النظام الدولي الحالي. وهؤلاء الأعداء ليس لهم هيئة معروفة، كما أنهم لا يرتكنون إلى عتاد عسكري تقليدي، كما أنهم لا يحكمون دولة بعينها، لكنهم يستطيعون أن يختبئوا ويديروا عملياتهم المختلفة بشكلٍ فعلي في أي من هذه الدول التي قد يقوم بعضها بتوفير الدعم اللازم لهم.

والأهم من ذلك، أننا يجب أن ندرك بأن أعداءنا يكتسبون التشجيع والقوة من خلال علامات الضعف المختلفة المرتبطة بنا. فالإرهابيون الإسلاميون الراديكاليون قد هاجموا مركز التجارة العالمي عام 1993، وأبراج الخبر في العربية السعودية عام 1996، وسفاراتنا في كينيا وتنزانيا عام 1998، والبارجة كول عام 2000. ولم تكن استجابتنا عند المستوى المطلوب في بعض هذه الحالات، بينما فشلنا في البعض الآخر في الاستجابة بشكلٍ تام. إن انسحابنا من لبنان عام 1983، ومن الصومال عام 1993، قد أقنع هؤلاء الإرهابيين بأن إرادتنا ضعيفة.

إن علينا أن نتعلم من مثل هذه الخبرات المختلفة في حربنا الطويلة القادمة ضد الإرهاب. وفي هذا السياق يمكن القول بأن قواتنا سوف تقاتل في العراق وأفغانستان مع قدوم الرئيس الجديد لأمريكا؛ فالهدف من هذه الحرب يجب أن يتمثل في هزيمة الإرهابيين والمتمردين في العراق وأفغانستان، وأن تصير هذه الدول أعضاء في النظام الدولي بحضور جيد. إننا لا يمكننا التنبؤ بزمان نجاح جهودنا، لكننا يمكننا التنبؤ بالنتائج الوخيمة لفشلنا؛ فأفغانستان سوف تتحول إلى مأوى آمن للإرهابيين، ولن يبتعد العراق أيضاً عن ذلك المصير، واضعين في الاعتبار الإمكانيات الهائلة التي ينطوي عليها العراق مقارنة بأفغانستان من حيث كبر الحجم والثراء والموقع الاستراتيجي. وسوف يسقط جزء من العراق في قبضة أعدائنا، وبشكلٍ محدد، في قبضة إيران، التي سوف تستخدم نفوذها من أجل توجيه المزيد من الإرهاب ضد المصالح الأمريكية، ومصالح حلفائنا أكثر بكثير مما تفعله اليوم. وسوف يميل ميزان القوة في الشرق الأوسط بشكلٍ أكبر نحو الإرهاب والتطرف والقمع. كما أن النفوذ والهيبة الأمريكية سوف يتعرضان للمزيد من الضربات الكارثية، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن في كل مكان في العالم. وسوف يدرك حلفاؤنا لا محالة أننا لا يمكننا الالتزام بتعهداتنا المختلفة نحوهم، كما أن أعداءنا، سواء أكانوا إرهابيين أو دول مارقة، سوف يزدادون جرأة وعنادً، حيث يجدون المزيد من الفرص لإضعاف النظام الدولي الذي يمثل خط الدفاع الرئيس عن الحضارة الإنسانية. إن فشلنا يعني المزيد من الحروب في ظل ظروف أكثر صعوبة وأكثر خطورة.

ويتحدد هدفنا هنا في أن نرى بزوغ حكومات ومجتمعات راسخة ومستقرة في كل من العراق وأفغانستان يمكنهم القيام، كحلفاء لنا، بدور فعال في الحرب ضد الإرهابيين، وليس كحاضنات للأنشطة الإرهابية المتزايدة. إن النجاح في كل من العراق وأفغانستان ضروري لكنه ليس كافي؛ ففي التحليل الأخير فإن كل من العراق وأفغانستان مجرد دولتين فقط ضمن العالم الأوسع في الحرب القائمة ضد الإرهاب. ويجب على الولايات المتحدة ألا يهدأ لها بال حتى تقضي على تنظيم القاعدة وعلى قادته، كما يجب ألا تستريح أيضاً حتى تهزم الحركة الإرهابية الكونية وأيديولوجيتها.

إن جانباً كبيراً من هذه الحرب ضد الإرهاب سوف يكون خفياً؛ حيث يشتمل على أجهزة المخابرات المختلفة، والجماعات شبه العسكرية، وقوات العمليات الخاصة. كما أن هذه الحرب تتطلب أيضاً علاقات حميمية مع الحكومات والقوى المحلية الأخرى. ويجب على الرئيس الأمريكي القادم أن يوجه قواتنا المسلحة نحو القيام بمثل هذه العمليات القائمة على التعاون مع الدول الأخرى، ويرجع ذلك لأمرين أولهما أن القوى المحلية يمكنها القيام بأدوارها بشكلٍ جيد في بلادها، وثانيها أن ذلك يخفف العبء عن كاهل القوات الأمريكية.

دفاع أقوى:
لما يربو على الخمسة عشر عام طالبت السياسات الفعلية لكل من الجمهوريين والديمقراطيين القوات العسكرية الأمريكية بالقيام بأدوار أكثر مع تقليل الميزانية الخاصة بالجيش بشكلٍ متزايد. إن الفكرة الرئيسة المرتبطة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة والخاصة "باقتسام نتائج السلم" كانت خطأ كبيراً؛ فقد كانت نتاجاً للآمال العريضة وليس تعبيراً عن الواقعية الحقيقية. ونتيجة لذلك فقد أضحت قواتنا العسكرية ضئيلة الحجم إلى حد كبير لمواجهة التزاماتها الحالية، أو لمواجهة أية أعباء ترتبط بالتحديات الإضافية الفجائية. ويجب علينا أن نعيد بناء قواتنا المسلحة بما يمكنها من مواجهة أية عدوان ومواجهة التحديات الحالية والمستقبلية العديدة والمتنوعة التي قد تنشأ في أي مكان.

ويحتاج الجيش الأمريكي على الأقل إلى عشرة ألوية مقاتلة، وربما يحتاج إلى أكثر من ذلك، لكن هذا العدد يمثل أساسً مناسباً الآن في ظل إعادة تقييم استراتيجيتنا ومصادرنا العسكرية. ويجب أيضاً أن نعيد النظر في المتطلبات العسكرية الأخرى، وبشكلٍ خاص بالنظر للغواصات، والقنابل الحديثة بعيدة المدى، والطائرات التي تقوم بعمليات التموين بالوقود. إن إعادة بناء قواتنا المسلحة سوف تكون مكلفة، لكنها ضرورية، وفي هذه الحالة فإن المكاسب الناجمة عن ذلك سوف تتجاوز هذه التكلفة. ويجب على الرئيس الأمريكي القادم أن يسعى لبناء نظام صاروخي دفاعي يغطي الولايات المتحدة الأمريكية بأكملها. فأمريكا لا تضمن ما يقوم به الإرهابيون والدول المارقة من اعتداءات صاروخية مختلفة ضدها.
ولا يقف التهديد عند هذا الحد، فمن الممكن أن يحدث هجوم كيماوي، أو بيولوجي، أو إشعاعي، أو ذري على التراب الأمريكي. من هنا فإنه من الضروري القيام بكل الجهود الممكنة من أجل تحسين كفاءة أجهزتنا الأمنية والمخابراتية، إضافة إلى تطوير إمكانياتنا التكنولوجية من أجل منع حدوث أي عدوان علينا. فالأقمار الصناعية التي يمكنها أن تراقب المصانع العسكرية في كل مكان حول العالم، وفي كل وقت، فوق سطح الأرض وفي باطنها، والتي تتكامل مع المصادر المخابراتية الأمنية البشرية المحكمة، يجب أن تصبح جزءاً من ترسانة التسليح الأمريكية.

كما يجب توسيع وتقوية برامج وخطط الأمن المختلفة، كما يجب تدعيم الجهود الكونية من أجل وقف شحنات أسلحة الدمار الشامل والمواد المختلفة المرتبطة بتصنيعها. وبشكلٍ خاص، فإننا يجب أن نعمل من أجل منع تطوير أونقل أواستخدام أسلحة الدمار الشامل. كما يجب أيضاً أن نطور قدراتنا من أجل منع أي هجوم علينا، بما في ذلك القيام بعمليات استباقية لوقف هذا الهجوم. إضافة إلى ذلك، فإنه من الضروري منع وصول الأسلحة النووية إلي أيدي الدول المارقة أو الجماعات الإرهابية. ويجب أن يدرك أعداؤنا أنهم لن يستطيعوا الهرب بدون عقاب بعد قتل مواطنينا. إن منع أي هجوم كيميائي أو بيولوجي أو إشعاعي أو ذري يجب أن يصبح على قائمة أولويات الحكومة الفيدرالية. وفي هذا السياق يجب علينا ان ننشأ أنظمة حماية تكنولوجية وأمنية ذات كفاءة عالية ضد كافة أشكال الاختراقات المختلفة. إن الانتصار العسكري حيوي لكنه ليس كافي. إن تحقيق سلام دائم وواقعي لن يمكن تحقيقه إلا من خلال الجمع بين دبلوماسية أكثر فعالية والتكامل الاقتصادي والثقافي، وهو ما يساعد البشر في الشرق الأوسط على أن يدركوا أن لهم مصلحة ونصيب في نجاح النظام الدولي.

الدبلوماسية الصارمة:
لتحقيق السلام الواقعي فإن بعضاً مما نريد تحقيقه يجب أن يُنجز من خلال جهودنا، ولكن الكثير مما نريد تحقيقه يتطلب تعاوناً دوليا، وهذا التعاون يتطلب العمل الدبلوماسي. وفي السنوات الأخيرة أصبحت كلمة الدبلوماسية كلمة مزعجة، وذلك بسبب وجود رؤيتين متعارضتين تجاهها. أولهما يسفه الدبلوماسية لأنه يعتقد بأن التفاوض لا ينفصل عن التكيف وتقريباً لا يتمايز عن الاستسلام. بينما يؤمن الآخر بشكلٍ واضح بأن الدبلوماسية يمكنها أن تحل تقريباً كل المشكلات، بما في ذلك المشكلات المتعلقة بهؤلاء البشر المهووسين بتدميرنا. وعندما تفشل مثل هذه الجهود، مثلما هو متوقع، فإنه يتم لوم الدبلوماسية مع تجاهل المدخل الخاطئ الذي أدى إلى فشل تلك الجهود.

لقد كانت أمريكا أكثر نجاحاً بوصفها زعيمة للعالم عندما جمعت بين القوة والدبلوماسية في الوقت نفسه. ولتحقيق السلام الواقعي، فإن الدبلوماسية الأمريكية يجب أن ترتبط بدرجة محكمة بمصادر قوتنا الأخرى مثل القوى العسكرية والاقتصادية والأخلاقية. فالدبلوماسية لا يجب أن تتحول إلى مجرد أداة يناور من خلالها أعداؤنا ويحققون مصالحهم. فالقيام بالحوارات الجادة مسألة يمكن النصح بها حتى مع منافسينا، لكنها لا يجب أن تتم مع هؤلاء الذين يرغبون في تدميرنا أو هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يفوا بالاتفاقيات المبرمة معهم.

وتمثل إيران مثالاً واضحاً بالنسبة للحالة الأخيرة؛ فالجمهورية الإسلامية مصممة على مهاجمة النظام الدولي منذ ظهورها وحتى الآن، حيث ابتدأت باحتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين كرهائن عام 1979، وانتهت بالقبض على البحارة البريطانيين عام 2007، وفيما بين الحدثين فقد دعمت الجمهورية الإسلامية الإرهاب والقتل. وعبر كل هذه الأفعال تستجدي طهران النظام الدولي حيث تتعلل بمبادئ السيادة التي تمنحها القدرة على تفادي العقاب الدولي. وهذا لا يعني استحالة إجراء أية حوارات مع إيران، فمن الممكن إجراء ذلك شريطة أن نجلس إلى طاولة المفاوضات من موقع القوة، ومن موقع ادراكنا لما نريد تحقيقه. فرجال الدين الذين يحكمون إيران في حاجة لكي يفهموا بأننا يمكن أن نستخدم العصا مثلما يمكن أن نستخدم الجزرة، وذلك من خلال تقويض الدعم الشعبي للنظام، وتدمير الاقتصاد الإيراني، وإضعاف الجيش الإيراني، وتدمير البنية التحتية للسلاح النووي الإيراني.

تدعيم النظام الدولي:
سوف يشارك الرئيس الأمريكي القادم مع الجيل الجديد من القادة الآخرين تقرير مصير العالم. والقليل من هؤلاء القادة كانوا في موقع القيادة عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بينما تأثر جميعهم بتبعاتها المختلفة. وسوف يتيح ذلك فرصة نادرة للقيادة الأمريكية لكى تؤكد على أن مصالحنا المشتركة تكمن في هزيمة الإرهابيين وتدعيم النظام الدولي. ويجب أن تكون هزيمة الإرهابيين على قائمة أولوياتنا في المستقبل المنظور، لكننا لا نمتلك ترف التركيز على هذا الهدف فقط مع استبعاد الأهداف الأخرى. فالأحداث العالمية تحدث وتنتشر سواء تدخلت الولايات المتحدة أم لا، لكننا عندما لا نتدخل فإن هذه الأحداث تتجلى بأشكالٍ تبدو ضد مصالحنا الخاصة. إن فن إدارة المشروع الكبير يتجلى من خلال المهام المتعددة، وبالمثل فإن السياسة الأمريكية الخارجية يجب أن تتحلى دائماً بالأبعاد المتعددة.

إن الهدف الأساسي بالنسبة للدبلوماسية الأمريكية، سواء الموجهة نحو القوى العظمى، أو الدول النامية، أو المنظمات الدولية، يتمثل في تدعيم النظام الدولي الذي لمعظم دول العالم مصلحة مباشرة في أن يسير بشكلٍ جيد. فعلى الرغم من كل شيئ فإن هذه النظام يساعد في الحفاظ على السلام ويوفر الازدهار. إن بعض المنظرين يقولون بأن النظام العالمي عقيم، ويظهرون إما إيمان عميق بالعولمة، أو يفترضون أن عصر سيادة الدولة قد اقترب من الزوال. وهذه الرؤى بالغة السذاجة. فالإرهاب عبر الدولي والفاعلون المارقون الآخرون يجدون صعوبات جمة في الحركة والتصرف عندما يتسم نظام الدولة بالقوة، بينما ينتعشون وتنمو أنشطتهم عندما تتسم الدولة بالضعف.

ولهذا فإننا يجب أن نعمل من أجل تدعيم النظام الدولي من خلال العلاقات الأمريكية بالقوى العظمي الأخرى، سواء تلك القوى الراسخة أو تلك الناشئة حديثاً. ويجب أن نواصل علاقاتنا القوية مع أوروبا، سواء من خلال التعامل معها في صورة كيان واحد يتمثل في الاتحاد الأوروبي، أو من خلال علاقاتنا المتميزة مع المملكة المتحدة، وعلاقاتنا الدبلوماسية التقليدية مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرهم من الدول الأوروبية الغربية. كما أننا نقدر بدرجة كبيرة علاقاتنا مع دول وسط وشرق أوروبا وأمم منطقة البلطيق والبلقان.

إن أمريكا ممتنة للوظائف الحيوية التي تقوم بها قوات منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في أفغانستان وغيرها من مناطق العالم الأخرى. ورغم ذلك فإن دور قوات الناتو وطبيعتها يجب أن يُعاد تقييمها. فلمدة تزيد على الستين عاماً كانت هناك روابط حيوية بين الولايات المتحدة وأوروبا، لكنه، وفي ظل انتهاء الحرب الباردة، فإن أسباب تأسيس هذه العلاقات قد انتهت، وهو الأمر الذي يتطلب أسساً جديدة تدعم هذا التحالف مع بداية القرن الواحد والعشرين. فقوات الناتو قد توسعت لتستوعب أعداءنا السابقين، وهو الأمر الذي يجعلنا نفكر بشكلٍ كوني. إن علينا أن نفتح باب عضوية منظمة شمال حلف الأطلنطي أمام أية دولة تلتزم بالمعايير الأساسية للحكم الجيد، والاستعداد العسكري، والمسئولية الكونية، بغض النظر عن موقعها الجغرافي. إن منظمة حلف شمال الأطلنطي يجب أن تكرس نفسها من أجل مواجهة التهديدات الرئيسة الموجهة نحو النظام العالمي، بدءاً من الاعتداءات الحدودية وحتى الإرهاب.

وكما أن التحالف الغربي يتسم بدرجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإننا يجب أن نعلم أن أمريكا سوف تتحقق مصالحها أيضاً بشكلٍ ممتاز إذا ما تدعمت علاقاتها أيضاً بالأصدقاء الآخرين سواء القدماء منهم أو الجدد. إن جانباًً كبيراً من مستقبل أمريكا سوف يرتبط بالقوى الراسخة والبازغة في آسيا على السواء. إن هذه الدول تشاركنا الالتزام القاطع نفسه بخصوص النمو الاقتصادي، حيث يجب منحهم نفس الاهتمام الذي نوجهه نحو أوروبا. ويمثل تحالفنا مع اليابان، والذي تم تدعيمه بشكلٍ لافت للنظر من خلال الإدارة الحالية، أساس الاستقرار في آسيا. كما أن كوريا الجنوبية تمثل صمام الأمن في شمال شرق آسيا ومشارك هام في السلام العالمي. وتلعب أستراليا، حليفنا البعيد والقديم في الوقت نفسه، دوراً متعاظماً في الشؤون العالمية من خلال دفاعها الصلب عن المعايير والأمن الدوليين. إضافة إلى ذلك فإن التعاون الأمريكي مع الهند في العديد من المسائل التي تتعلق بالاستخبارات والمراقبة البحرية والطاقة النووية في مجال الاستخدام المدني سوف يكون أحد أعمدة الأمن والازدهار في جنوب آسيا.

وسوف تستمر العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا معقدة ومتشابكة بالنسبة للمستقبل المنظور. فالأمريكيون ليس لديهم أية رغبة للعودة مرة ثانية لأجواء الحرب الباردة الملتهبة، أو أية رغبة لإطلاق حرب باردة جديدة. إننا يجب أن نسعي لخلق ارضية مشتركة بدون أن يغمض لنا جفن عن طبيعة الاختلافات بيننا وبين هذين البلدين. فهما، مثلهما في ذلك مثل أمريكا، لديهما مصالح حيوية ترتبط بسلامة النظام الدولي، لكن، وفي الغالب الأعم، فإن حكوماتهما غالباً ما تتصرفان بقصر نظر، الأمر الذي يؤدي إلى تقويض مصالحهم بعيدة المدى المرتبطة بالنظام الدولي من أجل مكاسب آنية محدودة وقاصرة. لذلك، فإنه حتى ونحن نتعامل مع هذين البلدين في المجالات الاقتصادية والأمنية، فإن حكومة الولايات المتحدة يجب ألا تغض الطرف عن سلوكياتهما المعادية أو عن انتهاكاتهما لحقوق الإنسان. وعلى واشنطن أن تكون قاطعة في رسالتها بأنه فقط في حالة تحرك كل من الصين وروسيا نحو الديمقراطية، والحريات المدنية، والاقتصاد المقتوح غير الفاسد، فإن كل منهما سوف تستفيد من الإمكانيات الضخمة المتاحة في العالم اليوم.

وتظل علاقاتنا بالأمم الأمريكية الأخرى على قائمة أولوياتنا؛ فكندا والمكسيك، جيراننا الأقربين، هما أكبر شركاء تجاريين لنا. فنحن معهما نشترك في قارة بأكملها، وفي اتفاقية التجارة الحرة، وفي التزامنا نحو السلام والازدهار والحرية. وتواجه أمريكا اللاتينية الاختيار بين فشل الماضي وبين آمال المستقبل. فالبعض ينظر إلى حكومات بوليفيا وفينزويلا وزعيمتهم كوبا حيث يرى طريق محتوم من تعاظم دور الدولة وهيمنتها. لكن الانتخابات الأخيرة في كل من كولومبيا والمكسيك وبيرو قد كشفت عن استمرارية ونجاح إرادة إصلاح السوق الحرة بين دول الجوار في الجنوب. لقد برزت كوبا كثيراً في أمريكا اللاتينية، مرة بوصفها واحدة من أنجح التجارب الاقتصادية في الإقليم، وبعد ذلك بوصفها الدولة الشيوعية البوليسية الوحيدة في الإقليم أيضاً. إن موت فيدل كاسترو ربما ينبأ عن فصل جديد في التاريخ الكوبي، لكن على أمريكا ألا تتعامل مع ذلك الموقف باسترخاء تام، بل يجب عليها أن تكون جاهزة لمساعدة الشعب الكوبي من أجل الحصول على حرياته، ومقاومة أية محاولة تتيح للنظام الفاسد الضعيف استعادة قواه تحت زعامة راؤول كاسترو. إن الالتزام فقط بتحرير البشر وتحرير الأسواق هو ما يكفل استعادة المستقبل المزدهر لكوبا وكل أمريكا اللاتينية.

ويحتاج الكثيرون في الولايات المتحدة اليوم أن يفهموا أن مساعدة أفريقيا اليوم سوف يساعد في زيادة السلام والتحضر في كافة أرجاء العالم غداً. وعلى الرئيس الأمريكي القادم أن يواصل جهود إدراة الرئيس بوش من حيث مساعدة أفريقيا في التغلب على الإيدز والملاريا. وعلى الجماعة الدولية أيضاً أن تتعلم من تلك الأخطاء التي أدت إلى حدوث جرائم الإبادة الجماعية في دارفور، والتي منعت المنظمات الدولية المعنية من إنهائها. إن الالتزام العالمي بمنع جرائم الإبادة الجماعية قد تراجع المرة تلو المرة. وفي الأخير، فإن أهم شيئ يمكن أن نقوم به لمساعدة أفريقيا هو أن نزيد التجارة مع هذه القارة. إن المساعدات الأمريكية لأفريقيا هامة، لكن هذه المساعدات غير مرتبطة بإصلاح السياسات الخاطئة الراسخة وبمعالجة الفقر؛ حيث أنه من الأفضل مساعدة البشر على تطوير واقعهم بديلاً عن تلك المنح المجانية.

وأخيراً، فإننا نحتاج لأن ننظر بواقعية أكثر لعلاقة أمريكا بالأمم المتحدة. فالمنظمة يمكن أن تكون مفيدة لبعض وظائف الإغاثة الإنسانية ومهمات حفظ السلام، لكننا لا يجب أن نتوقع منها أكثر من ذلك. لقد كشفت الأمم المتحدة خلال نصف القرن المنصرم عجزها عن حل كل الصراعات الكبرى في العالم، والأسوأ من ذلك أنها فشلت في محاربة الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان المختلفة. ويمكن القول بأن الأمم المتحدة لم تبدو على مستوى التوقعات والآمال التى ارتبطت بها عند نشأتها؛ فغالباً ما كانت ضعيفة وغير حاسمة وفاسدة بدرجة كبيرة. وعلى الرغم من أخطاء الأمم المتحدة فإن الأهداف العظيمة للإنسانية لم يكن من السهل تحقيقها بدون وجود آلية للنقاش الدولي. لقد برهن التاريخ على أن ذلك النوع من المنظمات يعمل بشكلٍ أفضل عندما تقوده الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإننا لا يجب أن نفترض استمرارية عمل هذه المنظمة وغيرها من المؤسسات الدولية إلى الأبد، حيث يجب أن نبحث عن أدوات أخرى بديلة لها.

توسيع مزايا النظام الدولي:
تنشأ معظم الاضطرابات في العالم اليوم من تلك المناطق التي ينهار فيها نظام الدولة أو لم يقم بأي من وظائفه المعروفة على الإطلاق. إن معظم دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يعانون من الفقر والفساد والفوضى والإرهاب. ورغم كل هذه الحالات فإنه توجد هناك قصص نجاح تستحق التقدير والإشادة، فعدد دول العالم التي تتبنى النهج الديمقراطي قد تضاعف ثلاث مرات منذ السبعينيات، كما أن نسبة الفقر قد تضاءلت بنسبة الثلث في الدول النامية منذ نهاية الحرب الباردة، كما أن الملايين من البشر قد تحرروا من القمع والخوف. إن التقدم لم يعد ممكناً فقط، لكنه أصبح شيئاً واقعيا، ويجب أن يستمر في ذلك.

إن لأمريكا مصالح واضحة في المساعدة على ترسيخ الحكومات الجيدة عبر العالم. فالديمقراطية مبدأ نبيل، وتشجيعها في الخارج هدف بعيد المدى بالنسبة للسياسات الأمريكية الخارجية. لكن الديمقراطية لا يمكن إنجازها بشكلٍ سريع أو مستمر بدون أن ترتكز على أسس شرعية ومؤسساتية وثقافية راسخة وسليمة. فهى يمكن أن تعمل فقط إذا ما شعر الناس بدرجة معقولة من الأمن والأمان. كما أن الانتخابات ضرورية لكنها ليست كافية لكى تؤسس ديمقراطية حقيقية. فالديكتاتوريون الطامحون قد يكسبون الانتخابات في بعض الأحيان، حيث يحكمون بشكلٍ سيئ ويهددون جيرانهم. ويكشف التاريخ عن أن الديمقراطية عادة ما تتبع الحكم الجيد، وليس العكس. وتلعب المساعدة التي تقدمها الولايات المتحدة دوراً كبيراً في تدعيم الأمم في مسيرتها نحو الديمقراطية، لكننا يجب أن نكون واقعيين بالنظر لما نستطيع أن ننجزه وحدنا في هذا السياق، وأيضاً بالنظر للمدة التي نحتاجها لتحقيق التقدم الدائم والمستمر.

ويمنحنا انتخاب حماس في المناطق الفسلطينية مثالاً واضحاً على مثل تلك الحالة؛ فالمشكلة لا تكمن هنا في عدم وجود الدولة، لكنها تكمن في في فساد الحكم وانعدام مسؤوليته. فالفلسطينيون يحتاجون لسلطة نزيهة كمتطلب أولي لوجود الدولة. وفي هذا السياق، فإن هناك الكثير من الجهد الذي بُذل من أجل إجراء مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تلك المفاوضات التي تعيد نفس الموضوعات المرة تلو الأخرى. وإنه في غير مصلحة الولايات المتحدة الآن، وهى مهددة من قبل الإرهابيين الإسلاميين الآن، أن تساعد على تأسيس دولة أخرى تدعم الإرهاب. إن إنشاء دولة فلسطينية يمكن تحقيقه من خلال حكم جيد ومتواصل، والتزام واضح بمحاربة الإرهاب، واستعداد للعيش بسلام مع إسرائيل. إن التزام أمريكا بأمن إسرائيل سمة دائمة ومستمرة من سمات السياسة الخارجية الأمريكية.

ويجب على الرئيس الأمريكي القادم أن يدعم حقوق الإنسان، وأن يعترض على أية انتهاكات تصيبها. وعلى أمريكا أن تستمر في استخدام نفوذها من أجل التركيز على الأفراد الذين يتعرضون للانتهاكات، وأن تستخدم كل الوسائل الممكنة، سواء من خلال الترغيب أو الترهيب، من أجل وقف تلك الانتهاكات. إن تأمين حقوق الرجال والنساء والأطفال في كل مكان في العالم يجب أن يكون التزاماً محوريا بالنسبة لأية بلد تعتبر نفسها جزء لا يتجزأ من العالم المتحضر. وسواء مع الأصدقاء أو الحلفاء أو المنافسين فإن الديمقراطية سوف تمثل دائماً موضوعاً حيويا في علاقاتنا وجزءاً من مناقشاتنا. وأيضاً فإنه كلما كان سجل البلد جيداً في الحكم الجيد، وحقوق الإنسان، والتطور الديمقراطي، كلما كانت علاقاتها أفضل مع الولايات المتحدة. وكل من ينشد مساعدتنا لتحقيق هذه المبادئ سوف نمده بها.

استخدام النفوذ الاقتصادي والثقافي:
لقد برهن النمو والتوسع الاقتصادي على أنه قاطرة التحرك بشكلٍ ناجح نحو النظام الدولي. إن الاقتصاد الأمريكي المحلي القوي يشكلٍ واحداً من أهم سمات القوة الأمريكية. والعديد من الأمم الأخرى وجدت في اتباعها النموذج الأمريكي المتمثل في ضرائب أقل، ضوابط معقولة، حماية للملكية الفكرية، وتجارة حرة، مايجلب ليس فقط الثروة القومية ولكن أيضاً القوة القومية. لقد أصبح الانفتاح التجاري المتزايد في كل مكان في العالم مسألة حيوية، كما أن اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية أو الإقليمية، تلعب دوراً إيجابيا بالنسبة للأطراف الموقعين عليها، لكننا يجب ألا نسمح لهذه الاتفاقيات أن تتحول إلى ترتيبات خاصة تقوض النظام التجاري الكوني. إضافة إلى ذلك، فإن المساعدات الخارجية يمكن أن تساعد في التغلب على مشكلات بعينها، لكنها لا يمكن أن تؤدي إلى تحقيق الازدهار الدائم لأنها لا تستطيع أن تكون بديلاً عن التجارة. وتمثل الاستثمارات الخاصة المباشرة أفضل وسيلة لتشجيع النمو الاقتصادي. وعلى الرئيس الأمريكي القادم أن يجدد أنشطة المساعدات الخارجية ويحدثها لكى تدعم الاستثمارات الخاصة في البلدان الأخرى، وليس بديلاً عنها في الوقت نفسه.

كما أن نفوذنا الثقافي والتجاري يمكن أيضاً أن يكون ذا تأثير إيجابي، كما حدث أثناء الحرب الباردة. لقد ساعدت القيادة الحازمة للرئيس ريجان، جنباً إلى جنب مع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، والبابا يوحنا بولس الثاني، الاتحاد السوفييتي على أن يعي أنه ليس بمقدرته أن يرهب الغرب ويجبره على الاستسلام. وعلى الرغم من أن وجود هذا النوع من القيادة كان حاسماً، فإنها لم تكن لتكفي وحدها في إسقاط الاتحاد السوفييتي بالطريقة التي حدثت بها، لكنها كانت مؤثرة لأنها جاءت مصاحبة للإستثمارات الاقتصادية الغربية والنفوذ الثقافي الذي ألهب مشاعر الناس في الاتحاد السوفييتي وفي دول حلف وارسو. لقد ساعدت شركات مثل بيبسي، وكوكاكولا، وماكدونالدز، وليڦايز في كسب الحرب الباردة بالدخول إلى السوق السوفييتي.

واليوم، نريد نمطاً مشابهاً من التبادل مع الدول المسلمة التي نريد لها أن ترتبط بالاقتصاد الكوني. لقد انتهجت الأردن والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة الطريق ذاته بالبدأ في تفسير الإسلام بطريقة تحترم خصوصية الثقافات المحلية لكنها متناغمة مع أسس السوق الكوني. فالبعض من هذه الدول لديه مدارس ذات تعليم مختلط، كما يسمح بعمل المرأة في الحكومة، إضافة إلى وجود أسواق حديثة للتسوق (مولات) تبيع البضائع الغربية جنباً إلى جنب مع البضائع العربية. لقد أدرك قادة هذه الدول أن التحديث هو تصريح مرورهم نحو السوق الكوني، وأن هذه السوق يمكن أن تؤسس جسور التقاء بين الغرب وبين العالم الإسلامي بطريقة تشجع الاحترام المتبادل والمنافع المتبادلة.

رودلف چولياني
From Foreign Affairs, September/October 2007

ترجمة وتقديم:
د. صالح سليمان عبدالعظيم



#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة علم الاجتماع في العالم العربي
- الأغنية العربية المعاصرة
- -الحرية والخوف- التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية 2007
- ثقافة التمثيل
- عزمي بشارة والملاحقات الإسرائيلية
- التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2007
- المثقف والعاصمة: هل من علاقات متبادلة؟
- رواية -شيكاجو- وتنميط العربي المسلم
- !!زواج من أجل الطلاق
- فورا بوش، جرينجو بوش
- عن الحب والرومانسية وأشياء أخرى
- ثقافة النكد في العالم العربي
- حرب الأفيون الأمريكية
- إثنان وثلاثون عاماً على رحيل أم كلثوم
- قصص قصيرة جداً
- مواجهة خطاب التنميط والعنف الغربي بين التناول العلمي والإلتز ...
- !!محافظون وثوريون
- أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي
- !!أستاذ الجامعة بين استحكامات البنية واستحقاقات المهنة
- ذووا الدم البارد والعقلانية الخبيثة


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صالح سليمان عبدالعظيم - نحو سلام واقعي