أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - أحمد الحاج - طريق الحزب الشيوعي السوداني للخروج من البرلمان الإنتقالي















المزيد.....


طريق الحزب الشيوعي السوداني للخروج من البرلمان الإنتقالي


أحمد الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2071 - 2007 / 10 / 17 - 12:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


في القلب حسرة!

بعد الرحيل المفجع للدكتور جون قرنق، لم يك ثمة ما يذهلُ على الساحة السياسية؛ فالتكهن بالطريق الذي سيسلكها المؤتمر الوطني، من بعد ذلك، كان سهلاً. لكن المذهل جاء آن طالعتنا الصحف، في 21 أكتوبر 2005، بنبأ تسمية الحزب الشيوعي السوداني لثلاثةٍ من أعضائه نواباً له بالبرلمان الانتقالي؛ ثم ما لبثت أن إنطوت في القلب حسرة!

وليس مرد الحسرة إلى مشاركة الحزب الشيوعي في "مؤسسات دولة خرج عليها معارضاً شرساً و خاض في هذا السبيل نضالاً مراً و متطاولاًًً"[1]. إنما مردها إلى أن القرار أنبنى على قراءةٍ خاطئة من حزبٍ يُعتبرُ الأكثرُ تأهيلاً، ربما من بين جميع الأحزابِ السودانية، في تحليل طبيعة المؤتمر الوطني، و فهم بنيته التسلطية الإقصائية. و فوق ذلك، كان الشيوعيون السودانيين هم الأكثر تحديداً، من خلال بياناتهم المعلنة و تصريحات مختلف قياداتهم، لمهام الصراع السياسي التي تنتظر شعبنا في عقابيل التوقيع على إتفاق مشاكوس الإطاري " و من جانبنا نثق أن الصراع السياسي الجماعي المنظم يمكن أن يبدل و يعدل الإتفاق، بحيث يؤدي إلى سلام مستقر ديمقراطية و اعدة و وحدة طوعية و تنمية مستدامة.. لكن إستشراف تلك الآفاق و ترجمتها إلى سلام على الأرض يمشي بين الناس ما زال بعيداً و يتطلب نضالاً شعبياً و سياسياً متواصلاً و إرادة وطنية جامعة، و حركة يومية من أجل الحريات و الحقوق السياسية و النقابية"[2]. إن وضوحاً بهذا القدر للطريق التي سيسلكها الحزب في صراعه السياسي لما بعد نيفاشا، يتناقض و مشاركته في البرلمان الإنتقالي، و إن كان لقيادة الحزب مبرراتها.

نعم للبرلمان لا لمجلس الوزراء

ففي معرض رده على سؤال لماذا رفض الحزب الشيوعي المشاركة في السلطة التنفيذية، فيما وافق على المشاركة في السلطة التشريعية، يقول محمد إبراهيم نقد، السكرتير العام للحزب: " بما أننا لم نكن طرفاً في الاتفاقية و بما أن النسب التي خصصت للقوى السياسية هي نسب ضئيلة حقيقة.. إذن و من حيث المبدأ و من الناحية العددية يكون رفض المشاركة التنفيذية و في وجود الدستور لك الحق أن تكون معارضة دستورية، و ليس معارضة خارج القانون بل معارضة في إطار الإتفاقية، و على هذا الأساس اخترنا المشاركة في الأجهزة التشريعية سواء البرلمان المركزي أو البرلمانات الولائية"[3].

سببان، إذن، هما اللذان دفعا الحزب الشيوعي لرفض المشاركة التنفيذية و قبول التشريعية (عدم المشاركة في الإتفاقية، و ضآلة النسب). إن ما يثير الإستغراب، حقاً، هو أن ضآلة النسب لم تقتصر على السلطة التنفيذية وحسب، بل طالت حتى البرلمان! صحيح أن السبب الآخر المتعلق بالمبدأ إنتفي كون الحزب كان طرفاً في إتفاق القاهرة الموقع بين التجمع و الحكومة، في 18 يونيو 2005، إلا أن مسألة ضآلة النسبة المخصصة للتجمع بالبرلمان تظل قائمة؛ فضلاً عن أن التجمع لم يكن طرفاً في تحديد هذه النسبة، ما يعيدنا، ثانيةً، إلى السبب المبدأ: عدم المشاركة في الإتفاقية! و عليه، فإن التبرير الذي ساقه محمد إبراهيم نقد، برفض المشاركة في السلطة التنفيذية ينسحب، أيضاً، على قضية المشاركة في السلطة التشريعية.

الاتصال بالجماهير

و يستطرد نقد قائلاً: " داخل البرلمان أنت تصوت و قبله تنتقد، فإذا كان إنتقادك موضوعياً و يخلص إلى بديل أفضل فإن هذا يصل الشارع.. و يساعد في التنوير السياسي و يساعد في توسيع نفوذك السياسي"[4]. و على ذات النهج سار عضو سكرتارية اللجنة المركزية، سليمان حامد؛ إذ قال "..الحزب قرر دخول المجلس الوطني و المجالس الولائية ليتمكن من اسماع صوته للجماهير و التعبير عن مصالحها"[5]. إذن، فالحكمة من المشاركة هي: توصيل صوت الحزب للجماهير من خلال طرح سياساتٍ بديلة تعبر عن مصالح الجماهير من داخل البرلمان. في الواقع، إن مثل هذه النغمة تتمتع بجاذبيةٍ كبيرة لدى الكثيرين في صفوف الحزب، لكن هناك الكثير من الأسباب المقنعة لرفضها. فنحن نرى أن الحزب، من واقع كونه حزباً، مطالب بتوصيل صوته للجماهير و طرح سياسياتٍ بديلة تعبر عن مصالح الجماهير، غض النظر عن كونه داخل البرلمان أم خارجه. وحتى و إن كان الحزب ينشط من خلال معارضةٍ سريةٍ/غير قانونية، فإن ذات الواجب يظل قائماً. وفي ذلك، قال برشت، الشاعر الألماني المجيد: "جميل أن نلجأ للكلمة في حرب الطبقات، أن نطلقها داويةً في وجه الجلاد.. أن نتكلم- لكن أن نخفي المتكلم"[6]. فبرشت يذكر بأن واجب الاتصال بالجماهير مقدم حتى في ظروف السرية. و من نافلة القول إن مباديء التأمين و العمل السري التي أرساها البلاشفة، و تبنتها و أغنتها العديد من الأحزاب المضطهدة (شيوعيةً و غير شيوعية) على نطاق العالم، تستند إلى هذه الفكرة البسيطة: الكلام مع إخفاء المتكلم. إذن، فالمحاجَّة بأن المشاركة في البرلمان تساعد الحزب في توصيل صوته للجماهير، من خلال طرح سياساتٍ بديلة، لهي محاجَّة مردودة و تنم عن مغالطة. مردودة لكونها تحاول الترويج لفكرة هي من بديهيات العمل السياسي: الاتصال بالجماهير، و لكونها واجب بديهي فهي لا ترتبط بلحظة أو حالة دون غيرها، و إن تعددت أشكالها. و تنم عن مغالطة لأنها تغفل حقيقة أن الحزب الشيوعي نفسه ظل ينتقد سياسات الحكومة، و يطرح بدائل لها، حتى قبل دخوله قبة البرلمان (أنظر مختلف بيانات الحزب الصادرة قبل المشاركة، مثلاً: لا لميزانية الجوع و الإذلال و إفقار الجماهير، أو: لا لزيادة أسعار السكر و البترول..الخ)، هذا فضلاً عن أن هناك أحزاباً معارِضة أخرى، كالمؤتمر الشعبي و الأمة القومي، مثلاً، ظلت تعارض و تسعى لتقوية نفوذها السياسي من خارج قبة البرلمان، و قد أصابت قدراً من النجاح في هذا السبيل.

ليس ثمة هامش للمناورة

من جانبٍ آخر، فإن ذات الرؤية تغض الطرف، لسببٍ أو لآخر، عن حقيقةٍ جوهرية في البرلمان الحالي، وهي: أن ليس ثمة هامش للمناورة. فنسب التمثيل في البرلمان (52% للمؤتمر الوطني، 28% للحركة الشعبية، 14% للقوى السياسية الشمالية، 6% للقوى السياسية الجنوبية) تعني إستمرارية هيمنة المؤتمر الوطني من خلال أغلبيةٍ ميكانيكيةٍ أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تشكل سداً منيعاً، لا يغني معه تمترس جميع الكتل الأخرى، بما فيها الحركة الشعبية، في خندق واحد.

إن التدليل العملي لهذه المحاجَّة يتجلى في المعركة التي خاضتها كتلتي التجمع و الحركة الشعبية حول قانون الخدمة المدنية. ففي 6 نوفمبر 2006، اجاز مجلس الوزراء، في جلسةٍ إستثنائية، ترأسها علي عثمان، نائب رئيس الجمهورية، قانون الخدمة المدنية، قبل أن يدفع به إلى البرلمان بغرض المصادقة عليه. ولكن، نسبةً لإعتراض كتلتي الحركة الشعبية و التجمع على سلامة الإجراء، فإن البرلمان لجأ إلى التصويت، والذي جاء، بطبيعة الحال، في صالح المؤتمر الوطني بأغلبية ثلثي الأعضاء.

إن التحليل أعلاه أنبنى على فرضية أن ثمة تحالف قائم بين كتلتي الحركة الشعبية و التجمع. لكنها تظل فرضية مبالغة في تفاؤلها. فمعركة قانون الأحزاب، مثلاً، توضح كيف أن الحركة الشعبية صوتت إلى جانب المؤتمر الوطني لاجازة قانونٍ اعتبرته كتلة التجمع معيباً، خاصةً في مادته المتعلقة بحل الأحزاب. و لكن، وعقب خروج نواب التجمع من جلسة البرلمان، 22 يناير 2007، ادخل المؤتمر الوطني المزيد من التعديلات السالبة على المادة 4، الخاصة بتسجيل الأحزاب، قبل أن تتم اجازة القانون بالاجماع. إن الافتراض بأن الكتلة البرلمانية للحركة الشعبية يمكن أن تشكل سنداً تعتمد عليه كتلة التجمع لهو افتراض غير واقعي؛ فللسلطة حسابات أخرى! (ليس من أهداف هذا المقال الخوض في تحليل موقف الحركة من قضية التحول الديمقراطي و مسألة التحالف معها).

الهيمنة التامة

و لا يجب قصر تحليلنا على مسألة توزيع النسب و حسب؛ فتحليل كهذا يظل محدوداً، و إن كان صائباً. لأن غوصاً أعمق في تركيبة البرلمان من شأنه أن يبين لنا مدى هيمنة المؤتمر الوطني، وذلك من خلال ترأس عضويته لغالبية اللجان البرلمانية. فمن جملة 19 لجنة ثابتة، يترأس اعضاء المؤتمر الوطني عشر لجان، و اعضاء الحركة الشعبية خمس لجان، بينما يترأس اعضاء القوى السياسية الشمالية ثلاث لجان، و الأخيرة تحظى برئاستها القوى السياسية الجنوبية. إن رئاسة المؤتمر الوطني لغالبية اللجان البرلمانية تعني أنه يستطيع أن يتحكم في أدائها، و يؤثر على وظيفتها، سواء أكان ذلك من خلال التسلط المباشر أم من خلال المراوغات اللائحية.

العبرة من الآخرين

صحيح ما ذهب إليه مجدي الجزولي في أن "المرجع الأساس في أي تقييم أو نقد أو رصد كان ليس بأي حال من الأحوال من نصوص نلوكها من تراث الثورة الروسية أو الخبرة السوفيتية ثم ندسها دساً في ثنايا تاريخنا الخاص، إنما نستند إلى تأريخ الحزب النضالي مقروءاً في سياق الثورة السودانية"[7]. لكننا يمكن أن نضيف أن من الضروري الافادة من تجارب الشعوب و الأحزاب الأخرى على نطاق العالم. فليس ثمة شيء خاص بذاته. فهناك سمات عامة مشتركة في تجارب الشعوب و الأحزاب. و العام، كما نعلم، هو ما يلازم الكثير من الأشياء المفردة الخاصة. لذلك، يولي الماركسيون مقولتي العام و الخاص و ترابطهما أهتماماً أكبر في النشاط النظري و العملي على حدٍ سواء. كما أن معرفة العام و إرتباطه بالخاص تشكل أساساً لا غنىً عنه في إكتشاف السمات الهامة للأشياء، و بالتالي تزودنا بإمكانية معرفة و تحديد الإتجاه الرئيسي لمسارها و مآلاتها. و قد بينت لنا خبرة الكثير من الأحزاب، كيف أن السير في طريق المشاركة في مؤسسات السلطة، تشريعيةً كانت أم تنفيذيةً، دون وعي بالطابع العام للمرحلة، و بطبيعة السلطة المسيطرة، من شأنه أن يقود إلى نهايات غير محمودة.

اليسار المصري

أولم نسمع بمآل اليسار المصري منذ أن تبنى فكرة تكوين حزب التجمع الوطني الوحدوي التقدمي، ومن ثم انخراطه في مشروع "الإصلاحات" السياسية التي دشنها الرئيس أنور السادات منتصف السبعينات؟! أولم ينخرط اليسار المصري في ذلك المشروع منطلقاً من فكرة "التغيير من الداخل" بغرض التأثير على مجرى الأحداث؟! أولم تكن شروطه الموضوعية (إمكانية المناورة داخل البرلمان) أفضل بكثير من شروطنا؟! إلا أن ما إنتهى إليه اليسار المصري، و أحزاب المعارضة الأخرى، ربما بإستثناء الأخوان المسلمون، كان هو التعليق على الأحداث أكثر من التأثير عليها، فيما سار الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في غيه يعمه! و كل ذلك، لأن اليسار المصري أغفل حقيقة أن جوهر "الإنفتاح الساداتي" لم يكن سوى إجراءآت شكلية هدفت إلى تقسيم الطبقة السياسية إلى الذين يحكمون إلى "الأبد" (الحزب الوطني الديمقراطي) و الذين يعارضون إلى "الأبد" (اليسار و من لف لفه).

الشيوعي الفرنسي

أولم نسمع بمآل الحزب الشيوعي الفرنسي منذ أن تبنى فكرة المشاركة في السلطة ضمن تحالف يقوده الحزب الاشتراكي (1997-2002)؟! أولم يشارك في السلطة منطلقاً من ذات الفكرة؟! أولم تكن شروطه الموضوعية (إمكانية المناورة داخل و خارج البرلمان و الحكومة) أفضل بكثير من شروطنا و شروط اليسار المصري؟! أولم تذهب حكومة الحزب الاشتراكي، التي شارك فيها، في طريق تطبيق برنامجٍ للخصصة أوسع نطاقاً من ذاك الذي بدأه اليمين الفرنسي آن كان في السلطة؟! إلا أن ما إنتهى إليه الشيوعي الفرنسي كان تكاثر الانقسامات في داخله و التراجع المستمر في عضويته، فيما صعد اليمين الفرنسي إلى علية الحكم! و كل ذلك، لأن الشيوعي الفرنسي أغفل حقيقة أنه لم يكن ثمة توجه اصلاحيٍ أصيل يتبناه الحزب الاشتراكي، فضلاً عن أن الاصلاح ذاته كان خاضعاً لمنطق رأس المال، وبالتالي لم يكن له أن يتجاوز حدوداً معينة.

معيار المشاركة

و بإسقاط ذلك على حالتنا، فإن المعيار الذي يجب أن يستند إليه الشيوعيون السودانيون في تحديد المشاركة من عدمها ينطوي على ثلاثة أبعاد، الأول: الطابع العام للحظة كما تتجسد في الملموس، هل تتسم بتوجهٍ اصلاحي؟ الثاني: المرجعية الأخلاقية، هل ثمة ضرر أخلاقي/سياسي سيلحق الحزب إن شارك؟ الثالث: التأثير على النظام، هل ستؤثر المشاركة على النظام سلباً أم إيجاباً؟

فيما يتعلق بالبعد الأول (هل تتسم اللحظة بتوجهٍ إصلاحي؟) فإن حقيقة أن الاتفاق كان قد تم هندسته خارجياً و من ثم فرض على الطرفين لم تكن خافيةً على أحد. وقد أشار الحزب الشيوعي إلى ذلك؛ إذ قال: "المشروع الذي أصبح إتفاقاً (إطارياً) ليس جديداً، إنما تعود جذوره لورقة مركز الدراسات الاستراتيجية-واشنطن- و عرفت بورقة فرانسيس دينق، و تنسيق الجهد بين ذلك المركز مع مركز إدارة الأزمات في بروكسل ، و معهد النهضة الأفريقية الذي تموله وزارة الخارجية الأمريكية و معهد ماكس بلانك-ألمانيا، و تدعمه دول الاتحاد الأوربي"[8]. كما أن الطبيعة الثنائية للاتفاق تؤكد أنه كان، بالأساس، عبارة عن صفقة بين المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية أكثر منه اتفاقاً لتحقيق التحول الديمقراطي و الاستقرار السياسي بالبلاد. و قد وجه الحزب الشيوعي سهام نقده لهذه الثنائية، و ذهب إلى حد أن قال: ".. كانما المدخل للإتفاقية كان مقايضة: تقرير المصير للحركة الشعبية و الشريعة للإنقاذ"[9].

من جانبٍ آخر، فإن قضية الاصلاحات الديمقراطية ليست مطروحة على أجندة المؤتمر الوطني، و لن تطرح، لأن المؤتمر الوطني مدرك، تماماً، لحقيقة أن تنفيذ اتفاق نيفاشا، خاصة فيما يتعلق بقضيتي الحريات و التحول الديمقراطي، يعني نهاية دولته في الحكم. فعلى الرغم من اتفاق نيفاشا و تكوين حكومة "الوحدة الوطنية"، فإن المؤتمر الوطني ظل يسيطر على القمم الاستراتيجية للإقتصاد، وعلى الجهاز المركزي للدولة؛ وليس ثمة مؤشرٍ في الأفق يعطي احتمالاً بتبدل هذا.

التعويل على قرنق؟

و لكن، ربما كان الحزب الشيوعي يأخذ في الاعتبار إيمان و إلتزام الراحل دكتور جون قرنق بقضية التحول الديمقراطي، فجنح إلى وسم الطابع العام للمرحلة بأنه ذو توجه إصلاحي. بيد أنه، و حتى آن وجود الراحل، بكل ثقله السياسي و العسكري و كاريزميته الإستثنائية، فإن حلفائه في التجمع عجزوا عن فرض بعض أجندتهم في الاصلاح (خذ مثلاً عجز التجمع عن تعديل نسبة ال 14%، و ملابسات المشاركة في لجنة الدستور الإنتقالي). صحيح أن الراحل كان ينظر إلى التغيير باعتباره عمليةً و ليس حدثاً، وهو في ذلك محق. لكن العملية هذه لم تكن تتسم في مرحلتها الأولى بتوجهٍ اصلاحي حقيقيي من جانب المؤتمر الوطني؛ إذ أنها لم تكن سوى تمرين ابتدائي لتوفيق الأوضاع بين طرفي نيفاشا. و إلى هذا، فإن الافتراض بأن المشاركة في البرلمان من شأنها التأثير على مجرى الاصلاح يكون غير واقعي بالمرة.

أما فيما يتعلق بالبعد الثاني (هل ثمة ضرر أخلاقي/سياسي سيلحق الحزب إن شارك؟) فإن الشيوعيين السودانيين يشاركون في برلمانٍ يعجز نوابه عن وضع حدٍ لعسف سلطةٍ تسرف في قتل مواطنيها، في كجبار و غيرها، أو حتى في إدانة السلطة التنفيذية عن مسؤليتها في سقوط بنايات شاهقاتٍ لا تُفرِغ "أطفالنا الجوعى في وسخ الرصيف" و حسب، كما يقول الشاعر الصادق الرضي، بل تنهار على رؤوسهم كاملةً محولةً إياهم إلى رميم! أي مرجعيةٍ أخلاقيةٍ هذه التي تبرر بقاء نواب شيوعيين في برلمانٍ يجلس فيه من شارك في تعذيب و قتل الشفيع أحمد الشيخ؟! وكم يا ترى عدد الذين اقترفوا جرائم تعذيبٍ و قتلٍ في حق أعضاء حزبنا و يجلس نوابنا إلى اليمين منهم؟! و إلى ذلك، أنظر مدى التناقض بين موقف الحزب الشيوعي من مسألة التحالف مع حزب المؤتمر الشعبي، و ذلك بتحديده لشروطٍ معينة للتحالف "ضرورة أن يكشف حزب المؤتمر الشعبي كل الحقائق للشعب السوداني، و يمارس نقداً ذاتياً علنياً حول دوره في ذلك الإنقلاب و آثاره اللاحقة"[10]، و بين موقفه من المشاركة في برلمان المؤتمر الوطني دون أن يمارس المؤتمر الوطني نقداً ذاتياً علنياً حول الانقلاب و الجرائم التي اقترفها بحق الشعب! قد يصف واصف خطابنا هذا بالعاطفية، و أن السياسة لا يتم الحكم عليها من هذه الزاوية، و هذا صحيح؛ لكن السياسة يجب الحكم عليها، في نهاية الأمر، من خلال المرجعيات الأخلاقية. و إلى هذا، كان من الأجدر للشيوعيين السودانيين المشاركة في برلمان السلطة على قاعدة الحقيقة و المصالحة. إن مبدأ الحقيقة و المصالحة، والذي لم يدرج في اتفاق القاهرة إلا أمانيَّ، يمثل المرجعية الإخلاقية التي يجب أن يستند إليها الشيوعيون السودانيون في اتخاذ قرارهم بالمشاركة من عدمها. و ليس للمبدأ بعداً أخلاقياً و حسب، ولكن له، كذلك، مغزىً عمليأً يتمثل في اعطائه مؤشراً عن مدى جدية السلطة في إحداث تحولٍ ديمقراطيٍ أصيل. و لكن طفابيع المؤتمر الوطني لن يتمنوا الحقيقية أبداً بما قدمت إيديهم، و يظل شعبنا عليم بالظالمين.

من ناحيةٍ أخرى، فإن للمشاركة بالبرلمان الانتقالي ثمة ضررٍ سياسي يدركه، تماماً، أعضاء الحزب الذين يمشون بين الناس. فالمشاركة من شأنها أن تخلق حالة من اللبس عند الناس، و الذين باتوا لا يعرفون إن كان الحزب معارضاً أم موالياً. إن المشاركة ستفقد الحزب أعداداً مقدرة من الجماهير، والتي كانت ترى فيه مكافحاً مبدئياً من أجل قضاياها.

أما فيما يتعلق بالبعد الثالث (هل ستؤثر المشاركة على النظام سلباً أم إيجاباً؟) فإن المشاركة أعطت المؤتمر الوطني شرعيةً لحكمه ظل يفتقدها منذ استيلائه على السلطة في الثلاثين من يونيو 1989. صحيح أن اتفاق نيفاشا أكسبه قدراً من الشرعية المفقودة، إلا أن مشاركة التجمع، عبر بوابة إتفاق القاهرة، عززت من تلك الشرعية. و قد أصابت سكرتارية اللجنة المركزية في نقدها لإتفاق مشاكوس؛ إذ قالت: " لم يوفق المشروع في اغفاله قضية التحول الديمقراطي عبر تصفية االنظام الشمولي و ليس بتوسيع المشاركة فيه"[11]. إلا أنه، وفي الممارسة العملية، غدا ذكر نواب الحزب الشيوعي ضمن موسعي المشاركة في مؤسسات النظام الشمولي!

ينضاف إلى ذلك، أن المشاركة قدمت خدمةً دعائيةً جليلةً للمؤتمر الوطني لجهة التعامل مع المجتمع الدولي، والذي أضحى مولع بالشكليات و اللافتات أكثرُ منه بالمضامين. فتقارير الأمم المتحدة و البعثات الدبلوماسية باتت مستغرقة في عبارات جوفاء مثل "البرلمان يجيز القانون الفلاني و كتلة التجمع تعترض..ألخ" وكأنما هناك ممارسة برلمانية ديمقراطية حقة تجري في السودان! والمجتمع الدولي إذ يوحي ذلك إلى نفسه إنما يسعى إلى تبرئة ذمته مستنداً الى مشاركة قوىً سياسيةً في مقام الحزب الشيوعي السوداني، والذي إن تفكر ما كان له أن يسلك سؤ السبيل؛ أفلا يدرك سواء السبيل؟!

المحصلة النهائية

ليس الهدف من قولنا هذا تبخيس الجهد الذي يبذله النواب الشيوعيون بالبرلمان، فأدائهم حتى اللحظة، مع بعض الإستثناءآت، لا غبار عليه؛ لكن ذلك الأداء يجب الحكم عليه من معيار المحصلة النهائية. و في هذا المنحى، يقول تاج السر عثمان: "وعلى ضؤ حصيلة أربع دورات من المجلس الوطني حتى الآن نجد أنه فشل في إلغاء القوانين المقيدة للحريات، بل أجاز ميزانيتي 2006، 2007، و التي تم فيهما إفقار الشعب السوداني، إضافةً لعدم إتاحة الفرصة لنواب التجمع في التعبير عن آرائهم كما لخص التجربة علي محمود حسنين"[12]. إذن، و بعد مرور أربع دورات فإن المحصلة النهائية من مشاركة الشيوعيين السودانيين بالبرلمان الإنتقالي، تتجلى في عجز نوابهم، و كذلك حلفائهم، عن اسقاط ولو قانونٍ أو مشروعٍ واحد مما طرح فيه!

الطريق

إن تحليل الشيوعيين السودانيين لطبيعة المرحلة، في كلياته، لهو صائب دونما شك، لكنه خاطيء في جزئيته المتعلقة بالمشاركة في البرلمان الانتقالي. إن قبول الشيوعيين السودانيين لفكرة التصدي لقضية التحول الديمقراطي من خلال العمل ضمن السياق الذي فرضته اتفاقية نيفاشا، لا يعني، بأي حالٍ من الأحوال، المشاركة في البرلمان الانتقالي.

فإجبار المؤتمر الوطني على تغيير قانون الأحزاب أو الأمن الوطني، مثلاً، لن يتأتي عبر إيداع النواب الشيوعيون، و حلفائم، لقانونٍ بديل منضدة البرلمان؛ إنما يتأتى من خلال تكثيف النضال الذي تتبناه القوى السياسية و المهنية و المدنية، من جانبٍ، و من خلال مواصلة الحوار السياسي مع الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، و كذلك مع كلٍ من المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية بغرض التأثير عليهما، من جانبٍ آخر. هنا فقط تصح نظرية التفاعل أو الوجود اللصيق التي يطرحها "الدياليكتيكيون" و ليس بالضرورة بالتواجد داخل البرلمان، إنما بالتواجد داخل اللجان التي تضطلع، مثلاً، بمهمة سن القوانين وطرحها على البرلمان.

ليس هناك طريقاً وسطاً. إن البديل الوحيد المطروح حاليا هو سلك الطريق المعارضة للمؤتمر الوطني معارضةً أصيلة، تعي، تماماً، أنها ستخوض غمار نضالٍ طويلٍ و شاق قد تتعرض فيه لأشكالٍ من البطش كتلك التي خبرتها المعارضة إبان كانت الجبهة الإسلامية في عنفوان عقائديتها و عسفها. وعليه، فإن الواجب الأول يكون في إقناع القوى السياسية و الشعبية بأن من الممكن مناهضة المؤتمر الوطني و هزيمة دولته؛ أما الواجب الثاني فيتمثل في إعادة تأهيل المشروع البديل. و إلى هذا، فإن على الشيوعيين السودانيين تصحيح موقفهم استناداً إلى إرثهم الزاخر من النقد الذاتي، وأن يواصلوا في ترتيب أوضاعهم و الإستعداد لمرحلةٍ نضاليةٍ جديدة، مرة و متطاولة. إن أمامنا مهمة صعود الجبال؛ و إلا فسنعيش أبداً بين الحفر.

سبتمبر 2007


--------------------------------------------------------------------------------

[1] مجدي الجزولي، طريق الحزب الشيوعي السوداني إلى برلمان الفترة الإنتقالية، موقع مقالات مجدي الجزولي، أكتوبر 2006

[2] سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السودان "اتفاق مشاكوس و الصراع السياسي"، أغسطس 2002

[3] محمد إبراهيم نقد (حوار)، الرأي العام، 19 نوفمبر 2005

[4] المصدر السابق

[5] سليمان حامد، ليلة سياسية، الثورة الحارة الثامنة، 20 سبتمبر 2005 (ورد في مقال مجدي الجزولي سابق الذكر)

[6] بريشت، قصائد من الألمانية، ترجمة و تقديم د. محمد سليمان

[7] مجدي الجزولي، سبق ذكره

[8] اتفاق مشاكوس و الصراع السياسي، سبق ذكره

[9] المصدر السابق

[10] الحزب الشيوعي السوداني (تصريح صحفي)، أسمرا، يوليو، 2004

[11] اتفاق مشاكوس و الصراع السياسي، سبق ذكره

[12] تاج السر عثمان، حول تجربة مشاركة التجمع في السلطة التشريعية و التنفيذية (مقال)، الأيام، يوليو 2007

* سبق نشر هذا المقال على ثلاثة حلقات فى صحيفة الميدان الأعداد 2041- 2042- 2043.



#أحمد_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً8 (خاتمة)
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً7
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً6
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً5
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً4
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً3
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً2
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً


المزيد.....




- هل كان بحوزة الرجل الذي دخل إلى قنصلية إيران في فرنسا متفجرا ...
- إسرائيل تعلن دخول 276 شاحنة مساعدات إلى غزة الجمعة
- شاهد اللحظات الأولى بعد دخول رجل يحمل قنبلة الى قنصلية إيران ...
- قراصنة -أنونيموس- يعلنون اختراقهم قاعدة بيانات للجيش الإسرائ ...
- كيف أدّت حادثة طعن أسقف في كنيسة أشورية في سيدني إلى تصاعد ا ...
- هل يزعم الغرب أن الصين تنتج فائضا عن حاجتها بينما يشكو عماله ...
- الأزمة الإيرانية لا يجب أن تنسينا كارثة غزة – الغارديان
- مقتل 8 أشخاص وإصابة آخرين إثر هجوم صاروخي على منطقة دنيبرو ب ...
- مشاهد رائعة لثوران بركان في إيسلندا على خلفية ظاهرة الشفق ال ...
- روسيا تتوعد بالرد في حال مصادرة الغرب لأصولها المجمدة


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - أحمد الحاج - طريق الحزب الشيوعي السوداني للخروج من البرلمان الإنتقالي