أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تيسير عبدالجبار الآلوسي - بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية 1- 2 - 3 - 4















المزيد.....



بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية 1- 2 - 3 - 4


تيسير عبدالجبار الآلوسي
(Tayseer A. Al Alousi)


الحوار المتمدن-العدد: 639 - 2003 / 11 / 1 - 04:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية
1- 4
[حقُّ الحياة؟!]
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي
أكاديمي محلل سياسي ناشط في حقوق الإنسان
2003 / 10 / 20
[email protected]


                             الديموقراطية مفهوم واسع يعكس جوهره المتنوِّع التعددي طبيعتَهُ و حَدَّهُ (تعريفُهُ)الخاص, ومن ثمَّ فأُسُّ الديموقراطية يكمن أولاَ َ في الاعتراف للإنسان بحقه في الوجود والحياة لا تصادرُهُ أو تنتقص منه قيودُ العبودية لشخص أو جهة أو شئ. فإذا لم يمتلك إنسان نفسَهُ وحقَّهُ في الحياة, فماذا يتبقى له؟ ولنا في تشخيص تلك القيود وتحديدها ما يعيننا على فهم هذا الحق والتجاوزات التي تحصل في إطاره. فكثيراَ َ ما نصادف حقيقة فقدان ذلك الحق أو تلك الحرية أو انتقاصها, إلى الدرجة التي يجدُ المرءُ  فيها ما يدفعُهُ إلى البحث عن حق  وجوده وحياته في وقت لا يملك أكثر من أنفاسه في حياة تُصادر منه كلَّ شئ؟!!
                                وأمثلتنا المباشرة على ذلك أنْ لا أحد يستشير مواطني الدولة وهم يُدْفَعُون إلى أتون حرب تصادر وجودهم وحيواتهم, وكثرما كانت تلك الحروب عبثية معادية لمصالح الإنسانية والشعوب.. أما الحروب المسوَّغة موضوعيا كما في مثال حروب التحرير, فإنَّها هي الأخرى دفع بالإكراه من قوة غاشمة معتدية, للإنسان نحو الموت حين تغتصب منه بلده ووطنه أو بيته الخاص, ومن ثمَّ  تصادر حقَّهُ في الحياة التي يقدِّمها تضحية من أجل بلاده وشعبه والآخرين؛ وهو أعلى ما يهبُهُ الإنسانُ دفاعا عن الإنسان وحق الوجود عنده. لكنَّ الحرب تظلّ في جميع أحوالها حالة من مصادرة حق الحياة بما تفرضه كرها على البشرية من تقتيل بالجملة. ولقد تعرّض الإنسان العراقي طوال العقود الثلاثة الأخيرة لعدد من تلك الحروب العدوانية المفتَعَلَة التي أكلت منهم مئات الألوف عبثاَ َ في خدمة نَزَعَات الطاغية في عدوانه على الدول المجاورة...
                             وما يمنحه الطغاة لأنفسهم من حق امتلاك مصائر المواطنين وغيرهم عندما يصدرون أحكام الموت بحق الأفراد والجماعات معروف عندنا هو الآخر. فلَمْ  تكفِ الدكتاتور المتعطِّش للدم حروبه تلك حتى أتبَعَها بأفعال إجرامية طاولت مئات ألوف أخرى فكان القتل بالإعدامات الجماعية داخل السجون وفي الساحات العامة وبإحراق القرى وقصف المدن بالكيمياوي وبغيره من أسلحة الدمار والموت, وعمدَ إلى مقابر الدفن الجماعي للتستّر على جرائمه الأمر الذي افتضح للجميع  بُعَيْدَ سقوطه مباشرة كما هو معروف اليوم ..
                             وليست هذه الأمثلة هي الأخيرة في مصادرة حق الحياة.. فإذا كان هذا مُصادَراَ َ بذرائع (أو حجج وتبريرات) الحروب العبثية الخارجية والداخلية وفي ظلِّ الطوارئ فما دواعي اختطاف الناس من الشوارع ومن أماكن عملهم وحتى من بيوتهم ومن أحضان أمهاتهم ومن بين أيدي والديهم  و تحت نواظرهم في الظروف العادية  ـ ولا أقول: زمن السلم لأنَّه في ظلّ هذه الوقائع الرهيبة  يكون معيباَ َ وصف الأحوال بالسلام السياسي أو الاجتماعي.. أما لماذا يخشى الإنسان المواطن على حياته؟ فليس [فقط] لاختلافِهِ مع الحاكم ورغباته ولكنْ في ظرف انتفاء الديموقراطية وانعدامها يخشى عليها لمجرد أنَّه أخطأ في تقدير تلك الرغبات فقصَّر في الاستجابة لها بغير عمد (وكيف له أنْ يتعمّدَ التقصير؟!!), وقد يخشى الإنسان على حياته لمعرفته أنَّه إذا ما رغب الطاغية المريض في اتخاذ واحد من (رعيتِهِ) أضحية لدمويته التي يقوم بها بين الفينة والأخرى فقد يكون تلك الأضحية!
                                   وهكذا كما سيأتي مناقشته لاحقا تتحول صفة (المواطن)  أداة لمصادرة الحياة الإنسانية في أبسط  أشكال وجودها وهي أنْ تبقى أنفاس الإنسان ملكا له  و ليس لأحد غيره حتى لو كان مَنْ يُصادِر حق الحياة هو الحاكم المُنتخَب في بلد ما, أو المرجعية أو القيادة السياسية المُنتخَبة أو المُتَّخَذة (المُختَارَة) من ذلك الإنسان في ظروف طبيعية.. فالفرد منّا لا يختار قيادة أو مرجعية أو حاكما ليسلِّمَهُ أمر حياتِهِ ووجودِهِ .. وعليه فلا حقَّ لأحد أو طرف ما في تلك المصادرة. إنَّ حقَّ الحياة يظلّ ملكاَ َ خاصاَ َ ملتصقاَ َ بصاحبه لا يسلِّمه لأحد ولا يُنافسه أو يشاركه فيه أحد أيَّاَ َ كان ومهما كانت سلطته وتحت أية ظروف حتى لو وُجِد مبرِّر للحديث عن وقف حياة إنسان لهذا السبب أو ذاك...
                                     ويُصادَر حق الوجود والحياة من آخرين مثل جماعات التكفير وشيوخهم وأمرائهم ومن أدعياء المرجعية الدينية الذين ينصِّبون أنفسَهم خلفاء الإله على الأرض! وهم في حقيقتهم لا يفقهون من دين أو مُعتَقَد فكَّ حرف منه, فكيف بتولِّي أمر مرجعية أو خلافة أو إمارة؟؟! والحقيقة يحصل اليوم في أوضاع بعض الانفلاتات الأمنية وضعف سيطرة الدولة على الشارع أنْ يُصادِر بعض الذين يجدون دعما مشبوها واتباعا من مندسِّين ومن سقط متاع الأمس حيوات الناس فيعمدون إلى التهديد والوعيد ومن ثمَّ لتنفيذ الاغتيالات وإصدار أو استصدار فتاوى تمهّد لجرائم لقتل والفتك بحيوات الأبرياء بخاصة من متنوري بلادنا من قادة السياسة ومن المرجعيات الدينية المعتدلة وغيرهم.  ومن أولئك الذين يصادرون حق الحياة للإنسان بعض قادة  منظمات سياسية أو اجتماعية متطرفة.
                                       ونعرف أيضا أنَّ بعض التقاليد والأعراف السلبية المريضة تبرِّر للقتل ولجريمة مصادرة حياة النفس البشرية, فكان قديماَ َ وأد البنات حتى قبل ارتكاب جريمة أو وعي بأخلاقيات الحياة الإنسانية! ويستمر اليوم القتل غسلا للعار وإنْ بحدود ضاقت مساحةَ َ ولكنَّها تظل حدوداَ َ مفتوحةَ َ طالما وُجِد الظلاميون ووُجِدت سلطة لهم في حياتنا. وللقتل إباحة من عصابات الجريمة المنظَّمة وغيرها ومن تصفية حسابات اختلاف الرؤى والاجتهادات ومن تهديد مصالح مادية وأدبية معنوية لطرف عدائي التفكير والمنهج, وتلك مصالح بكلِّ مديَّاتها لا يمكن  إلا أنْ نعدَّها رخيصة بالمطلق أمام حساب حق الحياة..
                                     إنَّ حقَّ الحياة هو أول الحقوق التي ينبغي احترامها وصيانتها وتأمينها والدفاع عنها. ولقد وجدنا التشريعات المدنية والدينية مؤكِّدة على هذه الحقيقة بوصفها في رأس قوائم الواجبات المفروضة على الهيآت الاجتماعية والسياسية... ولقد أشارت شرائع الإنسانية الأولى إلى ذلك ونسجِّل لشرائع السومريين والبابليين كافة احترامها لحق الحياة وعملها على تعميدها وصيانتها  ومثلها أشارت المواثيق الدولية المعاصرة ومنها اتفاقية حقوق الإنسان المعروفة إلى وجوب ضمان حق الحياة  وصيانته من دون تدخلات سلبية فظَّة بهذا الشأن. و وصل الأمر بالدعوات اليوم إلى مسألة إلغاء عقوبة الموت ومصادرة حياة الفرد حتى بعد خطيئته, حيث توضع بدائل لفعل مصادرة الحياة وإزهاق روح إنسان بغير وجه حق, فلا يوجد سبب واحد كافِ ِ للقول بوقف حياة إنسان إلا باستثناءات فردية مخصوصة يتوافق عليها مجموع الناس عندما يخصّ الأمر حياة مجرم إبادة بشرية وما شابه وهي حالات شاذة ليست للقياس على الوجود البشري الإنساني الطبيعي.
                                      وللخلوص إلى فقرة جديدة من محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية, نقول: إنَّه يجب في حياتنا النصّ على حق الحياة بما يكفل ضمانها وحمايتها ووقف كلِّ أفعال الجريمة التي تصادر هذا الحق سواء من فرد لفرد أو لجماعة أو من جماعة  لجماعة أو لفرد .. وأنْ نعمل على وقف مصادرة الحياة بذرائع سطوة الأغلبية على الأقلية أوظلم الأقلية للأغلبية ووقف أعمال العنف والتقتيل من الجماعات والأفراد وإبعاد شبح هذه الظواهر الإجرامية لأي سبب كان كتوافه ما نراه ونشهد عليه اليوم من أمثلة أعمال اغتيال وقتل لباعة بعض أصناف المواد التي تحرّمها فئة دون أخرى وهو ما ينبغي أنْ تضبطه القوانين لا الممارسات الإجرامية المُستنْكَرَة... وبالجملة تكون صيانة حياة الفرد واجب على المجتمع ومؤسساته ولا تهاون أو تهاود فيها.
يتبع الجزء الثاني...؟
 

   محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية
2 - 4
[أنْ يشعرَ الإنسان بقيمتِهِ ودورِهِ في الحياةِ العامة!]

                            متى شعر الإنسان بقيمتِهِ وبصيانة مشاعرِهِ واعتقاداتِهِ وكرامتِهِ الشخصية وجدَ نفسَهُ  تندفع ناشطة في تفعيل إنجازية العمل المشترك مع الآخر وإعلاء شأن هذا البناء التوافقي وصرحِهِ. ومتى ما شعَرَ بكفالة احترامِهِ واحترامِ تصوراتِهِ كان ذلك أدعى لثبات بنيان الوحدة والتكافل والتعاضد.
                            إنَّ هذه الحقيقة تظلُّ أسَّ شروط العمل في ظلِّ الديموقراطية فبغير احترام الآخر وصوتِهِ , لا يمكننا أنْ نزعم إيمانا صادقا بديموقراطية أللهم إلا إذا كانت ادعاءات فارغة القصد من ورائها التبييت للوصول إلى موقع سلطة أو قوة نسود فيها على الآخر بالعنف والإكراه! أما الديموقراطية التي نريد فهي قوة مصداقية ورسوخ ثقة وتبادل اعتراف وسماع تام كامل للصوت الآخر ولرؤيته الحياتية ..
                            وفي حياتنا كثرما تجاوزت القيم اللاديموقراطية السلبية على هذا المبدأ ولطالما شعر الإنسان العراقي (المواطن) بأنَّه بلا قيمة جدية في الحياة فلا رأي له في مسار دولته وعمل مؤسساتها ولا تأثير في منحى سياساتها وتفاصيل برامج توجهاتها ومن ثمَّ لا قيمة لرأي إنسان اُستُلِبَ حقوقه كافة حتى منها حق الحياة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يمكننا تفسير أسباب انهيار دولة كاملة بالترافق مع هزيمة مغتصبيها! إنَّها ليست دولة الإنسان العراقي ولكنَّها رمز ووجه آخر لمن احتقر وازدرى العراقي في وجوده وقيمه..
                             اليوم نحن نبتغي تأسيس دولة تحترم هذا الوجود وتقيم الوزن الحقيقي لقيمِهِ واعتقاداتِهِ ورؤاه. لأنَّ محدِّدات الديموقراطية أولها تبادل الاحترام والثقة بمصداقية فعلية لا ادعاء فيها. وإذ نستخدم كلمة محدِّدات لمفهوم الديموقراطية فبعض ذلك يعود إلى القول بأنَّنا لسنا بصدد (الانفلاشية) والحريات التي تسمح بتبادل الاعتداءات والتجاوزات والتقاطعات وإنّما بصدد ديموقراطية حقيقية؛ نعم هي غير خاضعة لتوصيف يستلبها جوهرها ويفرّغها من معطياتها ومبادئها الأساسية بل هي في الوقت ذاته تندرج في  توصيف موضوعي يفعّلها ويقوّيها ويحميها ..
                      وشعور الفرد بقيمته وبدوره في الحياة العامة يجعله مشاركا فاعلا فيها فمن دون تلك المشاركة الموصَّفة بالفاعلية لا يمكننا القول بصحة الممارسة الديموقراطية .. فالفرد ينجذب إلى فعل يجد فيه نفسه أو يجد فيه اعتبار لدورهِ وهو ينسحب من المقام الذي يتضاءل فيه دوره ومن ثمَّ قيمته.
                        فجزئية العمل الديموقراطي الصادق في وضع التقدير الحقيقي لدور الفرد في الحياة العامة.. وفي تشجيعه على المشاركة بوضعه في خطوط المواجهة الفعلية وليس الاكتفاء بالتنبيه على ما يمكن افتراضا أنْ يلعبَهُ فيما لو شارك أو وُضِعَ هنا أو هناك من مواقع العمل العام. وعلى الدولة الديمواقراطية أنْ تتكفّل بسد النواقص والثغرات المحتملة في أول الطريق بوسائل سلمية وبالإقناع والتفاهم والإرشاد ..
                      وعليه فإنَّ باب الدِّربة والتطوير مهمة ديموقراطية وباب توظيف الطاقات مهما صغر شأن معرفتها مهمة ديموقراطية وباب تقدير وتثمين الإنجازات مهمة ديموقراطية وهي جميعا صورة من إشعار الفرد بقيمته وبأهمية دوره في الحياة العامة وهي جزء من عملية تفعيل كل الطاقات ومشاركة المجموع في بناء الحياة الإنسانية لمجتمعنا العراقي الذي يتلمس اليوم خطاه وسط أدغال من أمراض الأمس التي أهملت بتعمّد أهمية الفرد وقيمة دوره في بناء حياته.. ألمْ يكن الطاغية وأذنابه هم الذين يرسمون وهم الذين يسوقون الناس إلى سوح الواجبات المفروضة على وفق تصوراتهم المريضة؟ ماذا يتغيَّر إنْ لم يشعر المء حقيقة أنَّه معني برسم الأهداف وبتنفيذها والتمتع بخيرات عمله الفاعل؟
                       على أنَّ هذه المسألة إذ تتشكل من عمل دائب طويل وصبر وأناة ينبغي في الوقت نفسه أنْ يكفلها الدستور والقوانين المفسِّرة له وخطط  مؤسسات الدولة الديموقراطية التي نحن بصدد إشادة صرحها. وكفالة ذلك ستكون بالنصِّ عليه في فقرات الدستور ذاته وتوضيح الأمر في التفسيرات القانونية بجعل روح النصِّ هي السلطة العليا التي تتعامل مع قدسية مشاعر الإنسان وإحساسه بقيمته العليا في الحياة العامة لمجتمعه.
                            وممّا يقع في إطار تعزيز شعور الفرد بأهمية دوره ضمان حق العمل وكفالة هذا الحق الواجب بوصفه وسيلة أكيدة للبرهنة على الوجود الشخصي للذات الإنسانية الفردية (ومن ثمَّ الجمعية على مستوى الفرق والجماعات والطوائف والقوى السياسية والاجتماعية) .. وبتوفير حق العمل سيجد المء نفسه أمام خيار الأداء والفعل والمشاركة من جهة وأمام حقيقة دوره المعترف به على أساس أهمية دخول مساهمته جوهريا في عملية البناء العامة .. وتلك آية الديموقراطية ومقصد توظيفها منهجا للحياة الإنسانية المعاصرة.
                                 
 
                       

 

بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية
3   -   4
 [كفالة التعددية وحرية الرأي]

                         بروح تسامح تبدأ محدِّدات العمل في ظل الديموقراطية, ذلك أنَّ الديموقراطية التي تقوم على لغة التواصل والتبادل في الرؤى والأفكار على أساس من الاحترام ,لا يتأتى لها هذا من دون روح التسامح في بعض ما يحصل بين طرفين ممّا هو معتاد في تفاصيل سياقات الحياة الإنسانية اليومية.
                          بمعنى آخر فنحن إذ نعترف للآخر بالوجود وإذ نبادله الاحترام فإنَّنا نقرُّ بالتعددية ومن ثمَّ نتجه للتأسيس لما يكفل هذه التعددية قانونيا أو بشكل أشمل دستوريا.. فالدستور كما ينبغي له أنْ يكون هو تجسيد للواقع وللضوابط التي تتواضع عليها مجموعة من الناس في إقليم أو دولة بعينها. ولأنَّ واقعنا العراقي هو واقع تعددي في حاله القائم وفي تاريخه, وجَبَ تجسيد ذلك دستوريا.
                          فعبر تاريخ وادي الرافدين تعاقبت شعوب وأقوام ومجموعات بشرية على استيطانه وكانت جميعا تأتلف فيما بينها على تلك الخصائص الحضارية المتفتحة التي تحترم حالة التنوع والاختلاف وكان الأساس والجوهر في تعايش الجميع احترام وجود جميع الأطراف من دون انتقاص أو تجاوز أو اعتداء. وسجلت القوانين والدساتير والشرائع العراقية القديمة والوسيطة والحديثة هذه الحقيقة. من دون أنْ نغفل اللمحات الخاطفة للصراعات المفتعلة التي كانت تحصل عبر العشرة آلاف عام من تاريخ حضارتنا, وهي قصيرة بمقياس هذا الامتداد.
                           إنَّ حالة الآخر والتنوع حالة غنية معقدة في العراق, فهي تشكيلة قومية أثنية و دينية وطائفية وتركيبة من الانعكاسات الأيديولوجية والسياسية ومن ثمَّ مجموعة من الرؤى والأفعال والطقوس التي تحتاج إلى عميق تفاعل وكبير رعاية للتوافر على ديمومة وحدة هذا النسيج المعقد. وفي الحقيقة يمتلك العراقيون أرضية راسخة لمثل هذه الوحدة ليس في تاريخهم فحسب بل في حاضرهم أيضا.
                            ويمكن ويجب  دستوريا النصّ  على كفالة حالة التعددية بوصفها قراءة واقعية للحالة العراقية من جهة وبوصفها ركنا جوهريا تنتفي الديموقراطية من دونه.. وتظل لا عرجاء بل ناقصة أو فارغة المحتوى. وممّا يكفل التعددية ويتكامل معها النص على حرية الرأي فقبل التنوع والتعدد لابد من القبول بحرية التفكير وحرية التعبير عن التصور فيما يشجّع على الاجتهاد وعلى الحركة والتطور في ضوء تفاعل المتنوع بتعدديته التي لا تعني إنسانيا التعارض والتقاطع بقدر ما تعني الانسجام والوحدة إذا ما نظرنا إليها من منظار الديموقراطية التي تجسّد هذه الحالة الغنية.
                                 وهكذا نخلص إلى تعزيز الشخصية العراقية عبر تعزيز مكوناتها باحترام خصائص كل فئة وكل مجموعة ولا يقوم احترام بلا مساواة وبلا عدل بين الأطراف كافة كبيرها وصغيرها فكفالة التعددية يلزم لها الأخذ بهذه الحقيقة. وقوة الوحدة في قبول التنوع , فكما في بناء لبنات الجدار كما يقول العراقيون(حلّ وشدّ) أي بشكل متداخل متناسق لتنوعات أطوال مختلفة تزداد بها قوة تماسك بنية الجدار فكذلك تزداد قوة تماسك مجتمعنا بهذه الصفة وبكيفية التعامل معها وتوظيفها في بناء صرح ديموقراطيتنا.
                                      فبمحو احترام التنوع والتعددية لا ينسجم المجتمع ولكنه يضعف لحالة من التنافر مما سيتسبب فيه حال التجاوز على التعددية وعلى خصوصية المكونات, في وقت يكون العكس في حال اعتنينا بالخصوصيات وفعّلنا وجودها بالكيفية الإيجابية التي تعزِّز التلاقي والتعاضد.
                                       والنص الدستوري على التعددية بكل معطياتها إذا ما تقدّم إلى تفاصيل القوانين التطبيقية في مناحي الحياة سيصادف تعزيزا وتقوية؛ وبالذات في حال حرية الراي التي تبدأ بحرية الكلمة وحرية التعبير وحرية النشر وحرية الاحتفال بالطقوس والمعتقدات والتصورات... إنَّها جميعا واقعة في إطار هذا المفهوم على تنوع مفرداته.
                                      وللرأي الآخر في ذواتنا حق الانصات والاستماع وحق التلقي الموضوعي الهادئ وحق الاعتراف له باستخدام كل الوسائل المتاحة لجميع الأطراف بالتساوي والعدل والقسطاس .. وإلا انتفت أو انتقصت حالة تحقق التعددية القائمة على احترام الرأي الحر المميّز بخصوصيته وبسماته المتفردة لكنها بالتأكيد الممتلكة للمشترك مع الآخر الإنساني..
                                      ومن الصحيح أيضا ذاك الرأي القائل بأنَّ المرء منّا يدافع ويضحي من أجل أن يوفر للآخر الضد حق إيصال رؤيته إلى المجموعة ذاتها التي أصل برؤيتي إليها, وهذا أبعد بأشواط كبيرة عن حالة التنازل البسيط بغض النظر عن كيف يصل الآخر إلى الناس, فهذه حالة ناقصة وتمامها هو بكفالة متساوية للاتصال بالناس وعليه فمعيب ذاك الرأي الذي يتحدثون عنه بكونه تنويري متفتح لأنَّه قال بأنَّه يريد دولة إسلامية ديموقراطية ودليل ديموقراطيته سماحه للشيوعي فيها بالوجود على شرط ألا يشكل حزبا وألا يصدر جريدة وألا يستخدم جهازا إعلاميا وألا يجتمع إلى الناس مبشرا برأيه : ولسنا ندري إذا كان ما تبقى يكفي ليتنفس ذاك الأسير في بيته هواء لبقائه حيا بعد كل تلك الأحمال والشروط ولا نتساءل بكل تأكيد عن الديموقراطية [لأنًَّها موجودة طبعا كما يرى أي عاقل؟!!]..
                                 إنَّ التعددية وحرية الرأي وكفالتهما هي إذن بديهة من بديهيات الديموقراطية وأساسها المتين ومن دونها لا وجود للديموقراطية.. ولا داعي للجدل البيزنطي وللسفسطة في أمر كهذا وللتلاعب بالألفاظ فالديموقراطية مبدأ حياة اليوم .. ومكوّناتها وعناصرها مما يلزم تحقيقه وحميايته وصيانته ليعيش الناس بسلام.      

 

 

بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية
4 - 4
[ضمان حقوق العيش الإنساني]

                                   تقول الأغنية المأثورة عن مناضل في سبيل وطنه والحياة الإنسانية الحرة الكريمة:  قطعوا يديه وظلَّ يقاوم, قطعوا لسانه وظلَّ يقاوم, قطعوا رجليه وظلَّ يقاوم حتى بنَظَرَاتِهِ... ولكن كيف يشارك إنسان مجتمَعَهُ وبأيّ نوعِ مشاركةِ ِ بغير (صحة)؟ فإذا كان المرء عليلاَ َ فبـِمَ ينشغل أبصحتِهِ أم بعلاقتِهِ مع الآخر؟ وكيف له المشاركة بوجودِ ِ معطوب؟ إنَّ صحة الإنسان تظلّ عاملا مهماَ َ وأساسياَ َ تنبني في ضوئه قيم كثيرة إذ سيكون من دواعي استجابة المجتمع للعناية الصحية ولرعاية صحة الفرد ردود فعل إيجابية من جهة بناء الموقف الأدبي تجاه المشاركة مع المجتمع في وجوده المدني المؤسساتي. في حين سيولِّد إهمالها العكس. هذا فضلا عن حقيقة توافر الصحة مسألة حيوية وجوهرية للإنسان الفرد لكي يكون ناشطاَ َ عاملاَ َ..
                                   والمرض لا يصيب البدن وحدَه فالأميّة الأبجدية والحضارية مرض خطير آخر يمنع تلك المشاركة ومن ثمَّ فالتعليم حقّ لأنَّهُ دواء هذا المرض المعطِّل. فمن أوليَّات نتائج الافتقار للتعليم ما نراه من اعتزال الإنسان الفرد (المواطن) الحياة العامة .. فكلَّما قلَّ تعليمه وضعف وعيه وهزل ما يملكه من فكر ورؤى معرفية ابتعد عن محيطه وتعمَّق اعتزاله إياه. إذ كثرما نسمع عبارة [شعلينة لازم] أو ما علاقتنا نحن بالأمر طالما كان الأمر اجتماعيا عاما لايتصل بمراد الفرد مباشرة؟! وهكذا افتراض يخصّ طبيعة مشاركة المرء في الحياة العامة يأتي على وفق حقيقة توافر التعليم أو انعدامه.
                                     ولكنَّ الأمر لا يقف عند دواعي التفعيل الاجتماعي السياسي بل يكون من أسباب أهمية حق التعليم لإنسان هذا الزمن حقّهُ بالتمتع بجماليات العصر والاستجابة لحاجات الإنسان المعاصرة ومن ذلك أنَّه لا يستطيع التمتع بمشاهدة أو قراءة لمسرحية أو فلم على سبيل المثال ويتمتع بجماليات تلك المشاهدة كما تتمتع بها العين القارئة المتعلمة المثقفة إذ سيفتقد إلى كثير من أدوات سدِّ تلك الحاجة الروحية وهكذا يظلّ محاصرا عن مشاركة الحاجات الثقافية الروحية للعصر معزولا عنها وهو ما يمثل انتقاصا لحقِّه في العيش الإنساني. ومن دون تلك التهيِئة المعرفية لا مشاركة جدية في بناء المجتمع المعاصر ولا استجابة للحاجات الروحية للإنسان ولا لامتلاكه أدوات زمنِهِ, وللتعليم دواعي عدة أخرى لكنَّه جملة وتفصيلا يظلّ حقاَ َ إنسانياَ َ جوهريا...
                                       وبعد ذلك فأنّى للإنسان حتى لو امتلك الصحة والتعليم المشاركة الجادة والحيوية إنْ لمْ يكن في أُلفة مع وجوده الإنساني .. وأول ألفة الإنسان ألفتِهِ المكانية؛ فبعد أحضان والديه ليس غير ألفة البيت .. فبلا (سكن) لا يكون للفرد عيش إنساني وسيكون هذا سببا في النفور مع المحيط بقدر ما يكون نفور ذاك الإنسان مع موضع سكنه.. ولذا كان البيت حقا إنسانيا ثابتا لا يمكن التلكؤ في الاستجابة له فهو أولوية أخرى من أولويات المحدِّدة للوجود الاجتماعي للإنسان...
                                       ويمكننا القول في هذه الثلاثية من الحقوق إنَّها ثلاثية ضمان حقوق العيش الإنساني الكريم . ومثلما لاحظنا فإنَّها تؤثر إيجابا أو سلبا بمقدار توافرها أو انعدامها في حياة الفرد.. وسيكون من دواعي جذب الإنسان المواطن إلى المساهمة في وجوده الجمعي بنائيا والتفاعل مع الآخر والخروج من عزلته أو من أثرة الذات بشكل مرضي يتقاطع مع الآخر ويكون على حسابه وهو وضع يتعارض مع طبيعة الوجود الاجتماعي السليم...
                                        والديموقراطية التي نتحدث عن محدِّداتها تشترط أرضية اللقاء مع الآخر وبالحتم مثلما استقرأنا الأمر حيث افتقاد الإنسان لضمان حقوق العيش الكريم سيجعله في تعارض مع هذه المحدِّدات ومن ثمَّ مع معطيات الديموقراطية..
فالحياة الإنسانية حالة من التكامل والتداخل البنّاء والتفاعل ولا يمكننا الفصل بين مفرداتها وهو ما يجعلنا نفكر في قراءة محدِّدات الديموقراطية بوصفها أسلوبا حياتيا يعتمد المشاركة الجمعية وهذه الأخيرة تحتاج أو تتطلب فروض منها حقوق العيش الإنساني التي تناولناها في هذه القراءة ..
                                          وللنظام الذي يفكر بكمال الديموقراطية أنْ يبحث في سبل توفير هذه الحقوق بوصفها أولوية قبل مطالبة الإنسان المواطن اتخاذ الديموقراطية منهجا مشتركا لحياتنا المشتركة وقبل مطالبته بترك عبارة [ الشعلينة لازم] التي تعني العزلة والسلبية بخلاف ما تراه الحياة من ضرورة اللقاء والإيجابية في تعاضد البشر بمواجهة المهام الاجتماعية السياسية الاقتصادية...
                                             وللقارئ أنْ يسائل هذه المعالجة عن مناحي أخرى ولكنَّه سيجد مظانَهُ بين ثنايا السطور وعنده أيضا في مشاركة هذا التناول في استيضاح معالم يومنا وغدنا القريب في عراق ينهض على أكتاف بيئة امتلأت خرابا وتدميرا فلْنسعَ إلى تحقيق شروط وجودنا (العراقي) الإنساني عبر بناء الذات وتجاوز ما يعيقها في طريق الحياة الإنسانية الحرة الكريمة.. وليكنْ امتلاك التوافق على محدِّدات مشتركة مقبولة للجميع طريقنا للأمن والسلام والعيش الإنساني الذي أُجهِدْنا في مسيرتنا إليه..



#تيسير_عبدالجبار_الآلوسي (هاشتاغ)       Tayseer_A._Al_Alousi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَنْ يكتب الدستور؟
- فَلْنَجْمَعْ ما يكتبُهُ العراقيون بشأنِ الدستور
- علمانية الدولة والدستور لا ثيوقراطيتهما
- المرأةُ العراقيةُ مطلعَ القرنِ الحادي والعشرين ومحاولات فرضِ ...


المزيد.....




- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تيسير عبدالجبار الآلوسي - بعض محدِّدات العمل في ظلِّ الديموقراطية 1- 2 - 3 - 4