أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة















المزيد.....

قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2064 - 2007 / 10 / 10 - 11:10
المحور: الادب والفن
    


سحابة في شكل طائر غريب، وأغنية آتية من وراء نافذة ما، من جهاز مذياع، أو جهاز تسجيل. وظل أسمر يمتد من جهة بناية المحطة، يغمر السكك المتداخلة، ويصل أسفل جذوع الكالبتوس.. أشجار الكالبتوس عملاقة، عتيقة، والأغنية قديمة هادئة، مشربة بالشجن.. يتحسس الشيء الصلب تحت حزامه، ويدخن.. تقول له البنت أن القطار سيتأخر كالعادة.. يقول؛ لا يهم، لا عمل آخر لديه ينجزه، ولا مكان آخر يريد الذهاب إليه، إنه ينتظر شخصاً ما.. يُخرج من جيبه صورة وينظر إليها ملياً.. تضحك البنت وتقول؛ حبيبتك؟ يهز رأسه من غير أن تفهم البنت إن كانت إجابته بالإيجاب أو بالسلب.
أطال النظر إلى الجهة الأخرى، إلى الشبابيك الخضر وساعة الحائط بعقاربها الخشبية. فوجئ بالبنت تسأله إنْ كان يرغب بقطعة علك أو كأس عصير. قال؛ إنه يريد علبة سجائر.
ـ من أي نوع؟
ـ أي نوع.
ناولته علبة، لم يستطع قراءة حروفها الأجنبية. وجد صعوبة في فتحها. ظهر وكأن أصابعه ترتعش، وأخيراً أخرج سيجارة انبعجت قليلاً، وأشعلها. بعد المصة الأولى استغرق في سعال، وقال؛ إنها حادة.
ـ أنت لست مدخناً جيداً.
أحس بالامتعاض.. فكر أن يسمعها كلاماً يردعها لكنه لم يفعل.. لاحت في زاوية فمه تعبير مربك، شبه ابتسامة، أو خط سخرية ملتو، وتحسس جانب حزامه.. التقت عيناه بعينيها.. كرتان بنيتان صغيرتان رأى نفسه فيهما في موقف مفضوح، وبدا كما لو أنه يتساءل إنْ كانت ظنت أمراً ما، والبنت لم تقل كلمة.. أعطت صبياً زجاجة كولا، وأخذت ثمنها من غير أن تطرف نظرها عنه..
دعك عينيه كما لو أنه أحس بحرقة، لمحت ظل دمعة على بؤبؤتيه. طلب منديلاً ورقياً، قالت أن عليه أن يشتري علبة بألف دينار، قال أنه ليس بحاجة إلى علبة كبيرة، يكفيه منديل واحد، تكفيه علبة صغيرة، حسناً، واشترى منها علبة كبيرة. أخرج منديلاً ومسح عينيه. سألت إن كان بإمكانها أخذ منديل، ابتسم ورفع رأسه، ثم نظر إليها وقال؛ أنت شيطانة، ثم هز رأسه علامة الموافقة. ضحكت واستلت منديلين. ضحك الشاب وقال؛ دعيها معك، كلما احتجت واحداً لا تترددي.
لعابه في فمه لزج ومر.. كأس عصير سترويه وتنعشه وتجعل طعم الدخان أفضل.. قالت له؛ حسابك الآن 1750 ديناراً.. أخرج رزمة كبيرة واستل ورقة من فئة العشرة آلاف دينار.
ـ اعطني فئة أصغر.
ـ ليس عندي، خذيها وارجعي لي الباقي متى تشائين.
ـ إلى متى ستبقى هنا.
ـ حتى الليل، أو حتى يوم غد.
ـ إذن أنت لست مسافراً.
ـ أنتظر احدهم.
ـ متى سيأتي.
ـ لا أدري، اليوم أو غداً، أو في أي يوم.
ـ وأين ستنام؟
ـ لن أنام، ربما على مقعد في قاعة الانتظار.
* * *
تقول البنت؛ لا تقترب من الأشجار في الليل..
ـ لماذا؟
ـ في كل شجرة عائلة من الجن.
ـ خرافات.
ـ أنا رأيتها.
ـ رأيت ماذا؟.
ـ لا شيء.. الرجل.
ـ أي رجل؟
ـ الذي في الصورة.
ـ أية صورة.
ـ لا عليك.
يفكر إن كانت البنت تقصد الصورة التي في جيبه.. يسألها، فتقول؛ لا، لم أر تلك الصورة التي في جيبك.
ـ إذن عن أية صورة تتحدثين؟
ـ هكذا ليس عن صورة محددة، كنت أتكلم فقط.
يخطر له إن البنت ربما تحدس شيئاً ما، أو قد تكون مصابة بمس. تقول؛ أتظنني مجنونة.
ـ لا.
* * *
ـ سيأتي أبي بعد قليل.
ـ كي يحل محلك.
ـ لا، أبي هو الرجل الذي يحمل الفوانيس.
ـ إذن هو يعمل في المحطة.
ـ لا، هو يحمل الفوانيس.
ـ لماذا؟
ـ كي يرشد القطارات في الليل.
ـ أبوك يحوّل السكك كي لا تخطئ القطارات.
ـ لا، هو يرشدها بالفوانيس.
ضحك، ضحكته باردة تنم عن حيرة. قال؛ كي لا يضللها الجن..
ـ الجن؟..
ضحكت، ضحكتها ذات رنين طفولي.
ـ أمزح معك.
تضع في فمها قطعة علك.
ـ عمي هو الذي سيأتي، أبي مات في الحرب.
ـ عمك هو الذي يحمل الفوانيس.
ـ لا، كي يحل محلي.
ـ والرجل الذي يحمل الفوانيس؟
ـ ليس هناك رجل يحمل الفوانيس.
تدوّر قطعة العلك في فمها.. في عينيها بريق سرور.. تصنع من علكها نفاخة كبيرة، تنفجر وتلتصق منه جذاذة صغيرة على طرف فمها.. تطقطق بالعلك وهي تنظر إليه.
ـ ماذا تحت حزامك؟
ـ لا شيء..
ـ مسدس؟
ـ أبداً، أي مسدس؟
ـ أتنتظر رجلاً؟.
ـ نعم.
ـ ماذا تريد منه؟
ـ أنت تسألين كثيراً..
ـ أنت لا تعرفه..
ـ ماذا؟.
ـ الصورة، صورة الرجل في جيبك..
ـ ما لها؟.
ـ هو يشبه زوج أمي..
ـ من؟.
ـ الرجل الذي في الصورة.
* * *
شعر بالجوع، اشترى من البنت علبة بسكويت وزجاجة ميرندا، قالت له؛ أقول الجد، كان هنا رجل يحمل الفوانيس، يرشد القطارات، لم تكن القطارات بحاجة إليه إلاّ أنه كان يحملها في كل ليلة، فوانيس بثلاثة ألوان، اخضر وأصفر وأحمر، جاء رجال ملثمون وقتلوه، كان مجنوناً، ويشتم طوال الوقت، لكن لا أحد يعرف أولئك الملثمين الذين قتلوه، حتى هو لم يكن يعرفهم.
ـ وما أدراك؟
ـ لأنه لم يكن يعرف أي أحد، كان مجنوناً، من أين جاء ولماذا، وإنْ كان مجنوناً حقاً، لا أحد يدري.. كان يرتدي سترة زرقاء مغبرة، دائماً كان متسخ البدن والملابس وبيده ثلاثة فوانيس، يهزها الواحد بعد الآخر حين يقبل القطار، لكن لا القطار ولا أي أحد كان يأبه به، كان منفوش الشعر تفوح منه رائحة تمور محمضة، أو كما يقولون رائحة خمور رديئة، هم جاؤوا وقتلوه ومضوا.
ـ هل رأيتهم؟
ـ أنا؟ لا، لكن جميع من كانوا هنا شاهدوهم.
ـ هل تعرفين أحداً شاهدهم حقاً؟.
ـ لا أعرف، لكن الآخرين يتكلمون.
ـ من هم الآخرون؟.
ـ عمي، أقصد زوج أمي، أمي..
ـ شاهداهم.
ـ لا، أحدهم حكى لهما.
ـ هكذا.
ـ والله العظيم.
* * *
تدير عينيها في الأرجاء، يقرأ فيهما قلقاً راسخاً، يسألها فيما إذا كانت تخاف الجن حقاً، فترد؛ أي جن يا هذا، أنا خائفة منهم؟.
ـ من هم؟.
ـ الرجال.
ـ رجال؟.
ـ أظنهم رجالاً، هم ملثمون.
ـ ملثمون؟.
ـ أجل، يأتون مع الغروب، أو ليلاً.
ـ ماذا يريدون؟.
ـ يقتلون.
ـ يقتلون من؟.
ـ الغرباء، ليس بالضبط .. من يجدونه أمامهم.
يضيّق ما بين أجفانه، يبدو وكأنه لا يصدق ما تقول، أو لا يرغب أن يصدق.
ـ هل أنت خائف، أليس معك مسدس؟.
ـ أي مسدس؟
تكركر البنت وتطقطق بالعلك الذي في فمها.
ـ أنت كذابة.
ـ أنت أيضاً كذاب، كذبت بشأن الصورة، ثم بشأن المسدس.
ـ أنا لم أكذب.
ـ كلنا نكذب، كلنا كذابون.
ـ أنت شيطانة صغيرة.
ـ الشيطان من يحمل صورة في جيبه ومسدساً تحت حزامه وينكر.
يتركها ويذهب إلى الجهة الأخرى، الساعة هي السادسة، ساعة الغروب، تهب نسمة باردة، تعتريه قشعريرة، يخطر له أنه ربما كان خائفاً، أو شيئاً من هذا، يرفع سحّاب قمصلته الجلدية، يستل سيجارة ويشرع بالتدخين، وينظر باتجاه البنت الواقفة خلف عربتها، البنت والعربة اختفتا، متى غادرت، هو لم يستغرق في عبوره السكك سوى دقيقة، أكان يمشي في اتجاه حيث لا يراها من موقعه هذا. يجيل النظر، يفاجأ بأنه كان ينظر في الاتجاه الخاطئ، فالبنت مع عربتها هناك، أتكون غيرت مكانها لتضلله، لتضحك عليه؟.
* * *
ـ قالت له؛ أنت رجل طيب لكن المرء يضطر أحياناً لفعل ما لا يرغب.
ـ ماذا؟.
ـ من أجل النقود.
ـ ماذا يفعل من أجل النقود؟.
ـ يسرق، يقتل مثلاً.
ـ ماذا تقصدين؟.
ـ لا أقصد شيئاً، أقول قد يتحول الطيب إلى شرير ويقتل من أجل النقود.
ـ من الذي يقتل؟
ـ أي شخص طيب يصير شريراً.
ـ من؟
ـ أي شخص، أنا أتكلم، هو كلام.
أمسك بحافة العربة وضغط على الخشب الخشن بقوة وسأل؛
ـ كم عمرك؟ أنت أكبر مما يشي به مظهرك، أتراك واحدة من الجن؟.
ـ أنا جن؟
وضحكت، قهقهت، قهقهتها موغلة في الطفولة، قهقهت مثل طفلة عابثة.
ـ سأخبرك بشيء، بسر لا تحكيه لأحد.
ـ كذبة أخرى.
ـ أنا لا أكذب، هذه ليست كذبة، اسمع، ذات مرة جاء رجل وسأل عن امرأة، قال هو يريد امرأة.
مطت شفتيها، في عينيها خبث طفولي مرح.
ـ كان يريد أية امرأة. أية امرأة من اجل فعل ذلك الشيء. وثم؟. أشّرتُ إلى خالتي.
ـ أمك، أم خالتك؟.
ـ خالتي، زوجة أبي، فذهب إليها وكلمها، لن تصدق كيف صفعته، وجاء عمي، أقصد أبي وقتله، ضربه على رأسه بعصا فوقع على حديد السكة وتهشم رأسه.. العصا وحديد السكة، تصور، مات، وحضرت الشرطة ولم تعرف الجاني حتى هذه الساعة.
ـ كذابة.
ـ والله.
ـ كذابة.
ضحكت مرة أخرى.
ـ أنت لا تصدق أي شيء.
* * *
ـ هل تنتظر القطار حقاً؟
ـ وماذا تعتقدين أنت؟
ـ أنت لا تنتظر القطار وإنما الرجل.
ـ أي رجل؟.
ـ تلك الصورة.
ـ أية صورة؟.
ـ التي في جيبك.
ـ ما لها؟.
ـ هي صورة الرجل الذي سيأتي على دراجته عند وصول القطار.
ـ زوج أمك؟.
فطن أنه أخطأ، زل لسانه، أو هكذا اعتقدت.. قال وهي ترسم ظل ابتسامة ساخرة.
ـ لا، هو شخص آخر.
ـ لكنها صورة امرأة.
ـ تكذب. ارني إياها.
ـ أنت الكذابة.
ـ أقول لك شيئاً، ها، الرجل يعتمر كوفية، أليس كذلك، سيأتي على دراجة حين يصل القطار، لن يأتي بالقطار.
* * *
أخبرته أنها تكره القطارات، أو إنها لا تحبه ببساطة، أو إنها لا تدري على وجه اليقين إن كانت تحبها أو لا تحبها، لأن المسافرين النازلين والصاعدين يشترون منها فلا بد إذن أن تأتي القطارات وترحل فالله جعل رزقها في حركة القطارات، هي تفكر أن تصعد قطاراً يوماً ما وتمضي، غير أنها لا ترى إلى أين، تفكر أن تتيه في هذه الدنيا، لن تموت جوعاً أشياء كثيرة بإمكانها عملها، ليس ذلك العمل الذي يفكر به في رأسه الخبيث. يخبرها أنه لا يفكر بشيء.
ـ أمي صعدت قطاراً قبل سنين ولم أرها منذ ذلك الحين.
تقول له؛
ـ لم يأت بها، من ثم، أي قطار، انتظرتها حتى بت أكره المحطة والقطارات، لم يعلمني أحد لأي سبب هربت، ربما لم تهرب، ربما ماتت لكنهم قالوا إنها امرأة سيئة هربت، هل ماتت ودفنت في مكان بعيد؟ هل ما تزال عائشة في مكان ما، ماذا تفعل، لم يعد يهمني، لا أبالي، هي حرة وأنا حرة. هل خطفوها، فهي كانت جميلة، لم تصعد أيما امرأة في قطار أو تهبط مذ وجدت المحطة تضاهيها جمالاً، هي رحلت وعافتني هنا، وحدي، مع زوجها القاسي، تزوجته بعد أن دهس القطار زوجها وبقيت يتيمة..
ـ قلتِ إنه مات في الحرب..
ـ لا، في زمن الحرب..
ـ أي حرب؟
ـ كنت صغيرة، قد تكون الحرب الأولى.
ـ أنت تقولين أكاذيب.
ـ هذه مشكلتك، أنْ تصدق أو لا تصدق.
* * *
أقبلت امرأة ضامرة بوجه شبه محروق، أنفها مدبب وشفتاها دقيقتان، نظرت إلى الشاب بارتياب وقالت شيئاً هامساً للبنت، ردت البنت بهمس أيضاً وهي تنظر إليه، ثم أعطت المرأة النقود التي معها، وتذكرت أن الشاب ما يزال يطلب بقية العشرة آلاف دينار، جعلتا تحسبان النقود وفي النهاية أعطتا الشاب ما يطلب.
والمرأة تبتعد صاحت البنت؛
ـ ماما، متى سيأتي أبي؟
ـ كالعادة، حين يصل القطار.
ولمّا توارت المرأة، قال؛
ـ كنت تكذبين إذن، هذه أمك.
ـ ليست أمي، هي زوجة زوج أمي.
ـ تنادينها أمي.
ـ وبم تريدني أن أناديها.
ـ خالتي، عمتي.
ـ أمي أحلى.
ـ أتحبينها؟.
ـ هي لا تحبني.
ـ وأنت؟
ـ هل تحب أنت أمك؟
ـ أسألكِ.
ـ أسألكَ.
ـ أنت ثرثارة.
ـ أنت فضولي.
عاود التدخين، نفث الدخان إلى أعلى، مشى على مهل، وقف على حديد السكة وقفز وكأنه يريد الوقوف على السكة الموازية وكاد يسقط، استكان مستوفزاً، كلمات الأغنية التي سمعها قبل ساعتين تتناهى الآن أصفى، تهيأ له أن أحدهم يغني ولا مذياع هناك، سأل البنت، أصاخت البنت السمع وأخبرته أنها لا تسمع شيئاً.
ـ لكن كلمات الأغنية واضحة.
ـ لا توجد أغنية، لا يوجد مغن، الأغنية في رأسك.
* * *
لا شيء يكسر ـ لا بقية الهذر المسموع بين البشر القليلين ولا المصابيح الشاحبة ـ الغلالة الغامضة الموحشة لمساء المحطة. يسير الشاب بتؤدة نحو نهاية صف أشجار الكالبتوس حتى لا تكاد تراه البنت ويعود إلى حيث البنت وعربتها..
ـ تأخر القطار.
ـ أكثر من أي يوم.
ـ ترى لماذا؟.
ـ يبدو انك منحوس الطالع، ولدتك أمك في يوم مغبر.
ـ كلامك أكبر من سنك..
تنشغل البنت مع شيخ يبتاع ثلاث سجائر مفردة، يُشعل واحدة ويمضي. وإلى الجهة المعاكسة يسير الشاب من غير أن ينطق بحرف آخر.
نجوم يختلج ضوؤها الواهن.. أشواك في طريقه يدوسها، نسمة رخية تهب، توخز عينه، لعلها ذرة رمل دخلت تحت جفنه، أو حشرة صغيرة طائرة.. يفرك عينه، تتبلل سبابته بماء دمعة. هذه الصبية شوشت ذهنه، زادته تشويشاً بالأحرى.. يقف في مواجهة القوس المظلم حيث تختفي التلال، ولا نقطة ضوء ثمة.. ينزل سحّاب بنطاله، يبول واقفاً. أصابعه تتبلل، لماذا لم يحمل معه بضعة مناديل من علبته. تلك الصبية دوخته بأكاذيبها. أتراها كانت تكذب طوال الوقت، من يدري؟. كيف له أن يدري؟. يمسك بحصاة، يمسح بها أصابعه المبللة ويرميها بقوة، يمشي خطوات قليلة أخرى باتجاه قوس الظلمة. يسمع صوت عواء بعيد لا يقدر على تمييز ما الذي أطلقه، لعله عواء حيوان بري أو قطار بعيد. ما يخشاه هو أن يصل القطار ولا يكون هو على الرصيف في اللحظة الملائمة. لا يعرف ما الذي يمكنه فعله عندئذ، عليه أن لا يدع أمراً مثل هذا يحصل. يستدير راجعاً، تطالعه أضواء المحطة ومن ورائها البلدة، البلدة التي لن يدخلها.
* * *
رجع، وكانت البنت وحدها، نوهت له إن كان بحاجة إلى منديل الآن. قال؛ نعم. أخذ منديلين ومسح عينه الدامعة، مسح العين الثانية، ومن ثم أنفه وطرف فمه. ألقى بالمنديل المستعمل بين القضبان ودس الآخر في جيبه.
قالت البنت؛ ستقفز إلى القطار في اللحظة التي تشرع بالمغادرة بعد أن تكون أنهيت ما عليك، ما خططت له. وقبل أن يتنبه أحد تكون أنت في واحدة من العربات. وقبل أن يصل القطار المحطة التالية ستقفز، هذه هي الخطة، تعرف أين تقفز وكيف.. تدرّبت على هذا مراراً.. إنها مهمتك، وعليك إنجازها، ستقنع نفسك، إنها مهمتك الأولى والأخيرة، وبعد ذلك ستترك كل شيء وتغادر. أليس هذا تفكيرك.
الشاب يبحلق في وجهها؛
ـ يا لهذا الخيال، أتراك في الأربعين، هل أنت قزمة وتموهين عليّ؟.
لا تكترث لما يقول، تردف؛
ـ أنت تفكر؛ ما الذي لك هنا، لا شيء في الواقع. لا إشارة لقطار سيصل المحطة. لا إشارة لأي قطار. يبدو أن القطار لن يأتي الليلة، لعل خللاً أصابه، هذه علامة سيئة. فأل سيء.
* * *
منتصف الليل، ومع وصول القطار متأخراً عن موعده أربع ساعات، قيل أن عابري السبيل في المحطة سمعوا صوت إطلاق رصاص، أو ما يشبه ذلك.
في الصباح حكى بعضهم عن رجال ملثمين نزلوا من القطار وقتلوا شاباً يحمل مسدساً وصورة رجل يشبه والد البنت البائعة، صاحبة العربة. وحكى بعض آخر عن شاب، يحمل مسدساً وصورة، قتل رجلاً هو زوج أم البنت البائعة. وحكى بعض ثالث عن رجل وسخ الثياب أشعث اللحية، يحمل ثلاثة فوانيس، أحمر وأصفر وأخضر، عاجله شاب كان ينتظر منذ آذان العصر بثلاث طلقات مسدس كان يخبئه تحت قميصه وصعد القطار الذي بدأ يتحرك. وأخبرت البنت أحدهم أنها باعت للشاب سجائر وعلبة منديل وزجاجة ميرندا ورأته يطلق النار على رجل أقبل من جهة المدينة على دراجة هوائية يعتمر كوفية حمراء، أو بدا كذلك في العتمة، صوّب الشاب مسدسه نحوه وأطلق عدة رصاصات، رصاصة واحدة منها استقرت في عنق الرجل الذي بقيت دراجته تسير بقوة تعجيلها أمتاراً قليلة قبل أن تنقلب ويطيح الرجل المقتول، فيما راح القاتل يجري باتجاه الصحراء.
ـ والجثة، ماذا حصل للجثة؟
ـ ها، الجثة؟ جاء رجلان ووضعاها في سيارة وانطلقا.
قالت البنت للشرطة الذين حاصروها بأسئلتهم؛ هراء، لم يمت أحد، هذه القصة مختلقة.
ـ والشاب؟
ـ الشاب؟ آه، الشاب، صعد القطار، لعله لم يصعد، كان ينتظر، وما أدراني من كان ينتظر.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعة العالم
- -قل لي كم مضى على رحيل القطار- فضح لخطايا التمييز العنصري
- في التعبير عن الحب
- -البيت الصامت- رواية أجيال وآمال ضائعة
- -صورة عتيقة-: رواية شخصيات استثنائية
- حكم الضمير
- مأزق المثقفين: رؤية في الحالة العراقية
- في ( بذور سحرية ): نايبول يكمل مسار ( نصف حياة )
- منتخبنا الوطني، لا الطائفي
- العدالة أولاً
- سحر السرد
- حدود العراقي
- في مديح الشعراء الموتى: أديب أبو نوار.. وداعاً
- المثقف الآن
- أبيض وأسود
- البانتوميم نصاً أدبياً: محاولات صباح الأنباري
- ابنة الحظ لإيزابيل الليندي؛ رواية حب ونهوض مدينة
- تحوّل الاهتمامات
- أنا وحماري لخوان رامون خيمينث: بلاتيرو في العالم
- من لا يتغير؟


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة