أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - نادر كاظم - معضلة الولاء في الدولة الحديثة















المزيد.....



معضلة الولاء في الدولة الحديثة


نادر كاظم

الحوار المتمدن-العدد: 2058 - 2007 / 10 / 4 - 12:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    


- 1 -

لكل إنسان في العصر الحديث ولاءات متعددة، دينية أو مذهبية أو قومية أو قبيلة أو جهوية أو أيديولوجية، إلا أن نشوء الدولة الحديثة قد فرض على هذا الإنسان أن يلقي بهذه الولاءات وراء ظهره ليتصدّر ولاء غالب جديد اسمه الولاء الوطني للدولة. يذهب البعض إلى أن تقطيع هذه الولاءات المتعددة شرط أساسي لنشوء الولاء الوطني الموحد، في حين يتصوّر آخرون أن هذا أشبه بمن يطلب من إنسان أن يقطع رجله اليمنى ليتسنى له الاحتفاظ برجله اليسرى، والحال أنه من الأفضل لهذا الإنسان أن يحتفظ بكلتا رجليه، وأن يسير بفضل هذا باتزان وبصورة مستقيمة.

إلا أن الثابت أن المعضلة لا تكمن في تعدد الولاءات داخل الدولة الواحدة، بل في وجود ولاءات قوية وغالبة وتمتلك من القوة ما يجعلها قادرة على منافسة الدولة في ولاءات مواطنيها، فبدل أن يخضع المواطن لقانون تفرضه الدولة، إذا به يخضع لقانون أو عرف تسنه القبيلة أو الطائفة أو الجماعة الإثنية أو اتحاد العمال أو غيرها. هنا بالتحديد تكمن معضلة الولاء في الدولة الحديثة.

ومثل كل الدول، فإن الدولة حين نشأت في البحرين احتاجت إلى نوع جديد من الولاء، إلا أن هذه الحاجة بقيت كامنة طوال فترة الحماية البريطانية، وحين جاء الاستقلال في العام 1971 جرى تحفيز هذه الحاجة من أجل تأمين نوع من التضامن الجماعي الذي يحمي كيان الدولة الجديدة بعد انسحاب بريطانيا من الخليج. والمفارقة أن تحفيز هذه الحاجة لم يؤمِّن هذا التضامن المطلوب، وانتهى، بدل ذلك، إلى زعزعة الاستقرار وتنشيط علاقات متوترة بين الجماعات والفاعلين السياسيين والاجتماعيين في البحرين، كما كانت له تداعيات سلبية على بنية "الحقل السياسي" برمته. وفي هذا السياق الأخير جرى تنشيط تلك المتاجرة بالولاء حيث صار الولاء سلعة معروضة قابلة للبيع والشراء، وأصبح الولاء هو المقابل الذي ينبغي أن يدفع من أجل التحصّل على منافع وامتيازات خاصة خارج صيغة التعاقد الدستوري. وكانت عاقبة هذا التسليع للولاء أنه جرى تحول جماعات بأسرها إلى "جماعات وظيفية متحوسلة" لا قيمة لها إلا بما تؤديه من وظيفة "بيع الولاء"، وصار العضو في هذه الجماعات "إنساناً ذا بعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته" ، وفي حالتنا يكون الولاء هو الوظيفة المنوطة بالعضو الموالي. ومما ساعد على ترسخ هذه الطبائع هو تركّز أبناء هذه الجماعات في وظائف الأمن والدفاع، وهي عادة وظائف تتناسب مع أعضاء الجماعات الوظيفية .

تعرّف الوطنية بأنها "حالة وجدانية" تعبّر عن نفسها من خلال مظاهر الانتماء إلى الوطن وترابه وسيادته، وعادة ما تكون هذه الحالة الوجدانية محاطة بهالة من التقديس للوطن. والتقديس أبعد ما يكون عن المصالح والمآرب الانتهازية. إلا أن ظهور الموالاة يعني أن التقديس انتهى زمنه، وحلّ التسليع محله. وفي التسليع تعطى للولاء قيمة تهبط وتعلو بحسب الظروف ومتطلبات العرض والطلب. وفي حال صار الولاء ذا قيمة عالية فإنه يكون "من مصلحة الفرد أن يظهر مشاعر وطنية أعلى من حجمها الطبيعي" ؛ وذلك ليحظى بمكاسب أعلى، إلا أن التعبير المبالغ فيه عن المشاعر الوطنية ينتهي إلى المزايدة على الآخرين في ولائهم ووطنيتهم. وعندئذٍ تظهر حالات التشكيك في الولاء. ولهذا السبب كانت سياسات المتاجرة بالولاء تجري بالتزامن مع التشكيك الدائم في ولاء طائفة معينة في البحرين بحجة أن لهذه الطائفة ولاء مزدوجاً أو ولاء عابراً للحدود الوطنية.

والحق أن معضلة الولاء ذات الطابع المزدوج (تسليع الولاء والتشكيك فيه) ينبغي أن تقرأ ضمن إطارها الحقيقي بوصفها جزءاً من الآثار الجانبية السلبية للفشل العام (أي إنه فشل تشترك مختلف الأطراف في صنعه) لإنجاز التوافق داخل الدولة. وهذا الفشل هو الذي حوّل جماعات "سنية" إلى "جماعات وظيفية متحوسلة"، وهو ذاته الذي نشّط طبائع هذه الجماعات لدى شيعة البحرين، وقد تجلت هذه الطبائع فيما يعرف بظاهرة "الأصلانية أو الأهلانية" nativism وهي أيديولوجيا أو سياسة تقدم مصالح وحقوق السكان الأصليين على حساب المهاجرين والمواطنين الجدد. وبهذا المعنى صار شيعة البحرين يعرّفون أنفسهم بأنهم "سكان البحرين الأصليون"، وصارت البحرين قبل العام 1783م بالنسبة لهم هي "البؤرة التي تتركز فيها عواطفهم الإنسانية الجياشة"، ويتجه نحوها حنينهم العارم، بل صاروا يفكرون في أنفسهم وفي الآخرين وفي واقعهم من خلال هذه "الأصلانية". وكل هذا يدفع باتجاه الشعور بالغربة والانفصال عن الزمان والمكان من أجل تسريب هذه العواطف عبر قنوات تصبّ هناك في البؤرة المركزية للهوية "الأصلية": أي البحرين قبل العام 1783م.

وبحسب عبد الوهاب المسيري فإن تزايد الشعور بالغربة والعزلة والانفصال يؤدي إلى "اعتماد عضو الجماعة الوظيفية على جماعته ليضمن بقاءه ووجوده واستمراره وهويته. فهو غريب في محيط معادٍ له يصعب عليه الاندماج فيه" . ولهذا السبب يصبح حضور الجماعة مركزياً في حياة أعضائها، فهي البؤرة المرجعية التي تستقطب ولاءهم، ومن الطبيعي في حالة كهذه أن يعيش هؤلاء في وضعية لا تسمح لهم بالتكيف مع محيط يفرض عليهم ولاء من نوع مغاير. ويبقى هؤلاء، في غالب الأحيان، يقاومون الاندماج الكامل في المجتمعات التي يعيشون فيها. ويذكر المسيري، على سبيل التمثيل، أن هناك أقلية زرادشتية في الولايات المتحدة الأمريكية، و"هي أقلية تشبه الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في كثير من الوجوه، فهم يتمتعون بدرجة عالية من التعليم، وقد جرت علمنتهم ودمجهم وأمركتهم، لكنهم، مع هذا، يقاومون الاندماج ويتحدثون عن الهوية الزرادشتية المستقلة" .

إلا أن الفرق بين زرادشتي الولايات المتحدة وشيعة البحرين، أن هؤلاء الأخيرين ليسوا أقلية في بلادهم، وأنهم ليسوا وافدين أو مستجلبين من الخارج، بل إن البحرين هي وطنهم الوحيد الذي يعرفونه، وهم متجذّرون فيه وفي تاريخه منذ زمن بعيد. نعم، هناك أماكن مقدّسة لشيعة البحرين تقع في كربلاء والنجف، ومع هذا فإن هذه أماكن مقدّسة وحسب، وتحنّ إلى زيارتها نفوس هؤلاء، إلا أنها ليست "وطناً قومياً أو دينياً" بديلاً عن "الوطن الأصلي" و"الوطن السياسي" الذي هو البؤرة التي تستقطب الولاء السياسي.

إلا أنه ينبغي أن نعترف بأن افتقار البحرين إلى مرجعية دينية بحرينية جعل شيعة البحرين، في العصر الحديث، يتجهون بالولاء الديني إلى مرجعيات خارجية تعيش في النجف أو كربلاء أو قم أو لبنان . وهذا "ولاء ديني" نابع من مركزية المرجعية الدينية وفكرة التقليد لدى الشيعة، وهو يتجلى في حرص الشيعة على اتّباع فتوى مراجع التقليد في شؤون العبادات والمعاملات. ولم يكن هذا النوع من ولاية الفقهاء الخاصة مثار اعتراض أو تخوّف أو قلق من قبل نظام الحكم في البحرين، بل إن أمير البلاد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة قام "بزيارة النجف الأشرف بالعراق عام 1970 والتقى آية الله السيد محسن الحكيم الزعيم الشيعي، وطلب منه حثّ شيعة البحرين للتصويت لصالح استقلال البحرين، ووعد باحترام حقوق الشيعة الدينية" . أقول إن هذا النوع من ولاية الفقهاء لم يكن مثار اعتراض أو تخوّف لأن المرجعية الشيعية قد انكفأت إلى موقف انعزالي يقوم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون السياسية، وهو الموقف الذي ظهر في أعقاب ثورة العشرين في العراق، حتى "اضطر بعض المجتهدين إلى التوقيع على تعهد بعدم التدخل بالشؤون السياسية في العراق، بعد ثلاث سنوات من هزيمتهم العسكرية في ثورة العشرين. واتسعت الهزيمة حين انسحب موقف العلماء ذاك على الفترة التالية حيث أصبح التدخّل بالقضايا السياسية، في عرف الحوزة العلمية، من القضايا التي ينبغي الحذر منها. وانتشرت بحيث بات من الغريب أن يعمل أو يتدخّل مجتهد أو متدين بالسياسة، أو يدلي برأيه في قضية سياسية" . إلا أن هذا الموقف تغيّر بعد قيام الثورة في إيران وتصدّي المرجعية الدينية للحكم وإدارة شؤون "الأمة" السياسية، مما يعني أن "ولاية الفقيه" أصبحت عامة في العبادات والمعاملات والسياسة حيث صار الفقيه مرجعاً دينياً للتقليد، وحاكماً سياسياً و"قائداً أعلى للثورة" في الوقت ذاته. ومنذ هذا التحوّل صار ولاء شيعة البحرين السياسي موضع تشكيك دائم، وصار "ازدواج الولاء" والتشكيك فيه يتشاركان في تعميق الأزمة ودفعها إلى الأمام بقوة، حيث يزداد إحباط الشيعة وتذمرهم من استمرار هذا التشكيك، وفي الوقت ذاته تزداد السلطة خوفاً وتوجّساً مما يسمى الأجندة الشيعية "الخفية" وارتباطاتها بالخارج.

وقد فُسِّر هذا النوع من الولاء الديني على أنه ناسخ للولاء الوطني أو شريك له. في حين كان الأولى تفسيره في حدوده الطبيعية كولاء ديني، وإذا ما تجاوز هذا الولاء حدود الدين إلى الولاء السياسي، فعندئذٍ علينا أن لا ننسى أن أيديولوجيا التضامن الجماعي عادة ما تنشط بين الجماعات التي تشعر بأنها أقلية ومهددة من قبل الجماعة المهيمنة التي تعمد إلى التطابق مع الدولة. ويضيف تقرير منظمة الأزمات الدولية رقم (37)، بأن اتسام النشاط السياسي الشيعي بالطائفية (أي ارتباطه بالطائفة) يرجع إلى كون الشيعة يمثّلون أقلية إذا ما قيسوا بالإسلام السني، وهي أقلية تتعرّض للتهميش والتمييز وحتى الاضطهاد، الأمر الذي جعل معنى الطائفية لدى الشيعة يعني "الدفاع عن مصالح المجتمع الشيعي بالنسبة للسكان الآخرين وللدولة ذاتها" . وهذا يعني أن الوطنية هي نتيجة تلقائية لتمتع الفرد بحقوق المواطنة المتساوية كاملة دون تمييز طائفي. وبتعبير جان جاك روسو فإنه "ليس هناك وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون فضيلة، ولا فضيلة من دون مواطنين. اخلق مواطنين وستحصل على كل ما تريد، ومن دون هؤلاء المواطنين لن يكون لديك أي شيء باستثناء عبيد بلا قيمة" . وهذا يعني أنه لا وطنية من دون مواطنة كاملة الحقوق.

ومهما يكن التفسير، فإن الثابت أن الولاء صار أزمة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، ومعضلة كبرى أمام التوافق داخل الدولة، سواء بتحويله إلى سلعة، أو بازدواجه بين الطائفة والوطن، أو بالتشكيك فيه.

- 2 -
يتطلب التوافق داخل الدولة تحرير الخلاف فيما يتعلق بمسألة الولاء، وهي مسألة ترتبط بصلة قوية بنموذج الدولة – الأمة الذي ينزع "نحو التعريف الأحادي للهوية" ، وذلك لأن الولاء هو ناتج هذه العلاقة المفترضة بين النظام السياسي والهوية الثقافية حيث تكون حدود الدولة متطابقة مع حدود الأمة. بل هو أساساً ناتج عن حاجة القادم الجديد (أي الدولة) إلى ولاء سياسي جديد يتقوّم به. وقد نشأ مأزق الولاء حين اصطدم هذا الولاء السياسي الجديد للدولة المستحدثة بولاءات الأهالي الأولية والراسخة لطوائفهم. وبهذا المعنى فإن استئصال ولاءات الأهالي الأولية لم يكن من أجل صهر الطوائف في أمة موحدة منسجمة فحسب، بل من أجل صهر كل هذه الولاءات في ولاء موحد لموقع سياسي جديد اسمه الدولة. كانت المهمة الأولى هي مهمة الوطنيين، فيما كانت المهمة الثانية هي مهمة الدولة ورجالاتها.

ويرجع أصل حاجة الدولة إلى الولاء إلى حاجتها إلى تأمين التضامن الجماعي الذي يحمي كيانها من عوامل التدمير الداخلية والخارجية. وهذه، في حقيقة الأمر، علامة على ما تمتاز به الدولة الحديثة من هشاشة، وإلا فإن الدول القوية لا تحتاج إلى تضامن جماعي يحمي كيانها. وبحسب جون جراي فإن "الأمثلة الناجحة على قدرة النظم السياسية على تجاوز الحاجة إلى التضامن الأخلاقي والجماعي كانت هي النظم الإمبراطورية (كما هو حال الرومان والهابسبورج)، أو المؤسسات الدينية (مثل مؤسسات العالمين المسيحي والإسلامي في العصور الوسطى إبان فترات اتسامهما بأكبر قدر من التسامح) أو غير ذلك من المَلَكيات كما في حالة المملكة المتحدة" . أما في الدول الحديثة فإن المأزق ازداد حدة وخصوصاً في الدول الحديثة ذات التنوع الثقافي العميق. ويطرح جون جراي مفتاحاً لحلّ لهذه المعضلة من خلال ما يسميه "الحكومة ذات الوظائف المحدودة أو المقيّدة"، حيث تضطلع الحكومة بمهامها الضرورية فقط وهي حفظ الأمن وتأمين السلام الأهلي، على أن "يترك فيها ممارسو التقاليد المختلفة أحراراً في تعديل أشكال حياتهم وتطويرها ما داموا لا يعكّرون صفو السلم العام" . وبتعبير آخر، فإن دور "الحكومة الأول والأخير" في المجتمعات التعددية يصبح مقتصراً على الحفاظ على السلام العام، وحماية التنوع الثقافي لا من خلال دعم تقليد أو أسلوب حياة على حساب الآخرين، بل من خلال "الحفاظ على حرية الارتباط الاجتماعي" التي تسمح "للأفراد، إن هم أرادوا ذلك، حرية استكشاف شكل الحياة الموروث والاختيار بينه وبين الهجرة عبر التراث إلى أسلوب حياة يفضلونه" .

أما يورغن هابرماس فيذهب إلى أن مفتاح الحل يكمن في تجاوز الصيغ الكلاسيكية لبناء الهوية الوطنية، وذلك من خلال الاعتراف بصيغة ولاء مستحدثة هي الأنسب للمجتمعات التعددية، ويسميها "الوطنية الدستورية" وهي صيغة من صيغ "ما بعد القومية"، وهي صيغة يتركز فيها "الولاء الوطني" patriotic loyalty، على "مبادئ الدستور" التي هي مرجعية الولاء بدلاً من المقولات الخلافية التقليدية من قبيل القومية والطائفة والتراث والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها. وبحسب هابرماس فإن هذه الوطنية هي الأكثر توافقاً مع متطلبات مجتمع متعدد الثقافات، وهي أساس نافع ومفيد لبناء التوافق الوطني. ويظهر هذا الولاء في صورة انتفاع رشيد بالحقوق الدستورية في مقابل التزام واضح بالواجبات الدستورية، ومن بينها واجب الدولة في حماية مواطنيها وتوفير الأمن لهم، وهذا هو أصل معنى المواطنة بوصفها تعاقد بين الفرد والدولة. على أن تصنّف مسألة الانتماءات القومية والدينية والطائفية والأيديولوجية كحق من حقوق المواطن الدستورية. ولا يحدّ هذا الحق إلا في حال تعدى حدوده الطبيعية والدستورية وانقلب إلى تآمر على الدولة فعندئذ يصنف في خانة "الخيانة العظمي". ويكون من الدستوري عندئذٍ أن يحرم المرء من حقوقه الدستورية لإخلاله بواجب دستوري؛ لأن الالتزام بالواجبات الدستورية وعدم الإفراط في استخدام الحقوق الدستورية هما – وحدهما - عنوان "الولاء الدستوري". وهذا قريب من طرح جون جراي، لأنه يفترض أساساً وجود حكومة ذات وظائف محدودة ومقيدة بمهام حفظ السلام والأمن العام، ولهذا تكون مهيّأة لتقبل الخيار الذي يقوم على ضمان حياد الدولة تجاه انتماءات المواطنين، ويترتب على هذا الحياد أن تترك الدولة "ممارسي التقاليد المختلفة أحراراً في تعديل أشكال حياتهم وتطويرها".

وما سأطرحه هنا ليس جديداً، فالحديث عن الفشل العام للتوافق داخل الدولة في البحرين حديث قد تطرق له الكثيرون من منظورات ومنطلقات مختلفة، إلا أن معظم هؤلاء قد حصروا عوامل الفشل في موقع واحد يشغله فاعل واحد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهذا الفاعل هو نظام الحكم الذي جعل من عملية بناء الدولة وتأسيس الهوية الوطنية "عملية متعثرة" و"مهمة غير منجزة" بحسب عبد الهادي خلف. وهو الذي يصرّ "على حقه الطبيعي في الحكم المطلق" مما يحول دون "تفويض الشعب المزيد من السلطة" من خلال مجلس وطني يتم انتخابه ديموقراطياً بحسب محمد الرميحي . وهو الذي يرفض "التحديث السياسي كالتمثيل الشعبي والقانون المدني الموحّد" كما يذهب فؤاد خوري . أما سعيد الشهابي فيرجع فشل كل المحاولات الحديثة التي كانت تستهدف "إقامة نظام سياسي يتميز بشيء من العصرنة والتمدّن" إلى استمرار "النظام على أساس العقلية القبلية" . ومن وجهة نظر إميل نخلة فإن الأزمة في البحرين ترتبط بـ"مسألة دمقرطة النظام"، وبـ"التوتر بين القبيلة التقليدية المستندة على حكم العائلة والمشاركة الشعبية المعتمدة على التمثيل والكفاءة وشفافية الحكومة" .

ليس هناك من إضافة مهمة على هذا الصعيد، لكني أتصور أننا اليوم أمام فشل مركّب ومتداخل ومتعدد الأطراف. وفي سياق هذا الفشل المرّكب جرى تحويل جماعات سنية (دينية وقبلية محافظة) إلى جماعات وظيفية طفيلية بحيث يختزل دورها فيما تبيعه من ولاء نتيجة ما تتحصل عليه من منافع وامتيازات خاصة. هذا بعد أن كان السنة المدينيون هم أكثر فئات المجتمع البحريني نشاطاً وحيوية، وقد كانوا في طليعة التحرّكات الطلابية والعمالية والوطنية منذ عشرينات القرن العشرين وحتى حلّ المجلس الوطني في العام 1975م. وهو الحدث الذي تزامن مع صعود التيار الديني الشيعي بقوة. وفي هذا السياق الأخير جرى قلب الأدوار والموازين بحيث صار السنة المدينيون محافظين سياسياً ومصنّفين في خانة "الموالاة"، في حين أخذ التيار الديني الشيعي القادم من القرى والأرياف المبادرة للمطالبة بالتغيير والإصلاح السياسي. وقد تزامن هذا مع قيام الثورة الإسلامية في إيران، فاهتزّت "بنية الحقل السياسي" في البلاد اهتزازاً عميقاً، وعلى إثر هذا الاهتزاز انفتح المجال واسعاً أمام التشكيك في ولاء شيعة البحرين الوطني.

و"الولاء الوطني"، كما قلنا سابقاً، مقولة سياسية مستحدثة، وقد تزامن ظهورها مع ظهور الدولة الحديثة، وتبلور مفهوم "الوطن" و"الوطنية" بالمعنى السياسي الحديث. إلا أن التشكيك في الولاء الوطني قد بدأ متأخراً قليلاً بحكم انعدام الانتماءات السياسية لدى المواطنين تجاه أي موقع سياسي خارجي، وذلك بحكم حقيقة واضحة وهي غياب "الدولة القومية الأم" التي تخلق حالة من التنازع الذي يشطر ولاء المواطنين إلى شطرين: ولاء للدولة الوطنية من جهة، وولاء للدولة القومية الأم من جهة أخرى. وفي العشرينات كان الشيعة البحارنة والعرب السنة هما الجماعتين الوحيدتين المصنفتين في خانة "الأهالي" أو "الوطنيين"، وبتعبير آخر كان هؤلاء هم وحدهم المصنفين على أنهم مواطنين، في حين كان الباقون بمن فيهم العجم (الإيرانيين) والنجادة (النجديين) مصنفين على أنهم رعايا أجانب. وكان من الطبيعي وغير المستنكر أن يكون لهؤلاء ارتباطات قوية بدولهم القومية الأم: العجم وارتباطهم القومي والسياسي بإيران، والنجادة وارتباطهم القبلي والسياسي بالمملكة العربية السعودية. إلا أن هذا الارتباط لم يكن موضع تشكيك لكون هؤلاء مصنفين على أنهم أجانب، ومن ثم فهم غير مطالبين بولاء سياسي مستحدث لوطن سياسي جديد اسمه البحرين.

وإذا كانت مقولة "الولاء الوطني" مرتبطة بظهور الدولة الوطنية الحديثة، فإن مقولة ازدواج الولاء أو انقسامه divided loyalties – وما يستتبع ذلك من التشكيك فيه - مرتبطة بظهور دولة قومية تستقطب ولاء جماعات من المواطنين الذين ينشطر ولاءهم بين دولتهم الوطنية من جهة، ودولتهم القومية التي قد تكون وطنهم الأصلي من جهة أخرى. وهذه وضعية تواجه يهود العالم بعد قيام إسرائيل، وتواجه الأرمن في تركيا وأذربيجان بعد استقلال أرمينيا، والصينيين في دول جنوب شرق آسيا والعالم، والفرنسيين من أصول مغاربية وبرتغالية وإيطالية وغيرهما، والهنود المسلمين بعد قيام دولة باكستان... وهذه حالة عامة قد تبتلى بها كل جماعة تعيش ممزقة بين دولة وطنية تعيش فيها، ودولة قومية أو دينية تحنّ إليها أو ترتبط بها عاطفياً بجملة من الروابط الأولية. ثم إن مسألة ازدواج الولاء والتشكيك فيه لا تظهر على نحو جليّ إلا في لحظات الطوارئ والأزمات التي يتعرض لها الأمن الوطني أو القومي بحيث يتعاظم "الخوف الوسواسي من الولاء المزدوج الذي تروّج له الأيديولوجيا القومية" . هذا ما حصل للأرمن في تركيا في الحرب العالمية الأولى، وهو ما حصل للأمريكيين من أصول يابانية إبان الحرب العالمية الثانية، وهذا ما عانى منه مسلمو الهند منذ قيام باكستان، وهذا عينه ما حصل لشيعة الخليج بعد قيام دولة شيعية في إيران في العام 1979، وتجدد ذلك بعد الإطاحة بنظام صدام حسين وصعود الشيعة لاستلام الحكم في العراق في العام 2003. وهو ما يمكن أن يحصل في أية دولة شمولية كانت أو ديمقراطية.

ويبدو أن سيرة التشكيك في الولاء الوطني قد بدأت مع ظهور التوترات السياسية في البلاد، وخصوصاً التوترات التي كان تحدث بفعل تحرّكات الأهالي الذين صاروا بقوة قانون الجنسية لعام 1937 مواطنين يتمتعون بعلاقة تعاقد قانونية مع دولة حديثة النشأة وبحاجة إلى ولاء سياسي من نوع جديد. وقد كان هذا التشكيك جلياً إبان الخمسينات بحكم التوترات والاضطرابات السياسية التي تزامنت مع ظهور دولة قومية قوية ("الإقليم القاعدة" بحسب مصطلحات القوميين العرب) استقطبت انتماء فئة كبيرة من المواطنين الذين كانوا وراء التحركات المطلبية في الخمسينات، وأقصد بذلك زعماء هيئة الاتحاد الوطني (1954 – 1956) وارتباطاتهم القومية بمصر وقيادتها السياسية. وسبق لتشارلز بلجريف، مستشار الحكومة، أن أتهم قادة الهيئة بأنهم أدوات بأيدي الآخرين، وهو يقصد القيادة المصرية التي رسّخت "القناعة في نفوس أعضاء الهيئة بأنهم الآن مؤهلون للقيادة ولاستلام السلطة" .

ثم تغيّر المستهدفون بالتشكيك في ولائهم الوطني من قادة الهيئة وولاؤهم القومي لمصر، إلى البعثيين وولائهم الصميمي للعراق، والشيوعيين وولائهم الأيديولوجي للاتحاد السوفيتي والصين. وقد كانت هذه التيارات تتبادل الاتهامات والتشكيك في الولاء فيما بينها، فجبهة التحرير تتهم الجبهة الشعبية بالولاء للصين وأنها تمثّل "التيار الصيني في البحرين"، وفي المقابل ترد الجبهة الشعبية باتهام جبهة التحرير بالذيلية والولاء للاتحاد السوفياتي الذي يمارس سياسته من موقع الدولة الكبرى في العالم" . أما حزب البعث فإنه، بحسب خطاب الجبهة الشعبية، "لا ينطلق من منطلقات محلية متناغمة أو تصب في المجرى القومي بل يعتبر الدفاع عن العراق هو حجر الزاوية في كامل تفكيره وتعبئته" .

وفي هذه الأثناء كان العجم (البحرينيون من أصول إيرانية) مستهدفين بالتشكيك في ولائهم السياسي، وكان القوميون العرب هم من قاد حملة التشكيك هذه، ولعل عبد الرحمن الباكر هو أبرز من عبّر عن هذا التشكيك حين اعتبرهم أعداء ودخلاء و"طابور خامس". وبالغ أحد محرري مجلة "صوت البحرين" في العام 1954م حين وصف الوافدين الإيرانيين والبلوش والهنود بـ"الغزاة" الذين يفدون إلى البحرين من إمارات الخليج العربي ليستزفوا "خيرات هذه البلاد" . أما حركة القوميين العرب (تأسست في العام 1959) فقد ربطت بين النضال ضد الاستعمار و"النضال ضد الهجرة الإيرانية، واعتبرت هذه الهجرة خطراً داهماً يهدد عروبة البحرين، وأكدت على ضرورة التعبئة المكثفة ضد الإيرانيين" . والغريب حقاً هو أن يلتقي قوميو البحرين مع الإنجليز في نظرتهم إلى العجم، فالإنجليز، بحسب ما يذكر ريشارد ليتلفيلد، كانوا يعتقدون أن للعجم دوراً مزدوجاً، فهم "حزب معارضة وطابور خامس" داخل البحرين. وكانت حدة التشكيك تتصاعد مع كل مطالبة إيرانية بتبعية البحرين إلى إيران.

وفي هذه السيرة لم تكن معضلة الولاء مطروحة بقوة كأزمة وطنية كبرى؛ ويرجع ذلك إلى حقيقة مهمة وهي أن أصل حاجة الدولة إلى الولاء يكمن في هشاشة الدولة الحديثة وضعفها وخوفها المزمن من عوامل التدمير الداخلية والخارجية. وبما إن الاتفاقيات مع بريطانيا كانت توفّر الحماية لهذا الكيان الجديد حتى تاريخ الاستقلال في العام 1971، فإن هذا الكيان كان يشعر بعدم حاجته إلى تأمين التضامن الجماعي من قبل المواطنين. ولكن الحال تغيّرت بعد خروج بريطانيا من الخليج، فصار على هذا الكيان الطريّ أن يكوّن له جيش مستقل وأن يعيد تأهيل قواه الأمنية من أجل تأمين الحماية والسلم الأهلي العام ومواجهة عوامل التدمير الداخلية المحتملة. وفي هذه اللحظة سيكون تعامل الدولة مع قوى المعارضة تعاملاً مختلفاً لا بسبب صدور مرسوم بقانون أمن الدولة سيء السمعة في العام 1974، بل لأن الدولة صارت، أو هكذا يفترض، بأمس الحاجة إلى تأمين الولاء السياسي والتضامن الجماعي لحماية هذا الكيان الجديد. ومنذ هذه اللحظة ستكتسب معضلة الولاء وازدواجه والتشكيك فيه أبعاداً خطرة، وستدخل هذه المعضلة في مسار جديد لم تعرفه كل السنوات الممتدة بين 1923 و1971.

وفي طوال هذه الفترة لم يكن ولاء شيعة البحرين موضع تشكيك من قبل السلطة أو جماعات الموالاة. ومن سوء حظ الشيعة العاثر أن الحاجة إلى الولاء بعد الاستقلال قد ظهرت قبل سنوات معدودة من قيام الثورة الإسلامية في إيران. وحين تزامنت هذه الحاجة مع قيام الثورة، صار التشكيك في ولاء الشيعة هو الاستراتيجية المعتمدة، وغطّى هذا التشكيك على كل التشكيكات التي سبقته.

يذكر ألبرت حوراني أن قيام الثورة في إيران قد تسببت في نشوء "موقف شديد الخطورة والتعقيد في البلاد ذات التعداد الشيعي الكبير في العراق والكويت والبحرين والسعودية وسوريا ولبنان. فقد بدا الأمر كما لو أن الثورة الإيرانية سوف تثير إحساساً قوياً بالهوية الشيعية" . أما الحرب العراقية/الإيرانية، فكانت، بحسب حوراني، يمكن "أن تهزّ نظام المجتمع في البلدان ذات الأغلبية الشيعية" . وهذا هو ما كان بالفعل، فقد كان لهذين الحدثين (الثورة والحرب) تداعيات سياسية واجتماعية ودينية كبيرة على البحرين حيث استثير ذاك الإحساس القوي بالهوية الشيعية، واهتزّ "نظام المجتمع" بصورة كبيرة.

وقبل هذا الاهتزاز لم يكن لدى الشيعة دولة لا ضعيفة ولا قوية حتى تظهر مسألة ازدواج الولاء أو ليجري التشكيك في ولائهم الوطني لبلدانهم. ولم يكن هذا التشكيك منصبّاً على إثبات أن ولاء جماعة بعينها منعدم للوطن الذي تعيش فيه، بل عادة ما يتركّز التشكيك على حالة ثانية وهي ظاهرة "الشرك في الولاء" والتي تتمثل في تسريب طاقة الولاء أو (فائضها) إلى وطن آخر أو دولة خارج حدود الوطن. ولكن، إذا عُدِمت هذه الدولة التي تستقطب الولاء فإن التشكيك في ولاء جماعة من المواطنين يكون بلا قيمة ولا معنى له أصلاً، إلا إذا كان التشكيك منصباً على انعدام الولاء من الأساس، وهذه وضعية لا يتصور وجودها بين شيعة البحرين، لأنها حالة خاصة بجماعات تشعر بأنها مقطوعة دون دولة قومية من جهة، ودون ارتباط تاريخي وثقافي وفعلي بالوطن الذي تعيش فيه لكونها جماعات مهاجرة وتعيش حالة شتات (دياسبورا) واسعة في العالم. وعلى العموم فإن هذه الحالة لا تنطبق على شيعة البحرين بحكم ارتباطهم الفعلي والتاريخي الممتد والمتجذر في هذه الأرض. وإذا انتفت تهمة "الكفر بالولاء" لم يبق من بين التهم التي توجه لهؤلاء غير تهمة "الشرك في الولاء" أو ازدواجه أي انشطاره بين موقعين: وطن سياسي داخلي من جهة، ووطن طائفي خارجي من جهة أخرى.

وقد تصدّى الشيخ محمد مهدي شمس الدين لتبيان مسألة الولاء الوطني عند الشيعة على المستوى الفقهي، ويعد شمس الدين أهم عالم دين شيعي تنبّه إلى العواقب السلبية لمسألة "ازدواج الولاء" لدى الشيعة، وطالب بضرورة اندماجهم في محيطهم الوطني، والالتزام بحفظ النظام العام والسلم الأهلي في أوطانهم والابتعاد عن أي سلوك سلبي انكفائي أو هجومي. وقال في إحدى وصاياه إلى عموم الشيعة في العالم: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم". ومن جملة التعبيرات السياسية لدى شمس الدين قوله بأن: "الشيعة في لبنان لبنانيون أولاً، ومسلمون ثانياً، وشيعة ثالثاً. وإن لبنانيتهم قاعدة أساسية في حقيقة وجودهم" .

ويحسم حديث شمس الدين الازدواج المفترض بين الدولة الوطنية من جهة، والمرجعية الدينية الشيعية من جهة أخرى. فإذا كان البعض يتصور أن "المرجعية الشيعية" بمثابة "دولة داخل الدولة" أو "دولة تزاحم الدولة" ، فإن تفكيك هذه المزاحمة كفيل بتبيان حقيقة هذه الأوهام؛ لأن موضوع المزاحمة هنا هو "ولاء المواطنين"، وبحسب هذا التصور فإن "المرجعية الشيعية" تزاحم الدولة الوطنية في ولاء مواطنيها الشيعة، ولكن لو سألنا عن حقيقة هذا الولاء الذي هو موضوع المزاحمة فسيتبين أن ولاء المواطنين تجاه المرجعية ولاء ديني يتمثل في اتباع فتاوى المرجع الديني فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات العامة. في حين أن الولاء الديني لا يحلّ محل الولاء الوطني الذي حددنا صيغته في "الوطنية الدستورية". و"الوطنية الدستورية" صيغة عامة تنظّم الولاء السياسي في تجليات واضحة وغير عائمة ولا مشوشة ولا تسمح بالتشكيك في هذا أو ذاك، الأمر الذي لا يسمح بتحويل مسألة "الولاء الوطني" إلى عامل من عوامل إنتاج الأزمات السياسية لا بالتشكيك فيه ولا بالمتاجرة به. والأهم أن "الوطنية الدستورية" لا تحكم على المواطنين بضرورة تقطيع كامل انتماءاتهم الدينية والقومية وحتى القبلية. خصوصاً أن "الجنس والأصل واللغة والدين والعقيدة" – وهي مراكز استقطاب الولاءات الأخيرة – هي من الموضوعات الحيادية في نظر الدولة. وينص الدستور على أن "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" (مادة 18). فإذا كانت الدولة حيادية تجاه هذه الانتماءات الجنسية والعرقية والقومية والدينية والأيديولوجية فبأي حق تتدخّل لتفرض على المواطنين تقطيع هذا النوع من الانتماءات بحجة ازدواج الولاء؟ إلا إذا كان الولاء الوطني الذي تفرضه الدولة ينطوي على انتماء من نوع خاص يقوم على أصل جنسي أو قبلي أو عرقي أو ديني أو طائفي، وهو ما يعد "تمييزاً" مرفوضاً بنص الدستور.

- 3 -
لم تكن أزمة الولاء معضلة داخلية فقط، بل هي معضلة ذات امتدادات إقليمية قوية، وهذا ما يجعل للأوضاع الإقليمية المتوترة تأثيراً قوياً في هذه المعضلة. فلا أحد ينكر تأثير الثورة في إيران والحرب الإيرانية العراقية في تعميق هذه المعضلة التي انبعثت من جديد بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003م، وفي أعقاب تصريحات الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، بشأن "الهلال الشيعي" الذي يضم إيران والعراق والخليج ولبنان. إلا أنها انفجرت بقوة بعد الحديث الصريح لدرجة غير محتملة والذي أدلى به الرئيس المصري محمد حسني مبارك لقناة "العربية" يوم السبت 8-4-2006، حين قال رداً على سؤال عن التأثير الإيراني في العراق: "بالقطع إيران لها ضلع في الشيعة.. الشيعة 65% من العراقيين وهناك شيعة في كل هذه الدول وبنسب كبيرة والشيعة دائما ولاؤهم لإيران. أغلبهم ولاؤهم لإيران وليس لدولهم". وهو الحديث الذي أثار استنكاراً واسعاً في إيران والعراق ولدى شيعة لبنان والكويت والسعودية والبحرين. وفي البحرين خصص الشيخ عيسى أحمد قاسم – رئيس المجلس العلمائي - خطبة الجمعة في 14/4/2006 للرد على هذا الحديث وتأكيد ولاء شيعة البحرين لوطنهم. وفي هذه الخطبة نفى الشيخ التعارض بين الولاء الوطني وبين الحب الوجداني لأقطار العرب والمسلمين، ومع هذا فهو يؤكد بأن "هناك حبٌّ آخر أشرق وأركز وأوعى وهو حبي للبحرين؛ لأنها بلد الإسلام والإيمان، وهذا الحب منتشر على كل شبر من الأرض الإسلامية الكبرى" .
والحق أن إشارة الشيخ عيسى قاسم إلى البحرين بوصفها "بلد الإيمان" إشارة مركزية وبالغة الدلالة لأنها إشارة كاشفة وتحيل مباشرة إلى تراث "بحراني" مستفيض حول هذه القضية تحديداً. ونحن تعنينا هذه الإشارة لكونها ستسمح لنا بالحفر في مسألة مغيّبة إلا أنها بالغة التأثير على الوجدان الجماعي و"المزاج العام" لدى شيعة البحرين، وهي مسالة تأسيسية فيما يتعلق بفهم قضية الولاء لدى هؤلاء. وأنا أتحدث هنا عن "شيعة البحرين" لكونهم يمثلون حالة خاصة ومتفردة تميّزهم تاريخياً وحتى نفسياً عن شيعة القطيف ولبنان وإيران، ويمثّل شيعة العراق منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين المثال الأقرب شبهاً بشيعة البحرين. ويتمثّل هذا التفرّد في حالة الشتات البحريني الجماعي، وهو شتات يمثّل "دياسبورا Diaspora" قوية امتدت على مدى قرن ونصف من الزمان. ومن المعروف أن الدياسبورا تخلق حالة نفسية معينة تطبع هوية ومزاج الجماعات التي تعاني من الشتات. إلا أنه من اللافت أن هؤلاء المشتتين كانوا يندمجون في الأقطار التي تشتتوا فيها في القطيف والإحساء والبصرة وكربلاء والنجف والمحمرة وأصفهان وشيراز وبهبهان ولنجة وبوشهر وغيرها، بحيث تتناسى الأجيال اللاحقة أصولها البحرينية التي لم يتبق من شيء يذكر بها إلا لقب من بقابا بلده الأصلي مثل: "البحراني" أو "الغريفي" أو "البلادي" أو "الساري" أو "الستري" أو "التوبلاني" أو غيرها من الألقاب المنسوبة إلى منطقة معينة في البحرين، وفي كثير من الأحيان تنقرض الألقاب ويجري تناسي الأصول وخصوصاً في الشتات الهائل الذي يكون عادة إبان الحروب والهجمات المتعاقبة والتي لم تهدأ منذ القرن الثامن عشر. وهذه ظاهرة أشار إليها الشيخ علي البلادي في افتتاحية كتابه حين تحدث عن "تشتت" أهل البحرين في البلدان "بما لعبت بهم أيدي الزمان، وما نالوه من البلاء والهوان من أهل الجور والعدوان، والحوادث والوقائع التي أخلت منهم الأوطان وبددت شملهم في كل مكان (...) حتى بلغ الحال أن كثيراً من الأولاد لم يعلموا بآثار آبائهم ولم يدروا بأنسابهم وأقربائهم" ، وهذه ظاهرة لافتة وتستدعي التحليل والتفسير.
وحين يتحدث الشيخ عيسى أحمد قاسم عن البحرين بوصفها "بلد الإيمان" فإنه يعبّر عن حاجة "لاوعية" للاندماج ضمن تراث أبعد، وضمن ماضٍ يحيط بنا من كل جانب. وتكشف هذه الإشارة أننا أسرى شراك هذا الماضي دون أن ندرك ذلك. ولعل أقدم إشارة جاء فيها وصف البحرين بأنها "بلد الإيمان"، وأن أهلها هم "أهل الإيمان" هي تلك التي جاءت في مكتوب الشيخ عبيد آل مذكور الذي حرّره إلى الشاه عباس الصفوي يستنهض بها همته ويحثّه على القيام لطرد البرتغاليين من البحرين. وقد جاء فيه: "أما بعد فكيف رضيت همته العلية وشيمته القدسية بالجلوس في دار أصفهان والإغضاء عن جلب الشقاء على أهل الإيمان" .
وتعود هذه الإشارة إلى القرن السابع عشر الميلادي، إلا أنها سوف تتعزز في القرن الثامن عشر الذي يعد قرن الشتات الأعظم في تاريخ البحرين، ولقد كان لهجمات العمانيين الإباضية (اليعاربة) الأثر الأكبر في هذا الشتات العظيم. وفي هذا السياق يذكر الشيخ ياسين بن صلاح الدين البلادي البحراني في ديباجة رسالته المسماة بـ"القول السديد في شرح كلمة التوحيد"، قال بعد كلام طويل في وصف الشتات البحريني: " فأضرمت نيران الفتن، في مرابع أهل الايمان، وشُنّت الغارات والمحن في معالم ذوي العلم والإحسان" . وفي فترة قريبة من هذا كتب الشيخ علي البلادي كتاباً في تراجم علماء البحرين، وقال: "ومن هؤلاء وأضرابهم سميت البحرين ببلاد المؤمنين والإيمان، واشتهرت بذلك في كل مكان" . ويذكر ناصر الخيري أن البحرين "في عرف الشيعيين من الأماكن المقدسة" .

والمرجّح أن يكون القرن السابع عشر هو الزمن المرجعي لهذه الإشارة، ويعود ترجيحنا هذا إلى حقيقة تاريخية وهي أن البحرين دخلت في مدار النفوذ الصفوي في هذا القرن تحديداً (1602م). وهذا يعني أنه لأول مرة في التاريخ يظهر حليف إقليمي قوي لأهل البحرين، وأكثر من هذا فهو حليف شريك لهم في المذهب مما يعني أنه لن يألُو جهداً في حمايتهم والذود عنهم ضد الهجمات المتعاقبة التي تستهدفهم، والعلة في هذا كما يذكر محمد علي التاجر هو "أن عواطف العقائد الدينية هي أقوى رابطة تربط أهالي البحرين لذلك العهد بشاهات الدولة الصفوية" .

وقد بادر أهل البحرين إلى مكاتبة الدولة الصفوية (1501 – 1736م) من أجل التخلّص من البرتغاليين ومن الهجمات المتعاقبة التي تشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، ويذكر ناصر الخيري أن ظهور الدولة الصفوية واشتهارها "بعطفها على المذهب الشيعي" ومناصرته قد حمل أهل البحرين على "مكاتبة ملوكها واستصراخهم بها سرّاً وعلانية" . وإذا عرفنا أن تعبير "أهل الإيمان" يتطابق مع "الشيعة" في الاستخدام اللغوي العرفي لدى الشيعة في هذه الحقبة حيث يكون معنى "الذين آمنوا هم الشيعة أهل الولاية" ، أقول إذا كان ذلك كذلك فإنه لن يكن من العسير الاستنتاج بأن تعبير "أهل الإيمان" كان جزءاً من حيلة خطابية تستهدف استنهاض الدولة الصفوية لإنقاذ أهل البحرين و"عقيدة التشيع" التي يصور حالها عبيد آل مذكور في خطابه إلى الشاه عباس بقوله: "فحسبك بتشتّت شملها واضمحلال أثرها واندراس معالهما (...) ولم يبق من أطلالها إلا عروش خاوية وآثار متداعية، ومع ذلك فقد اكتفينا من عمارها بالخراب، ومن مائها بالتراب" .

وفي القرن السابع عشر أيضاً عادت الإمامة إلى مجتمع الأباضية في عمان، حيث عُقِدت الإمامة في العام 1034هـ (1624م) لناصر بن مرشد اليعربي، وهو أول إمام يعربي في عمان، وفي عهده دخلت عمان في "حقبة استثنائية من تاريخها الحديث، وهي حقبة استعادت فيها الإمامة بناء ذاتها وتحققت خلالها وحدة البلاد الاجتماعية" . ومن نسل هذا الإمام سيخرج سلطان بن سيف الذي عقدت له الإمامة في العام 1711. وقد صرف هذا الإمام عنايته لحرب الدولة الصفوية، وانتزع من أيديها جزيرة قشم والبحرين ولارك وجاش وبندر عباس وهرمز بعد حروب طاحنة، وأهمها وقعة البحرين في العام 1717م.

وعلى هذا، فقد كُتب على أهل البحرين أن يتواجهوا – ولأول مرة أيضاً- مع عدو مذهبي قوي، ونجح في التغلب على بلادهم لأكثر من مرة، وهذا العدو المذهبي هو إمام مسقط والعمانيون الأباضيون (أو الخوارج بتعبير مؤرخي البحرين في تلك الفترة). لقد تأجج هذا العداء في سياق التنافس على النفوذ الإقليمي مع الدولة الصفوية، إلا أنه لم يكن يخلو من تعصب مذهبي متبادل، وكما يقول ناصر الخيري: "وأنّى للأباضي أن يتفق مع الشيعي، وذلك يبالغ ويسرف في بغض علي بن أبي طالب بينما هذا يبالغ في مودته ويكاد أن يجعله إلهاً، فهم لهذا على طرفي نقيض، ومحال أن يجتمع الضدان ويأتلف النقيضان" .

وإذا تذكرنا إشارة ألبرت حوراني عن دور الثورة في إيران وحرب الخليج الأولى في استثارة الإحساس القوي بالهوية الشيعية واهتزاز نظام هذه المجتمعات، فإنه علينا أن نتذكر كذلك بأن هذه الاستثارة لم تكن هي الأولى من نوعها، كما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يهتزّ فيها "نظام المجتمع" في البحرين. فقد شهدت بنية المجتمع البحريني اهتزازاً عميقاً في القرن الثامن عشر إبان الهجومات الأباضية المدمّرة. ومن هنا يكتسب الحفر "الأركيولوجي" في تاريخ هذه الاستثارة وهذا الاهتزاز أهمية كبيرة وخاصة في إضاءة الكثير من المناطق المظلمة والمجهولة فيما يتعلق بمعضلة الولاء وازدواجه، وفيما يتعلق بدور هذه الاستثارة وهذا الاهتزاز في صياغة الوجدان الجماعي و"المزاج العام" تجاه فكرة "الوطن" أو "اللاوطن/الشتات" لدى شيعة البحرين. ومن شأن هذا الحفر أن يبيّن لنا أن هذا التاريخ رازح بقوة في حاضرنا، وأن كثيراً من هواجسنا ومخاوفنا وعقدنا النفسية اليوم إنما تضرب بجذورها في هذا التاريخ البعيد والقريب الذي يتحرك من تحت أقدامنا دون توقف.

ورقة الدكتور نادر كاظم في ندوة "معضلة الولاء في الدولة الحديثة" التي نظمها المنبر التقدمي



#نادر_كاظم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - نادر كاظم - معضلة الولاء في الدولة الحديثة